تعتمد خوارزمية الجينات على مبدأ الانتخاب الطبيعي وتعرف بخوارزمية التطور

يمكن لخوارزمية الجينات تقليص البيانات وإنتقاء النافع منها لتدريب النماذج الذكية

استوقفني مشهدٌ -علق في ذاكرتي حتى اللحظة- أثناء عملي على أحد مفاصل رسالتي في الدكتوراة في المملكة المتحدة -قبل عدة سنوات- الذي يتعلق بتطبيق خوارزمية الجينات في نموذج من نماذج الذكاء الاصطناعي؛ إذ كنت أحدّثُ مشرفي على الدكتوراة عن استمرار عمل خوارزمية الجينات -في جهاز الحاسوب- في مهمة البحث عن الحلول المطلوبة للنموذج الذكي الذي أعمل عليه رغم مرور ما يقرب من 24 ساعة؛ فقال لي ضاحكا: احتاجت الحياة ومكنوناتها -وفقا لقانون التطور- ملايين السنين لتشق مسارها وتتشكّل وفقا لمشهد الحياة الحالي؛ فلا تكترث بطول هذه الساعات التي تتطلبها عملية حاسوبية تقوم بها خوارزمية الجينات! يعكس هذا المشهد معنى من المعاني التي ترتبط بخوارزمية الجينات ومآلاتها الطبيعية -في الواقع الطبيعي- والرياضية -في الواقع الرقمي- التي ستكون حديث هذا المقال.

غدت الخوارزمية حديث الإعلام ووسائله بما في ذلك مقالاتي التي أنشرها إلا أن لمفهوم الخوارزمية أبعادا تتجاوز قطبيّة الذكاء الاصطناعي الذي اقترن -كثيرا- بمصطلح الخوارزمية، وهنا ينبغي أن نتوسع في تأويل مفهوم الخوارزمية واستعمالاتها في الجانب الرقمي؛ إذ تُعنَى بالخوارزمية المنطلقات الرياضية المبنية على المبدأ المنطقي التي تأخذ مسارها المتسلسل حتى بلوغ الهدف المنشود؛ فهي منهجية رياضية عامّة تتباين مفاصلها الرياضية بتباين مواقع استعمالاتها، واستعمالاتها واسعة ومتعددة منها ما يدخل في بناء أنظمة الذكاء الاصطناعي وتشغيلها؛ فتشكّل الخوارزمية في هذه الأنظمة الذكية الدماغ الرقمي الذي يقود الآلة ويجعل منها كائنا رقميًا مفكرًا، وثمّة أنواع للخوارزميات التي تدخل في بناء نموذج الذكاء الاصطناعي أهمها الدماغ الرقمي الذي يتعدد أيضا في أنواعه إلا أنه يشترك في مبدأ عمله المتعلق بالبناء الرياضي الذي يصل المدخلات بعضها بعضا، ويمهّد عملية التدريب وبلوغ المخرجات المطلوبة، وأحد أنواع الخوارزميات ما يتعلق بالبيانات -بشكل مباشر-؛ حيث تتطلب بعض البيانات -حسب نوعها وأحجامها- خوارزمية تعمل على عملية الانتقاء المناسب للبيانات، وأهم أنواع هذه الخوارزميات المعنية بمثل هذه المهام ما يُعرف ب«خوارزمية الجينات» «Genetic Algorithm» التي يمكن -في حالات كثيرة ومجرّبة- أن تتداخل مع خوارزميات الذكاء الاصطناعي الرئيسة وتشاركها مهامها الأساسية.

لكن ثمّة تساؤلا يتبادر في أذهان البعض عن علاقة الجينات بالخوارزمية الرياضية بينما تكون الجينات متعلقة بالجانب الأحيائي المعني بالصفات الوراثية للكائن الحي وفهم معلوماته الجينية في الماضي والحاضر والمستقبل -عبر ما يُعرف بهندسة الجينات التي تمنح الفرصة في تحديد الكثير من الأمراض المحتمل حدوثها في المستقبل نتيجة للتحليل الجيني الدقيق-، وهذا النوع الذي يُطلق عليه خوارزمية الجينات له آلية تماثل آلية عمل الجينات في النظام الأحيائي إلا أن هذه الآلية تعمل وفق المنهج الرياضي المحض الذي يحاكي النظام الأحيائي. لتقريب فكرة هذه العلاقة؛ سنشرح آلية عمل الخوارزمية الجينية، وبعدها نحدد بعض استعمالاتها خصوصا تلك التي تتعلق بنماذج الذكاء الاصطناعي.

