لجريدة عمان:
2025-04-26@04:54:11 GMT

مقولة: نهاية الغرب

تاريخ النشر: 19th, March 2024 GMT

ربما يكون المصطلح المتداول الآن هو «نهاية الغربنة»؛ لأن الغرب لن ينتهي مثلما أن الشرق لن ينتهي، وإنما ما يمكن أن ينتهي إليه الأمر هو سيادة ثقافة شعوب على ثقافة شعوب أخرى، وهو ما يتبدى منذ عهود طويلة في اختراق الثقافة الغربية لثقافات الشعوب الأخرى على سائر المستويات، بما في ذلك الفن (وتلك هي «الغربنة»، وهي كلمة مستحدثة دخيلة على التصريف اللغوي، إلا إنها تعبر عن المعنى المقصود، وهو هيمنة الخطاب الغربي على الخطاب العربي، وهو الخطاب الذي يؤثر في كثير من المثقفين والأساتذة والكتاب والفنانين، وفي النُّخب بوجه عام.

ومن هذا المنطلق شاع مؤخرًا في واقعنا الثقافي الترويج «لعلم الاستغراب العربي» في مقابل علم الاستشراق؛ فبدلًا من أن نكون خاضعين لرؤية الغرب لنا ولتراثنا وتاريخنا من خلال المستشرقين الغربيين، فإننا يجب بدلًا من ذلك أن نجعل الغرب نفسه موضوعًا لدراستنا من خلال تقييم تاريخه وفكره وثقافته، ويشمل هذا أيضًا نقد كتابات المستشرقين وتصويب أخطائها؛ وهذا ما فعله عبد الرحمن بدوي في أواخر حياته من أجل الدفاع عن محمد -صلى الله عليه وسلم- والدفاع عن الإسلام ضد منتقديه.

اكتشف الناس عبر العالم أن القيم الإنسانية العليا التي يؤمن بها قطاع واسع من الغرب، هي قيم تؤمن بها الدول الديمقراطية في هذا العالم المتحضر، ولكنها تعتد فقط بهذه الديمقراطية والحرية والعدالة في حكم شعوبها؛ فهي لا يشغلها كثيرًا ما يدور في العالم الثالث المتخلف، إلا فيما يتعلق بمصالحها، وليس بالديمقراطية أو الحرية أو العدالة. ولذلك نجد على مواقع شبكة المعلومات حضورًا دائمًا لتلك المنظمات في الغرب التي تهتم بحقوق الحيوان في الغذاء والعلاج والرعاية الطبية المستدامة، والتي تخصص لها أموالًا هائلة، ولكنها لا تهتم ولا تنشغل (حتى من خلال الإعلان) بحقوق الأطفال الخُدج في غزة الذين يموتون من الجراح ومن الجوع والبرد، بينما ينزف الكبار الدماء حتى الموت.

***

الاستشراق هو المنظور الذي كنا ننظر من خلاله إلى أنفسنا لكي نفهمها ونتعرف عليها؛ ولكننا خلال العقود الأخيرة بدأنا نسمع عن «علم الاستغراب» الذي يسعى إلى وضع الفكر الغربي نفسه موضع الفحص والنقد والتقييم. وهذا يعني أن وجود رؤية واحدة مهيمنة على العالم هي رؤية بدأت في التزعزع، ومن ذلك- على سبيل المثال: كتاب فوكوياما عن «نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، وكتاب هنتنجتون عن «صراع الحضارات»؛ فكلا هذين المفكرين وأمثالهما هم صنيعة السياسة الأمريكية وأجهزة مخابراتها. فكتاب فوكوياما- وهو مفكر محدود القيمة- كان مجرد مقال يروِّج فيه إلى أن الديمقراطية الغربية في نموذجها الذي يتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية هي النموذج الذي ينبغي أن تتطلع إليه جميع شعوب العالم؛ فهذا النموذج هو غاية ما يمكن أن تصل إليه الإنسانية من تطور (وهو- بالمناسبة- تحدث مؤخرًا عن إمكانية وجود فرصة لإنقاذ الولايات المتحدة الأمريكية من التدهور!). كتب فوكوياما كتابه هذا بوحي من النشوة التي أعقبت سكرة اللحظة التي قام فيها جورباتشوف بتسليم اتحاد الجمهوريات السوفييتية على طبق من فضة إلى الغرب. ومن هنا كانت أهمية «علم الاستغراب» الذي بدأ يتعالى صوته في عالمنا العربي منذ بضعة عقود؛ ليس فقط من أجل أن يكشف لنا عما هنالك من أخطاء وأغاليط في كتابات المستشرقين عن الثقافة العربية، وإنما أيضًا من أجل أن يقدم لنا نقدًا لبعض المفاهيم والتصورات السائدة في الحضارة الغربية نفسها.

