في ظل تعثر الإنتقال السياسي في السودان حري بنا أن نلتفت إلى بعض التجارب الأفريقية عسى ولعلنا نقتبس منها بعض العبر والدروس. وعلى الرغم من وجود ثلاث تجارب أخرى في أفريقيا (المغرب ، تونس، رواندا) إلا أنه ليس هناك أفضل من تجربة جنوب إفريقيا، على الرغم من أنها تتسم بشئ من المثالية التي لا يرتقي إلى مستواها إلا القادة العظام ممن هم في قامة الزعيم نيلسون مانديلا وقيادات حركة التحرر الوطني في جنوب إفريقيا.

بنهاية الثمانينات من القرن الماضي توصل نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا (الأبارتايد) إلى قناعة مفادها أن النظام وصل إلى طريق مسدود وأن لا مستقبل له، خاصة بعد أن رفعت كل من أمريكا وبريطانيا الغطاء عنه تحت ضغط الجماهير.

وفي 1992 وقع حزب المؤتمر الوطني الأفريقي إتفاقية مع الحزب الوطني الحاكم حينها بزعامة وليام دوكليرك تم بموجبها إنهاء نظام الفصل العنصري وتكوين حكومة إنتقالية.

كان أمام المؤتمر الوطني الأفريقي خياران تجاه التعامل مع “فلول” النظام العنصري: الانتقام أو التسامح. جرى نقاش مستفيض داخل الكتل الثورية المنضوية تحت لواء المؤتمر الوطني الإفريقي (ANC) وهي ثلاث كتل رئيسية: مؤتمر عموم أفريقيا (PAC) والحزب الشيوعي (SACP) واتحاد العمال (COSATU). فاز خيار التسامح على الرغم من مرارته في الحلق، لأن خيار الإنتقام يعني نهاية الدولة نظراً لأن البيض يملكون رأس المال وكل الثروات التي اكتنزوها خلال 42 سنة من عام 1946 إلى 1994. هذا فضلاً عن علاقاتهم الخارجية الممتدة. إنهيار الدولة كان مسألة محققة إذا اختار المؤتمر الوطني الأفريقي الإنتقام والاقصاء. لذلك كان غلب خيار التسامح مع تشديد سلطة القانون بحيث يجد كل صاحب مظلمة حقه أمام القضاء.

بمعنى أن المؤتمر الوطني الأفريقي استخدم العقلية الثورية ولم يستخدم عقلية الانقلابات العسكرية. والفرق بين الأثنين هو أن عقلية الانقلابات العسكرية تتوجس من النظام القديم لأنه قد ينتهز أي نقطة ضعف في النظام الإنقلابي ليستعيد السلطة. وبالتالي فإن العقلية الإنقلابية تبالغ في شيطنة النظام القديم وسد كل الأبواب في وجهه حتى لا يتنفس. أما العقلية الثورية فترى أن النظام الذي يسقط نتيجة ثورة شعبية لا يمكن أن يفكر في العودة إلى الحكم، وإن فكّر فإن الجماهير لن تقبله، وبالتالي لا خوف منه. لذلك لابد من استقطاب عناصره التي ليس عليها مآخذ قانونية والاستفادة من خبراتهم وعلاقاتهم وحتى أموالهم وممتلكاتهم.

لو استخدم مانديلا عقلية الانقلابات العسكرية لما قام لجنوب إفريقيا قائمة. قال مانديلا قولته المشهورة: إذا ظلمك ظالم في أوج قوته وضعفك فظلمته أيضاً في أوج قوتك وضعفه فقد أعطيته المبرر أنك فعلاً كنت تستحق الظلم.

ركز ما نديلا على ثلاث ركائز أساسية مكنته من العبور بالمرحلة الإنتقالية إلى انتخابات ديمقراطية شفافة فاز فيها بما يشبه التزكية. هذه الركائز الثلاث هي:

أولاً: مشروع التغيير المسنود بخطاب سياسي ناضج يعزز الوحدة الوطنية وينبذ كل أشكال العنصرية والظلم ويرسم الصورة الذهنية للمستقبل المنشود الذي يجد فيه كل الناس أنفسهم. وطمأن المستفيدين من نظام الفصل العنصري سابقاً الذين توجسوا خوفاً من التغيير أنهم لن يكونوا موضع ظلم. وفتح الباب أمامهم واسعاً للمشاركة في عملية التغيير فاستفادت البلاد من خبراتهم وعلاقاتهم وحتى رؤوس أموالهم. بل أصبحوا أكثر وطنية من بعض السود.

ثانياً: إرساء سلطة القانون ودولة المؤسسات بحيث تنفذ أجهزة العدالة برنامج العدالة الانتقالية، على أن يتقدم كل صاحب مظلمة بمظلمته إلى القضاء لينال حقه.

ثالثاً: إنشاء لجنة الحقيقة والمصالحة لعلاج الجروح النفسية للظالمين والمظلومين على حد سواء، الأمر الذي امتص كل مظاهر الحقد والكراهية. كانت جلسات هذه اللجنة مفعمة بالعاطفة الجياشة حيث يأتي الجاني ويعتذر للمجني عليه فيتعانقان وينفجران معاً في موجة من البكاء. هذه اللحظات كانت مؤثرة حتى على الذين يشاهدون عبر التلفاز.

