عشنا الحرب وغاب المعنى (2-2)
تاريخ النشر: 20th, March 2024 GMT
تواترت الدعوات لإشراك الطبقة السياسة المدنية في مفاوضات إنهاء الحرب القائمة في السودان والترتيبات لما بعدها. وربما طرأ السؤال هنا، إن كان ثمة جدوى من هذا الإشراك لهذه الطبقة التي اعتزلت الحرب نفسها بتحويلها إلى فتنة مأثورة بين يمينها ويسارها. فلم تعد الحرب في خطابهما هي الحرب المشاهدة بين القوات المسلحة وقوات “الدعم السريع” بل هي حربهما “البسوسية” من عهد الطلب في الجامعات والمدارس بطريق آخر.
فأكبر وجوه استدبار “تقدم” لفقه الحرب فهو في محاسبتها أطراف الحرب على انتهاكاتهم. فإذا كانت قد سوغت لـ”الدعم السريع” خوض الحرب دفاعاً عن نفسه، كما رأينا، إلا أنها تعثرت كثيراً في أخذه بالشدة على انتهاكاته بحق المدنيين، إن لم تجزها عليه. فضربت بالحائط مبدأ التمييز في الحرب الذي يقصر الاستهداف في الحرب على العسكريين. وهو المبدأ الذي يقضي على المحارب التأكد من أن الهدف الذي اختاره عسكري لا مدنياً والامتناع عن ضرب الأخير بالكلية إلا بضوابط غاية في التعقيد.
ولم يكن بوسع حرب “الدعم السريع” إلا أن تكون حرباً ضد المدنيين بقدر ما هي حرب ضد العسكريين طالما استهدفت سياسياً، بل وجهوياً أو عرقياً، جماعات مدنية بعينها مثل الجماعات السودانية الشمالية النيلية من وراء دولة 56، أي تلك التي استأثرت بخيرات دولة الاستقلال دونهم في الهامش. وكانت أكبر مظاهر خروق “الدعم السريع” هي احتلال أحياء صفوتهم وغير صفوتهم، ونهب أموالهم وسياراتهم، وإكراههم على إخلائها بالعنف المباشر أو ترويعاً. ولم تجد الأقلام المنسوبة لـ “تقدم” في هذه الانتهاكات مخالفة لقانون التمييز في فقه الحرب، أي التمييز بين الهدف العسكري والمدني.
فبدا من هؤلاء الكتاب أنهم عدوا نهب هذه الدور، واصطلح الناس على تسميته بـ “الشفشفة”، غنيمة حرب لا غبار عليها. فيكتب أحدهم أن “الدعم” احتلها بالقوة ومن أراد نزعها فليطالعهم من ورائها وفيها، لأن ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة. وهذا طعن في الجيش المتهم عندهم بتخليه عن واجبه في حماية الأرض والعرض. ويجد آخر مبرراً لاحتلال “الدعم السريع” للبيوت على بينة أنهم لاذوا بها ليحموا أنفسهم من حمم طائرات الجيش. ومتى كف الجيش عن قصفهم، في قوله، غادروا هذه البيوت غانمين سالمين. ويرى ثالث أن إلحاح الجيش على خروج “الدعم السريع” من الدور والمقار، مجرد “ذريعة كيزانية” لإطالة أمد الحرب عساهم ينتصروا فيها ويعودوا إلى سيرتهم الأولى في الحكم. وهكذا استباح هؤلاء الكتّاب من “تقدم” المدنيين لـ”الدعم السريع”، وكأنه لم ينشأ بعد القانون الذي يحظر المساس بهم في الحرب. بل تجد من يصف قتال “الدعم السريع” بـ “الشرف” قياساً بقتال الجيش النذل. أو آخر يقول إنهم “أولاد قبائل” كان “نظام الإنقاذ” أفسدهم. وقد يوحي هذا بأنهم استردوا الآن معدنهم النبيل وهم يقاتلون من أفسدهم في عقر داره.