الخوارزمية التطورية

تعتبر خوارزمية الجينات نوعا من أنواع الخوارزميات الرياضية المستوحاة من مبادئ الانتخاب الطبيعي -المُوجّه وغير العشوائي-، ولهذا يرتبط اسمها -أحيانا- بما يُعرف ب»الخوارزمية التطورية» نسبة إلى نظرية التطور التي تعتمد مبدأ الانتخاب الطبيعي وما يتفرّع منه من آليات كما سنفصّلها في الفقرات القادمة. يبرز استعمال هذه الخوارزمية في الذكاء الاصطناعي -وفروعها الرئيسة مثل تعلم الآلة- في أحد أهم العمليات الرياضية، وهي التحسين «Optimization»،وللبحث الواسع عن الحلول والخيارات الأفضل عبر آلية بحث تتشابه مع آلية الانتقاء الطبيعي الذي يعمل في النظام الجيني للأحياء التي تبدأ بعملية تُعرف بالتهيئة «Initialization»؛ حيث تُنشأ مجموعة من الحلول المحتملة الأولية -عادة ما يُشار إليها بالأفراد أو الكروموسومات- عشوائيًا لتمثيل الحلول المحتملة لعملية التحسين التي تكون نقطة الانطلاقة الأولى لعملية التحسين المطلوبة عبر آليات التبادل الجيني وحدوث الطفرات -بطرق رياضية تضارع الطرق الطبيعية-؛ فتأتي بعدها عملية التقييم «Evaluation»؛ إذ يخضع كل فرد في المجموعة للتقييم بواسطة تحديد كفاءته التي تعكس مدى قدرته على حل المشكلة؛ فتتدخل دالة الصلاحية «Fitness Function» التي تعمل على قياس قدرة كل فرد من المجموعة في إنجاز المخرجات المطلوبة؛ مما يسمح للعملية الثالثة التي تُعرف بالاختيار «Selection» بمباشرة عملها في اختيار أفضل الأفراد بناء على مبدأ الصلاحية الذي يعكس قدرة كل فرد في مقاومة تحديات البقاء والتكاثر عبر إنتاج أفراد آخرين يحملون صفات كفاءة أعلى، وهذا ما يمكن اعتباره محاكاة لعملية الانتقاء الطبيعي. يبرز بعد عملية الاختيار عامل التبادل الجيني «Crossover» الذي يشكّل عملية إعادة التركيب «Recombination»؛ إذ تُقارن الأفراد المُختارة معًا لإنتاج جيل جديد بواسطة عملية التبادل الجيني الذي يعمل على تبادل المعلومات الوراثية بين فردين -يكونان بمثابة أبوين وفقا لتعبير مجازي يُراد به محاكاة الواقع الطبيعي- يسهم في إنتاج فرد من جيل جديد، ووفقا للجانب الرياضي فإن هذه العملية تساعد في توسيع دائرة مجال البحث عبر دمج سمات من أفراد مختلفين استنادا إلى مبدأ تبادل المعلومات فيما بينهما واندماجها لتشكّل أفرادا جديدين يحملون صفات ذات صلاحية عالية من الممكن أن تفوق صالحية الجيل السابق من الأفراد، ولضمان اكتساب الجيل الجديد من هذه الأفراد الصلاحية الأفضل تُدخل عملية مهمة تُعرف بالطفرة «Mutation» التي تعتبر محاكاة أخرى للآلية الجينية الطبيعية، وهذه العملية -في نمطها الرياضي- تقوم بإحداث تغييرات عشوائية في المعلومات الوراثية للأفراد؛ لأجل الحفاظ على التنوع في المجموعة ومنع التقارب المبكّر الذي من الممكن أن يُفضي إلى ظهور جيل من الأفراد أقل صلاحية؛ فيساعد عامل الطفرة في إدخال مواد وراثية جديدة في المجموعة في كثير من حالاتها تؤول إلى تغييرات جيدة، وفي حالات أخرى -قليلة- إلى تغييرات سلبية، وهذا أيضا واقع ملحوظ في الطفرات الجينية الطبيعية ومساراتها غير المفهومة التي دعت بكثير من العلماء أن ينعتها بالعشوائية. والجدير بالذكر إلى أنني سبق أن أبديت رأيا في نمط ما يمكن أن نسميه بـ«عشوائية الطفرات» مفاده أن هذه العشوائية تُخفي في باطنها المجهول نظاما محكما لا يحتمل العلم -على الأقل في وقتنا- فهم أغواره المبهمة، وتفصيل هذا الرأي موجود في كتابي «بين العلم والإيمان». أعود إلى العملية التي تلي عامل الطفرات التي تُعرف بعملية الاستبدال«Replacement»؛ حيث تستبدل المجموعةُ ذو الأفراد الجديدة المجموعةَ ذات الأفراد القديمة، إما بشكل كامل أو بشكل جزئي بناءً على درجة الصلاحية؛ مما يسمح بوجود المجموعة ذات الأفراد الأكثر صلاحية وقدرة على التكيّف مع الظروف الموجودة، وهذا أيضا ما يعكس مبدأ الانتخاب الطبيعي عند الجينات. ينتهي عمل الخوارزمية بعملية التوقف «Termination» التي لا تحدث -غالبا- إلا بعد تكرار العمليات المذكورة سابقا لعدة مرات حتى إنجاز المهمة بإيجاد الحلول المطلوبة وتحقيق مبدأ التحسين «Optimization» المرغوب وحينها يتوقف عمل الخوارزمية.

