نتنياهو .. زلازل الدعم والداخل والميدان
تاريخ النشر: 21st, March 2024 GMT
سرايا - حينما تتزلزل الأرض تحت حكومة نتنياهو، ويطالبها أخلص حلفائها بانتخابات جديدة، ويوجهون سهام اللوم لرئيسها نتنياهو، ويقولون؛ إنه عقبة أمام السلام ويضرّ إسرائيل أكثر مما ينفعها، ويترافق ذلك مع أزمات داخلية متعددة بين أقطابها وبين السياسيين والعسكريين، مصحوبة بالفشل في تحقيق أهداف الحرب، والعجز عن وضع تصور لما بعد الحرب، فإنّ هذا يطرح تساؤلات عن مدى صمود هذه الحكومة وتماسكها، ومستقبل عدوانها على غزة الذي جرى حتى الآن بغطاء أميركي سياسي وعسكري غير مسبوق.
فقدان الثقة لا شكّ أن تطوّر الموقف الأميركي السلبي من نتنياهو وحكومته لم يكن وليد اللحظة، ولكنه تطور على امتداد الشهور الماضية التي تلت الحرب، بدءًا برفض نتنياهو تصور اليوم التالي للحرب، وعدم قبوله بالدولة الفلسطينية، مرورًا بعدم استماعه للمطالب الأميركية بالتخفيف من استهداف المدنيين، حيث نُقل عن بايدن وصفه نتنياهو بالرجل السيئ، والرجل الأحمق، ثم قوله؛ إن التعامل مع نتنياهو أصبح مستحيلًا.
ثم تطور الأمر بين الطرفين بعد احتدام الخلاف حول اجتياح رفح والتعامل مع مفاوضات الهدنة، أو وقف إطلاق النار.
يواجه نتنياهو مشكلة أخرى مع وزير دفاعه يوآف غالانت والتي تعود إلى تخوف نتنياهو من طموحات غالانت السياسية، ومحاولة نتنياهو إرضاء شريكَيه اليمينيَين في الائتلاف الحكومي على حسابه
كما أن تعمد جيش الاحتلال قصف المدنيين الذين تجمعوا لالتقاط المساعدات عند دوّار النابلسي شمالي قطاع غزة؛ ما أدى لاستشهاد أكثر من 100 فلسطيني، فيما عرف بمجزرة الطحين أدخل هذه الخلافات في منحنى آخر، تمثل باعتبار بايدن أن نتنياهو يضر بإسرائيل أكثر مما ينفعها، كما حظي بايدن بدعم الزعيم الأكثر ولاءً لإسرائيل في الولايات المتحدة الأميركية، وهو رئيس الأغلبية الديمقراطية في الكونغرس تشاك تشومر، حينما فجّر المفاجأة الأكثر إيلامًا لنتنياهو بقوله؛ إن على إسرائيل تصحيح مسارها، معتبرًا أن نتنياهو يشكل عقبة أمام السلام، ودعا الإسرائيليين لإجراء انتخابات مبكرة، وهي الدعوة التي أثنى عليها بايدن، فيما اعتبرتها مجموعة الضغط اليهودية "جي ستريت" مؤشرًا على تحول تاريخي لديمقراطيين يهتمون بشدة بمستقبل إسرائيل.
ورغم أنّ موقف "الإيباك" اللوبي الإسرائيلي الأكثر تأثيرًا في الولايات المتحدة لم يكن واضحًا أو حادًا تجاه نتنياهو، فإن هذه التطورات تدل على بداية تزعزع الدعم الأميركي لحكومة نتنياهو في بعض مواقف الحرب، وهو ما قد يؤثّر على حجم الدعم اللوجستي غير المسبوق الذي تلقته إسرائيل من أميركا حتى الآن عبر الجسر الجويّ المتواصل الذي نقلت فيه الذخيرة والأسلحة.
وقد حذر مسؤول إسرائيلي رفيع من أن "إسرائيل قد تخسر الحرب على غزة، إذا لم تتوفر الذخيرة والشرعية، قائلًا: إن كلتيهما بدأتا تنفدان"!
