الوجهة المفقودة..بيع القضية بالإجماع!
تاريخ النشر: 21st, March 2024 GMT
إحياء الحقّ الفلسطيني هو الثمرة المباشرة لتضحيات عشرات الآلاف من أرواح الشهداء الذين قضوا نحبهم في حرب الإبادة الصهيونية – الصليبية على غزة وأهلها في شتاء 2023 – 2024 م، ذلك بعد أن كان الحق الفلسطيني على وشْك التصفية النهائية عبر صفقات إقليمية ودولية، جاءت حرب الإبادة في لحظة غيّرت فيها الأمة الإسلامية وجهها بوجه غريب كما استبدلت وجهة مُريبةً بوجهتها التي ينبغي أن تكون عليها.
كذلك فعلت مثلها الأمة العربية فغيرت وجهها وانحرفت عن وجهتها، وكذلك الحال فيما يخص القيادة التاريخية للنضال الفلسطيني التي صارت جزءًا من شبكة التوافق الإقليمي والدولي، في مثل هذه اللحظة بدت وتبدو المقاومة الفلسطينية غريبة عن السياق العام، غريبة الوجه واليد واللسان، كما هي عبارة أبوالطيب المتنبي، صمدت المقاومة الفلسطينية بما يكفي لمخاطبة الضمير الإنساني حيثما وجد إنسان يسمع ويرى فصول الإبادة أينما كان موقعه في هذا العالم.
بيع القضية بالإجماعوقفت المقاومة – وحدها – تحت النار والدمار والخراب كأن الصهيونية – الصليبية تفرغ طاقات حقدها وكراهيتها المختزنة لما يقرب من ألف وخمسمئة عام، احتشدوا جميعًا ضد المقاومة، وتخلينا جميعًا عن المقاومة، وقفوا صفًا واحدًا، واختفينا اختفاءً كاملًا.
لم يختفِ فقط التمثيل السياسي للمسلمين الذي تلاشى مع سقوط الخلافة العثمانية في مثل هذا الشهر قبل مئة عام 1924م، لكن اختفت الأخوة الإسلامية التي دفعت أهالي جدة والحجاز ليعبروا البحر الأحمر ليقاتلوا إلى جانب المصريين في صعيد مصر، وهم يقاتلون قوات الجنرال ديزيه التي أرسلها نابليون بونابرت لإخضاع الصعيد للحكم الفرنسي الجديد 1799م، وهي الأخوة الإسلامية التي دفعت المصريين لعبور الصحراء ليقاتلوا مع أشقائهم الليبيين ضد العدوان الإيطالي، ثمانية عشر عامًا متصلة تحت قيادة المجاهد العظيم عمر المختار 1858 – 1931م.
كذلك اختفت الأخوة العربية التي حشدت العرب مع الجزائر في ثورتها على الفرنسيين 1954 – 1962م، وهي الأخوة العربية التي حشدت كافة موارد العرب مع مصر وسوريا في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973م.
كذلك اختفت الأخوة الفلسطينية لدى البعض من القيادات القديمة التي خذلت المقاومة، وألقت عليها الملامة عن الإبادة. كذلك سقطت حقوق الجوار الأقرب، وكأنه ليس على الجانب الآخر من الجدار أشقاء تجري إبادتهم وتجويعهم وتعطيشهم وإخراجهم من بيوتهم وهدمها فوق رؤوسهم.
سقطت كل هذه الحقوق مرة واحدة، تم التخلي عن الواجبات مرة واحدة، تم خذلان الشقيق المظلوم مرة واحدة، تم بيع القضية بالإجماع. الحق الفلسطيني باقٍ حي لن يموت، سوف يحيا بمقدار ما ارتوى من نهر التضحيات الشريفة، لكنه سوف يحيا على مرارة لا حدود لها، مرارة الخذلان من أقرب الأقربين، خذلان من توحدهم وشائج العقيدة، خذلان من تربطهم روابط العروبة، خذلان الفلسطيني لأخيه الفلسطيني، خذلان أقرب الجوار العربي، خذلان الجار اللصيق الجدار في الجدار.
