كيف تعمل خوارزمية الجينات في الذكاء الاصطناعي؟
تاريخ النشر: 20th, March 2024 GMT
تعتمد خوارزمية الجينات على مبدأ الانتخاب الطبيعي وتعرف بخوارزمية التطور
يمكن لخوارزمية الجينات تقليص البيانات وإنتقاء النافع منها لتدريب النماذج الذكية
استوقفني مشهدٌ -علق في ذاكرتي حتى اللحظة- أثناء عملي على أحد مفاصل رسالتي في الدكتوراة في المملكة المتحدة -قبل عدة سنوات- الذي يتعلق بتطبيق خوارزمية الجينات في نموذج من نماذج الذكاء الاصطناعي؛ إذ كنت أحدّثُ مشرفي على الدكتوراة عن استمرار عمل خوارزمية الجينات -في جهاز الحاسوب- في مهمة البحث عن الحلول المطلوبة للنموذج الذكي الذي أعمل عليه رغم مرور ما يقرب من 24 ساعة؛ فقال لي ضاحكا: احتاجت الحياة ومكنوناتها -وفقا لقانون التطور- ملايين السنين لتشق مسارها وتتشكّل وفقا لمشهد الحياة الحالي؛ فلا تكترث بطول هذه الساعات التي تتطلبها عملية حاسوبية تقوم بها خوارزمية الجينات! يعكس هذا المشهد معنى من المعاني التي ترتبط بخوارزمية الجينات ومآلاتها الطبيعية -في الواقع الطبيعي- والرياضية -في الواقع الرقمي- التي ستكون حديث هذا المقال.
غدت الخوارزمية حديث الإعلام ووسائله بما في ذلك مقالاتي التي أنشرها إلا أن لمفهوم الخوارزمية أبعادا تتجاوز قطبيّة الذكاء الاصطناعي الذي اقترن -كثيرا- بمصطلح الخوارزمية، وهنا ينبغي أن نتوسع في تأويل مفهوم الخوارزمية واستعمالاتها في الجانب الرقمي؛ إذ تُعنَى بالخوارزمية المنطلقات الرياضية المبنية على المبدأ المنطقي التي تأخذ مسارها المتسلسل حتى بلوغ الهدف المنشود؛ فهي منهجية رياضية عامّة تتباين مفاصلها الرياضية بتباين مواقع استعمالاتها، واستعمالاتها واسعة ومتعددة منها ما يدخل في بناء أنظمة الذكاء الاصطناعي وتشغيلها؛ فتشكّل الخوارزمية في هذه الأنظمة الذكية الدماغ الرقمي الذي يقود الآلة ويجعل منها كائنا رقميًا مفكرًا، وثمّة أنواع للخوارزميات التي تدخل في بناء نموذج الذكاء الاصطناعي أهمها الدماغ الرقمي الذي يتعدد أيضا في أنواعه إلا أنه يشترك في مبدأ عمله المتعلق بالبناء الرياضي الذي يصل المدخلات بعضها بعضا، ويمهّد عملية التدريب وبلوغ المخرجات المطلوبة، وأحد أنواع الخوارزميات ما يتعلق بالبيانات -بشكل مباشر-؛ حيث تتطلب بعض البيانات -حسب نوعها وأحجامها- خوارزمية تعمل على عملية الانتقاء المناسب للبيانات، وأهم أنواع هذه الخوارزميات المعنية بمثل هذه المهام ما يُعرف ب«خوارزمية الجينات» «Genetic Algorithm» التي يمكن -في حالات كثيرة ومجرّبة- أن تتداخل مع خوارزميات الذكاء الاصطناعي الرئيسة وتشاركها مهامها الأساسية.
