وصف الكاتب ويسلي ألكسندر هيل الخبير في شئون أفريقيا والصين في مقال نشره موقع ” The National Interest” ما شهدته تشاد فى 28 فبراير 2024 من أحداث عنف، بعد الإعلان عن الجدول الزمني للانتخابات الرئاسية المقرر عقدها فى 6 مايو 2024، من اعتقال زعيم “الحزب الاشتراكي بلا حدود” يحيى ديلو وقتله، بأنه يدخل ضمن إطار ما تسميه الأدبيات بـ”الانقلاب الذاتي” the self-coup، حيث يستولي رئيس الدولة على المزيد من السلطة من داخل جهاز الدولة[1].
ربما يكون هذا المشهد مألوفًا في الساحة السياسية في تشاد، حيث تلعب الانقلابات والقبلية دورًا رئيسيًا. يأتي الرؤساء الجدد عن طريق الانقلابات، غالبًا ما يدعمون أبناء قبيلتهم على حساب القبائل الأخرى ويتمسكون بالسلطة، مما يؤدي إلى تصاعد حركات التمرد المسلحة التي تعتقد أن الطريق إلى السلطة يمر عبر استخدام القوة للإطاحة بالحكومة.
نجح الرئيس الراحل إدريس ديبي في الفوز بالانتخابات ست مرات على مدار ثلاثة عقود بتهديد وترغيب المعارضة، بجانب تعزيز سيطرته على السلطة وتمكين قبيلته.
تُعتبر عدم قدرة جماعات المعارضة على الوصول إلى السلطة دون التمرد المسلح سمة مستمرة في السياسة التشادية. وقد استغلت هذه الجماعات، في بعض الأحيان، القوة للوصول إلى السلطة، وفي أحيان أخرى أجبرت الحكومة على المفاوضات التي قد تؤدي إلى منحها بعض المناصب الرئيسية، لكن هذا لم يمنع عودتها للتمرد مجددًا.
هذا المشهد يثير تساؤلات حول مستقبل الاستقرار في تشاد، خاصة مع الانتخابات المقررة في مايو المقبل التي أعلن الرئيس الانتقالي محمد ديبي ترشحه لها. وعلى الرغم من التأييد الغربي، يتنبأ التطور السياسي في تشاد بمزيد من الفوضى، مع زيادة قبضة السلطة وسعيها لإقصاء المعارضين باستمرار.
ملامح المشهد السياسى والأمنى
1- صراع قبلى وعائلى ممتد: أطاح رئيس المجلس العسكرى محمد ديبى بأقوى معارضيه وابن عمته، حيث كان يحيى ديلو ينافس الرئيس الراحل إدريس ديبى في الانتخابات الرئاسية التي عقدت فى أبريل 2021. كما كان من المقرر أن يخوض الانتخابات المزمع عقدها فى مايو 2024. ومن ناحية أخرى، قامت السلطات فى تشاد بالقبض على عم الرئيس محمد ديبى، صالح ديبى، والذي انضم إلى “الحزب الاشتراكي بلا حدود” الذى كان يرأسه يحيى ديلو مؤخراً، بعدما ترك حزب “جبهة الإنقاذ” الحاكم في البلاد، وذلك وسط اتهامات له بالفساد والسرقة.
وتعود الأحداث الأخيرة إلى سنوات من الاستبداد الذى تعانى منه الدولة مع استمرار حكم الرئيس إدريس ديبى الذى وصل الى السلطة فى عام 1990 عبر انقلاب وظل في الحكم لمدة ثلاثين عاماً، حيث تصاعد الخلاف خلال السنوات الثلاثة الأخيرة وخاصة بعد مقتل إدريس ديبى، بين أجنحة داخل قبيلة الزغاوة الحاكمة، كما برزت الانتماءات القبلية كمحرك للعديد من الجماعات المتمردة التى تعرضت قبائلها للإقصاء خلال عهد إدريس ديبى ومنها قبيلتى القرعان والتبو وعشائر من الزغاوة.