غير أن الشأن الثقافي والفكري والقيمي ليس هو الأمر الحاسم هنا؛ ببساطة لأنه نتاج لموازين القوى السياسية التي تحكم العالم، منها قوة الغرب بزعامة الولايات المتحدة التي لا تزال تنظر إلى نفسها باعتبارها القوة الأكبر المهيمنة على العالم. ولكن هذا ليس صحيحًا تمامًا؛ لأن موازين هذه القوى بدأت تتغير بصعود دول كبرى أخرى تريد أن تستدعي تاريخها الإمبراطوري، وعلى رأسها روسيا والصين، فضلًا عن إيران وتركيا. ومع تغير موازين القوى السياسية تتغير هيمنة ثقافة وقيم بعينها، وتصبح محل شكوك وانتقادات. وفضلًا عن ذلك، فإن نقد رؤية الغرب لنا ولكل ما يُسمى «بالآخر» (بحسب تعبير هنتنجتون في فصل بعنوان «الغرب والآخر» في كتابه «صدام الحضارات) - هو نقد يمكن أن يقوم بخلخلة الأسس التي تقوم عليها هيمنة نظم الغرب السياسية.

والحقيقة أن الغرب نفسه بدأ مؤخرًا- خاصة بعد مذابح غزة- يدرك أن هيمنته على العالم بدأت تتراجع؛ فقد بدا واضحًا للعيان لدى الآخر في كل مكان أن هذا الغرب يدافع عن جرائم العدوان الإسرائيلي الذي يبلغ حد الإبادة الجماعية، والذي يدينه كل ضمير إنساني. ولقد انعكس كل ذلك في الآونة الأخيرة في ساحات الإعلام، بما في ذلك المجادلات التي تجري في البرامج التلفزيونية التي يبدو فيها المذيع في القناة مدافعًا عن رؤية الغرب التي تمثلها دولته فيما يتعلق بالأحداث الراهنة، بينما يبدو الضيف العربي مدافعًا عن الحق المُثبَت وكاشفًا عن الانحياز في عرض القضية. هذه المفارقة بين الرؤية الغربية والرؤية العربية نجدها ماثلة بوضوح في القنوات الإعلامية، بل إننا نجد هذه المفارقة حاضرة حتى في القناة الواحدة التي تُذَاع بلغة عربية وبلغة إنجليزية: فالقناة الناطقة بالعربية تسمح بإذاعة شيء من أحداث القتل والدمار التي تنشرها القنوات الإعلامية العربية كافة. ولكن النسخة الإنجليزية من القناة، قلما تركز على ذلك، وتأخذك إلى سياق آخر بعيد عن مَشَاهد الحرب والإبادة والدمار غير المسبوقة في التاريخ!

ينبغي إذن إن نعيد قراءة التاريخ، بما في ذلك تاريخنا الراهن؛ لكي نحدد موقعنا منه، والموقف الذي ينبغي أن يكون جديرًا بنا؛ وأن نعي في النهاية أن نهاية الغرب لا تعني انتهاء الغرب وإنما نهاية المركزية الغربية.

د. سعيد توفيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة ومؤلف كتاب «ماهية اللغة وفلسفة التأويل»

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: رؤیة الغرب من خلال

إقرأ أيضاً:

إندبندنت: النظام الدولي يتفكك والتطبيع مع صور الإبادة تهديد للجميع

نشرت صحيفة إندبندنت البريطانية مقالا لأستاذ جامعي تناول فيه بالتعليق والتحليل مخرجات مؤتمر عُقد مؤخرا في مدينة أنطاليا التركية، حيث تداول المشاركون من أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط وأوروبا الشرقية أفكارا حول البديل للنظام الدولي الغربي الذي بدأ يتفكك.

وكتب سلمان سيد -أستاذ البلاغة والفكر المناهض للاستعمار في جامعة ليدز بإنجلترا- أن تفكك النظام القائم على القواعد ليس مجرد ظاهرة جغرافية اقتصادية تميزت بظهور الصين بوصفها أكبر قوة اقتصادية في العالم، بل هي أيضا ظاهرة ذات أبعاد ثقافية وأخلاقية عميقة.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2محللون إسرائيليون يستبعدون توسيع الحرب أو التوصل لصفقة قريبةlist 2 of 2ليبيراسيون: لماذا لجأت الدانمارك لتعقيم القسري في غرينلاند؟end of list

وقال إن منتدى أنطاليا للدبلوماسية -الذي انعقد في وقت سابق من الشهر الجاري- قدم لمحة مثيرة للاهتمام لما قد يكون عليه هذا المستقبل، في وقت بدت فيه ملامح نظام عالم جديد بالتشكل.