لكن ثمّة تساؤلا يتبادر في أذهان البعض عن علاقة الجينات بالخوارزمية الرياضية بينما تكون الجينات متعلقة بالجانب الأحيائي المعني بالصفات الوراثية للكائن الحي وفهم معلوماته الجينية في الماضي والحاضر والمستقبل -عبر ما يُعرف بهندسة الجينات التي تمنح الفرصة في تحديد الكثير من الأمراض المحتمل حدوثها في المستقبل نتيجة للتحليل الجيني الدقيق-، وهذا النوع الذي يُطلق عليه خوارزمية الجينات له آلية تماثل آلية عمل الجينات في النظام الأحيائي إلا أن هذه الآلية تعمل وفق المنهج الرياضي المحض الذي يحاكي النظام الأحيائي. لتقريب فكرة هذه العلاقة؛ سنشرح آلية عمل الخوارزمية الجينية، وبعدها نحدد بعض استعمالاتها خصوصا تلك التي تتعلق بنماذج الذكاء الاصطناعي.
الخوارزمية التطورية
تعتبر خوارزمية الجينات نوعا من أنواع الخوارزميات الرياضية المستوحاة من مبادئ الانتخاب الطبيعي -المُوجّه وغير العشوائي-، ولهذا يرتبط اسمها -أحيانا- بما يُعرف ب»الخوارزمية التطورية» نسبة إلى نظرية التطور التي تعتمد مبدأ الانتخاب الطبيعي وما يتفرّع منه من آليات كما سنفصّلها في الفقرات القادمة. يبرز استعمال هذه الخوارزمية في الذكاء الاصطناعي -وفروعها الرئيسة مثل تعلم الآلة- في أحد أهم العمليات الرياضية، وهي التحسين «Optimization»،وللبحث الواسع عن الحلول والخيارات الأفضل عبر آلية بحث تتشابه مع آلية الانتقاء الطبيعي الذي يعمل في النظام الجيني للأحياء التي تبدأ بعملية تُعرف بالتهيئة «Initialization»؛ حيث تُنشأ مجموعة من الحلول المحتملة الأولية -عادة ما يُشار إليها بالأفراد أو الكروموسومات- عشوائيًا لتمثيل الحلول المحتملة لعملية التحسين التي تكون نقطة الانطلاقة الأولى لعملية التحسين المطلوبة عبر آليات التبادل الجيني وحدوث الطفرات -بطرق رياضية تضارع الطرق الطبيعية-؛ فتأتي بعدها عملية التقييم «Evaluation»؛ إذ يخضع كل فرد في المجموعة للتقييم بواسطة تحديد كفاءته التي تعكس مدى قدرته على حل المشكلة؛ فتتدخل دالة الصلاحية «Fitness Function» التي تعمل على قياس قدرة كل فرد من المجموعة في إنجاز المخرجات المطلوبة؛ مما يسمح للعملية الثالثة التي تُعرف بالاختيار «Selection» بمباشرة عملها في اختيار أفضل الأفراد بناء على مبدأ الصلاحية الذي يعكس قدرة كل فرد في مقاومة تحديات البقاء والتكاثر عبر إنتاج أفراد آخرين يحملون صفات كفاءة أعلى، وهذا ما يمكن اعتباره محاكاة لعملية الانتقاء الطبيعي. يبرز بعد عملية الاختيار عامل التبادل الجيني «Crossover» الذي يشكّل عملية إعادة التركيب «Recombination»؛ إذ تُقارن الأفراد المُختارة معًا لإنتاج جيل جديد بواسطة عملية التبادل الجيني الذي يعمل على تبادل المعلومات الوراثية بين فردين -يكونان بمثابة أبوين وفقا لتعبير مجازي يُراد به محاكاة الواقع الطبيعي- يسهم في إنتاج فرد من جيل جديد، ووفقا للجانب الرياضي فإن هذه العملية تساعد في توسيع دائرة مجال البحث عبر دمج سمات من أفراد مختلفين استنادا إلى مبدأ تبادل المعلومات فيما بينهما واندماجها لتشكّل أفرادا جديدين يحملون صفات ذات صلاحية عالية من الممكن أن تفوق صالحية الجيل السابق من الأفراد، ولضمان اكتساب الجيل الجديد من هذه الأفراد الصلاحية