هل تغير معضلة الإدراك توجه علوم الطبيعة؟
تاريخ النشر: 20th, March 2024 GMT
هل الإدراك هو نتيجة للإشارات الكهروكيميائية التي يصدرها الدماغ أم أن هناك بعداً آخر ما زال مجهولا؟ وهل الإدراك مقتصر على الإنسان أم أن الكائنات الأخرى تعد أيضا كائنات مدركة؟ للإجابة على هذه التساؤلات وغيرها، وجه بعض العلماء وفلاسفة العلوم فكرهم نحو المنهج المستخدم في دراسة الإدراك، وأن المشكلة ربما تكمن فيه، وإذا كان الأمر كذلك، فإن المجتمع العلمي لن يصل إلى هدفه المنشود وهو فهم عملية الإدراك والتعرف عن كثب على طبيعته، والسبب الذي جعلهم يراجعون المنهج العلمي المرتبط بفهم مسألة الإدراك، هو أن طبيعة الإدراك ما زالت مجهولة، على الرغم من البحوث الكثيرة والجهد الكبير الذي بذله علماء الطبيعة في محاولاتهم لفهم عملية الإدراك، إذ يعد الإدراك من أكثر الظواهر التي شغلت علوم الطبيعة ومنذ عقود من الزمن.
إن من أهم الأمور التي تمكن المجتمعات البشرية عموما من إيجاد حلول للتحديات التي تواجهها هو التفكير خارج الصندوق، ومحاولة إيجاد حلول غير اعتيادية، وعندما تكون التحديات كبيرة جدا، فإن التفكير قد يتجه إلى المنهج وإلى القواعد الأساسية التي تؤمن بها تلك المجتمعات، فلعل المشكلة تكمن فيها.
فالتطور الكبير الذي شهدته علوم الطبيعة في القرون الأخيرة لم يكن ممكنا لولا ما يعرف بالنظرة الاختزالية لعلوم الطبيعة، وهذه النظرة قائمة على فكرة مفادها أن الإنسان مكوَنٌ من مجموعة من الأجهزة البيولوجية، كالجهاز العصبي والجهاز الدوري وغيرها من الأجهزة، وهذه الأجهزة مكونة من أعضاء والأعضاء مكونة من أنسجة وهي بدورها مكونة من الخلايا، التي تتكون هي الأخرى من مركبات كيميائية، وهكذا يمكننا أن نستمر حتى نصل إلى الجسيمات الأولية، وهذه الجسيمات هي نفس الجسيمات المكونة لكل ما في هذا العالم المادي الذي نحسه بحواسنا، ويرى هؤلاء أن فهم الإدراك إنما يتم عندما نفهم سلوك المادة بأبسط صورها، بل إن الإدراك عند الإنسان بناء على هذه النظرة الاختزالية ما هو إلا دفقات كهروكيميائية، ولا شيء آخر، فلو استطعنا أن نفهم عمل الجسيمات الأولية، فإننا سنستطيع أن نتعرف على طبيعة الإدراك.
آراء متعددة
إلا أن عددا من المختصين في علم الأحياء وعددا من فلاسفة العلوم يشككون في إمكانية الوصول عبر النظرة الاختزالية إلى فهم عملية الإدراك، ومن هنا فإن بعض هؤلاء يتبنون طرحا مغايرا تماما مفاده أن الكائنات الحية بل وحتى النظم البيولوجية لا يمكن اختزالها إلى مكوناتها الأساسية، لأن سلوك النظام البيولوجي ينتج مواصفات مختلفة عن سلوك مكوناته، فهناك مواصفات تظهر في النظم الحيوية لا توجد في أجزاء تلك النظم، وأطلق على هذه النظرة بالنظرة التكاملية، فالإدراك مثلا وبناء على النظرة التكاملية هو نتاج مجموع عمل الخلايا ولا يوجد في كل خلية منفصلة، ولذا فكل محاولة لفهم الإدراك من خلال تفكيك الدماغ إلى أجزائه الأولية لن تجدي نفعا، فالإدراك لا يوجد في خلية معينة بل هو نتاج النظام برمته، وقد نتج من هذا التوجه تخصص جديد يعرف بالنظم البيولوجية وهو تخصص يدرس النظم البيولوجية وسلوكها الذي ينتج في النظام نفسه، وكيف تتفاعل هذه النظم مع بعضها البعض، لا ينظر إلى الأجزاء المكونة للنظام.
