لجريدة عمان:
2024-07-04@14:39:39 GMT

الإبـادة بين الرّصـاص والتّـجـويع

تاريخ النشر: 20th, March 2024 GMT

خطر الاجتياح البريّ لرفح، في جنوب قطاع غـزّة، لا يزال حتّى إشعارٍ آخر -خطرًا في دائرة الاحتمال وليس أمرًا واقـعًا بعد. التّهـويلُ منه والتّهـديدُ به، من قبل جيش الاحتلال وقيادته، والحديثُ الأمريكيّ المتواتر عنه- ولو من باب التّحذير من مغـبّـته على المدنيّـين النّـازحين -قد لا يكون، في حساب السّياسة والحرب، أكـثر من محاولة للضّغـط النّـفسيّ على «حماس» في مفاوضات التّـبادل قصْـد حمْـلها على التّـنازل عن مطالبها.

الأسباب الحاملة على مثـل هـذا التّـقـدير عديدة؛ نكـتفي بالإشارة المقـتضبة إلى ثـلاثةٍ منها:

أوّلها اجتماعُ المصادر الاستخباريّة والعسكريّـة الأمريكـيّة والأوروبـيّة على القـول إنّـه ما من مـؤشّـراتٍ على استعـدادات عسكريّـة، من جهة جيش الاحتلال، لإطلاق الهجوم البريّ من جهة رفـح. تـتطابق هـذه الإفـادة الغربيّـة مع معـلومات عسكريّـة، أفصح عنها ضـبّاط من جيش الاحتلال والمخابرات والشّابـاك لصحـفٍ عبـريّـة عـدّة، تؤكّـد عـدم وجود خطّـة عسكريّـة متوافَـق عليها، حتّى الآن، لاجتياح رفح وعدم جاهـزيّـة الجيش لخوضها كما أفادت صحيفة هارتس (عدد 15 مارس). ويضاف إلى ذلك دعوة بايـدن حكومة الاحتلال إلى إرسال فريق إلى واشنطن لبحث الموضوع.

وثانيها أنّ فتح جبهة رابعة للحرب، بعد جبهة الشّـمال والوسـط وخـان يونس، لا يستقيم إلّا متى كان جـيش الاحتلال قد انـتهى، فعـلًا، من عـمليّـاته في الجبهات الثّـلاث السّابقة، وتأكّـد من أنّـه بسط عليها السّيطـرة فعلًا. والحـال إنّ شيئًا من ذلك «النّـجاح» لم يحـدث؛ إذْ ما بَـرِح جنـودُ الاحتلال وضـبّـاطُـه يسقـطون في مناطـق دخلها جيـشُـه منذ أكـتـوبر، مثـل بيت حانون وبيت لاهيا وأحياء مديـنة غـزّة ومخـيّـماتها في الشّـمال، ومثـل دير البلح في الوسـط وخـان يونس في الجنوب، وما زالت آلياتُـه تـتـعرّض للتّـدمير وتُسْـتَـدْرَج ومَـن فيها إلى الأفخـاخ؛ كما في مـديـنة غـزّة ومُـجَـمّـع الشّـفاء. وما مـن شـكّ في أنّ استمرار استـنـزاف قـواه البشريّة والآليّة في الجبهات الثّلاث تلك إذْ يـدفعـه إلى سحب الكـثيـر من ألويـتـه منها، سيدفعـه -لا محالـة- إلى ضرب الأخماس في الأسداس قبل أن يتّـخـذ قـرارًا حاسمًا بفـتح جبهة رفـح.

أمّـا ثالث الأسبـاب فيكـمن في مـا تـلْـقـاه «عملـيّـة رفـح» من اعتـراضٍ دولـيٍّ أو من مخافـةٍ من المغبّـة. صحيح أنّ الإدارة الأمريكيّـة لم تـعلن، بـتـاتًـا، اعتـراضها على العملـيّـة بل هي وافـقـت عليها، من حيث المـبـدأ، شريطـة أن تـقـترن بخطّـة لإجـلاء المليون وأربـعمائـة ألف مـدنيّ مـن مناطـق القـتال إلى «أماكـن آمنة»، غير أنّ مساحة الاعـتراض عليها شمِـلت العالم كـلَّـه، بما فيه بلـدان الغـرب الأخرى، خاصّـةً بالنّـظر إلى أنّ ضـحايـا هـذه الإبادة الجماعيّـة بلغ، حتّـى الآن، ما يزيد عن المائـة وعشرين ألف شهيـدٍ وجريح ومفـقود، ناهيك بنـزوح ثلاثة أرباع السّـكان من مناطقـهم التي دُمِّـرت تـدميرًا كـليًّا.

