المسيحية ديانة القوة.. من عظة يسوع على الجبل
تاريخ النشر: 21st, March 2024 GMT
يقول المتروبوليت نقولا مطران إرموبوليس (طنطا) وتوابعها، والمفوض البطريركي للناطقين بالعربية ان البعض ممن هم من داخل الكنيسة وكثيرون ممن هم من خارجها يرون أن المسيحية هي ديانة ضعف واستسلام، ذلك على ما ورد من عظة يسوع على الجبل، بقوله في بشارة القديس متى: "أما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فَحَوِّلْ له الآخر" (مت 39:5).
و وكذلك بقوله في بشارة القديس لوقا: "مَنْ ضربك على خدك فَاعْرِضْ له الآخر" (لو 29:6).
واضاف قائلا عبر صفحته الرسميه عند متى الكلمة اليونانية معناها "فَحَوِّلْ" أي "أَدِر"، وهذا المعنى هو حرفي. وهي تعني "الدوران تمامًا"، "التحويل إلى اتجاه آخر". أما عند لوقا الكلمة اليونانية مصدرها الكلمة وهي كلمة مركبة تتكون من مقطعين: المقطع الأول ومن معانيه في الكلمات المركبة "الجانب".
والمقطع الثاني الفعل (بما في ذلك صيغة بديلة المستخدمة في أزمنة معينة فقط) ومن معانيه "أَرْجَع". وهو يستخدم في تطبيقات مختلفة جدًا: حرفيًا أو مجازيًا، ومباشرًا أو بعيدًا، ومثل الحيازة أو القدرة أو التواصل أو العلاقة أو الشرط. من هذه التطبيقات له الكلمة فيكون معنى قول لوقا "فَاعْرِضْ له الآخر"، الذي هو "أَرْجَع له الجانب الآخر"، معنًا مجازيًا وليس حرفيًا، وذلك بالمقابله مع قول متى الحرفي الذي لا يقبل الترجيح بين الحرفي وبين المجازي. ذلك أن لكل كاتب من الإنجليين الأربعة حرية الأسلوب في الكتابة إن كان حرفيًا أو مجازيًا.
إن هذا القول المجازي للوقا الإنجيلي هنا استُخدم من الإنجيليين الآخرين، فقد ذُكر أنه كان ليسوع الناصري أربعة أخوة بقول مرقص الإنجيلي: "أليس هذا هو النجار ابن مريم أخا يعقوب ويوسي ويهوذا وسمعان. أوليست أخواته تقيم عندنا" (مر 6:9)، مع أنه لا توجد آية واحدة في العهد الجديد تذكر أن أحد المدعوين إخوة يسوع ولدتهم مريم العذراء أم يسوع. بالأخذ في الاعتبار أن البيئة التي نشأ وعاش فيها الإنجليون هي بيئة شرقية، فكلمة "أخ" في المجتمعات السورية القديمة وكذلك في اللغة العبرية واللغة الآرامية تشمل جميع أبناء العائلة الواحدة ولا تنحصر بالأشقاء فقط. ذلك كما دُعي لوط أخًا لإبراهيم في سفر التكوين رغم كون إبراهيم عمه (تك 8:13). كذلك يسوع في مثال الإنسان الذي كان نازلًا من أورشليم إلى أريحا ووقع بين لصوص، عَرّف الغريب الذي صنع معه الرحمة بأنه صار "قريبه" (30:10-37).
وأيضًا قول يوحنا الإنجيلي: "وكانت واقفات عند صليب يسوع، أمه، وأخت أمه مريم زوجة كلوبا، ومريم المجدلية" (25:19)، في تقليد كنيستنا أن مريم زوجة كلوبا هي ابنة خالة العذراء مريم أم يسوع، لأن العذراء مريم ليس له أخت. وفي لغاتنا اليوم تستخدم كلمة "أخ" للإشارة إلى ابن (بنت) العمّ أو أبن (بنت) الخال، ابن أو (بنت) العمّة وابن (بنت) الخالة.
مما سبق قوله، يكون قول يسوع في متى (الحرفي) وقوله في لوقا (المجازي) بالمعني هو: "مَنْ لطمك، ضربك، على خدك الأيمن فدِر (محولًا وجهك له بحيث يكون خدك الآخر مقابله) وترك المكان الواقف فيه الذي لطمك بعيدًا عنه". هذا العمل هو العمل بما أوصى به يسوع عند متى، بقوله: "لا تُقاوموا الشر"، أي لا ترد الشر بالشر. كما أن عند كل من متى ولوقا يسوع قال: "خدك الآخر"، ولم يقل: "خدك الأيسر".
إن قول يسوع عند متى: "لا تُقاوموا الشر"، أوضحه بولس الرسول بأنه يعني "لا تُقاوموا الشر بالشر"، ذلك بقوله: "«لا تجازوا أحدا عن شر بشر». معتنين بأمور حسنة قدام جميع الناس. إن كان ممكنا فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس. لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء، بل أعطوا مكانا للغضب، لأنه مكتوب لي النقمة أنا أجازي يقول الرب. فإن جاع عدوك فأطعمه. وإن عطش فاسقه. لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه. «لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير»" (رو 17:12-21).
