لجريدة عمان:
2025-03-12@06:20:30 GMT

مقولة: نهاية الغرب

تاريخ النشر: 19th, March 2024 GMT

ربما يكون المصطلح المتداول الآن هو «نهاية الغربنة»؛ لأن الغرب لن ينتهي مثلما أن الشرق لن ينتهي، وإنما ما يمكن أن ينتهي إليه الأمر هو سيادة ثقافة شعوب على ثقافة شعوب أخرى، وهو ما يتبدى منذ عهود طويلة في اختراق الثقافة الغربية لثقافات الشعوب الأخرى على سائر المستويات، بما في ذلك الفن (وتلك هي «الغربنة»، وهي كلمة مستحدثة دخيلة على التصريف اللغوي، إلا إنها تعبر عن المعنى المقصود، وهو هيمنة الخطاب الغربي على الخطاب العربي، وهو الخطاب الذي يؤثر في كثير من المثقفين والأساتذة والكتاب والفنانين، وفي النُّخب بوجه عام.

ومن هذا المنطلق شاع مؤخرًا في واقعنا الثقافي الترويج «لعلم الاستغراب العربي» في مقابل علم الاستشراق؛ فبدلًا من أن نكون خاضعين لرؤية الغرب لنا ولتراثنا وتاريخنا من خلال المستشرقين الغربيين، فإننا يجب بدلًا من ذلك أن نجعل الغرب نفسه موضوعًا لدراستنا من خلال تقييم تاريخه وفكره وثقافته، ويشمل هذا أيضًا نقد كتابات المستشرقين وتصويب أخطائها؛ وهذا ما فعله عبد الرحمن بدوي في أواخر حياته من أجل الدفاع عن محمد -صلى الله عليه وسلم- والدفاع عن الإسلام ضد منتقديه.

اكتشف الناس عبر العالم أن القيم الإنسانية العليا التي يؤمن بها قطاع واسع من الغرب، هي قيم تؤمن بها الدول الديمقراطية في هذا العالم المتحضر، ولكنها تعتد فقط بهذه الديمقراطية والحرية والعدالة في حكم شعوبها؛ فهي لا يشغلها كثيرًا ما يدور في العالم الثالث المتخلف، إلا فيما يتعلق بمصالحها، وليس بالديمقراطية أو الحرية أو العدالة. ولذلك نجد على مواقع شبكة المعلومات حضورًا دائمًا لتلك المنظمات في الغرب التي تهتم بحقوق الحيوان في الغذاء والعلاج والرعاية الطبية المستدامة، والتي تخصص لها أموالًا هائلة، ولكنها لا تهتم ولا تنشغل (حتى من خلال الإعلان) بحقوق الأطفال الخُدج في غزة الذين يموتون من الجراح ومن الجوع والبرد، بينما ينزف الكبار الدماء حتى الموت.

***

الاستشراق هو المنظور الذي كنا ننظر من خلاله إلى أنفسنا لكي نفهمها ونتعرف عليها؛ ولكننا خلال العقود الأخيرة بدأنا نسمع عن «علم الاستغراب» الذي يسعى إلى وضع الفكر الغربي نفسه موضع الفحص والنقد والتقييم. وهذا يعني أن وجود رؤية واحدة مهيمنة على العالم هي رؤية بدأت في التزعزع، ومن ذلك- على سبيل المثال: كتاب فوكوياما عن «نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، وكتاب هنتنجتون عن «صراع الحضارات»؛ فكلا هذين المفكرين وأمثالهما هم صنيعة السياسة الأمريكية وأجهزة مخابراتها. فكتاب فوكوياما- وهو مفكر محدود القيمة- كان مجرد مقال يروِّج فيه إلى أن الديمقراطية الغربية في نموذجها الذي يتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية هي النموذج الذي ينبغي أن تتطلع إليه جميع شعوب العالم؛ فهذا النموذج هو غاية ما يمكن أن تصل إليه الإنسانية من تطور (وهو- بالمناسبة- تحدث مؤخرًا عن إمكانية وجود فرصة لإنقاذ الولايات المتحدة الأمريكية من التدهور!). كتب فوكوياما كتابه هذا بوحي من النشوة التي أعقبت سكرة اللحظة التي قام فيها جورباتشوف بتسليم اتحاد الجمهوريات السوفييتية على طبق من فضة إلى الغرب. ومن هنا كانت أهمية «علم الاستغراب» الذي بدأ يتعالى صوته في عالمنا العربي منذ بضعة عقود؛ ليس فقط من أجل أن يكشف لنا عما هنالك من أخطاء وأغاليط في كتابات المستشرقين عن الثقافة العربية، وإنما أيضًا من أجل أن يقدم لنا نقدًا لبعض المفاهيم والتصورات السائدة في الحضارة الغربية نفسها.

