ربما يكون المصطلح المتداول الآن هو «نهاية الغربنة»؛ لأن الغرب لن ينتهي مثلما أن الشرق لن ينتهي، وإنما ما يمكن أن ينتهي إليه الأمر هو سيادة ثقافة شعوب على ثقافة شعوب أخرى، وهو ما يتبدى منذ عهود طويلة في اختراق الثقافة الغربية لثقافات الشعوب الأخرى على سائر المستويات، بما في ذلك الفن (وتلك هي «الغربنة»، وهي كلمة مستحدثة دخيلة على التصريف اللغوي، إلا إنها تعبر عن المعنى المقصود، وهو هيمنة الخطاب الغربي على الخطاب العربي، وهو الخطاب الذي يؤثر في كثير من المثقفين والأساتذة والكتاب والفنانين، وفي النُّخب بوجه عام.
اكتشف الناس عبر العالم أن القيم الإنسانية العليا التي يؤمن بها قطاع واسع من الغرب، هي قيم تؤمن بها الدول الديمقراطية في هذا العالم المتحضر، ولكنها تعتد فقط بهذه الديمقراطية والحرية والعدالة في حكم شعوبها؛ فهي لا يشغلها كثيرًا ما يدور في العالم الثالث المتخلف، إلا فيما يتعلق بمصالحها، وليس بالديمقراطية أو الحرية أو العدالة. ولذلك نجد على مواقع شبكة المعلومات حضورًا دائمًا لتلك المنظمات في الغرب التي تهتم بحقوق الحيوان في الغذاء والعلاج والرعاية الطبية المستدامة، والتي تخصص لها أموالًا هائلة، ولكنها لا تهتم ولا تنشغل (حتى من خلال الإعلان) بحقوق الأطفال الخُدج في غزة الذين يموتون من الجراح ومن الجوع والبرد، بينما ينزف الكبار الدماء حتى الموت.
***
الاستشراق هو المنظور الذي كنا ننظر من خلاله إلى أنفسنا لكي نفهمها ونتعرف عليها؛ ولكننا خلال العقود الأخيرة بدأنا نسمع عن «علم الاستغراب» الذي يسعى إلى وضع الفكر الغربي نفسه موضع الفحص والنقد والتقييم. وهذا يعني أن وجود رؤية واحدة مهيمنة على العالم هي رؤية بدأت في التزعزع، ومن ذلك- على سبيل المثال: كتاب فوكوياما عن «نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، وكتاب هنتنجتون عن «صراع الحضارات»؛ فكلا هذين المفكرين وأمثالهما هم صنيعة السياسة الأمريكية وأجهزة مخابراتها. فكتاب فوكوياما- وهو مفكر محدود القيمة- كان مجرد مقال يروِّج فيه إلى أن الديمقراطية الغربية في نموذجها الذي يتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية هي النموذج الذي ينبغي أن تتطلع إليه جميع شعوب العالم؛ فهذا النموذج هو غاية ما يمكن أن تصل إليه الإنسانية من تطور (وهو- بالمناسبة- تحدث مؤخرًا عن إمكانية وجود فرصة لإنقاذ الولايات المتحدة الأمريكية من التدهور!). كتب فوكوياما كتابه هذا بوحي من النشوة التي أعقبت سكرة اللحظة التي قام فيها جورباتشوف بتسليم اتحاد الجمهوريات السوفييتية على طبق من فضة إلى الغرب. ومن هنا كانت أهمية «علم الاستغراب» الذي بدأ يتعالى صوته في عالمنا العربي منذ بضعة عقود؛ ليس فقط من أجل أن يكشف لنا عما هنالك من أخطاء وأغاليط في كتابات المستشرقين عن الثقافة العربية، وإنما أيضًا من أجل أن يقدم لنا نقدًا لبعض المفاهيم والتصورات السائدة في الحضارة الغربية نفسها.
غير أن الشأن الثقافي والفكري والقيمي ليس هو الأمر الحاسم هنا؛ ببساطة لأنه نتاج لموازين القوى السياسية التي تحكم العالم، منها قوة الغرب بزعامة الولايات المتحدة التي لا تزال تنظر إلى نفسها باعتبارها القوة الأكبر المهيمنة على العالم. ولكن هذا ليس صحيحًا تمامًا؛ لأن موازين هذه القوى بدأت تتغير بصعود دول كبرى أخرى تريد أن تستدعي تاريخها الإمبراطوري، وعلى رأسها روسيا والصين، فضلًا عن إيران وتركيا. ومع تغير موازين القوى السياسية تتغير هيمنة ثقافة وقيم بعينها، وتصبح محل شكوك وانتقادات. وفضلًا عن ذلك، فإن نقد رؤية الغرب لنا ولكل ما يُسمى «بالآخر» (بحسب تعبير هنتنجتون في فصل بعنوان «الغرب والآخر» في كتابه «صدام الحضارات) - هو نقد يمكن أن يقوم بخلخلة الأسس التي تقوم عليها هيمنة نظم الغرب السياسية.