الأفضل تُدخل عملية مهمة تُعرف بالطفرة «Mutation» التي تعتبر محاكاة أخرى للآلية الجينية الطبيعية، وهذه العملية -في نمطها الرياضي- تقوم بإحداث تغييرات عشوائية في المعلومات الوراثية للأفراد؛ لأجل الحفاظ على التنوع في المجموعة ومنع التقارب المبكّر الذي من الممكن أن يُفضي إلى ظهور جيل من الأفراد أقل صلاحية؛ فيساعد عامل الطفرة في إدخال مواد وراثية جديدة في المجموعة في كثير من حالاتها تؤول إلى تغييرات جيدة، وفي حالات أخرى -قليلة- إلى تغييرات سلبية، وهذا أيضا واقع ملحوظ في الطفرات الجينية الطبيعية ومساراتها غير المفهومة التي دعت بكثير من العلماء أن ينعتها بالعشوائية. والجدير بالذكر إلى أنني سبق أن أبديت رأيا في نمط ما يمكن أن نسميه بـ«عشوائية الطفرات» مفاده أن هذه العشوائية تُخفي في باطنها المجهول نظاما محكما لا يحتمل العلم -على الأقل في وقتنا- فهم أغواره المبهمة، وتفصيل هذا الرأي موجود في كتابي «بين العلم والإيمان». أعود إلى العملية التي تلي عامل الطفرات التي تُعرف بعملية الاستبدال«Replacement»؛ حيث تستبدل المجموعةُ ذو الأفراد الجديدة المجموعةَ ذات الأفراد القديمة، إما بشكل كامل أو بشكل جزئي بناءً على درجة الصلاحية؛ مما يسمح بوجود المجموعة ذات الأفراد الأكثر صلاحية وقدرة على التكيّف مع الظروف الموجودة، وهذا أيضا ما يعكس مبدأ الانتخاب الطبيعي عند الجينات. ينتهي عمل الخوارزمية بعملية التوقف «Termination» التي لا تحدث -غالبا- إلا بعد تكرار العمليات المذكورة سابقا لعدة مرات حتى إنجاز المهمة بإيجاد الحلول المطلوبة وتحقيق مبدأ التحسين «Optimization» المرغوب وحينها يتوقف عمل الخوارزمية.
انتقاء الأفضل
تعكس العمليات المذكورة آنفا الإجراءات التي تعمل عليها خوارزمية الجينات الرياضية التي يمكن أن تقوم بعدة مهام منها عملية انتقاء أفضل البيانات «المدخلات» من حيث صلاحيتها وتوافقها مع المخرجات المطلوبة؛ فمثلا مع وجود كم هائل من البيانات التي تحوي المفيد وغير المفيد؛ فيمكن لخوارزمية الجينات أن تتدخل لتقليص هذا الكم الهائل من البيانات وانتقاء النافع منها لتكون مدخلات صالحة لتدريب النموذج الذكي؛ مما يسهم في تحسين مخرجات النموذج الذكي، ويقلل من الوقت المستهلك الذي يقضيه النموذج في عملية التدرب وإن اعترفنا بوجود سلبية استهلاك عمليات خوارزمية الجينات للكثير من الوقت، وهذا ما يفسّر الاستغراق الزمني الطويل -نسبيا- في تجربتي الشخصية مع هذه الخوارزمية التي سقت قصتها في بداية المقال. تبقى مع ذلك خوارزميات الجينات مفيدة بشكل خاص لوظائف التحسين ذات المجال البحثي المعقّد؛ حيث من الممكن أن تواجه التقنيات التقليدية الخاصة بعمليات التحسين صعوبة بسبب وجود عدة تحديات رياضية؛ فيمكن حينها بواسطة الخوارزمية الجينية استعمال تقنيات مستوحاة من مبدأ التطور الطبيعي -وإن كنا لا نوافق على منطلقاته غير العلمية التي تتداخل بالأيديولوجية الفلسفية المادية الداعية إلى إنكار وجود الخالق، وإدخال العلم في معتركات دينية غير متوافقة-، وتظل مثل هذه الخوارزميات قادرة على استكشاف مجال البحث بكفاءة والتقدم نحو الحلول التحسينية التي يمكن أن تتعدى مجالات استعمالاتها الأنظمة الرقمية لتشمل مجالات مختلفة بما في ذلك الهندسة، والطب، وعلم الأحياء، وعلوم الحاسوب بحقولها الشمولية، ولتقديم حلول وتحسينات تتفوق على التي يمكن تقديمها بالطرق التقليدية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی ل الخوارزمیة التی یمکن التی ت الذی ی
