الجوع يمزق أبدان أطفال غزة والحزن يعتصر قلوب الأمهات
تاريخ النشر: 20th, March 2024 GMT
سرايا - أعراض سوء التغذية الحاد واضحة على فادي الزنط (6 أعوام) فأضلعه تبرز تحت جلد رقيق وعيناه غائرتان وساقاه النحيلتان تعجزان عن حمله ولا يقله إلا سرير في مستشفى كمال عدوان في شمال غزة حيث يلوح في الأفق شبح المجاعة.
ويظهر فادي في صور له قبل الحرب طفلا مبتسما يتمتع بصحة جيدة مرتديا سروال جينز أزرق بجوار توأمه الأطول وشعره جيد التصفيف.
وفادي يعاني من التليف الكيسي. وتقول والدته شيماء الزنط إنه قبل اشتعال الصراع في القطاع كان يأخذ الأدوية، التي لم تعد عائلته تستطيع العثور عليها، ويتناول مجموعة متنوعة ومتوازنة بعناية من الأطعمة لم تعد متوفرة في القطاع الفلسطيني.
وقالت شيماء في مقطع فيديو حصلت رويترز عليه من أحد الصحفيين المستقلين "ضله (ظل) يتدهور حالته شوية.. شوية لما وصل للمرحلة هيك.... لو استمرت الحرب هيك، حالته بتسوء وبيضعف أكتر... وكل شوية بيفقد حاجة... يعني بطل (لم يعد) يقدر يمشي، بطل يقدر يقف، باوقفه ما بيقدرش يسند حاله... فكل شوية بأحس أن الولد بيسوء أكتر من قبل".
ويقول أطباء ووكالات إغاثة، إن نقص الغذاء والأدوية والمياه النظيفة في غزة يتفاقم، بعد مرور أكثر من خمسة أشهر على الحملة البرية والجوية التي شنتها إسرائيل ردا على عملية السابع من تشرين الأول.
وعالج مستشفى كمال عدوان الذي يرقد فيه فادي معظم الأطفال الذين تقول وزارة الصحة في غزة، إنهم توفوا بسبب سوء التغذية والجفاف في الأسابيع القليلة الماضية وعددهم 27.
وقالت الوزارة، إن آخرين لقوا حتفهم في مستشفى الشفاء بمدينة غزة في الشمال أيضا وفي مدينة رفح بأقصى الجنوب حيث تقول وكالة غوث وتشغيل اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، إن أكثر من مليون فلسطيني لجأوا إليها هربا من الهجوم الإسرائيلي.
وشاهدت رويترز عشرة أطفال يعانون من سوء التغذية الحاد في أثناء زيارة الأسبوع الماضي، إلى مركز العودة الصحي في رفح تمت بالترتيب مع طاقم تمريض سمح لوكالة الأنباء بالوصول دون عوائق إلى الجناح. ولم تتمكن رويترز من التحقق بشكل مستقل من الوفيات التي أعلنتها الوزارة.
وقال التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، الخاص بمراقبة الجوع عالميا، في تقرير الاثنين، إنه إذا لم يتم اتخاذ إجراء عاجل، ستنتشر المجاعة في الفترة من الآن وحتى أيار، في شمال غزة حيث يحاصر القتال 300 ألف شخص.
وقال الاحتمال الأكثر ترجيحا في المراجعة إن "مستويات خطيرة للغاية من سوء التغذية الحاد والوفيات" أصبحت وشيكة بالنسبة لأكثر من ثلثي السكان في الشمال. ويتألف التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي من وكالات للأمم المتحدة وجماعات إغاثة دولية.
ولم ترد وحدة تنسيق الأنشطة الحكومية في المناطق مع الفلسطينيين، وهي هيئة عسكرية إسرائيلية تتولى مسؤولية نقل المساعدات إلى غزة، على أسئلة رويترز تحديدا فيما يتعلق بوفيات الأطفال بسبب الجوع والجفاف. بل قالت الوحدة إن إسرائيل لا تضع أي قيود على كمية المساعدات التي يمكن دخولها.
وفي أعقاب تقرير التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، نشر المتحدث باسم الحكومة الإسرائيلية إيلون ليفي على موقع إكس، أن عدد شاحنات الغذاء قد زاد في شهر آذار، وأن إسرائيل تتخذ إجراءات لتعزيز "جهود التوصيل" إلى الشمال.
ووصف المتحدث تقرير التصنيف المرحلي بأنه "تقييم سيء يستند إلى صورة تجاوزها الزمن".
وأحال البيت الأبيض رويترز، إلى تعليقات مستشار الأمن القومي جيك سوليفان الذي قال؛ إن مسؤولية معالجة المجاعة الوشيكة "تبدأ أولا وفي المقام الأول عند إسرائيل".