هذه المرارة العميقة – وهي مبررة من الناحية الموضوعية – هي نتيجة منطقية لما أسفر عن الخذلان من دمار غير مسبوق في القرن الحادي والعشرين، هذه المرارة لن تمحَى من الأنفس والعقول والضمائر، ولن يزول أثرها في أجَلٍ قريب، هذه المرارة سوف تحرك تفاعلات الحق الفلسطيني حتى نهاية هذا القرن على الأقل، إذا كانت مرارات النكبة الأولى 1948م، ثم الثانية 1967م، قد عاشت حوالي ثلاثة أرباع قرن، هي عمر دولة إسرائيل، فإن مرارة النكبة الثالثة 2023 – 2024م، سوف تبقى، وسوف يلمس من يعيش أثرها الأرباع الثلاثة المقبلة من هذا القرن.
استكمال مسيرة التحررهذه المرارة هي وقود التاريخ القريب للحق الفلسطيني، مع فارق مهم: إذا كانت النكبتان الأولى 1948م، ثم الثانية 1967م قد ترتب عليهما أن أخذ الحق الفلسطيني يركب منحنى التدهور، فإن النكبة الأخيرة – بعظمة تضحياتها وقوة روحها وبما تركته من أثر في الضمير الإنساني – سوف تأخذ الحق الفلسطيني نحو أفق أرحب، يكفي أن وجود إسرائيل من جذوره بات مطروحًا للنقاش في عمق العقل الصهيوني – الصليبي.
لم تنجح الخمسة والسبعون عامًا من عمر الدولة الصهيونية أن تؤمن لها البقاء المطمئن في إقليم غريبة عنه، وفي سياق حضارة وافدة عليه، والعكس صحيح، فمهما تمارس الصهيونية من عنف صليبي لاستئصال روح المقاومة، فسوف تظل غير مطمئنة لبقائها ولا واثقة من أمنها، وسوف يبقى الخوف من الحق الفلسطيني يطاردها، المرارات قوة فاعلة في التاريخ، ولولا ما أنزلته الكاثوليكية الأوروبية من اضطهاد باليهود عبر القرون ما كانت هذه النفسية الصهيونية القلقة العنيفة المريضة المدمنة للدمار والخراب حدّ الهوس والجنون.
الصهيونية تعيد قذف هذه الشحنات المختزنة من المرارة في كل الضمائر الحية المؤيدة والمتعاطفة مع الحق الفلسطيني، وجدت هذه المرارة في نفسي، وفي ضمائر كثيرين ممن حولي من أناس تختلف مشاربهم في الحياة، لكنهم اتفقوا على الفزع من كل هذا العنف الصهيوني – الصليبي ضد شعب أعزل مستضعف تخلى عنه الأقربون ويذبحه – دون رادع من قانون أو ضمير – أعداؤه التاريخيون .
المرارة العميقة التي ترتبت على الإبادة والخذلان إذا نظرنا إليها من زاوية الحق العادل والمقاومة المشروعة، وحق الشعوب تحت الاحتلال في تقرير مصيرها وفرض إرادتها، فهي قيمة مضافة لوقود المعركة حتى نهاية القرن الحالي، ليس من باب الثأر، والانتقام، وإعادة إنتاج العدوان، لكن من باب استئناف البقاء، ثم استكمال مسيرة التحرر بكل وسيلة ممكنة، أو بتعبير القرآن المجيد الاستجابة لدواعي الحق ونداءات الحرية رغم ما أصاب المجاهدين الأبرار من قروح فاقت كل الحدود. الآيتان 172 – 173 من سورة آل عمران.
باختصار شديد: هذه المرارة العميقة هي حافز للضمير والهمة والعزيمة، وبهذا المعنى فهي حافز للتاريخ وليست عبئًا عليه، وهي تجديد للمقاومة، وليست نهايةً لها.