قـطعًا هو ليس خطـرًا افـتـراضيًّا أو مستـبـعَـدًا، تـمامًـا، لكـنّـه ليس قـائـمًا الآن وقـد يكـون مـؤجّـلًا إلى حيـن. الخطـر الحـقـيقيّ الواقـع، اليـوم، هـو الذي يتـجـسّـد في سياسة التّـجويـع التي تـنـهـجُـها دولـةُ الاحتلال على أوسـع نطـاقٍ في غـزّة وفي شمالها على نحـوٍ خاصّ. تـستـكمل بهـذه السّياسـة ما بـدأتـه من قـتْـلٍ جمـاعيّ للمـدنـيّـين، ومـن تـدمـيرٍ شامـلٍ لبنى الحياة التّحـتـيّـة، والهـدف واحـد: جـعْـل الحياة إمـكانًا مستـحيـلًا في قـطاع غـزّة، وبالتّـالي، دفْـع أهالـي القطـاع، بـقـوّة القـتل والإبادة الجماعيّـة، إلى الهجـرة القسريّـة منه! تـفعـل ذلك مستـفيـدةً من دعـمٍ عسـكريّ ومـاديّ وسياسـيّ أمريكـيّ يـوميّ، ومن ضـوءٍ أخضر دولـيّ -غـربيّ خاصّـة- بالكاد بـدأ يَـكـتـشِـف الآن، مـتأخّـرًا، أن لا حـدود لشهـوة القـتـل والإفـناء الجماعيّـيـن عند دولـة الاحتلال، وأنّـه يـدفع ثـمن إجازتـه عـدوانَـها انـتـفاضةً عارمـةً في شارعـه، واحتـمالًا متـزايـدًا لانـقـلاب توازنـات قـواهُ التّـمثيـليّـة والانـتـخابيّـة.

تـشـدِّد دولـةُ الاحتـلال إجراءات التّـجويع والحصار في شمال القطـاع خاصّـةً معاقَـبَـةً منها لأهـل غـزّة في الشّـمال الذين بقي أزيـدُ من نصـفهـم، في محافـظة غـزّة، رافضيـن النّـزوح إلى ديـر البلح في الوسـط أو إلى خان يونس في الجنوب. لقد أفسد عليها ذلك التّـمسُّـكُ الـفلسطيـنيّ بالبـقاء في شمـال القـطاع مخـطَّـطَها لتهـجيـر الشّـعب جـنوبًا، ليس مـن أجـل التّـفـرُّغ لإنـهاء مهـمّـتها بالقضـاء على البنـيـة العسكـريّـة الفـلسطينيّـة هناك -مثـلما ادّعـت- بل من أجـل إفـراغ مـدن الشّـمال وبـلداته ومخيّـماتـه من أهـلها، وإعادة إحياء مشاريـع الاستيـطان التي تَـرَك نـتانياهـو كـلاًّ من بـن غْـفـير وسموتـريتـش يُـفـصحـان عن فـكـرتها جهْـرًا؛ فضـلًا عن قـضْـم مزيـد من الأراضي شرق القطاع وشمـالَ شمالِـه من أجـل إنـتـاج حـزامٍ أمـنيّ لحمايـة مستعـمرات غـلاف غـزّة.

كان مـتـوقَّـعًا، تـمـامًا، أن تـلـجأ دولـة الاحتـلال إلى عـزل شمـال القـطاع عن الوسـط والجنـوب وتـجويـعِـه، خاصّـة بعد أن تَـكَـشَّـف لها أمْـران اثـنـان: تـمسُّـك النّـاس بالبـقـاء وعـودة المواجـهات القـتـاليّـة إلى مـدن الشّـمال ومخـيّـماتها. تـوسّـلـتْ سـلاح الجـوع والتّـجـويع لأنّـه كـلُّ ما تـبقّـى لها من أدواتٍ في سياسة الإخـضـاع بعد فـشـل وسائلها الأخرى. وفي السّـياق هـذا أتـت حربُـها السّياسيّـة والإعـلاميّـة على الأونـروا؛ إذْ هي تَـغَـيّـتْ من ذلك قـطْـع آخـر شـريان يـمـدّ أهل القطـاع بالحياة للوصول بالـفلسطيـنيّـين إلى أحـدِ المصيريْـن الأَسـوديْـن: المـوت أو المزيـد من النّـزوح الذي ينـتهي إلى لجـوءٍ خارج القطاع. وحين كُسِـرَ بـعـض قـليل من حصارها الغـذائـيّ الخانـق عن شمـال القطـاع، من طريق إلقـاء المساعـدات من الجـوّ، لم تـتـحرّج في أن تـتـرصّـد جحافل المـدنيّـيـن المنـتظرين في «دوار الكويت» في غـزّة، فـتُـجهـز بالرّصاص على المئـات منهم من دون أن يـرفّ لها جـفْـن!

