ليس غريبا أن تلتجئ دول الاستعمار إلى بث شؤونها ومد خيوطها إلى كل ناحية طلبا لإخضاع دول المحيط لسيطرتها وتهديدا لها في أمن بقائها، ولكن الأنكى في جرح الإنسانية أن تتعمد الكيانات المغتصبة أن تفرض المصطلحات العلمية وفق رأيها ولو كانت دلائل اللغة والتاريخ تعارضها ولا ترتضيها، وحتى تكون المصطلحات موغلة في القسوة تضرب لها الدول المغتصبة عقوبات حفاظا على مضمون المصطلح، وحتى يكون المساس به مساسا بثوابت الوجود الآمن.

من تلك المصطلحات الرائجة في أوروبا وأمريكا وخاصة يعلو صوته إبان العداء السافر على المسلمين في فلسطين مصطلح "معاداة السامية"، فما إن يقرب المُحِقون من محاكمة المجرم أو إعلاء صرخات الألم والحزن المتسببة بها أيدي العدوان الصهيوني حتى ترفع أمامهم "معاداة السامية" وكفا بها زاجرا لمن يحاول المساس بهالة الكيان المزيفة.

وهنا أعرض كتابا أجده من الأهمية أن يقف عنده المشتغلون بقضايا الإنسانية أولا، وبدراسة المصطلحات وأبعادها في المحيط السياسي والثقافي ثانيا، كتاب "صنع معاداة السامية أو تحريم نقد إسرائيل" للكاتب اليهودي أبراهام ملتسر.

نجد أيها الكريم أن عنوان الكتاب يقدح لك فكرة الربط بين معاداة السامية، ونقد الكيان الغاصب، إخراجا له من حقله الدلالي وإبعادا في غاية الفحش والظلم لمعناه المنحوت له.

نعم أيه القارئ؛ لقد وضع المؤلف كتابه منتقدا فيه ظاهرة "معاداة السامية" ووضعها في خط تستعمله دولة الاستيطان لإسكات كل صوت يعلو صوتها، في حين تستغل هي ذات المصطلح كي تظهر ثوب الضعف والمسكنة وأن العداء على السامية يثير في ذاكرتهم سجون النازية مثل أحياء الجيتو ومعسكرات أوشفيتز.

يذكر المؤلف في بداية الكتاب قصة خروجه هو وعائلته من ألمانيا إلى فلسطين متحدثا عن طفولته هناك وكيف رأى الوضع العام حوله من العرب المسلمين، وهنا يعترف أن المدرسة كان تعلمه "أن كل شعوب العالم كارهون دائما لليهود".

في ثنايا الكتاب يعبر المؤلف عن عدم اهتمامه بمعاداة السامية وذلك يعود إلى أن "قوانين الدولة ملزمة بحمايتي وحماية جميع اليهود وغير اليهود فيها بغض النظر عن الحزب الذي يصوتون له، وأي نوع من الموسيقى يحبونه.. ولهذا يصبح الخوف من معاداة السامية سيانا بالنسبة لي، ووجود معادي السامية من عدمه سواء".

لكن ما يؤرق المؤلف هنا أن يشغل هذا المصطلح جانب السياسة ويؤثر في إظهار تناقض مع المسكنة التي يحاول اليهود إضفاءها على أنفسهم وهم مقترنون بلباس الظلم والوحشية التي يقومون بها في فلسطين، يقول المؤلف: "ثمة كثيرون يعتقدون أن الهولوكوست تمنح اليهود الحق في تجاوز القوانين القائمة والأخلاق العالمية، ولكن هذا لا يسمح لنا أن نكون ضد الألمان، فضلا عن الفلسطينيين الذي لم يكن لهم ذنب قط في حدوث الهولوكوست"، ويقول أيضا: "هل انتقاد قمع اليهود لشعب آخر هو بالفعل عداء للسامية؟ لقد سبق لكارل ماركس، وهو ابن عائلة يهودية وحفيد حاخام أن قال (إن الشعب الذي يقمع شعبا آخر، لا يمكن أن يكون هو نفسه حرا) وبناء على هذا فلا يمكن إسرائيل ذاتها أن تكون حرة".

وقد سلط الضوء على جانب آخر وهو سفاهة بعض الصحفيين وعلى طليعتهم الصحفي "هنريك برودر" في ملاحقتهم من تشم منه رائحة معاداة السامية.

وكم ذكر المؤلف وانتقد ربط نقد سياسة إسرائيل بمعاداة السامية حيث يوضع من ينتقد السياسة الاستيطانية بأنه معاد للسامية فهناك من اليهود يجري خلف السياسة الإسرائيلية بقلب أعمى لا يميز الخطأ من الصواب، وفي حال كان النقد والتصحيح واجبا من اليهودي نفسه من ألمانيا أو غيرها ألصق به مباشرة أنه معاداة للسامية.

وينتقد المؤلف ضعف الهوية اليهودية وصعوبة اندماجهم في أوطانهم وبدلا من صحة الاختلاط الفعال تراهم يرتبطون مع الكيان الغاصب روحا وعقلا تاركين انشغالهم بما هو أصيل في بلادهم، كما أشار المؤلف في كتابه كثيرا أن اليهود ليسوا على قدم واحدة فمنهم المنتقد للكيان الغاصب وللحركة الصهيونية، وأن اليهود ليسوا بالضرورة إسرائيليين والعكس كذلك أيضا.

إن استيفاء جميع ما ورد في الكتاب في مقال يعسر على الكاتب وحسبك من السوار ما أحاط بالمعصم، وأخيرا أدعو إلى مراجعة الكتاب ونقده بذاته وإخراج ما يمكن أن تستفيد منه الأجيال القادمة.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: معاداة السامیة

إقرأ أيضاً:

"حافظ إبراهيم.. شاعر النيل" لـ عبد السلام فاروق عن هيئة الكتاب

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

أصدرت وزارة الثقافة، من خلال الهيئة المصرية العامة للكتاب، برئاسة الدكتور أحمد بهي الدين، كتاب "حافظ إبراهيم.. شاعر النيل"، للكاتب عبدالسلام فاروق، ضمن إصدارات سلسلة عقول.

                                                                                                                           الكتاب يتناول قصة اليتيم الذي تحدى ظروفه ليصنع مجده وحده، إنه شاعر النيل حافظ إبراهيم، شاء القدر أن يولد على شاطئ النهر الخالد في مدينة ديروط، ثم يغادر أبوه هذه الدنيا فيغادر حافظ الصعيد إلى القاهرة بصحبة أمه وشقيقته إلى بيت خاله في المغربلين وهو في الرابعة، ثم لا يلبث أن ينتقل إلى طنطا تموج به الحياة موجًا، وهو يتقلب فيها تقلب المكافح الذي يصارع الغرق، ويصبح ملاذه في أشعار يقرأها أو يصيغها، ينفس بها شيئًا مما يعتمل في صدره.

أطلق عليه طه حسين لقب "شاعر الشعب": لأنه عانى معاناتهم، وكابد آلامهم، ثم كتم همومه في صدره وبات يتقن الدعابة والفكاهة والمزاح في أحلك الظروف، وكما تكلم عن البؤس والكفاح بلسان المتألم، عرف المزاح في مسامراته وقصائده، عملًا بقول القائل: "إذا لم يكن في جيبك مال، فليكن في لسانك سكر".

إنها قصة موحية خصبة الأحداث، عميقة العبرة، مثيرة للدهشة في كثير من مواطنها عن سيرة شاعر رائد من شعراء مصر الغنية بمبدعيها.

إن قصة حافظ إبراهيم هي قصة شاعر من عامة الناس، استطاع التعبير عن همومهم الخاصة والعامة؛ فرفعوه لمكانة عالية عندما شعروا أنه يتحدث بلسانهم، فلقبوه بشاعر الشعب، وشاعر الاجتماعيات، وشاعر الوطنية، وشاعر النيل.

أكثر حافظ من أشعار المواساة والرثاء حتى لقبه العقاد بشاعر المحافل، لكنه استطاع أن يجعل من أشعار المناسبات أشعارًا عاطفية ذات تأثير عميق على نفوس السامعين. وقد ترجم حافظ رواية البؤساء، كما ألف كتابا شبيها بحديث عيسى بن هشام للمويلحي، وأسماه "ليالي سطيح" فأبدع في النثر إبداعه في الشعر.

مقالات مشابهة

  • «الكتاب العرب» يرفض إعلان إسرائيل التهجير الطوعي لسكان غزة
  • عُمان بين حملات التضليل وثبات الموقف
  • من يدير الأقصى الآن؟ المسلمون أم الكهنة اليهود؟
  • مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين تحذر من أن نقص التمويل يهدد حياة السودانيين في مصر الفارين من العنف
  • المندوبية السامية للتخطيط ستجري بحثين وطنيين حول استعمال الزمن والأسرة هذا العام
  • فيلم Têtes Brûlées ينافس في المهرجان الدولي لسينما المؤلف ببرشلونة
  • بفيلم Têtes Brûlées.. ماية عجمية تنافس في مهرجان سينما المؤلف ببرشلونة
  • "حافظ إبراهيم.. شاعر النيل" لـ عبد السلام فاروق عن هيئة الكتاب
  • ما الواجب المباشر تجاه الفكر الحر في ظل استمرار السردية التكفيرية؟ «10-13»
  • طلاب وأكاديميو هارفارد اليهود يدينون اعتقال ناشط فلسطيني في أمريكا