متابعة بتجــرد: لم يكن لاسم حسن الصبّاح أن يخرج من كتب التاريخ التي يُذكر فيها، لولا أن الواقع يستدعيه، ولولا أنه بات مادة سخية لعدد من الروايات والأفلام والدراما التليفزيونية التي قدمت شخصيته، أحدثها مسلسل “الحشاشين” الذي يحقق حالياً نجاحاً جماهيراً، وجدلاً، يرتبط في معظمه، وإن يكن بشكل غير مباشر، بالصورة التي يقدم بها الصبّاح.

ما يذكره التاريخ عن حسن الصبّاح قليل، وقد راح الباحثون عن التاريخ ينقبون في الكتب والمراجع التي تذكر أخباره، ويقارنون بين هذه الأخبار والمسلسل، وهو أمر جيد في حد ذاته: أن يهتم الناس، خاصة الأجيال الجديدة العازفة عادة عن معرفة الماضي، بالتاريخ ليدركوا كم يؤثر، ويثقل هذا الماضي على الحاضر ويتحكم فيه.

حكايات خيالية بقلم مؤلف خيالي

بغض النظر عن أهمية التاريخ، فإن ما لا يقل عنه أهمية هو الخيال الذي يرى من خلاله الناس هذا التاريخ، وفيما يتعلق بحسن الصبّاح، فمن الدال أن نتتبع الكيفية التي تطورت بها شخصيته “الخيالية” عبر الأساطير والأدب والسينما.

لعل أقدم هذه الأساطير وأشهرها ما ينقل عن الرحالة الإيطالي الشهير ماركو بولو، الذي عاش في منتصف القرن الثالث عشر، وزار الشرق الأوسط، وذكر، فيما ذكره، عن طائفة “الحشاشين” أن مؤسسها حسن الصبّاح كان يعتمد على تخديرهم بالأفيون لكي يموتوا في سبيله، ولكي يقنعهم أنهم انتقلوا إلى الجنة بالفعل بين الحوريات وأنهار اللبن والعسل، التي صنعها في معسكره الشهير بقلعة “آلموت”.

رواية ماركو بولو لا دليل تاريخي عليها، بل لا دليل تاريخي على صحة وجود بولو نفسه، ولكن الحكاية تركت أثراً، وتحولت لما يشبه الحقيقة، وبنيت عليها “حقائق” أخرى، من بينها أن كلمة “حشاشين” أصلها من مخدر الحشيش. 

ورغم أن هناك تفسيرات كثيرة للكلمة، منها التأويل الساذج للبعض بأنها تشير إلى “نضالية” جنود الصباح تحت الحصار، لدرجة أنهم كانوا يعتمدون على أكل الحشائش، ومنها أن أصلها الحساسون (نسبة إلى حسن)، أو الأساسيون، المعادلة لكلمة الأصوليين (نسبة إلى اعتقادهم بأنهم يعودون بالدين إلى الأساس).

وربما يكون الأدق هو أن أحد معاني فعل “حش” يعني قطع واستأصل، وهو ما كان يفعله قتلة الصبّاح بخصومهم، حين يحشون رقبتهم، والتعبير لا يزال يستخدم في العامية المصرية إلى اليوم.

أسطورة الأصدقاء الثلاثة

أسطورة أخرى تتعلق بحسن الصبّاح أوردها مخطوط فارسي يعود إلى القرن الرابع عشر، ويوجد في المتحف البريطاني، يروي حكاية خيالية عن طفولة ومدرسة وصداقة مشتركة وعهد جمع بين حسن الصبّاح، والشاعر والفيلسوف عمر الخيام، والوزير نظام المُلك.

مجرد حكاية تجمع ثلاثة من الشخصيات التاريخية المتباينة، كتبت بعد أكثر من قرنين على موتهم، ولكن هذه الحكاية الأسطورة تحولت إلى ما يشبه التاريخ على يد إدوارد فيتزجيرالد الذي ترجم “رباعيات الخيام” إلى الإنجليزية في نهاية القرن التاسع عشر، وكانت وراء شهرة الخيام ورباعياته إلى الآن.

أما المقدمة التي كتبها للترجمة، وضمن فيها حكاية مخطوط المتحف البريطاني، فكانت سبباً في شهرة أسطورة الأصدقاء الثلاثة، التي لم تزل تنهل منها المراجع والروايات والأفلام.

أول فيلم يستخدم هذه الحكاية هو A Lover’s Oath إخراج فرديناند ب. إيرل، وذلك في 1925، حول الأصدقاء الثلاثة الذين يتعاهدون على مساعدة بعضهم البعض، ولكن حسن الصبّاح نصاب يخون العهد باشتهاءه لمحبوبة الخيام. ولا وجود في الفيلم لطائفة الحشاشين أو لتزعمه فصيل اغتيالات.

أعيد انتاج القصة في فيلم Omar Khayyam من إخراج ويليام ديتري، 1957، في ذروة الهوس الهوليوودي بالشرق وقصوره وجواريه، وذروة صعود الأفلام الملونة بتقنية الـTechnicolor، التي تعادل الـ”آيماكس” والعرض ثلاثي الأبعاد الآن.

ولكن هذه المرة تظهر شخصية حسن الصبّاح حاملة وجهين: وجه المخادع الشهواني الذي يعشق المال والجواري والسلطة، ووجه الزعيم الخفي لمجموعة القتلة المنظمين، الذين يرتدون زياً موحداً مثله، أسود وأحمر، ويأتمرون بأمره.

لا يبالي الفيلم بمقاصد أو عقيدة الصبّاح التاريخي، ولكنه ينهل من نمط الشرير الهوليوودي التقليدي، وهدف العمل الأساسي تسلية وإبهار الجمهور الغربي بتصوير حياة الشرق من ديكورات ومجاميع وألوان، ورقصات وأغان وأجساد الجواري وتصوير وأشعار الخيام.

“سمرقند” بين معلوف وعابد فهد

عمل آخر مسئول عن ذيوع حكاية الأصدقاء الثلاثة هو رواية “سمرقند” للأديب اللبناني الفرنسي أمين معلوف الصادرة 1988، والتي ترجمها للعربية عفيف دمشقية 1991، وحققت شعبية كبيرة بين القراء العرب، كما أصبحت المصدر الأول للمسلسل الذي حمل الاسم نفسه من إخراج إياد الخزوز، وبطولة عابد فهد، والذي عرض للمرة الأولى في 2016.

في رواية معلوف، التي يروي القسم الأول منها قصة كل من الخيام والصبّاح ونظام المُلك، يظهر حسن الصبّاح للمرة الأولى في هيئة إنسانية تحاول أن تحلل وتتفهم شخصيته ودوافعه، لا يقع معلوف في فخ أسطورة الأصدقاء الثلاثة، يشير في أحد المقاطع إلى حكاية أن الثلاثة درسوا معاً في نيسابور، ويعلق: “لا يمكن أن يكون هذا صحيحاً، فنظام المُلك أكبر من عمر بثلاثين عاماً، وحسن درس في مدينة الري، وربما حصل على بعض العلم أيضاً في مسقط رأسه قم، ولكن ليس بالتأكيد في نيسابور”.

مع ذلك يخترع أمين معلوف في “سمرقند” لقاءً خيالياً يجمع بين الصبّاح والخيام ذات ليلة في فندق على الطريق، حيث كان الخيام متوجهاً إلى قاشان، بينما كان الصباح متجهاً إلى سمرقند على أمل أن يلتقي الوزير نظام المُلك، لعله يعطيه عملاً في قصر السلطان ملكشاه.

وذلك للتمهيد للقاء الاثنين معاً مرة أخرى في ديوان نظام المُلك، وزير وراعي السلطان الصبي ملك شاه، يعرض نظام الملك على كل من الخيام والصبّاح العمل معه، فيقبل الصبّاح على الفور، بينما يرفض الخيام، ويطلب من نظام المُلك فحسب أن يوفر له الإمكانيات اللازمة لبناء مرصد للنجوم.

وهكذا ندخل إلى الوقائع التاريخية، التي تتمثل في تدهور العلاقة بين نظام المُلك والصبّاح عقب ملاحظة الأول لطموح الثاني اللامحدود، ما يجعله يوقع بين الصبّاح والسلطان، ويتسبب في نفيه، وهو ما يملأ صدر الصبّاح بالرغبة في الانتقام، ويرسل أحد قتلته في النهاية لاغتيال نظام المُلك. 

يرسم أمين معلوف شخصية حسن الصبّاح كشاب واسع الثقافة، انتهى من قراءة أمهات الكتب في الدين والفلسفة والأدب في سن السابعة عشر، ولديه إيمان عميق متشدد  بمذهبه، ويصور الحوارات العميقة بينه والخيام، التي تعكس الفارق بين أسلوبين في التفكير، وهذه العلاقة التي ينشئها معلوف في بداية روايته إنما تمهد لنهايتها الشاعرية، ولكن غير المنطقية.

فحسن الصبّاح، وفقاً للرواية، يحب عمر الخيام حقاً، ويحرص على حمايته ويوجه إليه الدعوة للذهاب إلى قلعته، وعندما يرفض، يرسل بمن يسرق مخطوط الرباعيات، ويظل محتفظا به بالقرب منه حتى وفاته، حيث يعثر عليه أحد أحفاد الصبّاح.

يروي معلوف حكاية أسطورية أخرى تبين الفارق بين “الأصدقاء الثلاثة”، إذ يبرز لهم نمر يحمل قوة الدنيا، ينهر نظام الملك النمر لكسره النظام ويرسل إليه كلبين مدربين، فيفتك بهما النمر ثم يفتك بنظام الملك، ويأتي الدور على عمر الخيام فيدرك أنه لن يستطيع منازلة النمر ويفر هارباً، أما حسن الصبّاح فيقترب من النمر فاتحاً يديه ناظراً في عيني النمر، ويتحدث إليه حتى يلين. 

لكن هذا الايمان العميق الذي يمنح الصباح، وأتباعه، قوة هائلة، له جانبه الآخر، كما يصوره معلوف، فهو رجل لا يتورع عن قتل أبناءه إذا بدرت منهم مخالفة للتعليمات والتحريمات التي وضعها.

ويشير معلوف إلى كتّاب سيرته يذكرون ذبح أبناءه لتصوير صرامته وعدم تحيزه، وعندما اعترضت زوجته وبناته على تسلطه عقب إعدامه لاثنين من أبناءه قام بطردهن من “آلموت”، ويختم واصفاً هذا النوع من الشخصيات ببراعة: “إن اعتزال الناس، وإحداث الفراغ حول الذات، وإحاطة النفس بالأسوار والحجارة والخوف، ذلكم هو ما يبدو أنه كان حلم حسن الصبّاح غير المعقول”. 

الصبّاح بين مسلسلين 

ينهل كل من مسلسلي “سمرقند” و”الحشاشين” من رواية معلوف، لكن شخصية الصبّاح مختلفة بين العملين.

في “سمرقند” هو أقرب لقاطع طريق، لئيم، وسادي، لا يتورع عن القتل، والطريقة المفضلة لديه هي كسر عنق خصومه، يقوم بحشو رؤوس بعض العبيد والفقراء بالتحريض، ويجمعهم ويقودهم كرجل عصابات، لا كرجل روحاني صاحب عقيدة ومذهب، وهو يكره كل من الخيام ونظام المُلك منذ اللحظة الأولى، لكنه يخفي ذلك حتى يحقق أغراضه.

يقتبس مسلسل “سمرقند” من الرواية أيضا المشهد الذي يلتقي فيه الثلاثة، حيث يعرض نظام المُلك على كل من الخيام والصبّاح وظيفة في القصر.

مع ذلك، فإن “سمرقند” المسلسل خليط من رواية معلوف على مسلسل “حريم السلطان”، وغيره من الأعمال التركية التي تدور حول مؤامرات القصور والحريم، وهو مثل الفيلم الأميركي Omar Khayyam يعج بالكثير من الرقص والغناء واستعراض الجميلات.

يأخذ “الحشاشين” من رواية معلوف بعض الخطوط والمواقف، المشهد الأول الذي يظهر فيه عمر الخيام واحد في العملين: يسير الخيام في السوق حين يرى عدداً من المتطرفين يعتدون على رجل مسن من تلاميذ الفيلسوف والعالم ابن سينا، متهمين إياه بالكفر، وعندما يحاول الخيام إيقافهم يعتدون عليه أيضاً.

كذلك يأخذ “الحشاشين” من الرواية المشهد الذي يلتقي فيه الأصدقاء الثلاثة، ولكن بمعالجة مختلفة عن مسلسل “سمرقند”.

في “سمرقند” يلتقي الثلاثة لأول مرة، بينما يعتمد “الحشاشين” حكاية المخطوط الفارسي حول الصداقة التي جمعت الثلاثة منذ طفولتهم، والعهد الذي قطعوه بمساعدة من ينجح منهم للآخرين.

حسب رواية معلوف، لا يبدأ حسن الصباح تنظيمه الدموي إلا بعد أن يطرد من قصر السلطان ملك شاه، بفعل مؤامرة نظام المُلك عليه، ولكن في مسلسل “سمرقند”، فهو يقتل ويجمع رجاله القتلة منذ ظهوره.

في “الحشاشين” تكون أولى جرائمه قتل إمام مسجد، وهي أول جرائم فرقة الصبّاح حسب معلوف والمصادر التاريخية، ولكن نرى في “سمرقند” قيام أحد رجال الصبّاح بقتل الخليفة العباسي أثناء قدومه لزيارة أصفهان، وذلك أثناء عمل الصباح في القصر وليس بعد خروجه منه.

في قلعة “آلموت”

ما يسترعي الانتباه في “الحشاشين” هو أن شخصية الصبّاح تحتل صدارة العمل، من ناحية المساحة والعمق بجانب إعطاء الدور لكريم عبد العزيز، واحد من كبار نجوم السينما والتليفزيون، إن لم يكن الأكبر، خلال السنوات الماضية، وربما تكون هذه المرة الأولى التي يقدم فيها الصبّاح باعتباره الشخصية الرئيسية منذ رواية “آلموت”.

ورواية “آلموت” التي كتبها اليوجسلافي فلاديمير بارتول، وصدرت للمرة الأولى 1938، ظلت مجهولة لعدة عقود، خاصة وأنها مكتوبة بإحدى اللغات المحلية، ولكنها عادت إلى الظهور بقوة عقب صعود التيارات الاسلامية المتشددة، وصدامها مع الغرب، وصولا إلى هجمات 11 سبتمبر 2001.

تبدأ أحداث الرواية في 1092 خلال السنوات الأخيرة من حياة حسن الصبّاح، داخل قلعته الرهيبة، وعلى أطرافها.

لا يظهر حسن الصبّاح بنفسه حتى وقت متأخر من الرواية، التي يدور معظمها حول شخصيات أخرى داخل “آلموت” وخارجها، وحسن الصبّاح هو سيد القلعة الغامضة (كما لو أنه الكونت دراكيولا في عزلته)، وخصمه الأكبر هو نظام المُلك الذي رصد 10 آلاف قطعة ذهبية لمن يأتي برأس الصبّاح.