2- تأثيرات إقليمية مختلفة: تنعكس العديد من التطورات التى تشهدها الدول المجاورة لتشاد على الاستقرار فى هذه الدولة، مما يزيد من قبضة المؤسسات العسكرية والأمنية فى البلاد. ففضلاً عن الأحداث التى تشهدها ليبيا منذ عام 2011، والتى أدت الى تحول جنوب ليبيا لمركز للحركات المسلحة من تشاد ودارفور، فقد تحول المثلث بين تشاد وليبيا والسودان إلى مسرح للصراعات الإقليمية وممر إقليمى لعبور المقاتلين العابرين للحدود[2].
وقد استخدمت الحركات المتمردة التشادية جنوب ليبيا فى تهديد الأمن التشادى، حيث لا تزال العديد من الحركات المتمردة نشطة في شمال تشاد، رغم توقيع اتفاق سلام الدوحة فى أغسطس 2022. وأطلق الجيش الوطنى الليبى منذ أغسطس 2023 عملية عسكرية موسعة لتأمين الحدود الجنوبية، وبسط السيطرة عليها مع زيادة الاضطرابات على الحدود بين ليبيا وتشاد.
ومع تجدد المعارك بين الجماعات الإرهابية والمتمردة التشادية، التي تتواجد في قواعد بجنوب ليبيا، وبين الجيش التشادي، وإعلان “جبهة الوفاق من أجل التغيير” (فاكت) المتمردة، العودة لحمل السلاح ضد الجيش التشادي، بعد هجوم شنه فصيل متمرد آخر يطلق عليه “مجلس القيادة العسكرية من أجل الجمهورية” (CCMSR) والذى ينشط منذ عام 2016 فى جنوب ليبيا ضد الجيش التشادي، في 10 أغسطس 2023، في شمال البلاد، تعرضت قواعد حركة “فاكت” لهجوم من الجيش.
كما ظهرت جماعة متمردة جديدة في الجنوب في أوائل عام 2023 على الحدود مع جمهورية أفريقيا الوسطى. وتزامن ظهورها مع تصاعد الاشتباكات العنيفة بين مجتمعات الرعاة والمزارعين في الجنوب. ومنذ شهر مايو 2023، يشتبك الجيش التشادى مع جماعات مسلحة في منطقة تيبستي الشمالية وشمال جمهورية أفريقيا الوسطى المجاورة، بالقرب من الحدود الجنوبية لتشاد، في حين يهدد الانقلاب الذي وقع في أواخر يوليو 2023 في النيجر بزعزعة استقرار الحدود الغربية.
كما أدت الحرب التى اندلعت فى السودان منذ أبريل 2023 وتبعاتها على إقليم دارفور إلى تصاعد حدة العديد من التهديدات، حيث تستقبل تشاد أكثر من 500 ألف من اللاجئين السودانيين وخاصة الفارين من إقليم دارفور، فى ظل أوضاع اقتصادية سيئة تعانى منه الدولة، ونقص كبير فى تمويل المانحين للمساعدات المرتبطة بالصراع فى السودان .
تداعيات محتملة
تفرض التطورات السياسية والأمنية التي طرأت على الساحة الداخلية التشادية تداعيات محتملة عديدة يتمثل أبرزها في:
1- تصاعد العنف: هناك مخاوف عبر عنها التشاديون من أن يؤدى مقتل زعيم المعارضة ديلو إلى ردود فعل انتقامية. فقد تم تشييع جثمانه من منزل تيمان أرديمي، أحد زعماء التمرد السابقين، ورئيس اتحاد قوى المقاومة، والذي قاد عمليات تمرد مسلح كادت تودي برئيس البلاد السابق، ثم انخرط قبل عامين في توقيع اتفاق الدوحة للسلام بين الحكومة والمتمردين، وبعد ذلك شارك في تشكيل الحكومة الانتقالية الحالية، على نحو يؤشر إلى أن أرديمي قد يقود التمرد القادم، في سياق يدعم هذا المسار، بسبب تزايد تأثير المتغير القبلي على الصراعات المسلحة التى تشهدها تشاد، حيث خلَّفت المواجهات التى قادها الرئيس السابق إدريس ديبي الكثير من التداعيات على القبائل المختلفة فى تشاد وامتداداتها فى الدول المجاورة، وخاصة قبائل القرعان والتبو فى شمال تشاد، والقبائل العربية المسلحة في دارفور على الحدودية التشادية-السودانية.