إقرأ أيضاً:
الذكاء الاصطناعي يهدد شركات الأزياء
آخر تحديث: 21 نونبر 2024 - 11:01 صبغداد/ شبكة أخبار العراق- لجأت شركة الأزياء الإسبانية مانغو في حملتها الإعلانية الصيفية الموجهة للشباب، إلى عارضة أزياء رقمية اصطناعية في يوليو الماضي، فماذا كان رد فعل المشاهدين؟،أشار استطلاع للرأي أجراه معهد “أبينيو” لأبحاث السوق، إلى أن نحو 72 بالمئة من بين ألف مشارك في الاستطلاع، اعتقدوا أن العارضة والملابس في الصورة حقيقية.ويقول مايكل بيرغر المدير التنفيذي “لاستديو بيوند”، وهو مجموعة تصميم تعتمد إلى حد كبير على الذكاء الاصطناعي في إنتاج الصور: “نحن نستخدم الذكاء الاصطناعي لعملائنا كل يوم، دون أن يلحظوا ذلك”.وقد لا يكون ذلك مثيرا للدهشة حيث يتيح الذكاء الاصطناعي الكثير من المزايا للشركات، فلم تعد هناك حاجة إلى السفر إلى أماكن مختلفة من العالم لالتقاط الصور المطلوبة، لأن المسألة صارت سهلة وتحتاج فقط إلى إنشاء خلفية رقمية للصورة، الأمر الذي يوفر الوقت والمال كما يساعد على حماية البيئة. وبالنسبة للعملاء سيكون من الأوفر لهم، عدم دفع أموال مقابل استخدام عارضة أزياء من البشر.ومع ذلك فإنه لا تزال هناك في الوقت الحالي حاجة، لتصوير الملابس والإكسسوارات على جسم العارضة البشرية، حيث لا يستطيع الذكاء الاصطناعي تصويرها بشكل صحيح.وهذا يؤدي بشكل متزايد إلى استخدام ما يسمى بأجسام العارضات، حيث يتم تصوير الملابس على أجسامهن ثم استبدال رؤوسهن في وقت لاحق بشكل رقمي، ولا تزال هذه العملية مكلفة ماليا، ويقول بيرغر: “بمجرد أن يتمكن الذكاء الاصطناعي من تنفيذ هذه العملية رقميا ستصبح التكلفة أقل”. وفي كثير من الدول أصبح عالم الأزياء، يميل بشكل متزايد إلى استخدام الذكاء الاصطناعي، مثل مجموعة أوتو الألمانية، التي قالت إنها تلجأ لعارضات أنشئن عن طريق الذكاء الاصطناعي، للقيام بعروض منتجات الأزياء منذ ربيع عام 2024.وفيما إذا كانت هذه التطورات ستؤدي إلى الاستغناء عن العارضات والمصورين، يقول نوربرت هانسن رئيس مجلس إدارة رابطة وكالات عروض الأزياء المرخصة، هناك أوقات قاتمة تنتظر نشاط عروض الأزياء.ويوضح هانسن أن كثيرا من المتاجر الإلكترونية تقوم بتصوير عدد لا يحصى من الملابس كل يوم، مع التركيز على المنتج وليس على العارضة، ويقول “هذه الأفكار والعناصر يمكن أن يحل محلها الذكاء الاصطناعي بالكامل على المدى الطويل”.غير أن ماركو سينيرفو، وهو رئيس إحدى أكبر وكالات عروض الأزياء في ألمانيا، لا يتفق مع هذا الرأي، ويقول إن “الذكاء الاصطناعي خال من الجاذبية والسحر”.ويضيف أن استخدام الصور الرمزية المولدة بالذكاء الاصطناعي، يعد خطوة إلى الوراء أكثر من كونه ابتكارا، ويؤكد أنه “في عالم تشوبه السطحية وسريع الخطى بشكل متزايد، يحتاج الناس إلى صور واقعية بعيدة عن الخيال”، ويرى أن عارضات الأزياء التي يتم تصميمها إليكترونيا، توحي “بصورة للجمال بعيدة تماما عن الطابع الإنساني”.