والحقيقة أن الغرب نفسه بدأ مؤخرًا- خاصة بعد مذابح غزة- يدرك أن هيمنته على العالم بدأت تتراجع؛ فقد بدا واضحًا للعيان لدى الآخر في كل مكان أن هذا الغرب يدافع عن جرائم العدوان الإسرائيلي الذي يبلغ حد الإبادة الجماعية، والذي يدينه كل ضمير إنساني. ولقد انعكس كل ذلك في الآونة الأخيرة في ساحات الإعلام، بما في ذلك المجادلات التي تجري في البرامج التلفزيونية التي يبدو فيها المذيع في القناة مدافعًا عن رؤية الغرب التي تمثلها دولته فيما يتعلق بالأحداث الراهنة، بينما يبدو الضيف العربي مدافعًا عن الحق المُثبَت وكاشفًا عن الانحياز في عرض القضية. هذه المفارقة بين الرؤية الغربية والرؤية العربية نجدها ماثلة بوضوح في القنوات الإعلامية، بل إننا نجد هذه المفارقة حاضرة حتى في القناة الواحدة التي تُذَاع بلغة عربية وبلغة إنجليزية: فالقناة الناطقة بالعربية تسمح بإذاعة شيء من أحداث القتل والدمار التي تنشرها القنوات الإعلامية العربية كافة. ولكن النسخة الإنجليزية من القناة، قلما تركز على ذلك، وتأخذك إلى سياق آخر بعيد عن مَشَاهد الحرب والإبادة والدمار غير المسبوقة في التاريخ!
ينبغي إذن إن نعيد قراءة التاريخ، بما في ذلك تاريخنا الراهن؛ لكي نحدد موقعنا منه، والموقف الذي ينبغي أن يكون جديرًا بنا؛ وأن نعي في النهاية أن نهاية الغرب لا تعني انتهاء الغرب وإنما نهاية المركزية الغربية.
د. سعيد توفيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة ومؤلف كتاب «ماهية اللغة وفلسفة التأويل»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: رؤیة الغرب من خلال
إقرأ أيضاً:
عاطف عبداللطيف : المتحف الكبير تجسيد حيّ لعظمة المصري القديم الذي سبق عصره
قال الدكتور عاطف عبداللطيف، نائب رئيس جمعية مستثمري مرسى علم وعضو جمعية مستثمري جنوب سيناء ، إن افتتاح المتحف المصري الكبير يُعد إنجازًا وطنيًا ضخمًا يُحسب لفخامة الرئيس عبدالفتاح السيسي، الذي استطاع رغم التحديات الإقليمية والدولية أن يُحوّل حلم المصريين إلى واقع ملموس، مقدّمًا للعالم صرحًا ثقافيًا وإنسانيًا يجسد عظمة الحضارة المصرية الخالدة ويؤكد قدرة الدولة المصرية على تنفيذ مشاريع عملاقة تضاهي أضخم الصروح العالمية.
وأضاف الدكتور عاطف عبداللطيف أن هذا الحدث التاريخي يأتي في لحظة نادرة لا تتكرر إلا مرات قليلة في عمر الشعوب، إذ تشهد مصر حدثًا عالميًا استثنائيًا يتمثل في افتتاح أكبر متحف في العالم مخصص لحضارة واحدة، يضم آلاف القطع الأثرية التي تروي قصة مصر عبر العصور. وأوضح أن افتتاح المتحف ليس مجرد تدشين لمبنى أثري، بل هو إنجاز حضاري وإنساني يعكس عظمة مصر القديمة وقدرتها الدائمة على الإبداع والبناء والتجديد، ويؤكد أن مصر كانت ومازالت منارة للعلم والفن والهندسة والحضارة على مر التاريخ.
وأشار إلى أن افتتاح هذا الصرح العظيم يُعد علامة فارقة في تاريخ الإنسانية كلها، فالمتحف المصري الكبير ليس فقط أكبر مشروع ثقافي في العالم، بل هو تجسيد حيّ لعظمة المصري القديم الذي سبق عصره في علوم الجغرافيا والطبيعة والطب والتحنيط والهندسة والفنون. ما زال العالم حتى اليوم يبحث في أسرار تلك الحضارة التي بنت الأهرامات، ووضعت أول أسس العلم والمعمار والفكر والفن، وها هو المتحف يأتي ليعرض هذه العظمة في أبهى صورها على أرض مصر التي لا تزال مهدًا للحضارات وملتقىً للشعوب.
وأكد الدكتور عاطف عبداللطيف أن افتتاح المتحف المصري الكبير يحمل دلالات عميقة تتجاوز الثقافة إلى السياسة والاقتصاد والسياحة، فهو رسالة واضحة للعالم بأن مصر قادرة، رغم كل التحديات الإقليمية والدولية، على تحقيق إنجازات ضخمة بهذا الحجم، وبأنها تسير بثبات نحو المستقبل تحت قيادة واعية ورؤية وطنية طموحة. هذا الصرح يعكس قوة الدولة المصرية واستقرارها، ويؤكد أن مصر ما زالت قلب المنطقة النابض ومحور اهتمام العالم.
وأضاف أن الأثر الاقتصادي والسياحي لهذا الحدث سيكون هائلًا، فافتتاح المتحف من المتوقع أن يزيد أعداد السياح الوافدين إلى مصر بشكل كبير، ويضاعف من حجم الطلب على المقاصد السياحية المصرية، سواء الثقافية أو الأثرية أو الدينية أو العلاجية أو الاستشفائية، ما سينعكس على الاقتصاد الوطني بزيادة في الدخل القومي وفرص العمل والاستثمار. كما سيؤدي إلى تنشيط القطاعات المساندة للسياحة من نقل وفنادق ومطاعم وطيران، إضافة إلى دعم الصورة الذهنية لمصر كوجهة آمنة وجاذبة ومبهرة لكل زوار العالم.