كيف تستطيع دولـةُ الاحتلال أن تُـقْـنع جمهـورَهـا بأنّ «إنجـازاتـها العسكـريّـة» في الحـرب تصل إلى حـدّ قـتْـل ما يـزيـد عن اثـنيـن وثـلاثيـن ألـفًا وإصابـة ما يزيـد على خمسـةٍ وسبعيـن ألـفًا من المـدنيّـيـن؛ وتـدميـر كامـل القطاع: مساكـنَ ومستـشـفيـاتٍ ومدارسَ ومطـاحنَ وبـنًـى تـحـتـيّـة؛ وحَـمْـلِ ثـلاثة أربـاع السّـكان على النّـزوح خارج ديارهم والعيش في العـراء؛ وإنـتاج أضخـم مجاعـةٍ جماعيّـة في العصـر الحديث؟ وكيـف لهـذا الجمهـور أن يقـتـنـع بأنّ دولتـه تـنـتصـر بهـذا الذي تفـعلـه؟

نعم، إنّ التّـجويع سـلاح الضّـعـفـاء: يلجـؤون إليه حين يعجـزون عن الانـتصار عسكـريًّا. مع ذلك، علينا أن نعـترف -ونحن نجيب مَـن يتساءلـون عمّـا إذا كانت دولة الاحتلال قـد ارتكبـت حـقًّا إبادة جماعيّـة- بأنّ التّـجويع الشّـامـل هـو الدّرجة العليا في مـمارسة الإبادة الجماعيّة.

عبدالإله بلقزيز أستاذ الفلسفة بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وحاصل على جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الش ـمال خاص ـة

إقرأ أيضاً:

انطلاق أعمال الاجتماع الطارئ للجامعة العربية لبحث جرائم الاحتلال

انطلقت، اليوم الخميس 4 يوليو 2024، أعمال مجلس الجامعة العربية في دورته غير العادية على مستوى المندوبين الدائمين، برئاسة اليمن، بناء على طلب دولة فلسطين لبحث سياسة مواجهة جرائم الإبادة الجماعية والعدوان الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني، إضافة إلى التوسع الاستعماري.

وترأس وفد دولة فلسطين في الاجتماع الذي حضره الأمين العام المساعد للجامعة العربية السفير حسام زكي، والأمين العام المساعد لشؤون فلسطين والأراضي العربية المحتلة بالجامعة سعيد أبو علي، وعدد من الأمناء المساعدين بالأمانة العامة، مندوب فلسطين لدى الجامعة العربية السفير مهند العكلوك، والمستشار أول رزق الزعانين، والمستشار جمانة الغول، والملحقان ماهر مسعود، وعلا الجعب.

ويعقد الاجتماع في ظل استمرار جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل القوة القائمة بالاحتلال بحق الشعب الفلسطيني، وإقرار حكومة الاحتلال مؤخرا سلسلة من الاجراءات التي تهدف إلى منع تجسيد استقلال دولة فلسطين على الأرض والإمعان في خطط ضم أراضي الضفة الغربية المحتلة، وقرصنه أموال الحكومة الفلسطينية.

وطالب العكلوك بتجميد مشاركة إسرائيل في الجمعية العامة للأمم المتحدة لعدم التزامها بمقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وتهديدها للأمن والسلم الدوليين، وعدم وفائها بالتزاماتها التي كانت شرطا لقبول عضويتها في الأمم المتحدة، مشيرا إلى أن القانون الدولي أثبت أنه غير قادر وحده على وقف أكبر جريمة يمكن ارتكابها وهي جريمة الإبادة الجماعية، خاصة عندما ترتكبها إسرائيل التي تتمتع بالحصانة، وعدم محاسبتها على جرائمها أو ممارسة آليات الضغط والتنفيذ الفعالة عليها.