غير أن الشأن الثقافي والفكري والقيمي ليس هو الأمر الحاسم هنا؛ ببساطة لأنه نتاج لموازين القوى السياسية التي تحكم العالم، منها قوة الغرب بزعامة الولايات المتحدة التي لا تزال تنظر إلى نفسها باعتبارها القوة الأكبر المهيمنة على العالم. ولكن هذا ليس صحيحًا تمامًا؛ لأن موازين هذه القوى بدأت تتغير بصعود دول كبرى أخرى تريد أن تستدعي تاريخها الإمبراطوري، وعلى رأسها روسيا والصين، فضلًا عن إيران وتركيا. ومع تغير موازين القوى السياسية تتغير هيمنة ثقافة وقيم بعينها، وتصبح محل شكوك وانتقادات. وفضلًا عن ذلك، فإن نقد رؤية الغرب لنا ولكل ما يُسمى «بالآخر» (بحسب تعبير هنتنجتون في فصل بعنوان «الغرب والآخر» في كتابه «صدام الحضارات) - هو نقد يمكن أن يقوم بخلخلة الأسس التي تقوم عليها هيمنة نظم الغرب السياسية.

والحقيقة أن الغرب نفسه بدأ مؤخرًا- خاصة بعد مذابح غزة- يدرك أن هيمنته على العالم بدأت تتراجع؛ فقد بدا واضحًا للعيان لدى الآخر في كل مكان أن هذا الغرب يدافع عن جرائم العدوان الإسرائيلي الذي يبلغ حد الإبادة الجماعية، والذي يدينه كل ضمير إنساني. ولقد انعكس كل ذلك في الآونة الأخيرة في ساحات الإعلام، بما في ذلك المجادلات التي تجري في البرامج التلفزيونية التي يبدو فيها المذيع في القناة مدافعًا عن رؤية الغرب التي تمثلها دولته فيما يتعلق بالأحداث الراهنة، بينما يبدو الضيف العربي مدافعًا عن الحق المُثبَت وكاشفًا عن الانحياز في عرض القضية. هذه المفارقة بين الرؤية الغربية والرؤية العربية نجدها ماثلة بوضوح في القنوات الإعلامية، بل إننا نجد هذه المفارقة حاضرة حتى في القناة الواحدة التي تُذَاع بلغة عربية وبلغة إنجليزية: فالقناة الناطقة بالعربية تسمح بإذاعة شيء من أحداث القتل والدمار التي تنشرها القنوات الإعلامية العربية كافة. ولكن النسخة الإنجليزية من القناة، قلما تركز على ذلك، وتأخذك إلى سياق آخر بعيد عن مَشَاهد الحرب والإبادة والدمار غير المسبوقة في التاريخ!

ينبغي إذن إن نعيد قراءة التاريخ، بما في ذلك تاريخنا الراهن؛ لكي نحدد موقعنا منه، والموقف الذي ينبغي أن يكون جديرًا بنا؛ وأن نعي في النهاية أن نهاية الغرب لا تعني انتهاء الغرب وإنما نهاية المركزية الغربية.

د. سعيد توفيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة ومؤلف كتاب «ماهية اللغة وفلسفة التأويل»

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: رؤیة الغرب من خلال

إقرأ أيضاً:

ما أسباب عداوة الغرب للمسلمين؟ ولماذا يعيش رعبا حاليا من الإسلام؟

جاء ذلك في الحلقة العاشرة من برنامج "الشريعة والحياة في رمضان" والتي تناولت فهم أسباب العداوة للإسلام والمسلمين في الغرب قديما وحديثا، وأسباب نظرة الاستعلاء والاستقواء الغربي على المسلمين.

ويقول المفكر الإسلامي إن 3 أسباب وراء عداوة الأمة الصليبية والمسيحية تاريخيا للإسلام وهي:

سبب عقدي ويكمن في كون الإسلام قدم عقيدة واضحة ومقنعة ومنسجمة مع الفطرة ومقبولة من العقل، وتجيب عن الأسئلة الكونية والوجودية. سبب سياسي، إذ اصطدم الإسلام بكثير من المصالح التي شعرت بأن الإسلام يتهددها بدءا من مشركي قريش مرورا بالحروب الصليبية والاستعمار الحديث، وبذلك أخفى الاصطدام العسكري وراءه صداما حضاريا واقتصاديا وثقافيا وسلوكيا وعلميا. سبب ذاتي، إذ إن الإسلام قائم بعناصر قوة ذاتية، ويقدم البديل عن الانحراف العقدي والضياع الأخلاقي والاستغلال الاقتصادي وغيرها.