بل إن هناك من علماء الطبيعة من يرى أن الكون كله يخضع لهذه النظرة التكاملية، فالطبيعة تميل إلى تكوين نظم طبيعية لها مواصفات لا توجد في الأجزاء المكونة لها من خلال تطور إبداعي يخضع له الكون كله، والفارق بين الفيزياء والأحياء في كبر وصغر النظام، فالفيزياء والكيمياء تدرس النظم الصغيرة، بينما تدرس الأحياء النظم الكبيرة، وعلوم الطبيعة بأشكالها المختلفة قائمة على هذه النظرة التكاملية، فالذرة تتكون من أجزاء صغيرة، ولكن سلوك الذرة لا يعادل الجمع الجبري لسلوك أجزائها على حدة، وهكذا الكون، فهو يتكون من وحدات مختلفة ولكن سلوك الكون ككل أكبر بكثير من سلوك المجموع الجبري للأجزاء المكونة له على حدة، وهكذا فهناك مواصفات في الذرة بل وحتى في الكون لا يمكن أن نجدها ونفهمها من خلال التعرف على مكونات الذرة أو الكون، لأن السلوك الناتج من المجموع لا يعادل الجمع الجبري لسلوك المكونات لهذه النظم.
ولتوضيح الفكرة بصورة أفضل، فلو أن أحدنا قام بتفكيك الحاسوب إلى أجزائه الرئيسة، ومن ثم إلى مكونات تلك الأجزاء، وتعرف على العناصر الكيميائية المكونة لأجزاء الحاسوب، فوجد أن الحاسوب يتكون من ذرات من عدد من المعادن كالنحاس والحديد والسيلكون كما وجد أن هناك ذرات لعنصر الكربون والهيدروجين وغيرها من العناصر الكيميائية، فهل يمكنه من خلال فهم سلوك هذه العناصر الذرية أن يفهم طريقة عمل الحاسوب؟ وهل يمكنه التعرف على إمكاناته والعمليات البرمجية التي يقوم بها؟!
إن ذلك يبدو غير ممكن، لأن المسألة لا تقتصر على المكونات التي يتكون منها جهاز الحاسوب بل أيضا يعتمد على ترتيب وتنظيم ذرات العناصر الكيميائية وشبكة العلاقات بينها، ومن هنا فلا يمكن الكشف عن إمكانات الحاسوب من خلال التعرف على سلوك ذرات العناصر الكيميائية المكونة له فحسب، بل لا بد لنا من أن نتعرف على تنظيم تلك الذرات وشبكة العلاقات بينها، وهذا يعني أن ننظر إلى الحاسوب كنظام متكامل ولا نكتفي في النظر إلى أجزائه المكونة له.
إلا أن التوجه الاختزالي ما زال هو المهيمن على تفكير المجتمع العلمي وعلوم الطبيعة عموما، والسبب في ذلك أن الكثير من علماء الطبيعة يرى أن النظرة التكاملية إنما هو هروب من مواجهة الصعوبات التي تواجهنا في مسألة فهم الإدراك، فماذا يعني أن النظام ينتج مواصفات لا توجد في الأجزاء المكونة له، ألا يعني ذلك عدم قدرتنا على فهم آلية عمل النظام، بل إن أصحاب النظرة الاختزالية يرون بأن المقصود من «الفهم» في علوم الطبيعة هو التعرف على أجزاء النظام الذي تدرسه وكيف تعمل تلك الأجزاء معا وبذلك يمكننا معرفة كيف يعمل النظام ككل، ولذا فإن الفهم في علوم الطبيعة عند هؤلاء مساوق لهذه الرؤية الاختزالية، فلا يمكن الفصل بينهما.