ونقلت قناة "كان" العبرية عن مصدر إسرائيلي أن الولايات المتحدة أبطأت تقديم المساعدات العسكرية للكيان، فيما أبلغ مسؤول إسرائيلي رفيع قناة "ABC" الأميركية أن هناك نقصًا في قذائف المدفعية عيار 155 ملم، وقذائف الدبابات عيار 120 ملم، لدى جيش الاحتلال.
ورغم ذلك، فمن المهم التأكيد أنّ هذه المواقف السياسية الحادة لم تؤثر حتى الآن على الدعم الأميركي غير المحدود للكيان، وأن تصريحات بايدن وبعض المشرعين الأميركيين هي من باب الحرص على الكيان، وتخوفهم من الطريقة التي يقوده بها نتنياهو خدمة لمصالحه الشخصية.
أزمة داخلية وبالتوازي مع الأزمة مع الولايات المتحدة، فإن نتنياهو يعاني من تكاثر الأزمات الداخلية، أهمها الخلافات مع عضوَي مجلس الحرب بيني غانتس، زعيم حزب معسكر الدولة، وغادي آيزنكوت، رئيس الأركان السابق، وذلك على خلفية إدارة الحرب، وأولويتَي تحرير الأسرى، والقضاء على حماس، حيث يرى كلاهما أن تحرير الأسرى له الأولوية في ظل عدم تحقيق هدف القضاء على حماس، الذي يمكن استئناف العمل به بعد إنجاز صفقة الأسرى. وذلك فيما يماطل نتنياهو في إنجاز هذه الصفقة، ويحاول تهميش دور غانتس في الإشراف على المفاوضات مع الوسطاء، وهو الأمر الذي يوسع الخلافات بينهما.
وقد تعاظمت الخلافات بزيارة غانتس للولايات المتحدة والتقائه مع نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس، وهو ما اعتبره نتنياهو بمثابة المؤامرة لإسقاطه.
ورغم تفوق غانتس على نتنياهو بضعف الأصوات فيما لو أجريت الانتخابات، فإن الأخير ربما يكون كسب نقطة على صعيد استقرار تحالفه اليميني المتشدد عبر انفصال جدعون ساعر ببرنامجه اليميني الأقرب لليمين ولنتنياهو عن حزب بيني غانتس، ومطالبته بمقعد في مجلس الحرب، بما يعزز من سطوة نتنياهو هناك إن وافق لساعر على هذا المطلب.
كما يواجه نتنياهو مشكلة أخرى مع وزير دفاعه يوآف غالانت والتي تعود إلى تخوف نتنياهو من طموحات غالانت السياسية، ومحاولة نتنياهو إرضاء شريكَيه اليمينيَين في الائتلاف الحكومي على حسابه، حيث عين رئيس حركة عظمة يهودية بن غفير وزيرًا للأمن القومي، فيما سلم رئيس حركة الصهيونية الدينية سموتريتش منصب منسق أعمال الحكومة في المناطق الفلسطينية والإدارة المدنية منتزعًا إياها من صلاحيات غالانت.
كما سبق أن أقاله من منصبه في مارس/آذار 2023؛ بسبب دعمه المظاهرات المناوئة للتعديلات القضائية، ومشاركة العديد من قوات الاحتلال في هذه الاحتجاجات، وذلك قبل أن يتراجع عن قراره ويعيده لمنصبه. المهم أن هذه الخلافات استمرت بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، وإن حاول الطرفان إخفاءها، وهي تعود للظهور في مفاصل قرارات الحرب وسير المعارك.
ونظرًا لأن نتنياهو يخشى من التعرض للمحاكمة بتهمة الفساد، وربما أيضًا بسبب الفشل في 7 أكتوبر/تشرين الأول، فإنه يسعى للحفاظ على ائتلافه الحكومي الذي يتمتع بأغلبية 64 صوتًا في الكنيست، ويسعى في مواقفه لإرضاء شريكَيه المتطرفَين بن غفير وسموتريتش، حيث كان لهما التأثير البارز في موقف نتنياهو من الدولة المستقلة، وكذلك الموقف من مفاوضات وقف النار والأسرى، حيث يهددان بالانسحاب من الائتلاف في حال التوصل لاتفاق.