ووجد كتاب آخرون من “تقدم” أخيراً، سبيلاً آخر للنجاة بـ”الدعم السريع” من وزر ما أخذه الناس عليه من انتهاكات للمدنيين. فردوا أكثر ما “يشاع” عن هذه الانتهاكات إلى غيره ممن يريد أن يلطخ سمعتها. فأذاعوا أن هناك من يتنكر في زي “الدعم” ويفحش في الفساد. فزي “الدعم السريع”، على حد قولهم، مبذول لمنظمات الإسلاميين شبه العسكرية مثل الأمن الشعبي والطلابي، والاستخبارات العسكرية، وقوات هيئة العمليات. وكانت ولاية الجزيرة التي أزكم الضمير ما جرى في قراها وأهلها بعد احتلال “الدعم السريع” لها، برأيهم، مسرحاً لجرائم هؤلاء الفلول المنتحلين صفة “الدعم السريع” زوراً وبهتاناً. وزادوا بأن “زي الدعم” امتلكه حتى معتادو الإجرام الذين غادروا السجون قبل انتهاء فترات محكوميتهم في أول الحرب وفي ملابسات انهيار نظم الدولة. فأفسدوا ولطخ جرمهم “الدعم السريع” من حيث لم يحتسب.
وللإسلاميين مثل “تقدم”، حظ عظيم من الجهل بالحرب التي يخوضونها بالرأي وبالسلاح خلافاً لـ”تقدم” التي اكتفت بالرأي. ويستغرب المرء كيف لم يواقعوا هذه الحرب على فقهم الذي ما كفوا من رد كل حادثة إليه في مثل الديمقراطية مثلاً. فسبق الدكتور عشاري أحمد محمود، أستاذ اللسانيات، إلى تنبيههم إلى أن في خصائص الحرب القائمة ما يزكي الاصطلاح عليها كـ “حرابة” لا “حرباً”. وهذا باب في الحرب والثقافة زكاه أحد الأكاديميين بقوله إن ما نريده من دراسة حرب وقعت في غير الغرب أن ندرس كيف تحارب هذه الجيوش غير الغربية عدوها لا كيف يجب أن تحارب. وطلب بالنتيجة باستعادة الثقافة لحلبة النزاع ونظرياته لنتزود بنظر أثقب في دواعي الحرب والقتال فيها. وامتنع الإسلاميون عن الاجتهاد حول انطباق “الحرابة” على حربنا الدائرة علماً بأن قولنا إن ما نخوض فيه هي حرب على بينة من مصطلحها العالمي أخفى عنا الطاقة الإجرامية التي من ورائها. وهو إجرام يتفق علماء السياسة أنه سمة السياسة المعاصرة في بلدان العالم الثالث التي تزايل فيها الفاصل بين الجريمة والسياسة أو كاد. فسقطت السياسة في شكل الدولة في هايتي مثلاً لتستبيحها العصابات.
ويستغرب المرء لتكففنا مصطلحاً لما نحن فيه من ابتلاء، وفي فقهنا الإسلامي غنى. فالطاقة المجرمة في “الدعم السريع” كما تبين للجميع الآن مما اصطلحنا كمسلمين على وصفه بـ”الحرابة”، وهي البروز لأخذ المال أو القتل، على سبيل المجاهرة مكابرة اعتماداً على القوة مع البعد عن الغوث، والمحاربة عند السرخسي عادة قوم لهم منعة وشوكة يدفعون عن أنفسهم ويقوون على غيرهم بقوتهم، والمجاهرة هي أخذ المال قهراً، أي خطفاً، لا خلسة كالسارق. وانسكب حبر فقهي كثير حول “البعد عن الغوث” ومعناها ألا يكون من مغيث حاضر لمن اعتدى عليه المحارب. وجعل هذا الشرط الفقه يقصر وقوع الحرابة في الصحاري لا الأمصار حاضرة السلطان التي يلحق الغوث المستغيث. وصارت “الحرابة” بالنتيجة هي فعل قطاع الطرق حصرياً. ولكن مثل أبي حنيفة قال بوقوع الحرابة في الأرياف والأمصار إذا لم يلحق الغوث في كليهما لأي سبب من الأسباب، بل تجد من قال إن وقوعها في المدن في مثل الخطف والقتل والسرقة والنهب وتحريق المحال والمنازل، لجريمة أنكى لاستخفاف المحارب بالتجمعات البشرية فيروع أمنها متجرئ غير مبالٍ بقوة الغوث المنتظر. وهذه حالنا. فلم يكن للجنينة ولا الخرطوم ولا مدني ولا غيرهما مغيث حين ظهرت “الدعم السريع” لأخذ المال مكابرةً اعتماداً على القوة. فحتى الجيش اقتصر على الدفاع عن قيادته وأسلحته إلى يومنا. فإذا لم تكن هذه “حرابة” فما تكون؟
لا أدرى ما الذي ستأتي به الطبقة السياسية بأطيافها إلى مائدة المفاوضات للسلام والترتيبات لما بعده إذا كان حديثها المرجم الذي أتينا عليه عاليه هو كل علمته من الحرب وذاقته. والبادي أن الحرب التي تعركنا بثفالها لم تقع بحسب خطاب الطبقة السياسة، أو أنها وقعت ولكن كمجرد صدى للحاكي الذي هو هم في صراعهم الضرير الذي لا يبغون عنه حولاً. وحيال هذا يصعب على المرء تصور جدوى مثلهم في مفاوضات للفكاك من حرب عاشوا تجربتها وغاب عنهم معناها.