ودعا إلى تشكيل وفود عربية إغاثية تقود تدفق المساعدات الإنسانية والإغاثية والطبية لكامل قطاع غزة بالتنسيق والتعاون مع المنظمات الدولية، برا وبحرا وجوا، تنفيذا للتدابير المؤقتة التي أمرت بها محكمة العدل الدولية يوم 26/1/2024، وتنفيذاً لقرار كسر الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة، والذي تبنته القمة العربية الإسلامية التي عُقدت في الرياض بتاريخ 11/11/2023.

وأكد أن جامعة الدول العربية تعكس توافق 22 دولة عربية على دعم القضية الفلسطينية بمواقف سياسية ثابتة داعمة للقضية سواء في قرارات الجامعة أو في المحافل الدولية خاصة قرارات القمة العربية تجاه القضية التي نجدها مصاغة بلغة سياسية وقانونية رصينة بل قوية وتحتوي على إجراءات يمكن بالفعل تنفيذها على المستويات السياسية والقانونية والاقتصادية، لكن قرارات الجامعة تبقى التزاما ينتظر المزيد من الفعالية والتنفيذ.

ولفت العكلوك إلى أنه وخلال الأشهر الثمانية الماضية من جريمة الإبادة الجماعية، عقدت الجامعة قمتين و4 مجالس لوزراء الخارجية، و6 مجالس على مستوى المندوبين، وكُلفت لجنة مؤقتة من المندوبين الدائمين، في شهر كانون الثاني/ يناير الماضي، بصياغة إجراءات عملية يمكن القيام بها لإجبار إسرائيل على وقف جريمة الإبادة الجماعية.

وأكد ضرورة تقديم إحالات وشكاوى عربية إلى المحكمة الجنائية الدولية بالجرائم الإسرائيلية المرتكبة ضد الشعب الفلسطيني، وتوجيه منظمات المجتمع المدني والاتحادات والنقابات الحقوقية العربية لمباشرة رفع قضايا ضد المسؤولين الإسرائيليين في المحاكم الوطنية والدولية.

وقال مندوب فلسطين، إن إسرائيل قتلت 16 ألف طفل وأصابت 34 ألف طفل، وما زال 3600 طفل تحت الأنقاض، وفقد 1500 طفل أطرافهم وعيونهم، ويتّمت إسرائيل 17 ألف طفل، مشيرا إلى أن عدد أطفال فلسطين الذين قتلوا على مدار الأشهر التسعة الماضية يفوق عدد من قُتل من الأطفال في كل صراعات العالم على مدار السنوات الأربع الماضية.

ولفت إلى أن إسرائيل جوعت 34 طفلا حتى الموت، ومن تبقى من أطفال غزة يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وكثير منهم معرضون للموت جوعا أو عطشا أو مرضا، بسبب جريمة التجويع والحصار التي تستخدمها إسرائيل كأداة من أدوات جريمة الإبادة الجماعية، وكل أطفال غزة خارج عملية التعليم، وكل مواليد غزة لم يتلقوا التطعيمات الواجبة.

وأوضح أن إسرائيل قتلت 10600 امرأة، وتركت 60 ألف حامل عرضة للموت قبل أو أثناء أو بعد الولادة، ودمرت كل طرق الإنجاب الصحية والآمنة، وبذلك منعت إسرائيل عمليات الإنجاب الآمنة، كأداة من أدوات الجريمة.

المصدر : وكالة سوا - وفا

مقالات مشابهة

  • أكثر من 38 ألف شهيد حصيلة الإبادة في غزة.. والمقاومة تواصل الاشتباك
  • أكثر من 38 ألف شهيد حصيلة الإبادة الجماعية الإسرائيلية على غزة
  • انطلاق أعمال الاجتماع الطارئ للجامعة العربية لبحث جرائم الاحتلال
  • لليوم الـ 272 .. إسرائيل تواصل حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة
  • مسؤولة في إدارة بايدن تعلن استقالتها تنديدًا بدعم عدوان الاحتلال على غزة
  • مظاهرة في نيويورك رفضاً لما صرح به مرشحا الرئاسة الأميركية حول دعم الاحتلال الإسرائيلي
  • مظاهرة في نيويورك رفضاً لما صرح به مرشحاً الرئاسة الأميركية حول دعم الاحتلال الإسرائيلي
  • نادي الأسير الفلسطيني: شهادات أسرى غزة عكست مستوى غير مسبوق لجرائم الاحتلال
  • لليوم الـ 270.. إسرائيل تواصل حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة
  • نادي الأسير: استخدام الاحتلال الأسرى دروعاً بشرية انتهاك للقوانين والأعراف الدّولية