قلق وارتكاب

وانتقد الكاتب الدول الغربية الكبرى لضعف مشاركتها في المنتدى. وقال لو أن حكومات الأثرياء الغربية شاركت بأي عدد من ممثليها، لشعرت بالقلق والارتباك بسبب المناقشات التي دارت، ليس فقط لأنهم كانوا سيعترضون على مزاعم مثل تأكيد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن هوية أوكرانيا ليست عميقة أو متميزة بما يكفي لتبرير وجودها كدولة قومية مستقلة، ولكن لأن المنتدى خلق مساحة للحجج والأطر التي غالبا ما كان الغرب قد أحالها إلى الهامش.

إعلان

وأعرب الأستاذ الجامعي عن اعتقاده أن السلطة الأخلاقية للغرب قد انهارت تماما، وليس أدل على ذلك مما حدث لأسرى تنظيم القاعدة وحركة طالبان في سجن غوانتانامو الأميركي، وما يحدث الآن في قطاع غزة للفلسطينيين على أيدي الإسرائيليين.

فعندما تدين وسائل الإعلام الغربية اعتقال الصحفيين في مكان ما بحق وبكل حماسة، تلتزم الصمت إزاء القتل الممنهج للصحفيين في مكان آخر، وفق المقال الذي يشير كاتبه إلى أن عديدا من المشاركين في منتدى أنطاليا يرون أن العنصرية نجحت في تقويض ليس فقط المبادئ، بل حتى التضامن المهني.

وسخر كاتب المقال من مواقف الغرب تجاه القضية الفلسطينية، مشيرا إلى أن المنتدى أشار إلى أنه حتى المعلقين والمحللين الذين يحنون إلى عصر التنوير الأوروبي ينسون كل شيء عندما يدينون الاحتجاجات المناهضة للإبادة الجماعية والمؤيدة للفلسطينيين.

إبادة غزة

وفي أنطاليا -كما يقول سيد في مقاله- كان هناك شعور سائد بأن القتل الجماعي في غزة، وتواطؤ كثير من المؤسسات الغربية في المساعدة والتحريض عليه، تسبب في تقويض أي إحساس عام بالمسؤولية والتواضع وإحقاق العدالة.

ويرى الكاتب أن في اللغة الدبلوماسية المنمقة ما يوحي ضمنيا بأن مركز العالم لا يتغير فحسب، بل إن القدرة على توظيف المعرفة والخبرة المكتسبة لم تعد تساعد في التعامل مع الأزمات المتلاحقة التي تعصف بالعالم.

غير أن ما كان يرمي إليه منتدى إيطاليا ليس استعادة سلطة أخلاقية تستند إلى مبادئ ليبرالية ديمقراطية مركزها الغرب، بل يرمي إلى بناء حس إنساني مشترك جديد.

وخلص الكاتب إلى أن منتدى أنطاليا لا يشبه مؤتمر باندونغ الذي عُقد في إندونيسيا عام 1955 وشكّل النواة الأولى لقيام حركة عدم الانحياز التي كانت رمزا لمناهضة الاستعمار في عالم تهيمن عليه قوتان عظميان مسلحتان بأيديولوجيات صريحة ونزعة تدميرية مؤكدة.

إعلان

وأكد أن هناك اعترافا ضمنيا -برز على الأقل بين عديد من المشاركين الحاضرين في أنطاليا- بأنّ جعل الناس يعتادون مشاهد الإبادة الجماعية في غزة لا يهدد الشعب الفلسطيني وحده، بل يجرد جميع شعوب العالم من إنسانيتها.

مقالات مشابهة

  • الماهرية بعتبروا المسيرية مغفلين نافعين وحميدتي نفسه اطلق مقولة الغربال الناعم
  • حزنت جدا للمصيبة التي حلت بمتحف السودان القومي بسبب النهب الذي تعرض له بواسطة عصابات الدعم السريع
  • داعيا إلى الاصطفاف خلف القائد.. «مصطفى بكري» يكشف أبعاد المؤامرة على مصر
  • النرويج تنتقد صمت الغرب إزاء جرائم الاحتلال بغزة
  • إندبندنت: النظام الدولي يتفكك والتطبيع مع صور الإبادة تهديد للجميع
  • العالم المصري الذي ساهم في جعل المدفوعات عبر الإنترنت آمنة.. من هو؟
  • نحو عالم ما بعد الغرب: الترامبية وإعادة توزيع مناطق النفوذ في العالم
  • تعتبر الأمر مساسا بسمعة أسرتنا وكيانها..طلاقي نهاية العالم بالنسبة لأختي
  • إسطنبول: المدينة التي حملت أكثر من 135 اسمًا عبر التاريخ
  • ما هي حكاية يوم الأرض الذي يحتفل به العالم في 22 أبريل من كل عام؟