ناصر أبوعون

قد تكون البساطة في معمار القصيدة، والمباشرة في المعالجة اللغوية، واستنطاق الصور الشعرية الفطرية غير المركبة، والمعقدة والبعيدة عن الترشيحات والصنعة التزيينية هي المدخل إلى القلوب، والمعبر إلى الأرواح، والمدح في غير تكلّف، والوصف في غير مبالغة. ومن هذا المنطلق استطاع الشاعر السوريّ حسني نجَّار الانتقال السلس بين مقاطع القصيدة، والإبحار في قارب المحبة إلى عُمان؛ أرض "الحضارة و الوئام والتعايش السلمي؛ تلك البقعة الهادئة وسط عالم من ضجيج وصراعات- فلمّا أن ألقى مراسيه على شطآنها استراح تحت راية سلامها البيضاء وشخص ببصره في سمائها الصافية من كدر الأحقاد واستكانت روحه في أفيائها وتنَّسم طائره المهاجر عبير الرضا في وُكناتها، واستروح العطر من أكمامه أشجارها.

وفي مطلع القصيدة يصطنع الشاعر حسني نجّار مقابلة معنوية بين مسقط رأسه بلاد (الشام)؛ أرض الياسمين العابقة بالأمل والحياة والثورة على القبح، تلك البهية التي تنثر الجمال نُشْرًا بين أحضان الكون، وسلطنة عُمان أرض الّلبان الذي تذرفه أشجارُ ظفارَ دموعَ فرحٍ هبةً وتمائمَ عشقٍ تَصَّاعد إلى سحب السماء؛ لتهطل بَرَدًا من بركاتٍ على السهول والوديان فتخضر الآكام.

في هذا المفتتح الشعريّ وضع الشاعر يده على المشترك الطبيعيّ بين الحضارتين (رائحة الياسمين الشاميّ، ورائحة البخور العُمانيّ) لينتقل من هذا التوافق والمنحة الإلهية بين (عُمان وبلاد الشام) إلى المؤتلف الحضاريّ؛ فعُمان والشام صنوان في المجد والتاريخ العريق الضارب بجذوره في التربة الإنسانية [(مِنْ ياسمينِ الشامِ جِئتُ مُهنّئًا// أرضَ اللّبانِ ومَوئِلَ الأمجادِ)].

ولأنّ"الناسُ معادِنٌ كمعادِنِ الذهبِ والفضةِ، خيارُهم في الجاهلِيَّةِ، خيارُهم في الإسلامِ إذا فَقُهوا، والأرواحُ جنودٌ مُجَنَّدَةٌ، فما تعارَفَ منها ائتلَفَ ، وما تناكَرَ منها اختلَفَ"[صحيح الجامع- رواه أبوهريرة (6797)] كما أخبرنا رسولنا الأعظم محمد – صلى الله عليه وسلّم –؛ فإن الشاعر حسني نجّار أخذنا معه في انتقالة سلسة إلى المقطع الثاني من القصيدة - وهو الأطول نسبيًا – مرتكزًا على تقنية الوصف الماديّ والنفسيّ لأهل عُمان مدعومًا بالإشارة التوكيدية إلى الدليل الشرعيّ(حديث الرسول-صلى الله عليه وسلم- عن أهل عُمان) الذي بعَث فيه "رجُلًا إلى حيٍّ مِن أحياءِ العرَبِ في شيءٍ لا أدري ما قال فسَبُّوه وضرَبوه فرجَع إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فشكا إليه فقال: لكِنْ أهلُ عُمان لو أتاهم رسولي ما سَبُّوه ولا ضرَبوه"(رواه: أبو برزة الأسلمي نضلة بن عبيد– صحيح ابن حبّان-  7310) فضلا عن استناد الشاعر "نجّار" إلى شهادات شعوب الأرض قاطبةً التي عددت خِصال الشعب العُمانيّ؛ وهي رزنامة من السمات لا تُخبرُ إلا بالمُخالطة والصُحبة والمعاملة وقد أورد منها في قصيدته:(المؤاخاة، والحكمة والرشد، والسماحة والفضائل، والجود، والنُصرة)[(لي فيكَ يا وطنَ المحبَّة إخوةً // شغفوا القلوبَ بحكمةٍ ورَشَادِ)، (قومٌ تَحَلَّوا بالفضائلِ كلِّها // وسَماحةٍ وُرِثَتْ عنِ الأجداد)، (أوصى الرسولُ بأهلِها وجِوارِهمْ // فهمُ الكرامُ وسادةُ الأجوادِ)]. وهي أبيات مبنيّة صورها الشعرية على رُكنين فقط من التشبيه هما: (المشبه والمشبه به)، فصار التشبيه بليغا، فضلا عن الاستعارة المكنية التي جاءت مساندة للتشبيه في قوله: (شغفوا القلوب بحكمة ورشاد).

وبناءً على ما تقدّم من سمات تحلّت بها الشخصية العُمانية خبرها الشاعر حسني نجَّار بمعايشة أهل سلطنة عُمان عن قربٍ ومجاورة ومخالطة، حتى صار جزءًا من هذا النسيج الإنسانيّ، ومكونًا من مكونات اللُّحْمَة الاجتماعية العُمانيّة، - وإن شئنا دِقَّة الوصف قلنا-: صار "نجّار" ليّنَ العريكة، سهلَ المعشر، متجانسًا مع محيطه، ومواطنًا عُمانيًا في السَّمت والمعاملة؛ له ما لهم، وعليه ما عليهم؛ من حب الوطن وواجب الذَّود عن حياضه: [(أهديكَ يا وطنَ السَّلامِ تحيّةً // روحي فداكَ وأضلُعي وفُؤادي)، (للهِ دَرُّكِ يا عُمان مُنيفةً // حِصنٌ مَنيعٌ قاهِرٌ للعادي)].

وعلى ما يبدو فإن "نجّار" قد جادت قريحته بهذه الأبيات القصيرة في ذكرى "العيد الوطني العُمانيّ" التي تطلّ كل عام باليُمن والبشرى في الثامن عشر من نوفمبر؛ فصاغ خاتمتها في صورة برقيّة مُعايدة تقريريّة قال فيها: [(اللهَ أدعو أن يباركَ عيدَنا // ويَظَلَّ دومًا دُرَّةَ الأعيادِ)].

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

قيمة الانتماء في مجموعة بنكهة البرزخ للشاعر يونس البوسعيدي

يُعدُّ الانتماء حالة وجودية عميقة ترتبط بهويته وثقافته وتاريخه. الشاعر يعيش الانتماء كجزء أساسي من تكوينه الإبداعي، حيث يصبح هذا الانتماء مصدر إلهامه وقوة تعبيره. الانتماء أيضًا يخلق لدى الشاعر مسؤولية تجاه مجتمعه، فهو لا يكتب لنفسه فقط، بل يصبح صوتًا يعبر عن آمال وآلام الجماعة التي ينتمي إليها. من خلال شعره، يمكن أن يعبر عن قضايا وطنه، يدافع عن قيمه، أو حتى ينتقد ما يراه معيقًا لتقدمه. هو الجسر الذي يربطه بماضيه وحاضره، وهو البوصلة التي توجه إبداعه نحو المستقبل. يُعدُّ الشاعر صاحب قضية، كما يُعدُّ الثائر بطبيعة الحال؛ فهو يعكس حال وواقع مجتمعه وأمته وظواهر هذا المجتمع وما فيه وما يعاني، وهو بصورة تامّة يرسم بوعيه الجمالي صورة واضحة المعاني الجمال، ويكون ذلك عفواً؛ أي من خلال إيمانه بقضيته التي يتحدث عنها، ولا يلبث الشاعر إلا أن يتبنى من ضمن هذه القيم الجمالية قيمةَ الانتماء؛ فهو لا يغفل عن هذه القيمة لما لها من أثر جمالي يصنع كينونته الشعرية وتفاعله الإنساني مع مجتمعه ووطنه؛ فهو عندما يخلّد هذا الانتماء –ونعني الانتماء الوطني – يعكس صورة جمالية لذاته بوعي مختلف عن القيم الأخرى، ولعلَّ هذه القيمة من أهمّ القيم لما تعنيه في فكر الشاعر وهويته ويمه الأخرى؛ فالشاعر عندما يبرز انتماءه لوطنه، فهو يجمع أغلب القيم الثانية: (الحزن والحب والألم والحياة والموت والسعادة)، ويمكننا أن نشاهد هذه القيمة في الشعر العماني المعاصر الذي عزّز هذه القيمة من خلال شعرائه الذين أولوها كلّ أهمية؛ فالشاعر يونس البوسعيدي يُعدُّ مثالاً ممتازاً جسَّد هذه القيمة بصورة حداثية جمالية جديدة بعيداً عن الاستعمال العادي المستهلك، إنَّما بقالب تتداخل فيه نكهات العام والخاص، فنجده يقول في قصيدة "أحجية في مرآة امرأة هولندية" من مجموعه بنكهة البرزخ:

"مسقطُ أحجيةٌ في مرآة امرأة هولندية

قالت:

((مسقطُ أمُّ الناسِ

الناسُ بمسقط مرجُ زهور يُسقى من حبٍ واحدْ

في مقهى في ((شطّ القرم)) و ((سوق السيب))

كما أسنان المشطِ

هنا الإنسانُ هو الميزانْ"

مسقطُ بنت الحبِّ، وبنت الحصنِ، وبنت النخل، وبنت البحر، وتلبس خنجر كالتنورْ

و (المريول) كأقفاصٍ من ذهبٍ لعصافير الفستانْ

مسقط يرمقها الحصنُ

ولكن يغفو في شاطئها الحورْ

مسقطُ بنت السمت الذهبي المتلألئ ...

وهي العذراءُ التختلس الرقص الشرقيَّ إذا سدرتْ في الخلوةِ والألحانْ

كالصوفيّ ينادمُ في محبسه السّجّانْ".

يظهر في هذا النصّ قيمة الانتماء بصورة سامية وذكية، يستخدم فيها الشاعر شيفرات سيمائية تقرّب القيمة الجمالية إلى النصّ، وتسبغ عليها طابعاً دلالياً جديداً محمّلاً بالحوار والدهشة والرمز؛ إننا نلحظ هذا منذ العنوان الذي كان حداثياً جداً، الأحجية هي السرُّ الذي يدور حوله موضوع الانتماء الذي يديره على لسان امرأة (هولندية )، ولعلّ اختياره لكونها هولندية ينبع من رغبته في أن يكون الحديث على لسان غريب، فهو لم يقل عمانيّة، ليكون الحديث أصدق، وليدلل على أنَّ الجميع يحبّون عمان ليس فقط أولادها، وأنَّ الحديث على لسان امرأة يعطي النص عاطفةً أصدق، فالشاعر بدأ الحديث بلسان المرأة ليعطي النص صدقه وعاطفته. في قوله (مسقط أم الناس) إشارة إلى أنّ مسقط وطنٌ جامع، يلمّ شمل الإنسانية جمعاء، يكتمل المشهد في حديثها فترى الإنسان في عمان حراً والناس جميعاً سواسيةً لا يفرق أحدهم عن الآخر في شيء، يسود العدل في النظر إليهم بشراً في وطن يحترم إنسانيتهم، وذكر الأماكن في النص دليل على قوة هذه الفكرة؛ المقهى والسوق أهم مكانين يجتمع بهما الناس من كل لون ، لا يلبث الشاعر العماني يطرح فكرة انتمائه لوطنه، ولا ينسى أن يصور محيطه ومكانته في داخل هذا الانتماء الاجتماعي والثقافي الذي يكوّنه ويتعايش معه وقد يختلف عنه أحياناً؛ فهو مع إبراز عاطفته التي تظهر في اعتزازه بهذا الانتماء، يظهر كينونته الاجتماعية داخل مجتمعه وما يعكس داخل هذا المجتمع، وأيضاً يصور حاله فيه وما يجابهه، وما يحاوله في رسمه الذي يستخدم فيه الكلمات:

"مسقط يشجر فيها الرعدُ بصوت النهّام

يصعد فيها المخيال لأعلى من نخلة فرضٍ بسمائلْ

والشاعرُ يطفو كبلادٍ بمدار السرطانِ

على أصداءِ قبائلْ

ويكسّر أسر الكلماتِ ليحيي سربَ أيائلْ

والمعنى جرحٌ خمريٌّ سائلْ

والرؤيا جوهرةٌ

تظهر دلالات قيمة الانتماء الجمالية في النص من خلال لمحات بلاغية بيانية، فعلى صعيد المعنى نجد فكرة الانتماء حاضرة بقالب بياني يؤكد فيه الشاعر على ذكر ضمير الـ (نا) أي نحن، ليؤكد فكرة الاتحاد والانصهار مع الجماعة، وهذا التوكيد مهم جداً، لا سيّما أن الانتماء الذي يتطرق إليه الشاعر انتماءٌ وطني يمثل هوية الشاعر ونزعاته وعواطفه:

"شرفات الحصن أمّي أثّثتها

بالحكايات: (ألا ياما.. وياما)

أفقها القاني كما التاريخ سرٌّ

دمُنا للأفق قد كان مُقاما

والسماوات لنا قد أرسلتنا

للطواغيت قياماتٍ ضراما

نحن معنى قولهم (ذات عمادٍ)

بالعمانيين دين الحبِّ قاما

ويظهر الشاعر متحدثاً باسمه المنصهر مع اسم الجماعة التي ينتمي إليها وهم أبناء وطنه، يصفهم ويفصل في صفاتهم وعاداتهم ومواقفهم وأيامهم، ولا ننسى أنَّ العلاقة بين الإنسان والانتماء علاقةٌ تلازمية، يتنوّع فيها التلازم (الانتماء) بتنوّع العلاقات الإنسانية في مكان وزمان محددين، فهو ظاهرة إنسانية قُدمى يرقى تاريخها إلى بداية تاريخ الوجود الإنساني نفسه. وإنَّ الرابط الأولى الذي يربط بين المرء وانتمائه هو الحب؛ فبتجربة الشاعر الإنسان لا بد من ظهور العاطفة التي تعدّ ركيزة من ركائز الانتماء الذي يمثّل جملةً من العواطف.

* فاطمة حيدر العطاالله شاعرة وروائية سورية

مقالات مشابهة

  • الكاتبة ندى الحاج تحتفي بكتابها ” جال في خاطري ” .
  • لجنة الصناعة بالغرفة تناقش تعزيز تنافسية المنتج العُماني محليًّا وعالميًّا
  • قصيدة ياسر التويجري في ذكرى يوم التأسيس ..فيديو
  • يوم المعلم العُماني.. استثمار مُستدام
  • عُمان تحتفل غدًا بـ"يوم المُعلِّم العُماني" تقديرًا للأدوار الرائدة في العملية التربوية والتعليمية
  • المُعلِّم العُماني.. صانع الأجيال وركيزة النهضة
  • تحديات المنهج التعليمي العُماني.. ما بين الواقع والتطلعات!
  • قيمة الانتماء في مجموعة بنكهة البرزخ للشاعر يونس البوسعيدي
  • جهاز الاستثمار العُماني يستثمر في صندوق "جولدن جيت فينتشرز" السنغافوري
  • مجلسُ الأعمال العُماني السّعودي يطّلع على الفرص الاستثمارية الواعدة بمحافظة الظاهرة