عبد الله علي إبراهيم
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الدعم السریع فی الحرب حرب على
إقرأ أيضاً:
الحكومة السودانية ينتقد كينيا لتوفير منصة لقوات الدعم السريع لإعلان حكومة منها
الخرطوم - اتهمت الحكومة السودانية كينيا بانتهاك سيادة السودان من خلال استضافة حدث يُرتقب أن تعلن خلاله قوات الدعم السريع حكومة موازية الجمعة.
,أفادت مصادر في قوات الدعم السريع وكالة فرانس برس أن هذه القوات التي تخوض الحرب مع الجيش السوداني منذ نحو عامين، تستعد لإعلان حكومة في الأراضي الخاضعة لسيطرتها من نيروبي.
أدانت وزارة الخارجية في الحكومة السودانية المتحالفة مع قائد الجيش عبد الفتاح البرهان كينيا لسماحها باستضافة الحدث. وفي بيان صدر مساء الثلاثاء، قالت الوزارة إن "هذا يعني تشجيع تقسيم الدول الإفريقية وانتهاك سيادتها والتدخل في شؤونها، في خرق لميثاق الأمم المتحدة والأمر التأسيسي للاتحاد الأفريقي والقواعد التي استقر عليها النظام الدولي المعاصر".
منذ نيسان/أبريل 2023، تسببت الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع بمقتل عشرات الآلاف وتشريد أكثر من 12 مليون شخص، وبأكبر أزمة إنسانية في العالم.
وفيما يسيطر الجيش على شرق وشمال السودان، تسيطر قوات الدعم السريع على كل منطقة دارفور تقريبا ومساحات من الجنوب.
في الأسابيع الأخيرة، قاد الجيش هجوما في وسط السودان واستعاد المدن الرئيسية وكل العاصمة الخرطوم تقريبا.
ويأتي قرار قوات الدعم السريع بالتوقيع على ميثاق مع الفصائل السياسية الموالية لها وإعلان حكومة في الأراضي التي تسيطر عليها، في الوقت الذي تسعى فيه إلى تعزيز قبضتها على دارفور مما يؤدي فعليا إلى تقسيم السودان.
ويُتهم الجيش وقوات الدعم السريع بارتكاب جرائم حرب. ووُجهت لقوات الدعم السريع بشكل خاص اتهامات بتنفيذ إعدامات جماعية على أساس عرقي وبجرائم العنف الجنسي وانتهاك حقوق الإنسان في مناطق سيطرتها.
في كانون الثاني/يناير، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو، ثم برهان لاحقا بتهمة ارتكاب جرائم حرب.
وقالت وزارة الخارجية السودانية متوجهة إلى كينيا إن "احتضان قيادات المليشيا والسماح لها بممارسة النشاط السياسي والدعائي العلني، في وقت لا تزال فيه المليشيا ترتكب جرائم الإبادة الجماعية والمجازر ضد المدنيين على أساس إثني ومهاجمة معسكرات النازحين من الحرب والاغتصاب، هو تشجيع لاستمرار كل هذه الفظائع ومشاركة فيها".
وأفاد صحافيون من وكالة فرانس برس أن الحدث الذي كان مقررا الثلاثاء في مركز كينياتا الدولي للمؤتمرات في نيروبي، تأجل إلى الجمعة.
وقال مصدران مشاركان في تنظيم الحدث لفرانس برس إن دقلو الذي ظل بعيدا عن الأنظار معظم فترة الحرب، وصل إلى كينيا ومن المتوقع أن يحضر الإعلان يوم الجمعة.
Your browser does not support the video tag.