المرارات التي ترتّبت على اضطهاد اليهود في أوروبا خلقت – في نهاية المطاف – دولة صهيونية مشوهة الضمير مزعزعة الوجدان مهتزة الأركان سطحية الجذور، لا تتقن غير إعادة إنتاج الاضطهاد وترجمته إلى عنف وظلم وخراب ودمار بحق الشعب الفلسطيني الذي لم يكن يومًا مشاركًا ولا مسؤولًا عن اضطهاد اليهود في أوروبا.
المرارات التي نشعر بها – نحن مؤيدي الحق الفلسطيني – هي نتاج ظلم العدو والصديق معًا، والقصد من بلورتها – في هذه المقالة – هو السعي لترجمتها إلى بحث عن العدل والحق والحرية، إلى بحث عن سبل التواصل مع القوى الإنسانية الحرة في كل الثقافات والحضارات المعاصرة، ليس القصد أن نطوي صدورنا على ما فيها من مرارة، فهذا يدفع بنا – دون قصد – إلى العزلة أو التخندق داخل معتقدات ومقولات ومشاعر دفاعية، إنما القصد هو الانطلاق من هذه المرارة إلى رفع الظلم عبر إعادة اكتشاف قوانا، ثم عبر الانفتاح غير المحدود على قوى الرأي العام، وكذلك على القوى الرسمية بما فيها تلك القوى التي تصطف خلف الصهيونية.
خاتمة الحروبالقصد هو إعادة استئناف التاريخ – دون إبطاء – استئنافه من أرضية المقاومة العادلة، المقاومة وحدها، فهي الحقيقة الصلبة الوحيدة في الشرق الأوسط العربي – الإسلامي في هذه اللحظة، المقاومة هي القِبلة الوحيدة الصحيحة والثابتة والتي لم تبدل وجهها ولم تنحرف وجهتها، هي وجهنا الطبيعي المشرف الذي يحمل عصارة هُويتنا وحضارتنا ووجودنا، كما هي وجهتنا الصحيحة في التاريخ وصوب المستقبل، وبدونها ليس لنا مآل غير الفناء والزوال.
وحتى تصبح المرارة قوة عدل وإضاءة مستقبل يلزمنا التفكير في ثلاث قضايا محوريّة :
1 – كشفت حرب الإبادة عن إعادة اكتشاف حقيقة هي جوهر الصراع، إسرائيل هي الغرب الذي في الشرق، هي الغرب الجديد الذي انتقل عندنا في الشرق، هي جزء لا يتجزأ من الغرب، وهذا من الناحية العملية معناه: أن أي خطر يهدد أمن وبقاء ومستقبل إسرائيل هو خطر يهدد الغرب ذاته في صميم حضارته ووجوده، لهذا يضمن الغرب بقاء إسرائيل، كما يضمن ردع كل خصوم إسرائيل.
ولهذا لم يألُ جهدًا من لحظة ولادة إسرائيل في السعي لإحاطتها بمحيط صديق لها مسالم معها، يتبادل معها المنافع والمصالح، وقد نجح الغرب في ذلك، فبعد خمسين عامًا من آخر الحروب النظامية أكتوبر/تشرين الأول 1973م، هناك التزام عربي رسمي شامل بأنها خاتمة الحروب فلا حرب بعدها، ولهذا فهناك تفاهم ضمني صامت بين عواصم الغرب، وعواصم العرب، على أن السلاح الغربي الذي يتم بيعه للعرب غير مسموح باستخدامه في أي عداء ضد إسرائيل، كل السلاح العربي الرسمي غير موجه إلى إسرائيل.
وهذا مصدر نفع مزدوج للغرب: ربح توريد السلاح، وربح تأمين إسرائيل، وقد ترتب على ذلك واقع موضوعي ليس في العالم العربي فقط بل والإسلامي كله، وهو: الجيوش مؤسسات حكم وسياسة وبيزنس بالدرجة الأولى، قبل أن تكون مؤسسات حرب وقتال، هي جزء من آلة الحكم وضبط الشعوب والسيطرة عليها، وإذا لزمت دواعي الحرب، فلتكن، بشرط أن تكون بين عرب وعرب، أو بين ترك وكرد، أو بالوكالة بين فرس وعرب، أو حتى داخل الدولة الواحدة ومكونات الشعب الواحد، الخلاصة: السلاح من الغرب غير مسموح بتوجيهه ضد إسرائيل، هذه حقيقة كبرى يلزم التفكير فيها .
2 – كشفت حرب الإبادة أن قوة الرأي العام – في حد ذاتها – مقاومة، قوة الرأي العام العالمي قوة لا يستهان بها في محاصرة الضمائر الميتة لصناعة القرار في عواصم الغرب وتوابعهم في عواصم العرب.
حرب الإبادة 2023 – 2024م تختلف عن كل ما سبقها من محطات الصراع منذ المؤتمر الصهيوني الأول 28 أغسطس/آب 1897م، تكنولوجيا التواصل الاجتماعي كسرت احتكار الصهيونية والغرب للسردية الكبرى لفصول الصراع، الصراع الحالي خرجت سرديته عن السيطرة الصهيونية، قطاعات واسعة من الرأي العام العالمي انفتحت ضمائرها على العطف النبيل على المعاناة الفلسطينية، هذه نقطة بداية مهمة تحتاج من قوى الحق الفلسطيني أن تخطط لاستدامة هذا العطف وتوسيعه وتوظيفه.
وهنا أحب أن أذكر بخبرة مهمة تعود إلى مئتي عام سابقة، سنوات حرب الانفصال اليوناني 1822 – 1827م عن السلطنة العثمانية التي احتلت وحكمت اليونان أربعة قرون كاملة.
كانت روسيا فقط هي من تحرض الثوار وتدعمهم بقصد طرد العثمانيين ليس من اليونان فقط، لكن من كل أوروبا ثم وراثة ممتلكاتهم، ثم الوصول إلى المتوسط ومضيقَي البوسفور والدردنيل، هذه المطامع الروسية من عهد بطرس الأكبر 1672 – 1725 م، ثم الإمبراطورة كاترينا 1729 – 1796م جعلت بريطانيا وفرنسا تقف على الحياد وتفضلان الحفاظ على بقاء الإمبراطورية العثمانية حتى لا تقع في مخالب الدب الروسي؛ فيختل توازن القوى في أوروبا، بينما كانت النمسا صراحة مع العثمانيين ضد الثوار، ومع كل حكومة ضد أي حركة تحرر، وذلك للحفاظ على الأمر الواقع في أوروبا .
لكنّ الانفصاليين اليونانيين كوّنوا جمعيات – قبل ثورة تكنولوجيا التواصل الاجتماعي وتدفق المعلومات – ونشطت هذه الجمعيات في كل المجتمعات الأوروبية، حتى نجحت في إشعال الرأي العام، وحتى كسبت عطف المثقفين الكبار مثل الشاعر البريطاني الكبير لورد بايرون 1788 – 1824م الذي التحق بالثوار، وشارك في القتال ومات على الجبهات، ومثله تحمس وتعاطف فيكتور هوغو شاعر فرنسا وأديبها العظيم 1802 – 1885م، وكذلك الكاتب والمؤرخ والدبلوماسي الفرنسي الشهير الفيكونت دو شاتوبريان 1768 – 1848م.
كانت النتيجة حالة من الغليان في أوروبا، اندفعت الحكومات لتغيير مواقفها، بدأت فرنسا، ثم لحقت بريطانيا، ثم توحدت أساطيل الإمبراطوريات الثلاث ضد الأساطيل العثمانية – المصرية – التونسية في حرب بحرية فاصلة حسمت إلى الأبد انفصال اليونان وزوال الحكم العثماني، قوة الرأي العام مهمة بالذات في المعاقل التاريخية للديمقراطيات الغربية، حيث الحريات الفردية والعامة مكفولة للجميع .
استسلام وواقع مؤلم3 – كشفت حرب الإبادة حدود الواقع الجيوسياسي للإقليم كله، إقليم أسير، شعوب أسارى، شدت أميركا أسرنا وأحكمت الشد والأسر، حالة عامة من الاستسلام للهندسة الأميركية لهوامش الحركة في الإقليم.
المقاومة مجرد ضوء كاشف لهذا الواقع المؤلم، حتى عواصم الإسلام التاريخية، وعواصم العرب الكبرى كلها في حال امتثال للخطوط العريضة والسقوف المرسومة للهيمنة الأميركية، هذه قصة يلزم الإلمام بها: أميركا هذه القوة المسيحية البروتستانتية الرأسمالية العسكرية بدأت التجارة مع الإقليم عام 1784م، حيث كانت أطلال السّيادة العربية والإسلامية لا تزال لها الكلمة العليا في البحرين: المتوسط والأحمر وخليج عدن وبحر العرب، وبرزخ السويس، بدأت تجارتها بصدام مسلح مع الهيمنة الجزائرية على غرب المتوسط 1815م، ثم تبادلت التمثيل الدبلوماسي مع السلطنة العثمانية 1831م، والتمثيل القنصلي مع مصر 1834م، ثم تحركت عاطفتها الصليبية فأغرقت المنطقة ببعثات التبشير البروتستانتي.
ثم مع الحرب العالمية الأولى ظهرت قوة خير مضادة لشرور الاستعمار، ثم مع الحرب العالمية الثانية صارت هي وريث أوروبا استعمارًا وصليبية معًا مضافًا إليها رفقة الصهيونية في شهادة ميلاد واحدة في المنطقة، تأسست إسرائيل 1948م، وتأسس الأسطول السادس الأميركي في البحر المتوسط 1950م. خمسة وسبعون عامًا والإقليم محكوم من داخله بالقوة الصهيونية ومعها القوة الأميركية في المتوسط، كلتاهما نقطة تمركز بمثابة الجهاز العصبي الحساس للإقليم بكامله .
المقاومة وهي تواجه حرب الإبادة كشفت ما على الوجوه من أقنعة، كما كشفت ما أدرك الوجهة من تيه وضلال.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: رمضان 1445 هـ حريات الحق الفلسطینی هذه المرارة حرب الإبادة الرأی العام فی أوروبا خذلان من
إقرأ أيضاً:
حرب الروايات.. هل خسرت إسرائيل رهانها ضد الصحفي الفلسطيني؟
أديس أبابا- بالتوازي مع عدوانها المتواصل على قطاع غزة منذ أكثر من عام، شنت إسرائيل حربا شرسة على الصحفيين الفلسطينيين من خلال شتى أشكال الاستهداف وأشدها، ومنها القتل مع سبق الإصرار، في مسعى منها لنسف الرواية الفلسطينية وإظهار ما تروجه هي وأذرعها الإعلامية على أنه الحقيقة الوحيدة ذات المصداقية.
وكان لافتا أن كبرى مؤسسات الإعلام الغربية، التي لطالما تبجحت باحترامها لمعايير الحياد والمهنية الصحفية، انخرطت هي أيضا في هذه الحملة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين أصحاب الحق والأرض.
ويرى نقيب الصحفيين الفلسطينيين ناصر بابكر أنه بالرغم مما قامت به إسرائيل من "جرائم" بحق الصحفيين ووسائل الإعلام الفلسطينية، في غزة بشكل خاص وفي عموم فلسطين، فإن الرواية الفلسطينية بشأن الحرب بقيت راسخة، وكان لها تأثير واضح على الرأي العام العالمي، حيث خرج الملايين عبر العالم للتنديد بـ"فاشية" و"وحشية" دولة الاحتلال رغم حملات التضليل المركّزة.
الجزيرة نت التقت ناصر بابكر على هامش المؤتمر الدولي الذي نظمته مفوضية الاتحاد الأفريقي ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) في 6 و7 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا، تحت شعار "سلامة الصحفيين خلال الأزمات وحالات الطوارئ"، وكان لنا معه حوار مطول فيما يلي أبرز ما جاء فيه:
بابكر: الجرائم الإسرائيلية زادت الصحفيين الفلسطينيين تصميما وإرادة (الجزيرة) بداية كيف تصفون واقع الصحفيين الفلسطينيين خاصة في ظل العدوان والتصعيد الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة والضفة الغربية منذ أكثر من عام؟أعتقد أننا نتعرض لحرب شاملة وواسعة النطاق من قِبل الاحتلال الإسرائيلي ضد الصحفيين في عموم أراضي فلسطين. في غزة هناك مجزرة وإبادة لشعبنا، وهناك إبادة أيضا للإعلام الفلسطيني، وأقصد هنا المؤسسات والصحفيين الفلسطينيين، وهذه أبشع وأكبر مجزرة في تاريخ الإعلام ولم تحدث في أي حرب سابقة في العالم بأسره، كما لم يسبق أن قُتل هذا العدد من الصحفيين، وهذا الاستهداف الممنهج بقرار رسمي من حكومة الاحتلال ضد الصحفيين والمؤسسات الإعلامية.
لقد قتل الاحتلال ما يشكل 10% من مجموع الصحفيين في غزة، ودمر تقريبا 100% من مؤسسات الإعلام بالقطاع، واستهدف عائلات الصحفيين واغتال أكثر من 500 من أبنائهم وذويهم، كما دمر منازلهم ومحلات سكنهم.
كل هذا الاستهداف غايته إخفاء حقيقة ما يجري وقتل الشهود، أي الصحفيين الفلسطينيين، وأيضا إرهاب من يستمر بالعمل ودفعه إلى ترك رسالته في نقل تفاصيل العدوان أو مواجهة مصير القتل كما قُتل الشهداء الصحفيون الآخرون.
أما في الضفة الغربية، فالحرب على الصحفيين اتخذت أيضا أشكالا مختلفة، وسجلنا في القدس مثلا في يوم واحد الاعتداء على 20 صحفيا من قبل المستوطنين المدعومين من جيش الاحتلال والشرطة الإسرائيلية، كما أحصينا 1640 جريمة واعتداء على الصحفيين في عموم الأراضي الفلسطينية منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
هذه الأرقام غير مسبوقة في مسلسل الاعتداءات والجرائم الإسرائيلية على الإعلام الفلسطيني، كما أنها نوعية من حيث أشكال الاستهداف، حيث سجلنا توزيعا للأدوار في الاعتداءات على الصحفيين بين جيش الاحتلال والمستوطنين.
إسرائيل استخدمت أساليب عدة لشيطنة الصحفيين الفلسطينيين ووصمهم بالإرهاب بغية الإضرار بالرواية الفلسطينية وإصابتها في مقتل.. ما رأيكم بهذا الأسلوب المتبع من قِبل الاحتلال؟الإرهاب هو الاحتلال، وما يقوم به هو إرهاب دولة رسمي ومنظم ضد شعبنا الفلسطيني. كما أن ما يقوم به الاحتلال الإسرائيلي ضد الصحفيين الفلسطينيين هو أيضا إرهاب، هؤلاء يقومون فقط بدورهم المهني والوطني بنشر الحقيقة.
في المقابل، علينا أن ننظر إلى الطرف الثاني، حيث يشارك بعض صحفيي الاحتلال بجرائم تفجير وقتل واعتداءات، ويوثقونها بالصوت والصورة ثم ينشرونها، ويفتخرون بمشاركتهم في هذه الجرائم ضد شعبنا الفلسطيني.
ما الذي تقومون به من خلال نقابة الصحفيين الفلسطينيين قانونيا وإجرائيا لفضح ووقف هذه الاعتداءات الإسرائيلية أو على الأقل الحد من نطاقها؟العالم بأكمله يشاهد ويتفرج على هذه الجرائم، لكننا نسعى جاهدين من خلال بعض الإجراءات القانونية لوقف ما يجري ولا نيأس. هناك نظام دولي وقوانين ومؤسسات دولية معنية بحماية الصحفيين، ومنها منظمة اليونسكو التي تشارك معنا في هذا المؤتمر بأديس أبابا.
هذه المؤسسات عليها الآن العمل على وقف سياسة الإفلات من العقاب، وأن تضع آليات ملزمة ورادعة للاحتلال ولكل الحكومات في العالم من أجل وضع حد لدوامة قتل الصحفيين.
من جهة أخرى، قدمنا للمحكمة الجنائية الدولية عدة شكاوى، ومنها شكوى بشأن جريمة قتل الزميلة الصحفية بقناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة قبل نحو سنتين، لكنها حتى اللحظة لم تفعّل آلية التحقيق بشأنها.
ذهبنا أيضا إلى لجنة التحقيق بمجلس حقوق الإنسان التابع لمنظمة الأمم المتحدة، وعقدنا مؤتمرات دولية في البرلمان الأوروبي وبمجلس حقوق الإنسان، كما أننا نتواجد اليوم في هذا المنبر الدولي بأديس أبابا مع اليونسكو، ونشارك في كل فعاليات الأمم المتحدة، ولدينا ملفات قانونية تهم كل حالة قتل أو جريمة ضد الصحفيين في عموم فلسطين، وسيأتي الوقت الذي لن يفلت فيه أي مرتكب لهذه الجرائم من العقاب الذي يستحقه.
بعد أكثر من عام على بدء العدوان، هل تمكنت آلة الحرب والبطش الإسرائيلية من كسر عزيمة وشوكة الصحفيين الفلسطينيين؟بالعكس تماما، هذه الجرائم الإسرائيلية زادت الصحفيين الفلسطينيين تصميما وإرادة على مزيد من النقل المهني للوقائع وبأعلى المعايير الصحفية. وأفتخر شخصيا أنني جزء من هذا الجسم الصحفي الفلسطيني وأترأس هذا القطاع الكبير من الصحفيين الفلسطينيين الذين يعتبرون من بين الأكثر مهنية في العالم، ويتحلون بشجاعة قل نظيرها. فهم يمارسون مهنتهم ويغطون الأحداث وينقلون الأخبار بين الجثث وأنقاض البيوت المدمرة، وفي ظل الجوع وتحت قصف الطائرات والدبابات، واستشهاد عائلاتهم وزملاء لهم، ومع ذلك يواصلون التغطية ولم يتوقفوا ولو للحظة عن أداء واجبهم الإعلامي.
هذه الجرائم لقتل شهود الحقيقة وقتل الحقيقة زادتنا جميعا كصحفيين فلسطينيين إصرارا وتصميما على مواصلة واجبنا، لأننا نعرف تأثير نقل حقيقة ما يجري على المجتمع الدولي.
ما رأيناه بمختلف شوارع مدن وعواصم العالم التي خرج فيها الملايين ضد هذا الاحتلال وفاشيته وجرائمه وتضامنا مع الشعب الفلسطيني وحقوقه وحريته واستقلاله، أكبر دليل على أن الاستمرار في نقل صورة الجرائم والوحشية التي يتسم بها الاحتلال إلى العالم قد أثر بالفعل في الرأي العام الدولي، فيما لم يؤثر للأسف في بعض الحكومات بسبب تواطئها مع إسرائيل والإدارة الأميركية، وتخشى اتخاذ مواقف واضحة لتحقيق العدالة.
