لا شك أن الأحداث التي تعيشها الأمة الإسلامية الآن، مرحلة ملؤها الخزي والعار، والهوان والضعف، على مستويات عدة، وبخاصة ما نشاهده على أرض غزة، من قتل وتشريد ليل نهار، في ظل صمت لا يمكن تفسيره إلا بخيانة هذه الأنظمة، أو تواطئها المباشر لترك العدو الصهيوني ينفذ مخططه الإجرامي.
فظل الناس يمنون أنفسهم بصبر أهل غزة حتى يأتي شهر رمضان الكريم، ظانين أن الأنظمة ستبقي لديها بعضا من حمرة الخجل، فتجبر أو تراعي إسرائيل وحلفاؤها حفظ ماء وجه هذه الأنظمة، بفتح باب الإغاثة، في مثل هذا الشهر الكريم، الذي كان كرم المسلمين يشمل الضعيف والفقير فيه، من المسلمين وغيرهم.
هذا الشعور بالضعف والهوان، جعل الناس تتساءل: هل مرت على الأمة مرحلة كتلك؟ وهل لهذا الهوان من نهاية؟ بداية، فإن الشعور العام للجميع بأن الحال الذي نعيشه حال غير مسبوق، حتى كتب أحد كبار التربويين ـ وهو شيخ التربويين المعاصرين الدكتور سعيد إسماعيل ـ على صفحته على الفيس بوك، يقول ما مضمونه: هل بقائي لهذا السن والعمر، في ظل هذه الحالة من حال الأمة البئيس، هو عقاب من الله، أم بلاء ابتلاني به؟!
وكان الشيخ مصطفى الزرقا رحمه الله، يقول: إنني كنت أدعو الله من قبل: اللهم غير حالنا إلى أحسن الأحوال، ولكني لما رأيت حالنا، وما نحن فيه من ضعف، استحييت من ربي، فأصبحت أدعو: اللهم غير حالنا إلى حال حسن.
وهو كلام يلخص لنا واقع الأساتذة والعلماء الكبار، مما تعيشه الأمة وتحياه، وما يحدث من الأنظمة التي أعاشت الشعوب في موات، فلم تقنع بأنها ماتت قلوبها، وتبلدت مشاعرها، فراحت توزع وتجبر النفوس والقلوب على ذلك في بلدانها، كان الشيخ الغزالي رحمه الله، في أحد خطب العيد، في مصلى العيد في مسجد مصطفى محمود بالمهندسين بالقاهرة، وكانت وقتها قد حدثت مذبحة الحرم الإبراهيمي، فقال بعد نهاية الخطبة: قوموا، لا عيد لكم، والأقصى أسير! فماذا لو عاش ليومنا، ورأى ما نرى؟!
التاريخ الماضي والقريب، يعلمنا أن قوى الاحتلال ومعاونين من الخونة حكاما ومحكومين، لا يدوم جبروتهم، والقرآن الكريم يضرب لنا نماذج متعددة، هدفها: أن نفهم درس الحياة، أنه لا يموت مقاوم، ما دام صامدا متمسكا بحقه، فأخذه بالأسباب، ثم اعتماده على رب الأسباب، تلك معادلة النصر.لقد عاشت الأمة مراحل مثل مرحلتنا تلك، ليس ذلك من باب التسرية والتعزية، بل من باب أن نستلهم العبرة والعظة، ونأخذ بأسباب إزالة الهوان والضعف، فقد مرت الأمة في مرحلة اجتياح التتار لبلاد الإسلام، حين اقترح ابن العلقمي وزير الخليفة العباسي المستعصم بالله، أن يزوج ابنته لابن ملك التتار، كي تنعم بالأمة بالسلام، ويجنبها الويلات والحروب.
وفعل الخليفة ذلك، وذهب إليه هولاكو إلى قصره في بغداد، والخليفة بين رجاله، فقال له هولاكو: اركع لي، فلما صمت الخليفة، باغته هولاكو بقوله: اركع لي، وإلا قطعت رأسك، وركع بالفعل، وكانت نتيجة ركوعه القتل، واختلفت روايات التاريخ في كيفية قتله، فرواية تقول: إنه مات ضربا بالنعال، والأخرى تقول: إنه مات رفسا بالأقدام، وفي كلتا الحالتين هناك أحذية ونعال مات بها.
كان هولاكو يمشي في مدن المسلمين، فيسألهم: من أنتم؟ فيقولون: مسلمون، فيسألهم: وما الإسلام؟ فيقول: الإسلام حلاله كذا، وحرامه كذا، فيقول ساخرا: ولكني لا أره حلاله حلالكم، ولا حرامه حرامكم، أنا نقمة ربكم عليك، وعذابه المعجل لكم، وسيفه المسلط على رقابكم. ويعمل القتل فيهم. وهكذا جنوده.
كتب أحد المؤرخين المعاصرين كتابا مختصرا عن تاريخ الإسلام والعرب، وهو فيليب حتي، وهو لبناني تأمرك فيما بعد، كتب عن هذه المرحلة التي مر بها المسلمون من الهوان والذلة، والضعف الشديد، في كل المجالات، ورأى صورة قاتمة، فوضع سؤالا دون إجابة، كان السؤال يقول: هل سيقوم لدين محمد قائمة؟!
لم يجب فيليب حتي، بل ترك أحداث التاريخ تجيب، خلال عامين اثنين، قام العلماء وقادة الرأي، والمجتمع، بتنظيم الصفوف، وشحذ الهمم، وبدأت تهب ريح الإيمان بين المسلمين، وبدأوا في استرداد بعض المدن مما احتله التتار، مما جعل فيليب حتي يضع سؤالا جديدا، كان نصه: هل سيقف أمام دين محمد أحد؟!
التاريخ الماضي والقريب، يعلمنا أن قوى الاحتلال ومعاونين من الخونة حكاما ومحكومين، لا يدوم جبروتهم، والقرآن الكريم يضرب لنا نماذج متعددة، هدفها: أن نفهم درس الحياة، أنه لا يموت مقاوم، ما دام صامدا متمسكا بحقه، فأخذه بالأسباب، ثم اعتماده على رب الأسباب، تلك معادلة النصر.
واللحظات التي يقف فيها الباطل مزهوا بقوته، وبقوة حلفائه، ويظن فيها المظلوم أنها لحظة نهايته وهزيمته، هي لحظة التدخل الإلهي لنصرته، لنتخيل للحظة، مشهد فرعون وموسى عليه السلام ومن آمن معه من قومه، وهم في عرض البحر، وقد ضرب بعصاه البحر، فانفلق كل فرق كالطود العظيم، ونزل لينجو بقومه، ومع ذلك أدركهم فرعون، ونزل خلفهم.
لنضع أنفسنا للحظة مكان الظالم والمظلوم في آن واحد، ظالم يرى أن خصومه هؤلاء الضعفاء في قبضة يده، ما هي إلا بضع مترات، وينهيهم تماما، ولنتخيل نشوة النصر والظفر في عين وفكر فرعون وقومه آنذاك. وأما المظلومون، فيرون عدوهم وراءهم ببضع مترات قليلة، وحتما هم منتهون، وانتهى أمرهم، كانت تلك لحظة النهاية، نهاية الظالم غير المتوقعة له، ونهاية الظلم للمظلومين والنجاة من يده، في لحظة انتصار غير منتظرة، ولا متوقعة، بأسباب الأرض المجردة، والتي كان موسى عليه السلام واثقا منها: (كلا إن معي ربي سيهدين).
ليس ذلك كلاما من قبيل الوعظ المستهلك، أو دغدغة العواطف، أو تخدير الناس، بل هو درس الماضي والحاضر، ودرس التاريخ، وسنن الله في الكون التي لا تتخلف، لمن يتمسك بها، ويعمل بمقتضاها، فكم من محنة تمر بالأمة، وكم من ضعف وهوان يصيبها، لكنه ليس قدرا لازما لها، بل مرحلة، ويقيض الله تعالى من ينهض بها من كبوتها، ويجمع أمرها على تحرير إرادتها قبل تحرير أراضيها، وما هو ببعيد إن شاء الله.
[email protected]
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة الرأي الاحتلال احتلال فلسطين غزة رأي حرب مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
خطبة الجمعة من المسجد النبوي: الإيمان العميق وحسن الظن بالله هما سر ثبات الأمة في أقسى الأزمات
ألقى فضيلة الشيخ عبدالبارئ الثبيتي خطبة الجمعة اليوم بالمسجد النبوي الشريف، وافتتحها بتوصية المسلمين بتقوى الله تعالى، تقوى من يرجو دار النعيم.
وبيّن فضيلته أن الحياة وتقلباتها وتحدياتها يجد الإنسان خلالها حاجته إلى الشعور بما يبدد القلق، ويمنحه الطمأنينة، ويبعد عنه الخوف والشك.. وأن حسن الظن بالله يمضي بمسيرة حياة الإنسان بثقة اطمئنان، وإذا أيقن الإنسان بأن الله يعده لمستقبل مشرق عاش بالأمل برحمة الله، فتحركه قوة الإيمان إلى السعي والإبداع.
وقال: “إن من سنة الحياة الابتلاء الذي يأتي فجأة ليختبر الصبر، ويزيد اليقين بحسن الظن بالله في تحول المحنة إلى منحة، فالتوكل على الله غذاء حسن الظن بالله، ومصدر للقوة المعنوية التي تحمي من اليأس في مواجهة الهموم، وأن من توكل على الله بصدق تشرب قلبه الثقة بأن الله لن يخذله، ويرى في الفتن طريقًا للنجاح وسلمًا للارتقاء وصقلاً للذات.
وأشار إمام وخطيب المسجد النبوي إلى قصة مريم وهي في أشد لحظات الضيق حين لجأت وقت المخاض إلى جذع النخلة، وكان حسن ظنها بالله راسخًا، قال تعالى: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا}.
وتابع الثبيتي بأن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم يتجلى حسن الظن بالله، ففي الهجرة مع أبي بكر وقد حاصرهم الخطر قال أبو بكر للنَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّمَ-: “لو أنَّ أحَدَهم نَظَر تحْتَ قدَمَيْه لَأبْصَرَنا”، فقال له -صلَّى الله عليه وسلَّمَ-: “ما ظنُّكَ يا أبا بَكرٍ باثْنَينِ الله ثالثُهما”.
وأوضح أن جل الإيمان العميق وحسن الظن بالله هما السر الكامن في ثبات الأمة في أقسى الأزمات، مبينًا أن الأمة مرت على مر العصور بأزمات خرجت منها أكثر قوة.
وبيّن فضيلته أن حسن الظن بالله لا يعني التواكل والكسل وترك العمل، بل هو محفز على الجد والاجتهاد، وأن من مقتضيات حسن الظن بالله بذل الجهد وخدمة الدين والأمة وبناء الوطن.. ففي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تَقوم حتى يَغرِسَها، فليَغرِسْها”. وقال جل من قائل: {وَمَن يَتَّقِ اللَّه يَجْعَل لَّه مَخْرَجًا وَيَرْزُقْه مِنْ حيث لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه فَهُو حَسْبُه إِنَّ اللَّه بَالِغُ أَمْرِه قَدْ جَعَلَ اللَّه لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}.