في أحد المشاهد تسأل إحدى الشخصيات، وهي فتاة يتم خطفها واقتيادها إلى القلعة، أحد مريدي الشيخ عن شكله، فيخبرها: “هذا أمر يصعب وصفه، له لحية طويلة، وهو واسع النفوذ”، فتسأله هل هو وسيم، فيخبرها: “لم أفكر في ذلك، إنه باتأكيد ليس قبيحاً، قد يكون بالأحرى مخيفاً”، تسأل هل هو طويل القامة، فيجيب: “لا أقول ذلك، هو أقصر مني”، هل هو قوي؟ فيجيب: “لا أحسب ذلك، فأنا قد أصرعه بيد واحدة”، تستغرب الفتاة، ولكن بما يتمتع حتى يخشاه الجميع هكذا؟ هل لإن لديه جيش كبير؟ فيجيب الشاب: “لا، حتى في مصر عندما كان غريباً لا سند له شاعت حوله هذه الرهبة مما حدا بالخليفة إلى القاءه في السجن، حيث أمضى ليلة، ثم وضعوه في قارب وهم يرجونه أن يغادر البلد”، وأخيرا تسأل هل عيناه مرعبتان؟، فيجيبها: “لا لا أدري ما الذي لديه حتى يخشاه الناس، لكنك إن شاهدتيه يوما فستشعرين أنه يقرأ أفكارك، ويبدو أنه يرى حتى أعماق روحك”.

عندما يظهر حسن، يبدو كرجل سياسة، أو زعيم تنظيم غربي، يشرب الخمر، ويمزح، ويتحدث بعملية عن وسائله في إقناع مريديه بأنه السبيل إلى الجنة، وتنتهي الرواية بموته بعد أن يتفلسف بأقوال عن الحياة والكون ليست فقط جديرة بعمر الخيام، ولكنها لا تناسب أفكار ومفردات عصره.

نجم الـ”فيديو جيم”

رواية “آلموت” على أية حال لعبت دوراً كبيراً في التعريف بحسن الصباح وتنظيم “الحشاشين”، وكانت مصدر إلهام رئيسي لمخترعي لعبة الفيديو Assassin’s Creed، التي حققت مبيعات وشهرة هائلين، وتحولت إلى فيلم بالاسم نفسه، من إخراج جاستن كورزل، 2016، والذي لعب فيه مايكل فاسبندر شخصية أحد أتباع فرقة الحشاشين، ومن المنتظر أن تتحول إلى مسلسل من انتاج منصة “نتفليكس” قريباً.

الطريف في Assassin’s Creed أنها تتناول فرقة الحشاشين بعد حوالي 3 قرون من موت حسن الصبّاح، لا في قلعة “آلموت”، ولكن في غرناطة إبان إنهيار الحكم العربي في أوروبا، وسقوط الأندلس.  

ويبدأ الفيلم في الوقت الحالي، حيث يقوم بعض العلماء بارسال أحد المحاربين إلى الماضي للعثور على تفاحة عدن، التي يستطيع من يمتلكها أن يمنع التمرد والعصيان على السلطة في العالم، ولكن أغرب، وربما أخطر شئ، هو تعامل كلاً من اللعبة والفيلم مع “الحشاشين” على أنهم ثوريين يدافعون عن الحرية في مواجهة من يريدون قمع الحريات. 

main 2024-03-19 Bitajarod

المصدر: بتجرد

كلمات دلالية: عمر الخیام

إقرأ أيضاً:

جلسة نقدية تبحث تجليات السرد الشعبي في الأدب العُماني

أقامت مبادرة مجلس رواق الأدب ضمن فعاليات معرض مسقط الدولي للكتاب جلسة حوارية بعنوان "تجليات الحكاية الشعبية في الأدب العُماني"، والتي هدفت إلى تسليط الضوء على دور الحكاية الشعبية في تشكيل ملامح الأدب العُماني المعاصر. الجلسة التي أدارها الدكتور يونس النعماني، شارك فيها كل من الكاتب عمر النوفلي، والكاتبة فتحية الفجرية، إلى جانب الدكتورة غنية الشبيبية. ناقشت الجلسة الفروقات بين الحكاية الشعبية، والخرافة، والأسطورة، من حيث البناء والوظيفة، كما استعرضت الأثر الجمالي والمعرفي الذي تركته الحكاية في النصوص العُمانية، خاصة على مستوى الرواية والقصة القصيرة. وتطرقت النقاشات إلى نماذج إبداعية وظّفت الحكاية الشعبية في شكلها الحديث، مثل رواية درب المسحورة، وحفلة الموت، وكتاب حدس قديم، وغيرها من التجارب التي جمعت بين الذاكرة الشفاهية وتقنيات السرد المعاصر.

وأكدت الدكتورة غنية الشبيبية في مداخلتها أن الحكاية الشعبية تتجذر في ذاكرة المجتمع العُماني كفنٍّ سردي شفاهي موغل في القدم، يُمارَس في المجالس، ويعكس الوعي الجمعي والقيم الثقافية للناس. وأوضحت أن هذا النوع من الحكايات غالبًا ما يتأرجح بين الثبات، نتيجة تناقله بين الأجيال، والتحول، بسبب اختلاف الرواة وما يضيفونه من تفاصيل. وأشارت الشبيبية إلى أن الرواية العُمانية الحديثة استفادت من هذا الإرث الشفاهي، حيث أعادت توظيف الحكاية في بنى سردية جديدة، كما في رواية درب المسحورة التي استلهمت حكاية وردت في كتاب "تحفة الأعيان" لنور الدين السالمي، وكذلك في رواية حفلة الموت لفاطمة الشيدي، التي تغور في المخيال الشعبي المتصل بعوالم السحر والمغايبة. وتوقفت الشبيبية عند تجربة الكاتبة فتحية الفجرية، مشيدة بكتابها حدس قديم الذي ضم حكايات مستوحاة من المرويات الشفوية لنساء الساحل، واصفة إياه بأنه مخزون أنثروبولوجي وثقافي يحفظ هوية المكان والإنسان. كما تناولت حكاية سكان البيت بوصفها نموذجًا ناجحًا لتحويل الحكاية الشعبية إلى نص حديث متماسك، يوظف تقنيات القصة القصيرة، ويستدعي رموزًا ميثولوجية تعبّر عن علاقة الإنسان بالقوى الغيبية. وأشارت كذلك إلى أعمال أخرى مثل حكايات من نخل لخالد الكندي، التي تناولت حكايات محلية تحمل أبعادًا إنسانية وأخلاقية، وتوثّق العادات المجتمعية والبيئية، إضافة إلى توظيف الحكاية في الشعر، كما في قصيدة قلعة نزوى للشاعر هلال الحجري، التي استلهمت حكاية شعبية محلية ونسجت منها رمزًا للقوة والصمود في وجه التحديات.

وفي مداخلتها، تطرقت الكاتبة فتحية الفجرية إلى مفهوم "المرجعية في الأدب العُماني"، مشيرة إلى أن الحكاية الشعبية تمثل إحدى أهم المرتكزات التي يُعاد توظيفها في الكتابة السردية الحديثة. وأوضحت أن النصوص الأدبية لا تنشأ من فراغ، بل تُبنى على مرجعيات ثقافية وفكرية وتاريخية تُعيد تشكيلها ضمن بنى فنية معاصرة. وقالت إن المرجعية في النص الإبداعي هي بمثابة نصٍّ موازٍ، يسهم في بلورة الفكرة وتكوين الشخصيات ورسم الرموز والدلالات، مشيرة إلى أن الروايات مثل حدس قديم ودرب المسحورة وحفلة الموت، تمثّل نماذج واضحة لكتابات انطلقت من المرويات الشفاهية الشعبية، وخاصة تلك التي تدور حول عوالم السحر والمغيّبين، لتُعاد صياغتها بأساليب سردية حديثة تُبرز البعد الأنثروبولوجي وتستدعي الذاكرة الجمعية بوصفها مادة خامًا قابلة للتحول الأدبي.

من جانبه أشار الكاتب عمر النوفلي إلى أن الحكاية الشعبية تمثل تمثُّلًا إنسانيًا عميقًا لوعي الجماعة وثقافتها الجمعية، معتبرًا إياها نصًا إثنوغرافيًا يتكئ على اللغة والكلام في تشكّل القيم والأخلاق. وبيّن النوفلي أن الحكاية الشعبية، رغم حضورها التاريخي العريق، تُعدّ مفهومًا حديثًا في سياق الأدب المقارن والدراسات النقدية، نظراً لتداخل أجناس الحكاية القصصية، وصعوبة حصرها ضمن نسق أدبي محدد. واستعرض الفروقات المفاهيمية بين الحكاية والخرافة والأسطورة، موضحًا أن الحكاية الشعبية هي خبر أو قصة منزوعتا الزمان والمكان، تتناقلها الألسن عبر الرواية الشفوية، مما يجعلها عرضة للتحوير والانزياحات الدلالية.

وأكد على غنى الحكاية الشعبية بالمعنى الأدبي المحتمل والمؤجل، فهي مادة قابلة للتشكّل داخل فضاءات السرد الحديث، وتُسهم في تأسيس لذة نصيّة تفتح أفق التأويل، مشيرًا إلى أثر السماع والخطاب الشفهي في ارتسام الصور الذهنية داخل المخيال الأدبي، كما تطرّق إلى دور الحكاية في بناء التصوّر الأخلاقي والاجتماعي، وتوظيفها كعلامة سيميائية ضمن السياق الثقافي العُماني.

وربط "النوفلي" بين الحكاية الشعبية والجانب البلاغي، مستندًا إلى تصورات حازم القرطاجني وابن سينا حول المعاني والصور الذهنية، مستعرضًا كذلك البعد التواصلي والتأثيري والجمالي الذي تحققه الحكاية ضمن سيرورة إنتاجها. كما استشهد بتعريف جوليا كريستيفا للنص كحقل لتفاعل نصوص سابقة ومتزامنة، مستعرضًا البعد الشكلاني في دراسات فلاديمير بروب، وعدد من الدراسات العُمانية التي اشتغلت على الحكاية الشعبية من زاوية بنيوية وسيميائية، من بينها أبحاث عائشة الدرمكية وعبدالعزيز الراشدي وآسية البوعلي، مشيدًا بجهودهم في توثيق هذا الإرث السردي المهم.

مقالات مشابهة

  • الثوابتة: العدو يستخدم اسلحة محرمه و يستهدف الخيام ومراكز النزوح بغزة
  • الثوابتة: العدو يستخدم اسلحة محرمه ويستهدف الخيام ومراكز النزوح بغزة
  • من أرض الزيتون إلى الخيام.. حلم مزارعي إدلب بالعودة يتأجل
  • شكسبير واليوم العالمي للإنجليزية
  • جلسة نقدية تبحث تجليات السرد الشعبي في الأدب العُماني
  • جلسة تبحث تجليات المسكوت عنه في النص والحياة
  • صعوبة توفير الخيام تفاقم أوضاع أهالي غزة المتدهورة
  • أحمد سعد الدين: الأغنية والسينما جسّدتا بطولات الحروب.. وعلينا توثيق التاريخ للأجيال القادمة
  • مصطفى أبو سريع ينضم لعالم "الميتافيرس" في تجربة درامية جديدة مع معتصم النهار وميرنا نور الدين
  • حزنت جدا للمصيبة التي حلت بمتحف السودان القومي بسبب النهب الذي تعرض له بواسطة عصابات الدعم السريع