كما يبدو أنّ أزمة جديدة تلوح في الأفق، بعد إثارة وزير الدفاع قضية تجنيد الحريديم المتدينين في الجيش، وتأكيده على حاجة الجيش لهم (يتمتعون حاليًا باستثناء من الخدمة وفق قانون أقره الكنيست)، الأمر الذي دفع كبير حاخامات السفارديم (اليهود الشرقيين) يتسحاق يوسف للقول: "إذا أجبرتنا الحكومة على التجنيد فسنسافر جميعًا إلى خارج إسرائيل". وربما تؤدي مناقشة تعديلات مقترحة على قانون التجنيد إلى انقسامات في الحكومة، في الوقت الذي يؤكد الجيش حاجته لزيادة مدة التجنيد الإلزامي في ظل استمرار الحرب في قطاع غزة.
ويضاف لذلك تصاعد وتيرة المظاهرات المطالبة لحكومة نتنياهو بإنجاز صفقة تبادل الأسرى، وتلك المطالبة باستقالة الحكومة، لتشمل حيفا والقدس وتل أبيب، وتهديد متظاهرين بحرق إسرائيل إن لم تذهب الحكومة لصفقة تبادل الأسرى.
ومع كل ذلك، لا يبدو حتى الآن أن هذا الائتلاف معرض لتهديد حقيقي بالانهيار، ما لم يرفع بن غفير وسموتريتش الغطاء عن نتنياهو، إذ فشل غانتس سابقًا في استمالة عدد من أعضاء الليكود للاستقالة لإفقاد نتنياهو الأغلبية، بما يمهّد لإجراء انتخابات أو تغيير الحكومة.
فشل مركّب إن اجتماع هذه الأزمات مع بعضها، واستمرار تصاعدها، إنما يعود بالأساس للهزة الكبرى التي أحدثها "طوفان الأقصى" بالمجتمع الإسرائيلي، وما تبع الحرب على غزة من فشل إسرائيلي في تحقيق أهدافها المعلنة: القضاء على حماس، وتحرير الأسرى بالقوة. إذ اتضح أن هذين الهدفين لم يكونا واقعيين، فمن غير الممكن القضاء على حركة متجذرة في الأرض سياسيًا واجتماعيًا، وتملك قدرات عسكرية وأمنية لا يستهان بها.
وقد أكدت شهادات الاستخبارات الأميركية، وكذلك شهادات خبراء عسكريين إسرائيليين، أن قوات الاحتلال لم تتمكن من القضاء على معظم القوة العسكرية لحماس، واستمرار احتفاظ الحركة بآلاف المقاتلين في المناطق التي تم اجتياحها، فيما لا تزال تحتفظ بكل مقاتليها في رفح.
كما أكدت الشهادات أن قوات الاحتلال لم تتمكن إلا من تدمير ثلث أنفاق حماس والتي تزيد على 500 كم تحت الأرض، الأمر الذي يؤكد استمرار السيطرة والتحكم وامتلاك القوة الصلبة في القطاع. كما أظهرت الحركة قدرة على استعادة دورها المدني على الأرض، عقب حملة التجريف الإسرائيلية.
كما عجزت قوات الاحتلال عن إيجاد بديل من العشائر لتوزيع المساعدات أو حكم القطاع، فيما لا يزال الخلاف ينخر في الحكومة بين نتنياهو وغالانت حول الاستفادة من شخصيات في فتح، مثل مسؤول المخابرات الفلسطينية في الحلول محل حماس في الأراضي التي يسيطر عليها الاحتلال.
كما تجد الحكومة الإسرائيلية نفسها عالقة في خياراتها، في ظل إصرارها على اجتياح رفح، رغم أنها لم تنجح في مهمتها في شمال ووسط غزة، وفي خان يونس. ويعاني جيش الاحتلال من إرهاق واستنفاد طاقته، في وقت يصر فيه بايدن على إيجاد مأوى وإغاثة لنحو 1.4 مليون مدني نازح في رفح قبل شنّ أي هجوم بري، وهو ما فشلت فيه حكومة الاحتلال حتى الآن، الأمر الذي يهدد بتفاقم الخلاف مع الإدارة الأميركية في حال قرّر نتنياهو مهاجمة رفح.
كما ستعزز هذه الخطوة الخلافات مع كل العالم الغربي الذي دعم هذه الحرب في بدايتها، ليطالب الآن بوقفها وإغاثة الفلسطينيين وإنقاذهم من المجاعة التي يواجهونها.
وفي سياق آخر، نجحت حماس في تعميق أزمة حكومة الاحتلال، عندما قدمت اقتراحًا مرنًا في مفاوضات تبادل الأسرى ووقف النار، ركّزت فيه على المطالب الإغاثية والسماح للمدنيين بالعودة من جنوب غزة إلى شمالها، بما يستدعي انسحاب قوات الاحتلال من شارعي الرشيد وصلاح الدين.
وفيما وصفت واشنطن الاقتراح بأنه يقع ضمن إطار اتفاق باريس 2، فإن نتنياهو دخل كعادته في مناورات داخل ائتلافه الحاكم، في محاولة لإجهاض أي فرصة للتوصل لاتفاق، لأن أي وقف مؤقت لإطلاق النار سيمهد لمفاوضات لوقف دائم للحرب، وهو ما يحاول نتنياهو تجنبه.
غير أن خياراته هذه المرة بدأت تضيق أمام احتدام الخلاف مع الإدارة الأميركية، إذ لا يمكنه الاستمرار حتى النهاية في استفزازها، وسيحتاج إلى مبادرات ومواقف تخفف الضغط عليه، مع موازنة الحفاظ على ائتلافه الحاكم، وإقناع المتشددين فيه بالموافقة على خطوة وقف النار، أو هدنة تؤدي إلى نزع فتيل التوتر مع إدارة بايدن.
لا يعني ذلك أنه سيذهب لهذا الاتفاق، ولكنه بالتأكيد سيضطر للتعامل بجدية أكثر مع هذا المسعى، بصرف النظر عن المدى الذي سيتجاوب فيه، وما يمكن أن يطلبه من شروط تلقى قبولًا أميركيًا، وتعيد الكرة إلى ملعب المقاومة.
وبصرف النظر عن مآلات الأمور بالنسبة لحكومة الاحتلال أو علاقاتها مع الولايات المتحدة والغرب، أو مآل المفاوضات، فإن المؤكد هو أن مكانة الكيان تتراجع بشكل ملموس ضمن المنظومة الغربية، وتتآكل صورته الحضارية التي سوّقها عن نفسه طوال السنوات الماضية، أمام صور الإجرام والسادية في قتل المدنيين وتجويعهم واستهداف مستشفياتهم ومدارسهم، وهو الأمر الذي يحرج حلفاءَه، ويضعهم أمام خيارات صعبة وتحديات لقيمهم ومبادئهم التي يسوّقونها عن أنفسهم.
وهذا سيكون له أثر مدمر على صورة الكيان وعلاقاته الرسمية مع الغرب، بعد أن ضرب صورته وحطمها أمام جماهيره. ويضاف ذلك إلى فقدان قيمته الإستراتيجية لدى الغرب؛ بسبب هجوم "طوفان الأقصى" الذي ضرب أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وأطاح بنظريته للردع.
إقرأ أيضاً : بلينكن: قريبون من التوصل لاتفاق تهدئة في قطاع غزة .. وجولتي في الشرق الأوسط تناقش مابعد الحربإقرأ أيضاً : قوات الاحتلال تهدد النازحين داخل مجمع الشفاء وتطالب بإخلاء المجمع فوراً إقرأ أيضاً : ارتفاع هائل في الحوادث البحرية منذ بدء هجمات الحوثي
المصدر: وكالة أنباء سرايا الإخبارية
كلمات دلالية: قوات الاحتلال الأمر الذی القضاء على حتى الآن وهو ما
إقرأ أيضاً:
القدس المنسية: المدينة التي تُسرق في ظل دخان الحرب الإسرائيلية على غزة والضفة
في الوقت الذي تشتعل فيه المواجهة في القطاع وتحتل صدارة المشهد الإعلامي والدبلوماسي، تنزوي القدس في الظل، كمدينة تُسرق بهدوء وتُغيَّب عن الواجهة تحت غطاء النسيان والانشغال. يعيش الفلسطينيون في القدس واقعا قاسيا لا يقل عنفا، لكنه غالبا ما يُختزل إلى الهامش في السردية الفلسطينية العامة.