انتقاء الأفضل

تعكس العمليات المذكورة آنفا الإجراءات التي تعمل عليها خوارزمية الجينات الرياضية التي يمكن أن تقوم بعدة مهام منها عملية انتقاء أفضل البيانات «المدخلات» من حيث صلاحيتها وتوافقها مع المخرجات المطلوبة؛ فمثلا مع وجود كم هائل من البيانات التي تحوي المفيد وغير المفيد؛ فيمكن لخوارزمية الجينات أن تتدخل لتقليص هذا الكم الهائل من البيانات وانتقاء النافع منها لتكون مدخلات صالحة لتدريب النموذج الذكي؛ مما يسهم في تحسين مخرجات النموذج الذكي، ويقلل من الوقت المستهلك الذي يقضيه النموذج في عملية التدرب وإن اعترفنا بوجود سلبية استهلاك عمليات خوارزمية الجينات للكثير من الوقت، وهذا ما يفسّر الاستغراق الزمني الطويل -نسبيا- في تجربتي الشخصية مع هذه الخوارزمية التي سقت قصتها في بداية المقال. تبقى مع ذلك خوارزميات الجينات مفيدة بشكل خاص لوظائف التحسين ذات المجال البحثي المعقّد؛ حيث من الممكن أن تواجه التقنيات التقليدية الخاصة بعمليات التحسين صعوبة بسبب وجود عدة تحديات رياضية؛ فيمكن حينها بواسطة الخوارزمية الجينية استعمال تقنيات مستوحاة من مبدأ التطور الطبيعي -وإن كنا لا نوافق على منطلقاته غير العلمية التي تتداخل بالأيديولوجية الفلسفية المادية الداعية إلى إنكار وجود الخالق، وإدخال العلم في معتركات دينية غير متوافقة-، وتظل مثل هذه الخوارزميات قادرة على استكشاف مجال البحث بكفاءة والتقدم نحو الحلول التحسينية التي يمكن أن تتعدى مجالات استعمالاتها الأنظمة الرقمية لتشمل مجالات مختلفة بما في ذلك الهندسة، والطب، وعلم الأحياء، وعلوم الحاسوب بحقولها الشمولية، ولتقديم حلول وتحسينات تتفوق على التي يمكن تقديمها بالطرق التقليدية.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی ل الخوارزمیة التی یمکن التی ت الذی ی

إقرأ أيضاً:

Spotify تتحرك لضبط فوضى الذكاء الاصطناعي في الموسيقى

 أعلنت شركة Spotify عن مجموعة من المبادئ الجديدة وشراكات استراتيجية مع أكبر شركات الإنتاج الموسيقي في العالم، في محاولة لاحتواء الانتشار المتسارع للأغاني المنتجة بواسطة الذكاء الاصطناعي دون إذن أو تعويض لأصحاب الحقوق الأصليين.

المنصة السويدية، التي تُعد الأكبر عالميًا في بث الموسيقى عبر الإنترنت، نشرت تدوينة رسمية كشفت فيها عن توجه جديد يقوم على الذكاء الاصطناعي المسؤول في الموسيقى، ورغم أن التدوينة لم تتضمن تفاصيل دقيقة حول آلية التنفيذ أو المواعيد، إلا أنها أكدت أن الشراكة مع الشركات الثلاث الكبرى — سوني ميوزك، ويونيفرسال ميوزك، ووارنر ميوزك — ستشكل حجر الأساس في بناء أدوات ذكية تُمكّن الفنانين والمؤلفين الموسيقيين من استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل منظم يحفظ حقوقهم ويعزز تواصلهم مع الجمهور.

وتأتي هذه الخطوة بعد إعلان Spotify الشهر الماضي عن نيتها تنظيف المنصة من الفوضى الرقمية التي خلّفتها الأغاني المنتجة بالذكاء الاصطناعي بشكل غير قانوني، وتقول الشركة إن الهدف من خطتها الجديدة هو الدفاع عن مستقبل الموسيقى في مواجهة المحتوى المولد آليًا الذي ينتشر بسرعة ويهدد مكانة الفنانين الحقيقيين.