ومقابل هذه الرؤية فإن أصحاب النظرة التكاملية يرون أن علوم الطبيعة إنما تهتم بالكشف عن العلاقات بين المتغيرات المختلفة ولا تملك القدرة على فهم الطبيعة بعمق أكثر من ذلك، فمثلا عندما نقوم بتسخين الماء عند الضغط الجوي، فإنه يتبخر عند درجة حرارة تبلغ ١٠٠ درجة مئوية، وهكذا علمنا العلاقة بين تسخين الماء وسلوك جزيئاته، ولكننا نجهل لماذا يسير الكون وتسيير العلاقة بين جزيئات الماء وعملية التسخين بهذه الصورة، ولماذا لم توجد هذه العلاقة بصورة مغايرة، فنحن لا نكشف عن السببية بين عملية التسخين وسلوك جزيئات الماء بل نكشف عن علاقة تلازم بينهما، فكلما قمنا بتسخين جزيئات الماء عند ١٠٠ درجة مئوية وضغط جوي فإن الماء سيتبخر، ومع تكرار التجربة مرات عديدة نفترض أن هذا التلازم بين الحرارة وبين تبخر جزيئات الماء هو نتيجة للسببية، ومن هنا فإن وظيفتنا في علوم الطبيعة تقتصر على الكشف عن علاقات التلازم في الطبيعة.
وينتصر الماديون للنظرة الاختزالية بقوة، بينما يرى عددٌ من علماء الطبيعة بأن الكون لا يمكن أن يختزل بأبعاد مادية فحسب، فنحن ندرك في قرارة أنفسنا بأننا نختلف عن الأجهزة الكهربائية التي نتعامل معها، بل وحتى الطفل يفرّق بين الدمية وبين طفل آخر يلعب معه، ويفرّق بين لعبة على هيئة قطة وبين القطة الحقيقية، ولذا فعددٌ من أصحاب النظرة التكاملية يرون أن البعد اللامادي هو جزء لا يتجزأ من هذا الكون، ونجد هذا البعد اللامادي يبرز وبوضوح في شبكة العلاقات التي توجد في النظم الفيزيائية والكيميائية المختلفة وفي النظم البيولوجية، ويختفي هذا البعد اللامادي عندما يتم تفكيك شبكة العلاقات التي توجد بين أجزاء النظام، ويتوقف النظام البيولوجي والكيميائي والفيزيائي عن نشاطه، فسّرُ عمل هذه النظم لا يقتصر على مكوناتها الكيميائية بل يعتمد على بعد خفي غير مادي ينشأ من شبكة العلاقات التي تنتج من خلال جمع مكونات النظام!
وهذا هو الحال مع عملية الإدراك، فهو نتاج بعد لا مادي نتج عن شبكة العلاقات بين أجزاء النظام البيولوجي، ومن هنا فإن البحث عن الإدراك من خلال تفكيك النظام البيولوجي، لن يوصلنا إلى الإدراك، فالإدراك لا يتولد من الأجزاء المكونة للنظام البيولوجي فحسب بل يتولد أيضا من شبكة العلاقات الموجودة بين أجزاء النظام البيولوجي، فهو ينتج من النظام نفسه وليس من الأجزاء المكونة للنظام كل على حدة.
ويتفق أصحاب النظرة الاختزالية وأصحاب النظرة التكاملية على عدد من الأمور، منها أن علوم الطبيعة عادة تدرس الظاهرة بشكل مستقل عن الراصد للظاهرة، لكن المسألة مختلفة تماما عندما نرغب في دراسة الإدراك، فالإدراك لا يمكن دراسته بشكل منفصل عن الراصد بل الراصد للإدراك هو المُدرِكُ أيضا، وهذا تحد كبير يجعل مسألة الإدراك مختلفة تماما عن الظواهر الطبيعية الأخرى (٤)، كما أنهم يتفقون على أن الكائنات الحية تختلف في درجة التعقيد عن الأنظمة الفيزيائية غير الحية وليس في طبيعتهما الكيميائية المكونة لهما، وكلا النظرتين تثقان بعلوم الطبيعة بشكل كبير، وأن هذه العلوم يمكنها أن تصل إلى مرحلة من التطور العلمي بحيث يمكنها أن تصنع خلية حية، من مواد أولية لا حياة فيها.