تفرض السلطات الإسرائيلية قيودا مشددة على حركة المقدسيين، خاصة خلال شهر رمضان، ما يعيق وصولهم إلى المسجد الأقصى، ويحوّل ممارسة العبادة إلى معاناة يومية تتخللها الإهانات والمنع. فهل تُمارس هذه القيود بدافع أمني حقيقي، أم أن وراءها بُعدا دينيا وسياسيا مقصودا؟ ولماذا تستهدف القدس بشكل متكرر بينما يُسمح للمستوطنين باقتحام ساحاتها بكل حرية؟
ومنذ احتلالها عام 1967، تبنّت إسرائيل نهجا ممنهجا لتغيير الطابع الديمغرافي للقدس الشرقية، من خلال سحب الهويات، وهدم المنازل، وتوسيع المستوطنات على حساب الأحياء الفلسطينية. فهل هي مجرد إجراءات إدارية وأمنية؟ أم أنها جزء من مشروع استراتيجي طويل الأمد لطمس الهوية الفلسطينية في المدينة؟
ما يُنفَّذ اليوم ليس سوى تسريع لهذه السياسات، بقيادة حكومة تُعد من الأكثر تطرفا في تاريخ إسرائيل، وتضم شخصيات يمينية تتبنى خطابا إقصائيا لا يعترف بحقوق الفلسطينيين. وقد ترافق هذا التصعيد مع الحرب الإسرائيلية الشاملة على الضفة الغربية وقطاع غزة، ما وفّر بيئة مثالية لتكثيف مشاريع التهويد، في ظل انشغال العالم بساحات الصراع المفتوحة وغياب الاهتمام الدولي بما يجري في المدينة المقدسة
وما يُنفَّذ اليوم ليس سوى تسريع لهذه السياسات، بقيادة حكومة تُعد من الأكثر تطرفا في تاريخ إسرائيل، وتضم شخصيات يمينية تتبنى خطابا إقصائيا لا يعترف بحقوق الفلسطينيين. وقد ترافق هذا التصعيد مع الحرب الإسرائيلية الشاملة على الضفة الغربية وقطاع غزة، ما وفّر بيئة مثالية لتكثيف مشاريع التهويد، في ظل انشغال العالم بساحات الصراع المفتوحة وغياب الاهتمام الدولي بما يجري في المدينة المقدسة.
سياسة المنع من الوصول إلى المسجد الأقصى: بين التضييق الديني والتأثير الاقتصادي
إن إحدى أخطر السياسات الإسرائيلية المستمرة في القدس هي إعاقة حرية العبادة للفلسطينيين، لا سيما في المسجد الأقصى، الذي يمثل أمرا عظيما بالنسبة للمسلمين. تُفرض قيود صارمة على دخول المصلين من الضفة الغربية، عبر نظام تصاريح تعجيزي، غالبا ما يُستخدم كأداة للعقاب الجماعي، ويُرفض دون أسباب واضحة، خاصة لفئات الشباب والنساء والنشطاء.
ولا يقتصر المنع على حرمان الفلسطينيين من ممارسة شعائرهم الدينية، بل يتعداه إلى تمييز واضح على أساس العمر والجغرافيا. فكثيرا ما يُمنع الشبان تحت سن الأربعين من دخول المسجد، حتى في المناسبات الدينية الكبرى، فيما يُسمح للمستوطنين اليهود من أقاصي البلاد باقتحام ساحاته، بحماية الشرطة الإسرائيلية.
أما سكان القدس أنفسهم، فلا يسلمون من التضييق اليومي، إذ تُغلق بوابات المسجد الأقصى بشكل مفاجئ، وتُمارس بحقهم إجراءات تفتيش مهينة على المداخل، وتقتحم قوات الاحتلال باحاته بشكل متكرر، مما يحوّل الحرم القدسي إلى ساحة أمنية تُقيّد فيها حرية العبادة وتسلب السكينة من المصلّين. وتصل هذه الانتهاكات إلى حدّ مصادرة وجبات السحور أو الإفطار من المصلّين، كما حصل قبل عدة أيام، حين داهمت القوات باحات المسجد، وصادرت الطعام من المعتكفين، في مشهد يمسّ بكرامتهم ويُنغّص عليهم أجواء الشهر الفضيل.
وإلى جانب الأبعاد الدينية والوطنية، ينعكس هذا الحصار سلبا على الحركة الاقتصادية في القدس. فعدم السماح لسكان الضفة الغربية بدخول المدينة يُعطّل النشاط التجاري والأسواق، ويؤثر بشكل مباشر على دخل مئات العائلات المقدسية التي تعتمد على الزوار والمصلين من خارج المدينة، خاصة خلال شهر رمضان والمواسم الدينية.
الوضع الاقتصادي في القدس
الوضع الاقتصادي في القدس ليس أقل مأساوية من الوضع السياسي، إذ يعيش السكان في حالة حصار اقتصادي دائم، تتجلى في ارتفاع معدلات البطالة وتراجع القدرة الشرائية. ووفقا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، بلغت نسبة البطالة في القدس الشرقية نحو 5.2 في المئة في عام 2024، مقارنة بـ4.4 في المئة في عام 2021. وقد فاقمت جائحة كورونا، إلى جانب الحرب الشاملة على غزة والضفة الغربية، من حدة الأزمة، إذ أدت إلى فقدان نحو 35 ألف عامل لوظائفهم خلال عام 2024. كما أُغلق ما يقارب 450 محلا تجاريا، ما ساهم في تفاقم التدهور الاقتصادي وضاعف من معاناة السكان.
الاقتصاد في القدس يعتمد بشكل كبير على قطاع الخدمات والسياحة، حيث يشكل أكثر من 40 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي ويوظف قطاع الخدمات 41 في المئة من العاملين. ومع ذلك، تستمر السلطات الإسرائيلية في عرقلة أي نشاط اقتصادي فلسطيني داخل المدينة، من خلال فرض الضرائب الباهظة وإغلاق المحال التجارية بشكل متكرر.
النقص في الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء ليس عرضا طارئا، بل جزء من سياسة ممنهجة لتقليص الوجود الفلسطيني وإضعاف قدرة السكان على البقاء. يعيش في محافظة القدس حوالي 451 ألف نسمة، يشكلون ما نسبته 9.1 في المئة من سكان فلسطين، ويعاني السكان من نقص حاد في الخدمات الأساسية، كالصحة والتعليم والبنية التحتية، مما يؤثر سلبا على جودة حياتهم اليومية. ويحاول الاحتلال، عبر هذه السياسات، أن يجعل من مدينة القدس بيئة طاردة لأهلها وليست جاذبة، في إطار مساعيه المستمرة لتفريغ المدينة من سكانها الفلسطينيين وتغيير طابعها الديمغرافي.
حين تعود إدارة ترامب.. تُفتح شهية التهويد من جديد
ولا يمكن الحديث عن واقع القدس دون الإشارة إلى عودة دونالد ترامب إلى السلطة، وهو الرئيس الأمريكي الذي منح إسرائيل خلال ولايته الأولى دعما غير مشروط، بدءا من اعترافه بالقدس عاصمة لها، وصولا إلى نقل السفارة الأمريكية إليها في خطوة غير مسبوقة. هذه السياسات لم تكن رمزية فحسب، بل أسهمت فعليا في تغيير ميزان القوى على الأرض، وتعزيز قبضة الاحتلال على المدينة.
عودة ترامب اليوم تمثّل رسالة طمأنة للتيار اليميني المتطرف في إسرائيل، لا سيما في حكومة بنيامين نتنياهو التي تضم شخصيات مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش. ومما يعزز هذا التوجه أن الفريق المحيط بترامب لا يزال يضم وجوها بارزة من أشد المؤيدين لإسرائيل واليمين الديني القومي.
ويعزز هذا التوجه اليميني المتطرف المحيطون بترامب، الذين ما زال لهم تأثير واضح على ملامح السياسة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية. من أبرزهم: مايك بومبيو، وزير الخارجية السابق، المعروف بدعمه المطلق للمستوطنات ورفضه لحل الدولتين؛ وديفيد فريدمان، السفير الأمريكي السابق لدى إسرائيل، الذي نسّق بشكل مباشر مع قادة المستوطنين وساند ضم الأراضي الفلسطينية. ويبرز أيضا جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأسبق، الذي لطالما دعا إلى الحسم العسكري والتوسع الإسرائيلي، إلى جانب رون ديرمر، أحد أبرز مهندسي العلاقات بين نتنياهو والجمهوريين، والذي سبق أن وصف الضفة الغربية بأنها "أرض متنازع عليها". أما جاريد كوشنر، صهر ترامب ومهندس "صفقة القرن"،عودة ترامب اليوم تمثّل رسالة طمأنة للتيار اليميني المتطرف في إسرائيل، لا سيما في حكومة بنيامين نتنياهو التي تضم شخصيات مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش. ومما يعزز هذا التوجه أن الفريق المحيط بترامب لا يزال يضم وجوها بارزة من أشد المؤيدين لإسرائيل واليمين الديني القومي فرغم غيابه عن الفريق الرسمي الحالي، إلا أن رؤيته لا تزال تترك أثرا عميقا في توجهات الحزب الجمهوري تجاه إسرائيل. هذا الطاقم المتماهي مع توجهات اليمين الإسرائيلي لا يبشر إلا بمزيد من الانحياز، ما يعني أن الفلسطينيين في القدس سيواجهون موجة جديدة من التضييق والتطهير الصامت، تحت غطاء أمريكي رسمي.
هشاشة المواقف العربية والإسلامية
وعلى الرغم من الدعم الذي يلقاه الشعب الفلسطيني من قبل الجماهير العربية والإسلامية، إلا أن المواقف الرسمية لبعض الحكومات العربية والإسلامية تظل هشة ولا ترتقي إلى مستوى التحديات التي يواجهها الفلسطينيون في القدس وغزة. وفي حين تستمر بعض الحكومات في تقديم الدعم السياسي والإنساني، فإن الخطوات الفعلية مثل اتخاذ مواقف قوية ضد السياسات الإسرائيلية أو اتخاذ إجراءات ملموسة مثل سحب السفراء أو إلغاء اتفاقيات التطبيع، ما تزال غائبة.
تساهم هذه الهشاشة الدبلوماسية في إضعاف الضغط الدولي على إسرائيل، مما يقلل من فاعلية التحركات الدولية في محاسبتها على انتهاكاتها المتواصلة. ورغم التحركات الشعبية المستمرة في بعض الدول، والتي تعكس رغبة حقيقية في الوقوف إلى جانب القضية الفلسطينية، فإن غياب التنسيق العربي والإسلامي الفعّال يؤثر على مصير القدس، ويترك الفلسطينيين في مواجهة احتلال متزايد. إن الحاجة إلى توحيد المواقف وتعزيز التعاون بين الدول العربية والإسلامية من أجل الضغط الفعّال على المجتمع الدولي تبقى ضرورية لحماية القدس من عملية تهويد شاملة.
القدس لا تنزف فقط من جراح الاحتلال، بل من صمت العالم، وتردد الشقيق، وغياب القرار. تُسرَق المدينة في وضح النهار، لكنها تُهمَّش في ليل الأخبار، وتذوب في زحمة عناوين الحروب. ومن حق القدس علينا أن نعيدها إلى الواجهة، لا كرمز ديني فحسب، بل كقضية سياسية وشعبية حيّة تستحق أن تكون حاضرة في الضمير العربي والدولي.
فلماذا تغيب القدس عن أولويات الإعلام، وتتراجع على أجندة الدبلوماسية؟ ولماذا تُترك وحدها في معركتها الوجودية؟ إن إعادة الاعتبار للقدس، إعلاميا ودبلوماسيا، لم تعد ترفا ولا خيارا، بل ضرورة وطنية وأخلاقية أمام مشروع الاحتلال الصامت، الذي لا يستهدف الأرض فقط، بل الذاكرة والهوية والإنسان.