وجاء في التدوينة: "إذا لم تتحرك صناعة الموسيقى الآن، فإن الابتكار القائم على الذكاء الاصطناعي سيحدث في أماكن أخرى، دون احترام الحقوق أو الحصول على موافقات أو تقديم أي تعويض للمبدعين".

وتعترف Spotify بأن كثيرًا من الفنانين يرون أن أدوات الذكاء الاصطناعي الحالية لا تخدمهم، بل تهدد وجودهم، إذ تميل هذه التقنيات إلى استبدال الإبداع البشري بنماذج رقمية تولّد موسيقى مشابهة لأعمالهم دون مقابل أو إذن مسبق، ومن هذا المنطلق، وعدت الشركة بأن تكون جميع مشاريعها المستقبلية مع الشركاء قائمة على اتفاقيات مسبقة وواضحة، وليس على سياسة الاعتذار بعد التنفيذ.

ولتحقيق ذلك، وضعت Spotify أربعة مبادئ رئيسية ستوجّه رؤيتها الجديدة للذكاء الاصطناعي في الموسيقى. أول هذه المبادئ هو التعاون المباشر مع شركات الإنتاج والموزعين والناشرين، لتوحيد الجهود في ضبط استخدام الذكاء الاصطناعي وحماية حقوق الفنانين. 

أما المبدأ الثاني فهو تعزيز حرية المشاركة، بحيث يُتاح للفنانين استخدام الذكاء الاصطناعي كأداة إبداعية دون الإضرار بزملائهم أو المساس بحقوق الملكية الفكرية.

أما المبدأ الثالث فيركّز على ضمان التعويض العادل لجميع الأطراف المشاركة في العملية الفنية، بما في ذلك الموسيقيون والملحنون والموزعون، بينما يهدف المبدأ الرابع إلى تعزيز التواصل بين الفنانين والمعجبين باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، من خلال أدوات تسمح للمستمعين باكتشاف الموسيقى الحقيقية والتفاعل مع المبدعين بشكل أعمق.

ورغم هذه الخطط، تواجه Spotify تحديًا كبيرًا في الموازنة بين محاربة المحتوى غير المصرح به وبين استخدامها الشخصي لتقنيات الذكاء الاصطناعي، فالمنصة أطلقت خلال الأشهر الماضية عددًا من الأدوات الذكية الخاصة بها، من بينها منسق الموسيقى بالذكاء الاصطناعي الذي يُنشئ قوائم تشغيل مخصصة يوميًا، بالإضافة إلى ميزات تساعد المستخدمين على اكتشاف فنانين جدد بناءً على ذوقهم الموسيقي.

ومع ذلك، تؤكد الشركة أن أدواتها تختلف جذريًا عن تلك التي تستخدم الذكاء الاصطناعي لتقليد أو نسخ موسيقى الفنانين الحقيقيين، مشددة على أن هدفها هو مساعدة المستمعين على اكتشاف الموسيقى الحقيقية، وليس استبدالها.

وفي ختام بيانها، أكدت سبوتيفاي أن رؤيتها تقوم على بناء مستقبل موسيقي قائم على الابتكار المسؤول، قائلة: "نحن نؤمن بأن مستقبل الإبداع الموسيقي يجب أن يُبنى بالتعاون بين الإنسان والآلة، لا أن يُستبدل أحدهما بالآخر. ندعو أفضل العقول في مجال الذكاء الاصطناعي للمشاركة في تشكيل هذا المستقبل بشكل أخلاقي ومستدام".

وبهذه المبادرة، تحاول Spotify أن تضع نفسها في موقع القيادة ضمن معركة متنامية داخل صناعة الموسيقى العالمية، حيث يتزايد الجدل حول حقوق الملكية الفكرية، وقيمة الفن الإنساني في زمن تصنع فيه الخوارزميات الألحان، وتُعيد رسم خريطة الإبداع الرقمي.

مقالات مشابهة

  • الذكاء الاصطناعي يعلن الحرب على السرطان
  • ختام مؤتمر جامعة القاهرة الدولي الأول عن الذكاء الاصطناعي (صور)
  • Spotify تتحرك لضبط فوضى الذكاء الاصطناعي في الموسيقى
  • الذكاء الصناعي التوليدي: هل أغنى عملية البحث عن المعلومات أم قوّضها؟!
  • الذكاء الاصطناعي يكتشف السرطان في عينات دم خلال دقائق
  • المرأة في عصر الذكاء الاصطناعي
  • وزير العمل: الذكاء الاصطناعي يعيد تشكيل مستقبل الوظائف
  • حكم استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لمراقبة الموظفين.. الإفتاء تجيب
  • OxygenOS 16 يصل مع OnePlus 15 .. تحول كامل نحو الذكاء الاصطناعي
  • هل أصبح الذكاء الاصطناعي هو صانع الرأي العام الجديد؟