غير أن قول يسوع "لا تقاوموا الشر" لا يعني عدم مقاومة الشرور الواقعة علينا بغير حق بالاعتراض عليها. ذلك كما فعل يسوع عندما قال للخادم الذي لطمه: "إن كنت قد تكلمت رديًا فاشهد على الردي، وإن حسنًا فلماذا تضربني" (يو 18: 23)، فيسوع لم يقاوم الشر بالشر، فلم يلطم الخادم وصحح خطؤه باظهار أن ما فعله غير مقبول. وكما فعل أيضًا بولس الرسول عندما طلب رفع دعواه إلى قيصر عندما شعر أنه سيُظلم من اليهود في المُحاكمة بأورشليم (رو 7:25-12).
كما أن هذا القول ليسوع لا يعني أننا يجب ألا نقاوم الخطيئة، فيوحنا المعمدان وبخ الرئيس هيرودس على خطيئته مؤكدًا له أنه لا يحل له أن يتزوج هيروديا إمرأة فيلبس أخيه (مت 3:14-10)، وكذلك لا يعني أننا يجب ألا نقاوم البدع والهرطقات وتعاليمها، وأيضًا التعاليم المضللة والشرور الكثيرة أو عدم مقاومة أخطاء القادة..
بالإضافة إلى ما سبق، فإن المسيحية تمتلك تقليدًا طويلًا مع معارضة العنف، وكتابات آباء الكنيسة أبرزت هذا، فكتب أوريجانوس: «لا يمكن أبدًا أن يذبح المسيحيين أعدائهم، حتى لو كان أكثر الملوك والحكام والشعوب إضطهادًا لهم، وكان ذلك سببًا لزيادة في عدد وقوة المسيحيين». وكتب إكليمندس الإسكندري: «قبل كل شيء، لا يُسمح للمسيحيين في استعمال العنف». كما جادل ترتليان بقوة ضد كل أشكال العنف، معتبرًا الإجهاض والحرب والعقوبات القضائية حتى الموت شكل من أشكال القتل. وتعتبر هذه المواقف لثلاثة من آباء الكنيسة والتي تتمسك بها اليوم الكنيسة الأرثوذكسية جزء أساسي من الإيمان المسيحي.
في هذا السياق، من المناسب التحذير من فرض مفهوم خاطئ على هذه الآية. وتبرير انتشار الظلم بكل أشكاله والامتناع عن مقاومته باسم يسوع المسيح وما قاله في الموعظة على الجبل. فهذا تشويه لتعاليم يسوع المسيح ولتعاليم الكتاب المقدس. وهو أيضًا فهم مغلوط للآية وسياقها وخلفيتها ومعانيها.
في ضوء ما سبق، إن المسيحية ليست ديانة الضعفاء والبسطاء والمظلومين، بل هي ديانة قوة، كما قال الرسول بولس: "لأني حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي" (2 كور 10:12)؛ لأن الانتقام هو الطريق الأسهل والأقرب ولكن عواقبه ومتاعبه خَفِيّه لذلك فهو اختيار النفوس الهشة والضعيفة. أما النفس القوية فلا تقبل باختيارات الضعفاء، فمهما بدى الشر منتصر في البداية فإن الخير هو الفائز الأخير بالمعركة بأكملها. ولنتذكر دائمًا إن أفضل دواء للعنف هو العفو والتسامح.
المصدر: البوابة نيوز
إقرأ أيضاً:
خطيب المسجد الحرام: القوة الحقيقة في الربط بين الإيمان والأخذ بالأسباب
قال الشيخ صالح بن عبدالله بن حميد، إمام وخطيب المسجد الحرام : اتقوا الله رحمكم الله، طهروا قلوبكم قبل أبدانكم، وألسنتكم قبل أيديكم، عاملوا الناس بما ترون لا بما تسمعون.
أركان متلازمةوأضاف “ بن حميد” خلال خطبة الجمعة الأخيرة من شهر شوال اليوم من المسجد الحرام: اسمعوا من إخوانكم قبل أن تسمعوا عنهم ظنوا بإخوانكم خيرًا، واتقوا شر ظنون أنفسكم، ومن أدب الفراق دفن الأسرار، من أغلق دونكم بابه فلا تطرقوه، واكسبوا إخوانكم بصدقكم لا بتصنعكم، وكل ساق سيسقى بما سقى.
واستشهد بما قال الله تعالى: (وَقُل لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَعُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوا مُّبِينًا)، منوهًا بأن الإيمان والعبادة، وعمارة الأرض، وإصلاحها أركان متلازمة.
وأوضح أن المسلم يقوم بالإعمار قربة لله ونفعًا لنفسه ولعباده، فيستثمر في كل ما ينفع العباد والبلاد، الإيمان فينا مقرون بالعمل الصالح، والقراءة مقرونة باسم الله مستشهدًا بقوله تعالى (أقرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ).
وأشار إلى أن العلم مربوط بخشية الله، والإيمان هو قائد العقل حتى لا يطغى العقل فيعبد نفسه، والإيمان هو الضابط للعلم حتى لا تؤدي سلبياته إلى اضطراب تنهار معه البشرية.
تكلم عن الأمم السابقةوأبان أن القرآن الكريم تكلم عن الأمم السابقة، وما وصلت إليه من القوة، والبناء، والإعمار، ثم بين ما كان من أسباب هلاكها وفنائها من أجل أن نعرف سنته سبحانه، فقد أخبر عن عظمة ما وصل إليه قوم عاد.
ودلل بما قال جل وعلا: (إرم ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا في البلاد)، مما يدل على عظمتها، وجمالها، وتقدمها، ولكنه في مقام آخر، قال جل وعلا: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ).
وأردف: غرتهم قوتهم وكذبوا رسل الله، وتنكروا لدعوة الإيمان استكبارًا وجحودًا، ومن أعرض عن ذكر الله يبقى مرتكسًا في الظلمات مهما أوتي من العلوم والقوى، حيث خاطب الله نبيه محمدًا- صلى الله عليه وسلم - بقوله: ﴿كِتَبُ أَنزَلْتَهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ).
واستند لما قال جل وعلا: ﴿هُوَ الَّذِي يُنزِلُ عَلَى عَبْدِهِ وَايَتٍ بَيِّنَتِ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)، فالقوة والعزة بالإيمان والتقوى، والانتصار والبقاء بتعظيم شعائر الله، والعلوم مهما كانت قوتها، والصناعات مهما بلغت مخترعاتها وتقنياتها فإنها لا تجلب حياة سعيدة، ولا طمأنينة منشودة.
ليس ذمًا للعلوموأفاد بأن الدين الإسلامي ليس ذمًا للعلوم واكتشافاتها، ولا للصناعاتها وأدواتها، ولا للمخترعات وتطويرها، ولا تنقصا من مكانتها وقيمتها، وإنما هو التأكيد على أنه لا بد من نور الوحي لتزكية النفوس، وهداية البشرية، واستنارة الطريق.
ولفت إلى أن الازدهار الذي أحرزته التراكمات المعرفية من بيت اللبن والطين إلى ناطحات السحاب وشاهقات المباني، وما حصل في وسائل النقل عبر التاريخ من التحول من ركوب الدواب إلى امتطاء الطائرات مرورًا بالسيارات والقاطرات.
واستطرد: وفي بريد الرسائل: من الراجل والزاجل إلى البريد الرقمي، كل ذلك على عظيم اختراعه وعلى جماله، والراحة في استعماله لكنه لم يقدم البديل عن الإيمان، وتزكية النفس واحترام الإنسان، وتأملوا ذلك -حفظكم الله- في ميدان الأخلاق، وحقوق الإنسان، وضحايا الحروب، والتشريد، والتهجير، والفقر، والتسلط، والاستبداد، واضطراب المعايير.
وأوضح أن القوة الحقيقة هي الربط بين الإيمان والأخذ بالأسباب، وليس التعلق بالأسباب وحدها، لأن الرب سبحانه هو رب الأرباب، ومسبب الأسباب ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، ومن ثم فإن صدق التوكل على الله هو المدد الحقيقي في كل مسارات الحياة ودروبها، بل التوكل عليه سبحانه هو معيار الإيمان (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)، والعزة الله ولرسوله وللمؤمنين، ونور الوحي أعظم النور وأعلاه وأغلاه، وعلى المؤمن أن يعرف قيمته ومنزلته وقوته، ولا يستصغر نفسه أمام الماديات، أو يشعر بالحرج تجاهها.
القائد للعقلوأكد أن الإيمان هو القائد للعقل، وهو الحامي للعلم، وحين ينفصل العقل عن الإيمان ينهار العمران البشري، وحين يعبث العقل بالعلم تنهار الحواجز بين الحق، والباطل، والصالح، والفاسد، والظلم والعدل، وتضطرب المعايير، وتتحول السياسات من سياسات مبادئ إلى سياسات مصالح، وبالعلم والإيمان يستقيم العمران، وتسير القاطرة على القضبان، والله غالب على أمره.
ونبه إلى أن بناء العمران وانهياره مرتبط بالإنسان، فالله سبحانه استخلف الإنسان ليقوم بعمارة الأرض، ومن ثم فإن أسباب تقدم المجتمع وتأخره يعود -بإذن الله- إلى الإنسان نفسه، فالتغيير في الخارج لا يكون إلا حين يكون التغيير في النفوس (وإِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيْرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)، وسنة الله أن الصالح يبقى لان فيه نفعًا للبشرية، وغير الصالح لا يبقى لأنه لا نفع فيه، واعلموا أن الصلاح لا يكون إلا بالإيمان الصحيح، فهو الذي يطبع النفوس على الصدق، والإخلاص، والأمانة، والعفاف، ومحاسبة النفس، وضبط نوازعها، وإيثار الحق، وسعة النظر، وعلو الهمة، والكرم، والتضحية والتواضع، والاستقامة، والقناعة، والسمع والطاعة، والتزام النظام.