من بين الركام، وتحت الأنقاض، وأمام شبح المجاعة، استقبل أهالى قطاع غزة المحاصر شهر رمضان المبارك، وتحت القصف ونيران المدفعيات، فرشوا سفراتهم المتواضعة بانتظار أذان المغرب، فاجتمع الأطفال حول أطباق الطعام البسيطة التى توفرها بشق الأنفس مساعدات الإغاثة، فيما اختفت أنواع اللحوم والدجاج من إفطارات الأهالى المحاصرين والنازحين فى جنوب المدينة المدمرة والتى قطعت أوصالها، وحلت محلها المعلبات نظراً لغلاء الأسعار وشح المواد الغذائية، بينما لم يجد سكان الشمال شيئاً من الطعام، حتى بات الإفطار والسحور شربة ماء، لا تسمن ولا تغنى من جوع، وعلى أثر تلك الأزمة قصد كثيرون القمامة بحثاً عن الفتات علّهم يسكتون أصوات الجوع التى فتكت بأمعائهم وأذابت لحومهم، تتفاقم المجاعة لتحصد المزيد من أرواح الغزاويين مع حلول شهر رمضان، إذ استقبل الأهالى الشهر الكريم ببطون خاوية وأجساد هزيلة، فلا طريق أمامهم سوى بانتظار مساعدات تسقط من السماء، أو تأتيهم بحراً، أو التضحية بالروح من أجل كيس طحين مخضب بالدماء.

وقال مدير عام المكتب الإعلامى الحكومى فى غزة، إسماعيل الثوابتة، لـ«الوطن»، إن الاحتلال الصهيونى أفسد فرحة شهر رمضان المبارك الذى يستقبله الفلسطينيون هذا العام، وقد استهدف جيش الاحتلال أكثر من 1000 مسجد فى قطاع غزة، وهى غير صالحة للصلاة، فى وقت تعد فيه المساجد المنارات الدينية الأولى التى يؤمها الشعب الفلسطينى للصلوات وخاصة صلاة التراويح، وتابع «الثوابتة»: «ترتفع بذلك حصيلة الضحايا إلى أكثر من 31 ألف شهيد، وما يزيد على 72 ألف جريح، 72% منهم من الأطفال والنساء العزّل»، كما أضاف أن حصيلة ضحايا سلاح التجويع الذى يمارسه الاحتلال ارتفعت إلى 27 شهيداً أغلبهم من الأطفال، وأكد مدير عام المكتب الإعلامى الحكومى فى غزة أن نصف مليون شخص فى قطاع غزة وصلوا إلى مستويات إنذار أعلى فيما يتعلق بانعدام الأمن الغذائى وأن 80% من الأطفال الصغار أصبحوا يعانون فقراً غذائياً حاداً، فيما دعا الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش، إلى ما عبر عنه بـ«إسكات صوت السلاح» فى قطاع غزة، وذلك احتراماً لحرمة شهر رمضان، وقال «جوتيريش» إنه على الرغم من حلول شهر رمضان المبارك وهو الوقت الذى يحتفل فيه المسلمون فى جميع أنحاء العالم وينشرون قيم السلام والمصالحة والتضامن، إلا أن الوفيات والتفجيرات والمذابح ما زالت مستمرة فى غزة.

وقال عدنان أبوحسنة، المتحدث باسم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا»، إن ما لدى المنظمة من تمويل يكفى لتنفيذ عمليات إغاثية حتى شهر مارس ونهاية أبريل المقبل، ولا بد من تمويل وإمداد عاجل من أجل تقليص أعداد ضحايا الجوع الذى بات أحد الأسلحة التى استخدمها الاحتلال للفتك بالمدنيين فى قطاع غزة، لافتاً إلى أن الأوضاع الإنسانية فى غزة بصفة عامة سواء فى الشمال أو الجنوب متدهورة بصورة كبيرة، فى ظل البطء فى إدخال المساعدات، بالنظر إلى أن عدد الشاحنات الذى دخل فى شهر فبراير الماضى، هو نصف ما دخل خلال يناير بالرغم من قرار محكمة العدل الدولية بزيادة عدد شاحنات المساعدات التى تدخل إلى غزة، لذلك نرى انهياراً كبيراً فى الأوضاع الإنسانية على كافة المستويات، وأضاف: «هذا الوضع يتفاقم فى شهر رمضان وذلك بسبب الاستهدافات الإسرائيلية المتكررة للمراكز التابعة للوكالة والموظفين الذين يقومون بعمليات توزيع الطرود الغذائية على السكان والنازحين المتكدسين للحصول على الطعام ما أدى إلى استشهاد العشرات منهم».