وقالت سامانثا باور مديرة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، إن تقييم التصنيف المرحلي يمثل "مرحلة محورية مروعة" ودعت إسرائيل إلى فتح طرق برية أخرى.
وردا على سؤال من رويترز على تقرير التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، قال سامي أبو زهري القيادي في حماس، إن "هذا التقرير الدولي هو رسالة للمجتمع الدولي للتحرك قبل فوات الأوان، وعدم الارتهان لمواقف نتنياهو الذي يتحدى الجميع ويستمر في قتل الناس بالقنابل والتجويع".
وقالت وكالات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة، إن "العقبات الهائلة" التي تعترض نقل المساعدات إلى شمال غزة لا يمكن تذليلها إلا بوقف إطلاق النار وفتح المعابر الحدودية التي أغلقتها إسرائيل بعد السابع من تشرين الأول.
نازحون
في الأيام الخوالي، كان طعام فادي الزنط المفضل هو شاورما الدجاج، وكان يأكل كثيرا من الفاكهة ويشرب كثيرا من الحليب، بحسب قول والدته شيماء.
وأضافت أنه حين بدأت الحرب، فرت الأسرة من منزلها في حي النصر بمدينة غزة الذي أضر به القصف الإسرائيلي بشدة. وأضافت أنهم نزحوا 4 مرات قبل وصولهم إلى بيت لاهيا.
وقالت إن "فادي يمكن له شهرين بدأت حالته تتدهور، صار العلاج مش متوفر، يعني له علب الكريون، حبوب لازم ياخدها دايما عشان ما يصيرش معاه (حتى لا يصيبه) سوء لامتصاص الغذا في جسمه، فصار معاه إسهال ومقدرناش نوقفه. يسهل في اليوم يمكن في الليلة عشر مرات يسهل. واخده وأنقله على المستوصفات ومحدش عارف (يعالجه) لأن دكاترته (الأطباء) اللي هو بيتابع عندهم مش موجودين لأنهم في الجنوب".
وكريون عقار يحتاجه الأشخاص المصابون بالتليف الكيسي لتكملة إنزيمات البنكرياس التي تساعد على هضم الطعام، ولم يعد العقار متوافرا في القطاع.
وقبل الحرب، كان وزن فادي 30 كيلوغراما لكن وزنه الآن 12 كيلوغراما، بحسب قول والدته.
وقالت الأم شيماء الزنط "قبل الحرب كان ما شاء الله يأكل وكان طفل كويس... وعلاجه متوفر فكان وجهه ناصع، وكان طفل تحسش (لا تشعر) أنه مريض وبيروح على (يذهب إلى) الروضه هو وأخوه كمان عادي".
ولم ترد وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق على سؤال حول توافر عقار كريون، لكنها قالت إن إسرائيل "لم ترفض أي شحنة من الإمدادات الطبية".
ولم تتمكن رويترز من التأكد بشكل مستقل من احتمالات منع هذه الشحنات ولم تتمكن أيضا من التحقق من مسؤولي المستشفى عن مدى تعطل إمدادات كريون.
وتقول وزارة الصحة في غزة، إن نقص الأدوية أسهم في تدهور أوضاع الأطفال الذين توفوا.
وتقول وكالات الأمم المتحدة، إنه بالإضافة إلى الأطفال الذين يعانون من أمراض سلفا، مثل فادي، تتزايد سريعا المخاطر التي تحدق بعدد كبير من الأطفال الآخرين في غزة.
وقالت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) الجمعة، إن نحو طفل واحد من بين كل ثلاثة أطفال دون الثانية من العمر في شمال غزة يعاني من سوء التغذية الحاد، أي مثلي العدد الذي كان عليه في كانون الثاني.
وأضافت يونيسف أن 4.5% من الأطفال في الملاجئ والمراكز الصحية التي زارتها المنظمة وشركاؤها يعانون من هزال شديد، وهو أكثر أشكال سوء التغذية خطرا على الحياة.
وقالت كاثرين راسل، المديرة التنفيذية ليونيسف الثلاثاء، في بيان مشترك مع برنامج الأغذية العالمي "إذا لم يتوقف القتال وتتاح لوكالات الإغاثة حرية الوصول بشكل كامل إلى أنحاء غزة، فإن مئات الأطفال، إن لم يكن الآلاف، سيموتون جوعا".
وقال تقرير التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، إنه إذا مضت إسرائيل قدما في الهجوم الذي تتوعد به على رفح، فمن المتوقع أن يواجه 1.1 مليون شخص في غزة، أي نصف السكان، نقصا حادا في الغذاء.
وقال الكولونيل إيلاد جورين من وحدة تنسيق أعمال الحكومة مع الفلسطينيين الخميس الماضي، للصحفيين إن الحصول على الغذاء مستقر في جنوب ووسط القطاع.
وقالت منظمة هيومن رايتس ووتش في أواخر شباط، إن إسرائيل تعرقل توفير الخدمات الأساسية ودخول وتوزيع الوقود والمساعدات المنقذة للحياة في غزة. وأضافت أن هذا "عقاب جماعي" ويعتبر جريمة حرب بموجب القانون الإنساني الدولي.
وقالت وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق مع الفلسطينيين، إن إسرائيل تبذل "جهودا مكثفة لزيادة كمية المساعدات التي تدخل غزة" بما يتجاوز التزاماتها.
وأضافت "أي ادعاءات بخلاف ذلك، بما في ذلك الادعاءات المتعلقة بالعقاب الجماعي، لا أساس لها من الواقع والقانون".
رفح
في مركز العودة الصحي في رفح، جلست أو وقفت أكثر من اثنتي عشرة امرأة لرعاية أطفالهن الذين يعانون من سوء التغذية.
وقال أقارب إن معظم الأطفال في الجناح كانوا يعانون بالفعل من مشاكل طبية قبل الحرب، لكن الصور التي عرضها آباء اثنين منهم لرويترز، أظهرت أنهم كانوا يبدون أكثر صحة عما هم عليه الآن.
وفي الرابع من آذار، توفي يزن الكفارنة البالغ من العمر 12 عاما، والذي كان مصابا بالشلل الدماغي في جنوب غزة، بعد أيام من التقاط رويترز صورا أظهرت هزاله الشديد.
وقالت ممرضة تدعى أميرة أبو جويد إن المستشفى غير قادر على توفير ما يكفي من الحليب للأطفال، وإن ما بين 5 إلى 10 حالات تصل يوميا في ظل ظروف "كارثية". ولم تذكر الممرضة كمية الحليب التي كانت متوفرة قبل الحرب.
وأضافت "وضع كارثي جدا وكل يوم عن يوم بيزيد بزيادة. الاطفال عندنا بيعانوا من سوء تغذية بشكل مخيف. بنشوف يوميا بيمر علينا من خمس إلى 10 حالات لأطفال عندهم نقص حاد في التغذية خاصة في الحليب... كل حالة لها حليب خاص بها، اسم مش موجود... الحليب مش موجود وغلاء الأسعار وسوء التغذية... الأشياء مش موجودة يعني إحنا مش قادرين نشتريها من السوق. الوضع بقى كارثي إحنا مش عارفين كيف ممكن نفيدهم بنقف مكتوفين الأيدي صراحة".
وجلست أم مصباح حجي وهي تحتضن ابنتها إسراء البالغة من العمر خمس سنوات، وهي مصابة بشلل رباعي وصرع.
ولم تعد أدوية إسراء متوفرة، وفقدت الكثير من وزنها. وأضافت الأم أنه قبل الحرب كانت تطعمها البيض والحليب في الإفطار والكبدة في الغداء والأرز في العشاء. وفي بعض الأحيان، كانت تعطيها الزبادي والفاكهة.
وقالت الأم "بنتي تعاني من شلل رباعي وفيه عندها تشنجات. تم فقدان هذه الأدوية والبعدين صار عندها سوء التغذية نظرا للأحوال اللي احنا عايشين فيها وبنتي كتير ضعفت وما في تغذية ولا في أشي وما في أدوية للتشنجات... أنا الحمد لله كنت في بيتي في غزة أجيب لها اللبن المشكل (المضاف إليه) بالفواكه، والسريلاك والكبدة واللحوم وأهرس لها إياها. الأكل كان متوفر لكن بعد الحرب مفيش أشي، نقص في كل شيء، ما في عمل وما في أشي، ونزحنا في خيمة ومفيش عندي لا فلوس ولا أكل متوفر.
وأضافت "أنا في اليوم بأموت ألف مرة، باتقطع عليها أما أشوفها بتتشنج، ومفيش دوا وباعرف أنها جعانة ومش متوفر الأكل إللي هي بتاكله".
إسهال
المرض يفاقم النقص الحاد في الغذاء. ويتسع نطاق سوء التغذية نتيجة الجفاف الناجم عن الإسهال والذي تقول منظمة الصحة العالمية، إنه منتشر في مدن الخيام التي يقيم فيها النازحون دون صرف صحي مناسب أو مياه نظيفة.
وأحد آثار الجوع الحاد هو تقليل وتقليص المناعة ضد أمراض المعدة هذه.