ووفق المفكر الإسلامي، فإن مفكرين غربيين كثرا أقروا بأن البشرية لم تعرف فاتحين أرحم من المسلمين.

وأشار إلى أن مؤرخي الحروب الصليبية ذكروا أن الحملة الصليبية الأولى ذبحت 70 ألف مسلم داخل ساحة المسجد الأقصى، في حين حرر صلاح الدين الأيوبي -بعد معركة حطين وتحرير القدس– 200 ألف أسير، ولم يمس شعرة منهم، وأدى عنهم دية الأسر، وحملهم على نفقته إلى ميناء عكا.

إعلان

وقال أيضا إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي وضع نظرية للتعايش المشترك، إذ يقبل الإسلام الآخر، ويقبل الاختلاف مع الآخر، ويقبل التعاون مع الآخر.

"لماذا يكرهوننا؟"

وحسب الإدريسي، فإن الغرب وليس المسلمين من يطرح سؤال "لماذا يكرهوننا؟" مضيفا "كأننا نحن من يعتدي عليهم ويقصيهم وينكر حق وجودهم ويستهزئ بكتابهم، إذ لم يحرق مسلم واحد نسخة واحدة من الإنجيل".

واستحضر الآية القرآنية "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم" قائلا إن التطبيق العملي يجعل هذه الآية اليوم تتعدل في سلوكهم إلى صيغة "ولو اتبعت ملتهم".

وأعرب الإدريسي عن قناعته بأن الغرب "لا يقبل أن تقلده بطريقتك، وإنما يريد أن تقلده بالطريقة التي تجعل تقليدك له مجرد استتباع وانبهار واستغلال ونهب".

وأقر بأن الاستعمار الصليبي الإمبريالي الرأسمالي الليبرالي لم يعامل المسلمين فقط هذه المعاملة، لكنه شدد على أنه يزيد على النهب والإذلال والقهر والاحتلال والإبادة والتهجير وجود عقدتي "كراهية المسلمين" و"الخوف من الإسلام".

وحسب الإدريسي، فإن هناك 3 أسباب كبرى تجعل هذا الموقف الأوروبي والأميركي مؤبدا "ما لم يقم المسلمون بالنهوض" وهي: النهب الإمبريالي، والانتقام التاريخي، وتأبيد التخلف أو الحفاظ على الفجوة.

وقال أيضا إن الغرب يعيش رعبا حاليا في ظل تآكل وتداعي آليات الحفاظ على هذا التفوق، مشيرا إلى أن معركة غزة الأخيرة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 خير شاهد وبرهان، إضافة إلى أن تركيا ودولا إسلامية بدأت تتفوق في الطيران المسيّر.

وخلص الإدريسي إلى أن الخوف من حيوية الإسلام يجمع الأسباب الثلاثة، واستند في ذلك إلى شهادات مثقفين غربيين منصفين.

وبينما أقر أن منظومة حقوق الإنسان المعاصرة إنجاز غربي بامتياز وأن 90% منها منطقي ومبني على فكرة عدالة سليمة، قال المفكر الإسلامي إن الإشكالية والمفارقة أن هذه المنظومة التي أنتجها الغرب "لا ينتهكها أحد مثلما ينتهكها ويلغيها الغرب بجرة قلم متى ما خالفت أهواءه ومصالحه".

إعلان 10/3/2025

مقالات مشابهة

  • هل سينقذ ترامب الغرب أم يدمره؟ 
  • وقفة أمام بقع الدم السوري..!
  • رحلة في اختبار الديمقراطية
  • اقتصادي يكشف سبب اهتمام الغرب بالسيطرة على قطاع غزة
  • مركز أوروبي: الغرب يضع العراقيل للاستفادة من الأموال الليبية المجمدة
  • 2.7 مليار جنيه.. افتتاح أكبر حديقة حيوان في مصر نهاية العام
  • ما أسباب عداوة الغرب للمسلمين؟ ولماذا يعيش رعبا حاليا من الإسلام؟
  • ‏اندفاع العراق نحو العالم يجعله يستعيد نفوذه
  • لعنة ميونخ تعود من جديد
  • إليك أغرب أشكال الاحتجاج التي شهدها العالم على مر التاريخ (صور)