2- تجميد اتفاق الدوحة: بعد مقتل إدريس ديبى خلال مواجهة بين الجيش وقوات “جبهة الوفاق من أجل التغيير” (فاكت) فى أبريل 2021، انخرط ابنه الذى ورث الحكم عبر مجلس عسكرى انتقالى غضت الطرف عنه فرنسا وكذلك مجموعة دول الساحل والاتحاد الأفريقى، فى حوار مع مجموعة كبيرة من الحركات المسلحة وتوصلوا إلى اتفاق الدوحة فى أغسطس 2022 الذى لم يتم تنفيذ بنوده.
وقد أعلن تيمان أرديمى فى أكتوبر 2023 عن ضرورة مراجعة الاتفاق الذى وقعه محمد ديبى مع 46 حركة مسلحة، وأتاح للحركات السياسية العسكرية المشاركة في الحوار الوطني الشامل السيادي في تشاد، على نحو يوحي بأن تلك المراجعة سوف تكون محوراً رئيسياً في التفاعلات التي سوف تجري على الساحة السياسية التشادية خلال المرحلة القادمة.
3- تفاقم الانقسام داخل الجيش: يعد الجيش التشادى من أقوى جيوش دول الساحل، حيث كانت فرنسا تعتمد عليه فى حماية مصالحها ومواجهة التنظيمات الإرهابية، وقدمت تشاد على مر السنين مساهمات عسكرية كبيرة لعمليات مكافحة الإرهاب الإقليمية في منطقة الساحل. كما ساهمت فى عملية “سيرفال” التى قادتها فرنسا فى شمال مالى وأصبحت القوات التشادية فيما بعد ثالث أكبر قوة عسكرية في “بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي” (مينوسما)، التي أنهى مجلس الأمن ولايتها وأتمت انسحابها من مالى فى ديسمبر 2023. كما تعد تشاد شريكاً رئيسياً في القوة المتعددة الجنسيات التى تضم نيجيريا والكاميرون والنيجر ومالي وبوركينافاسو وبنين وتتولى مواجهة فروع تنظيمى “القاعدة” و”داعش”.
وفى أعقاب اغتيال يحيى ديلو، برزت انتقادات من قيادات فى الجيش بسبب ما أقدمت عليه الحكومة التشادية من تصفية المعارضين. وهنا، فإن التعددية الإثنية التى تتسم بها تشاد يمكن أن تزيد من حدة المخاوف تجاه احتمال حدوث انشقاقات داخل المؤسسة العسكرية على أسس عرقية.
4- توفير فرصة جديدة للإرهابيين: لا تزال إمكانية التحالف بين الحركات المسلحة فى تشاد والتنظيمات الإرهابية قائمة، وخاصة فى ظل وجود “خصم واحد” للطرفين هو الحكومة التشادية، حيث تكررت هذه التجربة فى مالى وليبيا.
وأخيراً، تنذر التطورات المتلاحقة التى تشهدها تشاد خلال الأشهر الأخيرة من قمع وتصفية المعارضين والرافضين لتوجهات النظام العسكرى الذى يحكم البلاد، بأن تشاد مقبلة على مرحلة صعبة، على المستويين السياسي والأمني، وخاصة فى ظل تنامى حركات التمرد وعدم انضمام الحركات الرئيسية كـ”جبهة الوفاق من أجل التغيير” (فاكت)، ومجلس القيادة العسكرية لإنقاذ الجمهورية (CCMSR) إلى اتفاق الدوحة للسلام بل وعودة هذه الحركات لعملياتها المسلحة، هذا فضلاً عن موجة الغضب التى أثارها مقتل المعارض يحيى ديلو واعلان زعماء حركات تمرد موقعة على اتفاق الدوحة رفضها للاغتيالات التى يتبعها المجلس العسكرى.
كما أن اعتماد محمد ديبى على دعم الدول الغربية، وخاصة فرنسا، بات يواجه بالكثير من الانتقادات الداخلية التى ترى أن استمرار العلاقات مع فرنسا يؤثر سلبياً على شعبية المجلس العسكرى وأن السياسات القمعية التى يعتمد عليها الأخير لن تسفر إلا عن مزيد من التوترات والتهديدات. كما أن محاولاته تحقيق التوازن بين علاقاته بكل من فرنسا وروسيا، أو استخدام التقارب مع روسيا فى الحصول على مزيد من الدعم الفرنسى والأمريكى، لن تؤدى إلى نتائج ملموسة لحسم تصاعد تهديدات الحركات المسلحة التى يمكن أن تتجه فى مرحلة ما إلى التعاون مع التنظيمات الإرهابية فى مواجهة النظام العسكرى الحاكم الذى لم يجد أسلوباً للتعامل مع معارضيه سوى التصفية الجسدية وذلك قبل شهرين فقط من الانتخابات الرئاسية.
د. أميرة محمد عبد الحليم
خبيرة الشئون الأفريقية – مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: اتفاق الدوحة التى تشهدها فی تشاد من أجل
إقرأ أيضاً:
قضية الصحراء ومفهوم الحكم الذاتي في المغرب.. القصة الكاملة في كتاب
الكتاب: قضية الصحراء ومفهوم الحكم الذاتي وجهة نظر مغربيةالكاتب: محمد بوبوش
الناشر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية العدد 130، الطبعة الأولى، 2008.
عدد الصفحات: 140 صفحة
ـ 1 ـ
يعود بنا الباحث محمد بوبوش إلى بعض المعطيات التاريخية لنفهم في ضوئها أصل معضلة الصحراء الغربية. فيذكّرنا بتواطؤ الدول الاستعمارية الغربية، خلال مؤتمر الجزيرة الخضراء الذي عقد عام 1906 على اقتسام الأراضي المغربية. فاستأثرت إسبانيا بالشمال المجاور لها وبالجنوب الصحراوي وبجيوب في الوسط (سيدي إيفني وطرفاية). ومُنحت فرنسا مناطق الوسط. أما مدينة طنجة التي تمثل منطقة إستراتيجية بالنظر إلى موقعها المطل على أوروبا فتم إبقاؤها تحت نظام دولي تولت الإشراف عليها كل من المملكة المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإسبانيا. وتمت ترضية ألمانيا التي تم استثناؤها من الأراضي المغربية، بتعويض من مستعمرات فرنسا بأفريقيا جنوب الصحراء.
من الطبيعي إذن أن تشعر إسبانيا صاحبة النصيب الأوفر، بالخطر بعد استقلال المغرب عام 1956. فعززت وجودها العسكري ليبلغ في مجمله ضعف عدد السكان المدنيين آنذاك ووضعت مخططاً لتهجير مواطنيها إلى الصحراء لتذويب الإقليم وفرض هيمنة ثقافية إسبانية. وعينت ممثلين له في البرلمان الإسباني، وكانت حجتها أن الصحراء أرض خلاء لا مالك لها.
ـ 2 ـ
وبالفعل فقد عملت المملكة المغربية على بسط نفوذها على "كامل أراضيها"، من منظور الباحث طبعا. فاعترف الراحل الحسن الثاني بدولة موريتانيا أثناء مؤتمر القمة الإسلامية الذي انعقد بالمغرب في العام 1969، بعد أن كان يعارض استقلالها عن فرنسا، الذي تحقق في العام 1960 وأُعلن المختار ولد داده رئيسا لها، باعتبارها جزءا من التراب المغربي بدورها. وكان يستهدف من وراء ذلك استرجاع الإقليم الصحراوي واقتسامه معها. وكثّف من اتصالاته بإسبانيا وأرسل المبعوثين إلى عدد من دول العالم ثم قرر الاحتكام إلى القانون الدولي. فعرض المشكلة على محكمة العدل الدولية.
الاختصاصات التشريعية لهيئات الحكم الذاتي تظلّ محددة بحدود المصالح الإقليمية التي كلفت بتحقيقها وتنفيذها ذاتياً، وتظل الدولة ببرلمانها المركزي أصلاً في مباشرة اختصاصات الوظيفة التشريعية. ولكن مبدأ السيادة يعني عدم المساس بالمصالح العليا للمجتمع المغربي والمحددة دستورياً. لذلك تبقى مسألة الوحدة الترابية وإبرام الاتفاقيات الدولية والمصادقة عليها من احتكار الدولة المركزية.وأفضت قمة ثلاثية بتلمسان في 7 ماي 1970، جمعت الجزائر والمغرب وموريتانيا، إلى اتفاق يقضي بضبط الحدود بين المغرب والجزائر، تتخلى المملكة عن الأراضي المختلف عليها لفائدة الجزائر. وتمكنها من المرور إلى المحيط الأطلسي عبر سكة حديد لشحن نصيبها من حديد غارة "جبيلات" عبر ميناء مغربي بعد أن تُستغل مناجم الحديد الواقعة داخل المناطق المتنازع عليها بواسطة شركة مختلطة. وكانت كل المؤشرات تدفع نحو الاعتقاد بوجود تفاهم مغاربي من أجل تصفية الاحتلال الإسباني من الصحراء. ولكن إسبانيا أعلنت في تموز / يوليو 1974 خطة موازية تستهدف منح الإقليم الصحراوي الاستقلال الذاتي.
ـ 3 ـ
لسحب لبساط من تحت أقدام إسبانيا الضعيفة بسبب مرض فرانكو الأخير ودفعها إلى التفاوض حول الانسحاب من الإقليم، أعلن الحسن الثاني في 16 أكتوبر 1975 عن تنظيم "مسيرة خضراء" سلمية نحو الإقليم بمشاركة 350 ألف متطوّع. وبالفعل اضطرت إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع المغرب وموريتانيا، وإلى توقيع اتفاقية مدريد الثلاثية بتاريخ 14 نوفمبر 1975. ولكن مقابل هذا الانتصار، اندلعت في شباط 1976 مواجهات لم تهدأ حتى اليوم، لمّا أعلنت جبهة البوليساريو إقامة "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" في منطقة الصحراء بدعم من الجزائر الممتعضة من استبعادها من الاتفاق. وإثر الوساطات العربية انتهت أول مواجهة عسكرية مغربية جزائرية بعد ثلاثة أيام من اندلاعها في يناير 1976. ولكن المواجهة الدبلوماسية لا تزال قائمة حتى اليوم وظلت تعطل مشروع قيام المغرب الكبير.
ـ 4 ـ
على مدار نصف قرن من بداية المشكل طُرح أكثر من حلّ لمشكلة الصحراء منها إجراء "استفتاء تأكيدي" في الصحراء بناءً على مقررات منظمة الوحدة الإفريقية سنة 1981. وهذا ما قبلت به المملكة المغربية. ولكن الجزائر اشترطت أثناء ضبط الترتيبات، الاتفاق مع الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" حول التفاصيل الإجرائية. وكانت جبهة البوليساريو، الجناح العسكري للصحراويين، قد أعلنت قيامها في شباط 1976 ووفرت لها الجزائر الدعم السياسي. فضُمّت إلى منظّمة الوحدة الإفريقية. وبديهي أن يرى المغرب في المفاوضات مع "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" اعترافا ضمنا بوجودها وخطوة حاسمة ستنتهي بالتفريط في الإقليم.
وفي أغسطس 1988 قدم خافيير بيريز دي كويلار مخططا تفصيليا لتسوية مسألة الصحراء. ولكن تعقيدات تقنية في ظاهرها سياسية في جوهرها، عصفت بهذا المخطط. فقد اشترطت الخطة خروج القوات المغربية من الإقليم، ووقف إطلاق النار، وهو ما التزم به المغرب وفق الباحث. وطُرحت قضية المؤهلين في المشاركة في الاستفتاء. فقد اشترط المغرب ضرورة تمكين جميع الأشخاص المنحدرين من أصول صحراوية من المشاركة باعتبارهم جزءا من الهوية الصحراوية ومن المجتمع الصحراوي.
أما جبهة البوليساريو التي تعد طرفاً رئيسياً في النزاع، فاقترحت أن يشكل الإحصاء الإسباني العام 1974 الأساس الحصري للناخبين، وأن يتمّ تجميع الصحراويين الموجودين في مخيمات تندوف" (التي تقع جنوب غربي الجزائر، والتي توجد فيها معسكرات البوليساريو)، في "منطقة محايدة"، وهو ما رفضه المغرب وما جعل منظمة الأمم المتحدة عاجزة عن تنظيم هذا الاستفتاء بالنتيجة.
ـ 5 ـ
في مارس 1997 توصل جيمس بيكر بصفته مبعوثا شخصيا للأمين العام للأمم المتحدة مكلفا بقضية الصحراء إلى معايير تضبط هوية الناخبين الذين يحق لهم المشاركة في الاستفتاء لتقرير مصير إقليم الصحراء لاقت قبول كل من الحكومة المغربية وجبهة البوليساريو، وعُرفت باتفاقية "هيوستن". ولكنّ مجلس الأمن الدولي أصدر في 29 تموز 2000 مبادرة فرنسية ـ أمريكية تستبعد خطة الاستفتاء وتقترح بالمقابل حكما ذاتيا واسعا في الصحراء المتنازع عليها، عن طريق هيئات تنفيذية وتشريعية وقضائية، تدير الشؤون المحلية كافة، فيما تشرف السلطة المركزية في الرباط على الشؤون الخارجية والدفاع والنقد. وبسبب رفض الجزائر وجبهة البوليساريو لهذه الخطة طُرحت فكرة التقسيم بحيث يمارس المغرب سيادته على شمال الصحراء الذي يسمى إقليم الساقية الحمراء، فيما تبسط جبهة البوليساريو سيادتها على إقليم وادي الذهب الجنوبي. وبالمقابل رحب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، بالمقترح عند حضوره احتفالات تخليد ذكرى تأسيس جبهة البوليساريو في تندوف بالجزائر شخصياً قام العاهل المغربي بجولة ميدانية في كبريات مدن الصحراء، وألقى هناك خطاباً أكد فيه "عدم تفريط المغرب في شبر واحد من منطقة الصحراء". ثم رفض لاحقا صيغا معدّلة من هذه الخطة.
ـ 6 ـ
واليوم تصرف المملكة كل جهودها لفرض حل الحكم الذاتي لمعضلة الإقليم. فهو يمثل السبيل الأمثل الذي يحفظ كل مصالحها. فسلطة الحكم الذاتي تنبع من سلطة الدولة المركزية التي هي سلطة أصلية والنظام القانوني في الوحدة المحكومة ذاتياً هو نظام تابع لنظام الدولة المركزية القانوني.
تتضمن رؤية المملكة للحكم الذاتي لجهة الصحراء مؤسسات عديدة. منها مجلس تشريعي ومجلس تنفيذي وهيئة قضائية. فينصب المجلس التشريعي على أساس الانتخاب العام المباشر لأعضائه من الجهة وتضمن فيه النساء نسبة معينة. ووفقا لمبدأ التفويض لصالح السلطة المحلية يمارس جميع الاختصاصات غير الممنوحة للمملكة. ويتولى سن القوانين وإصدار القرارات المحلية في إطار محدد. وعليه يكون مسؤولا عن صياغة جميع القوانين المعمول بها في الصحراء الغربية. وتستثنى من ذلك القوانين المتعلقة بالسلطات المخصصة للمملكة المغربية.
تصرف المملكة كل جهودها لفرض حل الحكم الذاتي لمعضلة الإقليم. فهو يمثل السبيل الأمثل الذي يحفظ كل مصالحها. فسلطة الحكم الذاتي تنبع من سلطة الدولة المركزية التي هي سلطة أصلية والنظام القانوني في الوحدة المحكومة ذاتياً هو نظام تابع لنظام الدولة المركزية القانوني.ويشكل المجلس التشريعي الإقليمي هيئة تنفيذية تتكون من عدد من الأعضاء، ويشرف كل عضو منهم على إدارة من الإدارات الإقليمية. أما السلطة القضائية فتتولاها المحاكم التي تقتضيها الحاجة، ويتم اختيار القضاة من المعهد الوطني للدراسات القضائية على أن يكونوا من أبناء الصحراء.
ـ 7 ـ
هكذا يمارس السكان الحكم الذاتي للصحراء، داخل الحدود الترابية للجهة، عدة اختصاصات ولاسيما عبر هيئات تنفيذية وتشريعية وقضائية، ووفقا لمبادئ الديمقراطية. فبموجب قوانين المركزية يمكن تفويض الإقليم للقيام بمهام تشريعية وتنفيذية سيادية نيابة عن الدولة. ولكنه يظلّ إدارة تكميلية في ممارسة السلطة التشريعية للدولة كتحديد الميزانية والنظام الضريبي الإقليمي أو إنفاذ القوانين والأمن الداخلي أو الإشراف على الرعاية الاجتماعية والثقافية والتعليم والتجارة والنقل والتخطيط الجهوي وتشجيع الاستثمارات، والتجارة والصناعة، والزراعة والتعدين، ومصائد الأسماك، والصناعة، والسياسات البيئية، والإسكان والتنمية الحضرية، والمياه والكهرباء والطرقات والبنية التحتية. والتنمية الثقافية بما في ذلك النهوض بالتراث الثقافي الصحراوي الحساني، والبيئة.
يضمن هذا التصور سلطة العرش على الإقليم الصحراوي. فالاختصاصات التشريعية لهيئات الحكم الذاتي تظلّ محددة بحدود المصالح الإقليمية التي كلفت بتحقيقها وتنفيذها ذاتياً، وتظل الدولة ببرلمانها المركزي أصلاً في مباشرة اختصاصات الوظيفة التشريعية. ولكن مبدأ السيادة يعني عدم المساس بالمصالح العليا للمجتمع المغربي والمحددة دستورياً. لذلك تبقى مسألة الوحدة الترابية وإبرام الاتفاقيات الدولية والمصادقة عليها من احتكار الدولة المركزية.
حقّق هذا المقترح اختراقا دبلوماسيا دوليا وفق الكاتب محمد بوبوش. فقد وصفته فرنسا بأنه خطة "بناءة، وجددت دعمها المشروع الحكم الذاتي مشيرة إلى أنه قاعدة للتفاوض". أما إسبانيا التي تربطها بالمغرب معاهدة مدريد التي وقعها البلدان عام 1975 وظلت حكوماتها تتجاهلها فقد رحّبت عبر رئيس حكومتها، حين انعقدت الدورة الثامنة للجنة العليا المشتركة بين البلدين في ربيع عام 2004، بمشروع الحكم الذاتي الذي عرضنا. واعتبر البيان المشترك الصادر عن اجتماع اللجنة المشتركة مشروع الحكم الذاتي الذي تقدمت به الرباط "نقطة انعطاف داخل المأزق الذي يوجد فيه ملف الصحراء منذ سنين عديدة." ويعتبر هذا الموقف تحولاً كبيراً في الموقف الإسباني.
ـ 8 ـ
يذكر الباحث عديد الوقائع التاريخية الثابتة. وعرضُها على النحو الذي ورد في "قضية الصحراء ومفهوم الحكم الذاتي وجهة نظر مغربية" يدفع إلى التسليم بمغربية الصحراء. ولكنّ الأثر لم يخل من عمل انتقائي. فهو يسكت عن وقائع أخرى قد يدفع عرضُها إلى التسليم بوجهة نظر جبهة البوليساريو أو الجزائر حول تشكيل الإقليم لهوية ثقافية واجتماعية مستقلة. من ذلك أنّ الأمم المتحدة أرسلت بعثات متعددة في أواخر عام 1975 واستندت إلى محكمة العدل الدولية.