وقالت منظمة الصحة العالمية الشهر الماضي، إن 90% من الأطفال دون سن الخامسة في غزة أصيبوا بواحد أو أكثر من الأمراض المعدية، وإن 70% أصيبوا بالإسهال في الأسبوعين السابقين، وهي زيادة قدرها 23 ضعفا عن الحالات قبل الحرب.
وتحدثت كيرستين هانسون، وهي طبيبة أميركية تعمل في مجال التغذية مع منظمة أطباء بلا حدود، عن بداية التدهور الجسدي الناجم عن سوء التغذية والجفاف.
وقالت إن الأطفال يصبحون في حالة خمول وأقل انتباها. وتفقد بشرتهم ما بها من دهون بحيث إذا تم شدها من مكانها فإنها قد تبقى في هذا الوضع. وتغور العيون ويصبح الجسم منهكا.
وحتى بالنسبة للأطفال الذين كانوا يتمتعون بصحة جيدة قبل الحرب، فإن استمرار سوء التغذية يمكن أن يعيق النمو البدني والعقلي لديهم.
وقالت هانسون إنه مع انتشار سوء التغذية الحاد، يتوقف جسم الطفل عن النمو، ثم يتوقف كل شيء ما عدا الوظائف الحيوية.
وأضافت "سيستمر قلبك ورئتيك في أداء وظائفهما، لكن... ربما لا توجد طاقة كافية للحفاظ على عمل جهازك المناعي".
بعد ذلك، "يبدأ الجسم في أكل نفسه نوعا ما، باستخدام العضلات والدهون وأي مكان آخر يمكن أن يجد فيه الطاقة لمواصلة التنفس ومواصلة العمل بأي كلفة ممكنة، وحين لم يعد هذا ممكنا بحال من الأحوال، يتوقف الجسم عن العمل".
وقالت هانسون إنه حتى عندما لا يصل سوء التغذية إلى هذه المرحلة الخطيرة، فقد يكون من المستحيل تعويض تأثيره على النمو إذا استمر. فقد لا يستعيد الأطفال أبدا السنتيمترات المفقودة من النمو.
رويترز
إقرأ أيضاً : لابيد: "إسرائيل" تشهد انهيارا بعلاقاتها الخارجية بسبب حكومة "مهملة"إقرأ أيضاً : اتفاق بالكونغرس الأميركي يمنع تمويل الأونروا حتى آذار 2025إقرأ أيضاً : حكومة أسكتلندا تعلق تعاملاتها مع سلاح الجو الاسرائيلي
المصدر: وكالة أنباء سرايا الإخبارية
كلمات دلالية: مستشفى غزة زفاف القطاع القطاع غزة مستشفى الصحة مستشفى الشفاء غزة مدينة الوفيات الخاص غزة الحكومة شهر الجميع الناس غزة شاورما غزة اليوم الله الحكومة الصحة غزة الحكومة الحكومة الوضع غزة اليوم الصحة الصحة غزة العمل شاورما الوضع زفاف الوفيات مدينة الصحة اليوم الحكومة الناس الله العمل مستشفى غزة الشفاء الثاني الجميع الخاص القطاع شهر سوء التغذیة الحاد من سوء التغذیة إن إسرائیل وحدة تنسیق قبل الحرب یعانون من شمال غزة أکثر من فی غزة
إقرأ أيضاً:
هل الحرب الأهلية في إسرائيل قدر حتمي؟
في سبعينيات القرن الماضي، عرض المخرج الإسرائيلي أوري زوهار فيلما هزليا قصيرا، صوّر خلاله شخصين عربيين يقفان على شاطئ في فلسطين، ويوجّهان الشتائم إلى قارب يدنو منهما يحمل على متنه مهاجرين يهود من روسيا.
بعد ذلك، يقف المهاجران الروسيان على الشاطئ نفسه ويكيلان الشتائم أيضا، لكن لقارب آخر يقترب وبه مهاجرون من بولندا، ثم يتكرر الأمر ذاته حين يقف البولنديان هذه المرة ويوجّهان الشتائم لقارب جديد يحمل مهاجرين ألمان، وبدورهم، يقف الألمان أمام الشاطئ ويحذون حذو أقرانهم بشتم أولئك القادمين على قارب من شمال أفريقيا.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2حماس.. المهمة الصعبة في إقليم يتغيرlist 2 of 2إسرائيل تُظهر للعالم أقبح وجوه الذكاء الاصطناعيend of list البهرجة العِرقيةلعل هذا، بشكلٍ ربما لم يقصده المخرج، يُمثِّل اعترافا بالوجود العربي أساسا لهذه الأرض، وهو ما فعله زوهار، الذي ترك السينما فيما بعد وصار حاخاما أرثوذكسيا. لكن المؤكد أن زوهار أراد أن يقول -بشكلٍ واعٍ- من خلال هذا العرض، إن هذا الشكل من التصارع وعدم تقبل الآخر هو السمة المشتركة في كل بلدان الهجرة.
فهذه أيضا قصة أميركا وأستراليا وكندا، قصة مكررة لدول قامت على جذب أجناس وأعراق من أمم مختلفة تحت وعد أن وجهتهم هي أرض الأحلام، وهي ذاتها قصة تعزيز الاستعمار والاستيطان من خلال الخداع وتحفيز الطمع وتلفيق الهوية، واختراع شعب جديد يصطف تحت راية صُنعت لتوها.
إعلانلكن لسبب ما، قرر الكاتب الإسرائيلي أوري أفنيري أن يصف حدوث ذلك في إسرائيل بالأمر الغريب، إذ يفترض أنها دولة قامت على أيدولوجية قومية للشعب اليهودي، فكيف تخالف إسرائيل المنطق الذي بُنيت عليه وتُفرِّق بين مكوناتها العِرقية، رغم أنهم بالأساس يهود!
لكن التاريخ وعلم الاجتماع لا يستثنيان تكوينا ما من ذلك، ويُثبتان أن كثرة التنوعات داخل الدولة ليست أمرا إيجابيا على طول الخط، فمن الصعب أن يتماسك ويستمر مجتمع متباين التكوين إلى هذه الدرجة، فكلّ فئة تحمل مطالبها الخاصة، وكلما خفت بريق الراية الجامعة، بدأت الهويات الفرعية بالصعود والهيمنة شيئا فشيئا، فتعود كل فئة إلى ذاتها.
يقود ذلك بالتالي إلى تزايد إمكانية الانشقاقات والتمرد الذي يأكل في جسد الدولة على مهل، كما يقلل من قدرة السلطة الرسمية التي تُدير البلاد على تمرير رؤاها وإستراتيجياتها دائما بنجاح ويُسر.
وهل من مشهد يؤخذ دليلا على ذلك، أكثر مما جرى مؤخرًا أثناء اجتماع الكابينت الإسرائيلي في 23 مارس/آذار الجاري، من تراشق لفظي واشتباك جسدي بين إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي، ورونين بار، الرئيس السابق لجهاز الأمن العام (الشاباك)، والذي أقاله رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو مؤخرا على إثر خلافات نشبت بينهما بشأن نتائج التحقيق في أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وهو أمر يتعدى حدود الخلاف الشخصي، ويؤشر على طبيعة الصراع الأعمق بين اليمين المتطرف ومؤسسات الدولة الأمنية التي تحاول الحفاظ على استقلاليتها، فقد أشارت تقاريرصحفية إسرائيلية إلى تلقي بن غفير ما يفيد بأن الشاباك، تحت قيادة رونين بار، يجري تحقيقًا سريًّا حوله منذ شهور، بغرض كشف مدى تغلغل "المنظمات الإرهابية اليهودية في جهاز الشرطة"، وتحديدًا المتطرفين الكاهانيين الذين ينتمي بن غفير إليهم.
إعلانوهو حدث يمكن اعتباره عنوانا لأزمة الداخل الإسرائيلي الحالية، بعد تعثر المفاوضات بشأن إطلاق سراح المحتجزين لدى فصائل المقاومة الفلسطينية.
ومع أن بوادر انقسام الداخل الإسرائيلي، تعود لوقت سابق على أحداث 7 أكتوبر/تشرين أول 2023، لكن ثمة تأثير معضد لذلك الانقسام أحدثه وعمّقه الطوفان، فيما يبدو.
أول ما يثبت تأثير يوم السابع من أكتوبر/تشرين أول 2023 على نسيج إسرائيل الاجتماعي، هو تمكّنه من تقديم فشل دولة الاحتلال في أن تصبح دولة آمنة ومستقرة في حماية مواطنيها. فلطالما رددت الصهيونية أن اليهود لن يشعروا بالأمان إلا من خلال الوجود داخل دولة يهودية، وكان ذلك هو الحلم الذي قدّمه ثيودور هرتزل إلى اليهود وجذبهم به إلى أرض فلسطين.
حتى إن العقيدة العسكرية الإسرائيلية تشكَّلت بالأساس لخدمة ذلك الغرض، وفقا لمبدأ القوة الهجومية الذي أرساه بن غوريون، وقوامه هو نقل المعركة دائما إلى أرض العدو، بعيدا عن الأراضي الإسرائيلية، والمبادرة بتنفيذ ضربات وقائية إذا استدعى الأمر، أي تنفيذ الإستراتيجية الدفاعية عبر الهجوم، بغرض تقليل الإصابات بين المستوطنين وتوفير الأمان الذي وعدتهم به الصهيونية عندما استوطن آباؤهم هذه الأراضي.
وتجدر الإشارة إلى ما يحدث داخل إسرائيل من تكثيف دعوات الفرار والهجرة العكسية كلما تعرضت لهجومٍ ما، وهو ما تؤكده التقارير الصادرة عن هيئة السكان والهجرة الإسرائيلية، حيث تشير إلى هجرة أكثر من نصف مليون إسرائيلي منذ "طوفان الأقصى".
ووفقا لذلك، ففي الإمكان القول إن مبدأ بن غوريون كان إدراكا بأن إلحاق الأذى بالمستوطنين من شأنه أن يدفعهم إلى موجات من الهجرة العكسية، بما يهدد مشروع إسرائيل في جوهره.
إعلانلكن الطوفان تمكن من كسر هذا المبدأ، واستطاع أن يضرب عمق الأراضي المحتلة، مُفقِدا المستوطنين سلعة الأمان المزعوم.
كما أنه على جانب آخر، تمكّن من إرسال رسالة عملية إلى النسيج الإسرائيلي، مفادها أن قوة جيشهم وإمكانياته والدعم الذي يتلقاه أشياء لن تتمكن بمفردها من توفير الأمان والاستقرار لإسرائيل، وليس ثمة حل سوى المُضي قُدما في عملية "سلام عادلة مُرضية"، وهذا نوع من الرسائل لن يتسلمه سوى "العقلاء" داخل إسرائيل، الذين يقفون بالأساس في وجه القبضة المتطرفة، ويرون في هذه الرسالة تأكيدا على موقفهم ودافعا لمقاومة هذه القبضة، وهو ما يعزز أيضا من حالة الانقسام والصراع الداخلي بشكلٍ ما.
الخطر على المؤسسة العسكريةوعلى نحو مماثل، أدت قضية المحتجزين الإسرائيليين خلال عملية "طوفان الأقصى"، بما تلاها من فشل الحكومة الحالية في استعادتهم بالقوة العسكرية وتلويحها في أحيان بالتضحية بهم، إلى نشوب احتجاجات متصاعدة ضد حكومة نتنياهو والمؤسسات الأمنية، وعلى إثرها حاول القادة العسكريون والسياسيون التنصل من هذا الفشل، عبر تبادل إلقاء اللوم على بعضهم بعضا في أكثر من مناسبة.
وتتجلى حالة الانقسام أيضا في الهجوم الذي شنَّه مئات المتطرفين الإسرائيليين في يوليو/تموز الماضي على معسكر الاعتقال في قاعدة سدي تيمان العسكرية بصحراء النقب، حيث يحتجز جيش الاحتلال أسرى من قطاع غزة منذ بداية الحرب. وقد تسبب ذلك في وقوع صدامات بين ضباط الشرطة العسكرية من جهة، وجنود الاحتياط المتحدين مع المستوطنين المتطرفين من جهة أخرى.
ويرى المراقبون الإسرائيليون أن حادثة سدي تيمان تُمثِّل سابقة خطيرة، نظرا إلى أن هجوم المتطرفين على قاعدة عسكرية تابعة للجيش الإسرائيلي بهذه الدرجة من العدوانية تشير إلى شعور هؤلاء بقوة غير مسبوقة، وأن أية قوة حكومية لن تستطيع أن تتصدى لهم، وأنهم يعتبرون أنفسهم مجازين لفعل ما يحلو لهم، وأنهم فوق أي قانون في الدولة لأنهم يُمثِّلون روح العقيدة، ومن ثم يجب على الدولة (وقوانينها) أن تتبعهم وتسترشد بهم، وليس العكس.
إعلانويشير إيهود أولمرت، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إلى أن ما يثير مخاوف الإسرائيليين بشأن سدي تيمان بصورة أكبر هو معرفتهم التامة بالكيفية التي تنظر بها هذه الجماعات المتطرفة إلى بقية المجتمع الإسرائيلي، فبالنسبة لهؤلاء ليس ثمة مانع من تطهير المجتمع من كل ما لا يتفق معهم، وبالنسبة لهم، كلّ مَن يرغب في سلام أو تسوية مع المحيط الإسرائيلي يوصف بـ"اليساري الخائن"، الذي يمكن التحريض ضده وإطلاق النار عليه إذا لزم الأمر.
كما يؤكد أولمرت أن مثيري الشغب الذين يمتثلون لأوامر إيتمار بن غفير ورفاقه في حزب "عوتسما يهوديت" لم يعودوا يتألفون فقط من أعضاء متطرفين في الكنيست أو من عصبة شبيبة التلال كالسابق، بل صار بينهم رجال شرطة تخلّوا عن واجبهم القانوني وجنود احتياط، وليس ببعيد أن يتبنى ضباط وجنود في جيش الاحتلال نهجا مماثلا، فيتمرّدون عند تلقيهم أمرا بالامتناع عن القتال أو خوضه، ما داموا يرون أنفسهم المرجعية الأولى وأنهم مَن يحددون أولويات الدولة.
من جهة أخرى، فإن عدوى التطرف تتسلل بالفعل إلى داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، مثلما يحدث في لواء كفير سيئ السمعة، المتهم بارتكاب جرائم وانتهاكات حقوقية عدة، الذي يُعد مظلة تضمّ المستوطنين المتشددين من التيارات المختلفة، مثل الذكور من عصابة شبيبة التلال، ويُستَخدم هؤلاء بالأساس لقمع المدنيين الفلسطينيين داخل المناطق الحضرية في الضفة الغربية.
ويتعزز ذلك عبر سعي الحكومة إلى تجنيد الشباب المتدين، وبالأخص الذكور من طائفة الحريديم، بعد تصاعد ضرورات القتال ونقص القوة البشرية على خلفية أحداث "طوفان الأقصى". وبسبب ذلك يدور صدام من نوع آخر بين الحكومة وأعضاء الطائفة التي تُشكِّل نحو 13% من مجموع الإسرائيليين (1,28 مليون نسمة)، ويرفض أعضاؤها الانخراط في أنشطة المجتمع العلماني بما في ذلك الخدمة العسكرية.
ورغم أن الحكومة الإسرائيلية توصلت إلى حل وسط تتمكن عبره من تجنيد هؤلاء، كما هو الحال في كتيبة "نيتسح يهودا" التابعة للواء كفير المذكور، فإن التقارير الإعلامية ترصد بين آنٍ وآخر ما يُبديه أعضاء هذه الكتيبة من تمرد، وميلهم إلى تلقي الأوامر من الحاخامات وقادة المستوطنات الذين يزورون قواعدها باستمرار، عوضا عن اتباع المبادئ والمعايير العسكرية، مما يعني أنها تتحول إلى ميليشيا دينية مستقلة أكثر من كونها وحدة تتبع قيادة الجيش.
إعلان جذور لا يمكن تجاهلهاكل ما يجري في الوقت الحالي، كردة فعل على السابع من أكتوبر/تشرين أول وتبعاته، لا يمكن فصله عن ماضي إسرائيل، القصير فعليا لكنه مليء بمسببات الفتنة والاحتقان والنزاع الداخلي.
فرغم أن دولة الاحتلال تُقدَّم (وتُجمَّل) بوصفها الأمة متعددة الثقافات، والبوتقة التي تنصهر داخلها انقسامات اليهود العِرقية، فإن ذلك لا يستر، مثلًا، حقيقة انفراد النخبة الغربية (الأشكناز) بالقرار، واعتمادها ثقافتها وقيمها باعتبارها القيم والتقاليد الرسمية للدولة، مع أن هذه النخبة لا تُمثِّل أكثر من 30% من مجموع السكان في إسرائيل.
وفي حين تنال الأجيال الجديدة من هذه النخبة فرص التعليم الأفضل، وبالتالي تتزايد فرصها داخل سوق العمل، إذ تشير الدراسات إلى أن نسبة اليهود الغربيين إلى الشرقيين داخل الجامعات الإسرائيلية بلغت 4 إلى 1، فيما يرى الكاتب والمؤرخ الإسرائيلي زئيف ستيرنهيل أن سياسات الدولة تتعمد حجب التعليم عن السفارديم، كي يستمر استغلالهم في الأعمال الزراعية والأعمال الدُّنيا من قِبَل النخبة الغربية.
وهو ما يشير إليه أوري أفنيري بـ"انكسار بوتقة الانصهار"، فإذا ما كان الجيل الأول من اليهود الشرقيين منشغلا بتدبير أموره في البلاد الجديدة، ومأخوذا ببن غوريون ورفاقه، فإن الجيل الثاني بدأ في طرح الأسئلة، فيما يعيش الجيل الثالث "حالة من التمرد" والثورة ضد تكبُّر الأشكناز، وبمرور الوقت، لم يعد ثمة متسع للرؤية الصهيونية التي تردد أن اليهود في إسرائيل مثل بعضهم، مع فروق طفيفة في اللغة ولون البشرة.
فضلا عن ذلك، ثمة جانب آخر يتجلَّى خلاله انقسام أعمق في الداخل الإسرائيلي، هو الصراع بين المتدينين والعلمانيين، الذي يُعدّ الأقدم تاريخيا بين كل الانقسامات في صفوف اليهود.
فتاريخ هذا الخلاف يعود إلى القرن الـ18، حين أراد بعض اليهود الخروج من أسوار الانغلاق التي تفرضها التجمعات اليهودية (الغيتوهات)، والتعامل وفق ثقافة أوروبا الرأسمالية العلمانية، فيما عارض آخرون هذه الخطوة، وفضَّلوا البقاء داخل تجمعاتهم المنغلقة.
إعلانوضمن هذين التيارين، نشأت حركات ورؤى مختلفة تصادمت فيما بينها، وكان على الحركة الصهيونية سدّ هذه الفجوة والجمع بين التيارات، كي تتمكن من تحقيق هدفها المتمثل في تشكيل دولة.
ونشأ عن ذلك ما يُعرف بـ"الوضع القائم"، وهو استحداث نوع من التوازن بين ما لا يجوز انتهاكه داخل المؤسسات اليهودية، وبين عدم التدخل في حياة الأفراد الشخصية ونمط التعليم الذي يطبقه كل قطاع منهما. وتعزز ذلك باتفاق الطرفين على عدم كتابة دستور الدولة، والاستعاضة عن ذلك بما يُسمّى "قوانين الأساس".
لكن هذا لم يوقف سعي المتدينين نحو تبني اتجاه الانفصال عن الدولة اجتماعيا، وذلك عن طريق السكن في تجمعات خاصة بهم في الضواحي، وانعزالهم داخل مؤسسات تعليمية معينة، كما سعى بعضهم في الوقت ذاته إلى تولي أدوار قيادية وسياسية بغرض التأثير في المجتمع العلماني وبثّ القيم الدينية داخله.
وفي حين يرى البعض أن حرب يونيو/حزيران 1967 ونتائجها كانت سببا في تعاظم قوة التيار الديني، حيث تعالت إثرها الأصوات المنادية بفرض القوة والتمسك بأرض إسرائيل، ثمة رأي آخر يَعتبر ثمانينيات القرن الماضي فترة بروز التيار الديني المتشدد داخل إسرائيل، حين بدأ الحريديون في محاولة فرض معتقداتهم المتشددة، عبر نزع اللوحات الإعلانية المُخلّة بالآداب العامة، واستخدام القوة لغلق الشوارع خلال صلوات السبت وفي المناسبات الدينية.
ولاستعراض الصورة الأوسع، فلا يمكن أن نختزل التيار المتشدد داخل طائفة واحدة فقط، حيث ينقسم هؤلاء بشكل عميق إلى تصنيفات متباينة، ويتوزعون فكريا بين حريديين متزمتين ومحافظين على التقاليد، علاوة على إصلاحيين أو متدينين فقط، كما تسهم التأثيرات العِرقية في تعزيز حالة الانقسام داخل إطار التشدد الديني، إذ تشير الدراسات إلى أن علاقات القُربى والأصل الجغرافي تُمثِّل رابطا أوثق من التشابه في الفكر الديني بين هؤلاء.
إعلانوبشكلٍ مماثل، ينقسم الجمهور العلماني إلى طبقات متعددة، مما يعني أنه لا توجد صورة تبسيطية للوضع المعقد والمتداخل للنزاع الفكري والديني داخل إسرائيل.
ورغم أن استطلاعات الرأي التي أُجريت في التسعينيات من القرن الماضي كانت تشير إلى تقسيم الجمهور الإسرائيلي إلى 4 فئات، بحسب تعريفه نفسه، وكانت النسبة الغالبة آنذاك لصالح العلمانيين الذين احتلوا الصدارة بنسبة 52%، مقابل 48% لمجموع الجمهور المتدين، فإن السنوات الأخيرة شهدت تصاعد أحزاب أقصى اليمين، ومحاولتها جرّ إسرائيل إلى ممارسة عنف متزايد، بما يضع الدولة برُمَّتها في قبضة التطرف، وللمفارقة، فهي قبضة تُكِنُّ بالأساس احتقارا وعداءً للدولة، وترى في الصهيونية كُفرا لا يمكن التعايش معه.
لكن اتجاه التحليل السابق لا يقود لنتيجة ضرورية بحدوث حرب أهلية في الداخل الإسرائيلي، لكنه توصيف لمجريات الأمور التي يمكن أن تراوح مكانها بين شد وجذب بين الأطراف المتضادة دون تدحرج الأحداث لفوضى الحرب في ظل مجتمع ما زال حتى اليوم منضبطا، ولو نسبيا، في إطار الدولة الجامع.
وعلى الجهة المقابلة أيضا، فإن توصيف ما يجري وفق معطيات الميدان يضع في الحسبان سيناريوهات التصعيد في ظل مجتمع مسلح منقسم على ذاته وينحو كل يوم باتجاه مزيد من العنف، تجاه ذاته، وتجاه الآخر في ظل غياب القيادة التوافقية.