بدأ بالفعل نوع من التغيير في العالم وفي السياسات التحريرية لوسائل الإعلام الكبرى بحكم قوة الرواية الفلسطينية ومهنية الصحفيين الفلسطينيين، لكننا نتطلع لتأثير أكبر يُحدث التغيير الذي نصبو إليه.
ما رأيكم بتعاطي الصحفيين الفلسطينيين مع مجريات الحرب مقارنة بنظرائهم من الإعلاميين في إسرائيل؟لا سبيل للمقارنة بين الأمرين، نحن رغم قتلنا وذبحنا كصحفيين فلسطينيين نواصل التغطية بالمعايير المهنية الدولية للصحافة، ونحترم السياسات التحريرية التي تضمن الحيادية والموضوعية ونقل الحقيقة بكل دقة وأمانة وإخلاص، فيما هم (الإعلاميون الإسرائيليون) مجندون بشكل واضح كجزء أساسي من أدوات دولة الاحتلال، حيث يساعدون في نقل جرائمه وإيجاد المبررات لها، بل أحيانا يكونون شركاء فيها.
ما مدى تأثير عمل الصحفيين الفلسطينيين بمجريات الأحداث في ظل انحياز كبرى وسائل الإعلام الغربية للرواية الإسرائيلية؟التأثير موجود وثابت، لكن علينا الانتباه هنا إلى أن الحرب كانت على مراحل، ففي أسابيعها الأولى كان الوضع صعبا للغاية، خاصة في ظل الانحياز الصارخ وغياب أي شكل من أشكال التدقيق المهني من قِبل وسائل الإعلام الغربية.
مثلا رددوا دون تمحيص رواية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بذبح أطفال رضع واغتصاب نساء خلال هجوم "طوفان الأقصى"، وثبت لاحقا أن الأمر مجرد دعاية كاذبة، واعتذرت مؤسسات إعلامية كبرى عن نقلها، ومنها شبكة "سي إن إن" الأميركية.
وفي مرحلة ثانية حاولت مؤسسات إعلامية عدة إحداث نوع من التوازن في تغطيتها لمجريات الحرب، فيما بقيت أخرى مصممة على أن تكون تابعة ولسان حال الجلاد وليس الضحية.
أنا أقول آن الأوان للعالم الحر وللصحفيين الأحرار ولكل أصحاب قيم الحرية والعدالة وحقوق الإنسان أن يحترموا مبادئهم، ونأمل أن يحصل ذلك في كل وسائل الإعلام، ولا نرغب في أن يكون الانحياز للفلسطينيين بل للحقيقة ونقل الحقيقة فقط.
ما جدوى مثل هذه المؤتمرات الدولية والإقليمية (مؤتمر أديس أبابا) ما دامت سياسة الإفلات من العقاب متواصلة وإسرائيل دائما ما تفلت بجلدها؟هذه اللقاءات هي بالفعل مهمة في إطار تسليط الضوء أكثر على حقيقة ما يجري في الأراضي الفلسطينية ومحاولة التأثير من أجل التغيير. نحن لسنا عدميين وندرك أن الإنسان بطبيعته يتأثر، وأن استمرار محاولات التأثير تؤدي بالضرورة إلى نتائج، لذلك علينا مواصلة دورنا في المنظمات الدولية والإقليمية بكل قوة، مع إدراكنا أن لهذه المنظمات ارتباطات وحساباتها السياسية، وذلك لإسماع صوتنا للعالم.
هذا الاتحاد الأفريقي منبر لأحرار العالم وأفريقيا، كما أن اليونسكو منظمة مسؤولة عن حرية وحماية الصحفيين، ونتواجد هنا لعرض ما يتعرض له صحفيونا ونريد من هذه المؤسسات تطبيق مبادئ حقوق الإنسان المتعارف عليها، وأن تفعل التفويض الممنوح لها في هذا الإطار.