«رمضان فى غزة حاجة تانية»، هكذا يقول الأهالى فى القطاع المنكوب، ففى كل دول العالم يفطر الصائمون على صوت مدفع الإفطار، بينما هنا فى غزة لا يفطر الجوعى بل تمزقهم قذائف مدافع آليات القتل الإسرائيلية إلى أشلاء متناثرة، غالباً ما تختلط بالتراب فتغوص الجثة فى الأرض دون نقلها إلى قبر يحتويها، فى غزة لا يذهب الظمأ ولا تبتل العروق، يتهامس الصائمون الذين لا يزالون متمسكين بأرضهم فى مناطق شمال غزة فيما بينهم بأن الموت راحة لهم من الجوع الذى يقتلهم بالبطىء؛ فالصيام والإفطار سواء، فعلى كل حال ليس هناك طعام، ويقول فاهم الأعرج، 40 عاماً، من منطقة بيت لاهيا، إنه لم يبذل مجهوداً لتعويد طفليه التوأم محمد وباسل، 5 أعوام، على الصيام، ويتابع: «إحنا هنا فى الشمال صُمنا قبل المسلمين بـ5 شهور، أطفالى اتعودوا على الصوم بس من غير ما يكون فيه وقت للإفطار، وممكن يفوت أربع أيام أو أسبوع بدون ما ياكلوا غير رغيف خبز واحد، بشحته ليهم من الناس أو بجيبه من القمامة وبمسح العفن من عليه قبل ما أرجع على البيت»، وواصل: «صار لنا 5 شهور ما ذقنا طعم الخبز اللى بياكله البشر، لأن صرنا نطحن علف الحيوانات والطيور، واللى اتسبب فى إصابة ابنى الصغير بأمراض، بس مفيش غيره قدامنا، وكمان خلاص ما بقاش موجود وخلص وحالياً بنجمع ورق الشجر عشان نفطر عليه، لأن مش ضامنين كمان يكون موجود الأيام الجاية».

تقول كاريمان عطالله، 30 عاماً، نازحة من وسط القطاع إلى جنوبه، إن رمضان فى غزة فى الأعوام الماضية كان لا يشبه أى مكان فى العالم: «إحنا شعب بنفرح بأقل الحاجات، ولسه فى ذاكرتى سوق الزاوية الشعبى اللى كان علامة مهمة لقدوم رمضان، بس دلوقتى خسرنا كل شىء»، وتتابع: «مفتقدة ومشتاقة لمدينتى ولتفاصيلها، زى الهدوء بعد المغرب وصوت جلى الصحون والفراقيع اللى بيلعب بيها الأطفال بالشارع وللناس وهى بتجرى لصلاة التراويح، كان عندنا أحلى حياة».

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: غزة رمضان رمضان غزة الإحتلال التراويح السحور زينة رمضان فى قطاع غزة شهر رمضان فى غزة

إقرأ أيضاً:

صيام أم انتقام؟؟

شهر رمضان من أكثر الشهور الهجرية قداسة عند المسلمين نظرا لنزول القرآن في هذا الشهر المبارك، وفيه العشر الآواخر التي هي أفضل عشر ليالٍ للعبادة وخاصة ليلة القدر التي عظَّمَها الله وقال عنها {لَيْلَةُ القَدْرِ خَيرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ}، وصومه هو الركن الرابع من أركان الإسلام، وهو أيضا شهر التوبة والغفران وتلاوة القرآن وتكثيف العبادات والأعمال الخيرية والتقارب بين المسلمين، ويساعد الصيام من الناحية النفسية على ضبط النفس وتربيتها وتهذيبها والارتقاء بها عن الشهوات والمشاحنات واكتساب عادات حميدة والتخلص من العادات السيئة، ويساهم في نزع الحقد والكراهية بين البشر والإحساس بالفقراء والمحتاجين ومعاناتهم والإحسان إليهم والارتقاء بالأخلاق الإسلامية العظيمة.

ولكننا مع الأسف نجد أن البعض وهم قلة قليلة بإذن الله يمارسون عصبية مٌفرطة في نهار رمضان وهم صائمون خاصة عند الاختلاط بالآخرين في الأماكن العامة، ولا شك أن لهذه العصبية أسباب كثيرة من أهمها نقص الماء في الجسم والذي يؤثر على وظائف الدماغ، ونقص مستوى السكر في الجسم الذي ينعكس سلباً على مستوى الجلوكوز خلال فترة الصيام مع المجهود الذهني أو البدني الذي يُصَعِّب التركيز والقدرة على التعامل مع الضغوط للصائم ويسبب سرعة الانفعال والشعور بالقلق والتوتر، ناهيك عن الانقطاع عن المنبهات خلال الصيام كشرب الشاي والقهوة خاصة لمن تَعوَّد عليها في الأيام العادية لأن الكافيين يُعتبر من محفزات الجهاز العصبي للشعور بالنشاط والحيوية ويُعزز من إفراز الدوبامين الذي يمنح شعوراً بالراحة والسعادة، أما المدخنين فإن أبرز أسباب العصبية عند أغلبهم هي الانقطاع المفاجئ عن التدخين خلال فترة الصيام الذي يسبب نقص كمية النيكوتين التي اعتاد عليها الجسم في الأيام العادية، وأخيرا اضطراب عادات النوم في شهر رمضان بسبب السهر وعدم الحصول على قسط كافِ من النوم وتغيير إيقاع الساعة البيولوجية الطبيعية الذي يؤثر على الحالة المزاجية للصائم.

أما معلم البشرية ورسولنا الكريم مُحَمَّد عليه أفضل الصلاة والسلام فقد علَّمَنا كيفية التعامل مع هذه العصبية في نهار رمضان وأختصرها في حديث عظيم قال فيه عليه الصلاة والسلام “إذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ شَاتَمَهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ” (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.(
في هذا الحديث بدأ النبي عليه الصلاة والسلام بنهي الصائم عن الرفث وهو فحش الكلام، والصخب وهو الصياح والخصام، وذكر عليه الصلاة والسلام في حالة التَعدِّي ما يجب قوله “فَإِنْ شَاتَمَهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ” ليُوضح في آخر العبارة قمة الأدب في عدم الانتقام للنفس وتذكير الشاتم أو المقاتل بعظمة الصيام وفضله عند الله عز وجل، وأقسم بعدها بمالك نفس محمد -عليه الصلاة والسلام- والذي يملك جميع الأنفس بأن لخلوف فم الصائم وهي تغيير رائحة الفم بسبب الصيام أطيب وأزكى عند الله من ريح المسك وهو أطيب الروائح وأزكاها إشارة منه عليه الصلاة والسلام إلى أن رُتبة الصوم من أعلى المراتب على غيرها ولا تستحق من المسلم أن يفرط فيها بسبب مشاتمة أو مقاتلة وينتقم لنفسه فيها، فهل يختار المسلم لنفسه الصيام أم الانتقام؟ .

 

مقالات مشابهة

  • ضمن حملة رمضان الخير والنصر.. مأدبة إفطار خيرية لأطفال أيتام في ‏دمشق ‏
  • خالد جلال: مد "هل هلالك" حتى ٢٦ رمضان جاء في ظل الإقبال الجماهيري الكبير
  • 8 سنوات على رحيل السيد ياسين.. أستاذ الباحثين
  • سفاحون أرعبوا العالم.. إيميليا داير صنفوها بأبشع سفاحة في القرن الماضى بإنجلترا
  • باحثون يحذرون: مثلجات "سلاش" ليست آمنة للأطفال دون 8 سنوات
  • حكم صيام الأطفال الصغار والسن المناسبة لهم؟.. اعرف رأي الشرع
  • صيام دون إفطار.. الأزمة الإنسانية في غزة تتفاقم مع منع دخول المساعدات منذ بداية رمضان
  • هل يؤثر صيام رمضان على الدورة الشهرية؟
  • وزير الأوقاف ومحافظ القاهرة يشاركان في حفل إفطار المطرية
  • صيام أم انتقام؟؟