وقد يبدو أن الإيمان بإمكانية تصنيع خلية حية من مادة لا حياة فيها، أمر يمكن استيعابه بناء على النظرة الاختزالية، ولكن كيف لنا القيام بذلك بناء على النظرة التكاملية؟
والجواب أن النظرة التكاملية ترى أن علينا أن نكشف عن مكونات الكائن الحي كما يجب علينا أن نكشف عن شبكة العلاقات بين أجزاء الخلية الحية، فإذا كشفنا عن المكونات وعن العلاقات بين أجزاء الخلية، فإننا لو قمنا بترتيب هذه الأجزاء بطريقة صحيحة وبناء على ما توصلنا إليه من علاقة بين الأجزاء المختلفة، فستنتج خلية حية، فالحياة هي منتج طبيعي ينتج من مجموع مكونات الخلية الحية وشبكة العلاقات المكونة لهذه الأجزاء.
ومازال النقاش قائما بين أصحاب النظرتين الاختزالية والتكاملية، وستكشف لنا الأعوام القادمة مدى نجاح النظرة التكاملية، وهل ستنجح في تحقيق تقدم في فهمنا لعملية الإدراك؟
إن التحديات الكبيرة التي تواجه المجتمعات عموما، ربما لا يمكن حلها إلا من خلال مراجعة البنى الأساسية لمنظومة الأفكار والرؤى التي تؤمن بها تلك المجتمعات، ولذا ولكي تنجح تلك المجتمعات في تحقيق أهدافها لابد لها أن تملك الشجاعة لطرح تلك الأفكار والرؤى على طاولة البحث ومبضع النقد، فلعل الحل يكمن في تصحيحها.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: علوم الطبیعة جزیئات الماء التعرف على هذه النظرة بین أجزاء لا یمکن على هذه توجد فی من خلال نکشف عن ومن هنا
إقرأ أيضاً:
أستاذ علوم سياسية: مصر أبرزت رفضها الواضح لتصفية القضية الفلسطينية في قمة الرياض
قال الدكتور إكرام بدر الدين، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، إن لقاءات الرئيس السيسي على هامش القمة العربية الإسلامية شهدت توافقا على رفض تصفية القضية الفلسطينية، مشيرًا إلى أن هناك تكتل كبير من الدول العربية الإسلامية يتمثل أهميتها من حيث التوقيت والأعداد المشاركة بها من الدول.
وأضاف «بدر الدين» خلال مداخلة هاتفية عبر قناة «إكسترا نيوز»، أنه في إطار القمة العربية الإسلامية كان هناك لقاءات ثنائية تأتي على هامش القمة، موضحًا أن الرئيس عبد الفتاح السيسي التقى بالملك الأردني عبد الله الثاني بن الحسين.
اللقاء المصري الأردني كان يبحث عدد من المباحثات الهامة والنقاطولفت إلى لقاء الرئيس السيسي مع رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي كان يبحث نقاط مهمة، وهو أيضا نوع من التأكيد على وجهة النظر المصرية الأردنية من حيث رفض التهجير القسري للفلسطينيين، ورفض إنهاء وتصفية القضية الفلسطينية.
مصر والأردن يرفضان إحداث أي تغيير في الإقليموأشار إلى أن إحداث أي تغيرات في الإقليم كانت مرفوضة بين مصر والأردن، إلى جانب أنه تم التوافق على ضرورة وأهمية اتخاذ موقف حاسم لإنهاء الحرب في المنطقة، وإطلاق مبادرة سياسية تؤدي إلى تنفيذ حل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية.