الدكتور يوسف عامر يكتب: محاسبة النفس
تاريخ النشر: 21st, March 2024 GMT
ننشغلُ بمحاسبةِ الآخرينَ وننسَى محاسبةَ أنفسِنا، فنُسىءُ مرتيْنِ، نعَم على المرءِ أنْ ينصحَ ويُوجّهَ وينهَى عن السوءِ، ولكن عليه أنْ يُلزمَ نفسَه بهذا قبلَ أنْ يُطالبَ به الناسَ، أما الذى يغفُلُ عن حقِّ نفسِه عليه فى المحاسبَةِ وينشغلُ بنقدِ الآخرينَ فقد أساءَ إلى نفسِهِ مرتين، مرةً حينَ ترَكَ داءَ نفسِهِ بلا علاجٍ، ومرةً حين شغَلَها بالغيرِ فرأتْ نفسَها أقومَ مِن سواها وأصلحَ، فى حينِ أنَّها قد تكونُ أدنَى ممَّن تَنقدُ أعمالَهُم ولا تَرضَى صَنيعَهُم.
وقد جاءَ القرآنُ الكريمُ مُنبهاً على أهميةِ محاسبةِ النفْسِ، قال الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ» [الحشر: 18]، والأمرُ (ولتنظر نفس ما قدمت لغد) هو أمرٌ بمحاسبةِ النفسِ، والنظرِ فى أعمالِها التى سوفَ تُحاسَبُ عليها يومَ القيامة. والأمرُ بالنظرِ معناهُ أن يتأملَ المرءُ عملَهُ، فالنظرُ فيه تأملٌ وفَحصٌ، فعلَى المرءِ إذاًْ أن يتأملَ أعمالَهُ، هل كانت خالصةً للهِ تعالى؟ أم نُظِرَ فيها إلى غيرِ اللهِ؟ وإذا كانتْ خالصةً لوجهِ الله فهل كانتْ جاريةً وفْقَ شرعِ الله تعالى ومرادهِ؟ أم كانت مخالفةً؟ وهل حمِدَ الله تعالى على أن وفَّقهُ لصالحِ العملِ أم رأَى لنفسِهِ الفضلَ فيه «ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ» [الزمر: 49]؟...
وكلمةُ (قدَّمَت) تُبينُ أنَّ كلَّ أعمالِ الإنسانِ كبيرَهَا وصغيرَها، ما كان بينَه وبين نفسِه، وما كان بينَه وبين الناس، ما أسرَّ به وما أعلنَهُ، كلُّها أعمالٌ يُقدّمُها المرءِ للقاءِ الله تعالى، فعليه أن يُحسنَ عملَهُ «وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً» [المزمل: 20].
ويُلحظُ أنَّ الآيةَ الكريمةَ عبّرتْ عن يومِ القيامةِ بلفظِ (غَد) النكرة، وهذا فيه إشارتان؛ إشارةٌ إلى قِصَرِ الحياةِ الدنيا مهْمَا طالتْ وقُربِ يومِ القيامة، حتى كأنَّ الحياةَ الدنيا مهما طالتْ حياةُ المرءِ فيها يومٌ واحدٌ غَدهُ هو يومُ القيامة! وفى تنكيرِ لفظِ (غد) إشارةٌ إلى أنَّ هذا اليومَ يَجهلُ الإنسانُ كُنَهه [حقيقتَه]، وفى هذا ترهيبٌ مِن هولِ هذا اليومِ الذى لا يَغيبُ فيه شىءٌ مهْمَا دقَّ «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراً يَرهُ» [الزلزلة: 7، 8].
وقد أوجزَ سيدُنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هذه المعانى فى حديثٍ شريفٍ قال فيه: «الكيِّسُ [العاقل] مَن دَانَ [حاسَبَ] نفسَهُ، وعمِلَ لِمَا بعدَ الموتِ، والعاجزُ مَن أتْبعَ نفسَهُ هوَاهَا وتمنَّى على اللهِ». [الترمذى وحسنه]، نعم.. أىّ عقلٍ لمن انشغلَ عن نفسِهِ ولم يحاسبْهَا على أعمالها ويراقبْ أحوالَهَا؟! وتأملِ وَصفَ (العاجز) فى حقِّ مَن اتبع هواهُ وتمنى النجاةَ بلا عملٍ صالحٍ!
ولأهميةِ هذا المعنى ذكرهُ سيدُنا عمرُ بنُ الخطاب رضى الله عنه فى خطبةٍ له حملَهَا الناسُ جيلاً بعدَ جيلٍ حتى وصلتْ إلينا، قال رضى الله عنه: حاسبُوا أنفُسَكُم قبلَ أنْ تُحاسبُوا، وزِنُوا أنفسكم قبلَ أن توزنوا، وتزيّنُوا للعَرضِ الأكبرِ «يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ» [الحاقة: 18].
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: مكانة العلماء قناة الناس شهر رمضان الله تعالى
إقرأ أيضاً:
فى وداع العالم الدكتور محمد المرتضى مصطفى
نقل لى الصديق العزيز الأستاذ سيف الدين عبد الحميد النبأ الحزين جدا عن إنتقال الدكتور محمد المرتضى مصطفى إلى جوار ربه اليوم الأربعاء بمدينة سان ريمون بولاية كاليفورنيا .
رحم الله الأستاذ الدكتور الفاضل ، محمد المرتضى مصطفى وانزله منازل المصطفين المكرمين وجعل البركة فى أبنائه وأحفاده وزوجته الراحلة السيدة منى عز الدين فى برزخها العامر البهى والتى سبقته إلى دار البقاء قبل أربعة أعوام ،وكل أسرته الكبيرة وكل عارفى فضله واحسن عزائهم فيه والزمهم الصبر الجميل ..
الدكتور محمد المرتضى من علماء البلد الأفذاذ والتكنقراط النادرين جدا.. وهو واحد من قلة من السودانيين من ذلك الجيل تلقوا دراساتهم العليا بجامعة هارفارد الأمريكية المرموقة .
شغل منصب وكيل أول وزارة العمل لسنوات إبان حكم الرئيس نميرى وبعض من فترة حكومة الصادق المهدى الذى اقاله بعد أن اختلفا فى التصورات على خطط إصلاحات الخدمة المدنية وقد رأى فيه رئيس الوزراء وقتها نموذجا للتكنقراطي المحترف صعب القياد .
بعد يومين من إقالته تلقى إتصالا من منظمة العمل الدولية بجنيف تطلب منه الحضور إلى مقرها بسويسرا فورا وقامت بتعيننه خبيرا بها ومديرا لمكتبها بإقليم جنوب إفريقيا مقيما فى هرارى عاصمة زيمبابوي وخلال فترة عمله هناك وضع واشرف على خطة إنتقال الخدمة المدنية ونظام العمل فى جنوب إفريقيا من نظام الفصل العنصرى إلى النظام الديمقراطى .وحينما كان يعمل بهرارى لعب دورا مهما فى إلتحاق الدكتور عبد الله حمدوك بالعمل فى اللجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة .
وبعد أن ساءت العلاقة بين نظام الإنقاذ ومصر فى النصف الأول من التسعينيات إثر تورط نظام الإنقاذ فى عملية إغتيال الرئيس المصرى وقتها حسني مبارك ووصلت إلى الحضيض تم نقله من هرارى إلى القاهرة مديرا لمكتب منظمة العمل الدولية لإقليم شمال إفريقيا وليمثل قناة خلفية لتخفيف التوتر فى العلاقة بين البلدين .
ربطتنى بالرجل محبة كبيرة وخالصة لوجه الله منذ أن تعرفت عليه أوائل الألفين فى زياراته لمقر صحيفتنا "الصحافي الدولي" والتى كان تجمعه صداقة برئيس مجلس إدارتها الدكتور محمد محجوب هارون .
كان يفرح جدا بزياراتنا المسائية له معا انا والاخ والزميل العزيز سيف الدين عبد الحميد مترجم الصحيفة او ايا منا بمفرده منذ أن كان بمنزل الأسرة فى الخرطوم (3) ثم بعد إنتقاله إلى منزله الفخيم بحى قاردن سيتى ويكرمنا غاية الكرم .. وكان يهدينى كتبا واشياء اخرى قيمة كلما عاد إلى السودان من اسفاره بالخارج وقبل كل ذلك كان ينفعنا بعلمه الغزير وتجربته وخبرته الثرة الحياتية والعملية فى السودان وخارجه ويصحح بلطف الكثير من المفاهيم والمعلومات الخاطئة عندى حينما يرى جنوحا من أثر فورة وحماس الشباب وقتها ويبقى على جوهرها الإنسانى . كما كان يلهمنى كثير من الأفكار النيرة التى استفدت منها فى اعمالى الصحافية وفى حياتى الخاصة . كان يفعل كل ذلك بتواضع جم ومحبة توصيل الخير إلى الناس .
كان الدكتور مرتضى شاهدا على العصر وعارفا باقدار الرجال فى بلادنا ومحيطها العربى و الافريقى يختزن مئات القصص والحكايات لاشخاص واحداث ومواقف عاصرها او كان جزءا منها او قرأ عنها فى مظان لا تتوفر ببلادنا خاصة تلك التى تكون قد شاعت بسردية معينة ورسخت فهما بعينه فى تاريخنا الحديث او القديم نسبيا وحينما تسمعها منه بوقائعها الدقيقة وحواشيها ومقدماتها تغير لك كل معرفتك عنها .
كان محبا جدا للاستاذ محمود ويرى فيه عالما ومصلحا دينيا كبيرا عاش فى واقع جاهل وحوكم بواسطة قضاة وفقهاء وحكام ليس لديهم من علمه ولا قلامة ظفر .
يدعونى كتيرا عنده حينما يكون عنده ضيوف مهمين عازمهم عشاء او غداء وخاصة فى رمضان ..
التقيت عنده بشخصيات مهمة سودانية وأجنبية خاصة من مصر وإثيوبيا وارتريا ومن ضمن عرفتهم عنده السياسى الارتري حروى تدلا بايرو الذى يقيم فى السويد وكان والده تدلا بايرو من كبار الزعماء السياسيين فى ارتريا .. عرفه دكتور مرتضى بعلاقتى الفكرية بالاستاذ محمود فتحولت جلستنا كلها للحديث عنه حيث أشار لى للعلاقة القوية التى ربطت قادة جبهة التحرير الارترية بالاستاذ محمود وكيف انهم كانوا يتلقون منه الأفكار والنصائح العميقة المضيئة والاكرام حينما كانوا يزورونه بمكتبه فى عمارة إبن عوف بالخرطوم .
وأذكر من ضمن الكتب التى اهدانى اياها د. مرتضى الترجمة العربية لكتاب البروفيسور عبد الله النعيم (نحو تطوير التشريع الاسلامى) الذى ترجمه وقدم له المفكر المصرى الدكتور حسين أحمد أمين وحدثنى مطولا عن المترجم وأسرته فقد كان د. مرتضى عارفا دقيقا بالحياة والثقافة المصرية وتاريخها ونخبها .
من ضمن زملاء د. مرتضى فى مرحلة الدراسة الثانوية بمدرسة خور طقت كان الدكتور فرانسيس دينق وحكى لنا كيف انه ولمكانة والده سلطان دينكا نقوك، دينق مجوك وعلاقته المميزة بناظر المسيرية بابو نمر تم استيعابه بالمدرسة المرموقة بعد أن انتهت فترة القبول وذكر لنا أنه استضافه فى غرفته بداخليات المدرسة لقرابة العام .
عندما يكون الدكتور مرتضى موجودا بالسودان وانقطع منه لأسبوعين يتصل بي ليسأل عن صحتى وأسباب غيابي .
عاش الدكتور مرتضى حياته باستقامة وطنية ومع انه لم يكن منتميا سياسيا لحزب ولكنه كان وطنيا غيورا فحينما كانت تغضبه اقوال وتصريحات مسؤولى نظام الإنقاذ وما أكثرها كان يتصل بى ويطلب منى الحضور إليه ويُملينى مقالا كاملا عالما فى نقد وتصويب مقولات ذلك المسؤول .
وكما كان الرجل متواضعا كان أيضا ضحوكا يطرب للطرفة ويحكى كثيرا من المواقف والأحداث الطريفة ويضحك لها بصوت مجلجل محبب إلى النفس.
استضفناه فى منبر صحيفة "الصحافة" عام 2007 تقريبا فى محاضرة عن جذور فشل الدولة السودانية وقد وجدت الأفكار التى اذاعها أصداء واسعة فى ذلك الوقت ولم ترق المسؤولين فى الدولة وقتها ولا زال يتم تدوير الرصد المنشور فى الصحيفة و الذى قام به الزميل قرشى عوض فى السوشيال ميديا كل حين وآخر وكانما كان الدكتور الراحل يحذرنا ويتنبأ لنا بهذا المآل الحزين الان .
الا رحم الله العالم الدكتور الفاضل ، محمد المرتضى مصطفى برحمة الرحيم وجزاه عنا المقامات العُلى عنده ..
لا حول ولا قوة إلاّ بالله
إنا لله وإنا إليه راجعون
علاء الدين بشير - الشارقة
20 نوفمبر