بهذه الحكمة استطاع حزب المؤتمر الوطني الأفريقي بقيادة مانديلا أن يعبر بجنوب إفريقيا إلى دولة المؤسسات والقانون، علماً بأن جنوب أفريقيا تضم مكونات عرقية لا يجمع بينها لا ثقافة ولا لغة ولا دين بخلاف الأرض التي يسكنون عليها.

تجربة جنوب أفريقيا مثالية بمعنى الكلمة يصعب تطبيقها في أي دولة أخرى نظراً لأن قيادة المؤتمر الوطني الإفريقي كانت فريدة ولن تتكرر حتى في الجيل الحالي. وأرجو أن أضيف أيضاً أن ديمقراطية جنوب افريقيا تعتبر أفضل بكثير من الديمقراطية الأمريكية التي يحسم نتيجتها أصحاب النفوذ بينما ديمقراطية جنوب أفريقيا يحسم نتيجتها القواعد الشعبية.

رمضان أحمد

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: المؤتمر الوطنی الأفریقی جنوب إفریقیا جنوب أفریقیا

إقرأ أيضاً:

الأدب المسرحي ضد العنصرية.. وفاة كاسر محرمات جنوب أفريقيا أتول فيوغارد

توفي الكاتب المسرحي الجنوب أفريقي أتول فيوغارد عن عمر ناهز 92 عاما، تاركا وراءه إرثا أدبيا ومسرحيا شكّل علامة فارقة في النضال ضد نظام الفصل العنصري.

ونعت بلدية مدينة كيب تاون -الأحد- هذا المسرحي البارز الذي واجه محرمات النظام العنصري من خلال أعماله الجريئة التي جمعت ممثلين من البيض والسود على خشبة المسرح، متحديا بذلك القوانين الجائرة التي حاولت فرض التفرقة العنصرية في جميع نواحي الحياة.

وفي بيان لها، أشادت بلدية كيب تاون بإسهامات فيوغارد، مؤكدة أن "كل من تأثر بفنه سيبقى يحمل إرثه الإبداعي"، لافتة إلى أنه "اشتهر بمواقفه الثابتة ضد نظام الفصل العنصري".

وُلد فيوغارد في 11 يونيو/حزيران 1932 ببلدة ميدلبورغ خلال حقبة كان فيها الفصل العنصري سياسة رسمية متجذرة تحرم السود من حقوقهم الأساسية.

وفي عام 1961 قدّم واحدة من أولى مسرحياته الكبرى "عقدة الدم"، والتي تناولت قصة أخوين غير شقيقين، أحدهما أبيض (أدى دوره فيوغارد نفسه)، والآخر أسود، يجتمعان على خشبة المسرح أمام جمهور مختلط، وهو أمر كان يعد سابقة خطيرة في ظل النظام العنصري.

لكن لم يطل الأمر حتى فرضت السلطات حظرا على الفرق المسرحية المختلطة، ومنعت وجود جمهور متنوع الأعراق في المسارح، مما دفع فيوغارد إلى التعاون مع فرقة "سربنت بلايرز" التي ضمت ممثلين سودا -بينهم جون كاني- لتقديم عروض مسرحية تتناول واقع الحياة في جنوب أفريقيا آنذاك.

إعلان

ومن أشهر مسرحياته "بوسمان ولينا" التي عرضت لأول مرة عام 1969، وتناولت قسوة الحياة التي يعانيها زوجان من السود، وتم تحويلها إلى فيلم سينمائي عام 2000 من بطولة داني غلوفر وأنجيلا باسيت.

تدور المسرحية حول شخصيتين من عرق مختلط، يعيشان منبوذين يتجولان في أراضٍ طينية بالقرب من نهر، وخلال رحلتهما يحاولان البحث عن جذورهما والمصالحة مع ماضيهما، لكنهما يواجهان صراعات داخلية وخارجية.

ووسط الظلام الذي يلف حياتهما يظهر رجل أسود يحاول سرد قصته، لكن حاجز اللغة يمنعهما من التواصل معه، ويتوفى الرجل الأسود بجانب نارهما، وفي لحظة نادرة وسط الألم واليأس تقرر "لينا" أن تغني وترقص.

كسر القيود المسرحية

من جانبه، عبّر الممثل المسرحي الجنوب أفريقي جون كاني المعروف بصوته الأجش الذي ميز شخصياته في أفلام "مارفل" و"ديزني" عن حزنه الشديد لفقدان صديقه فيوغارد، مشيرا إلى أنهما تشاركا العمل معا منذ شبابهما.

ولم تكن شراكتهما مجرد تعاون مسرحي، بل كانت تحديا صريحا للنظام العنصري، إذ تجاهل الاثنان القوانين الجائرة، وعقدا تدريباتهما في الخفاء داخل الفصول الدراسية والمرائب هربا من مضايقات الشرطة.

وفي هذا السياق، أشادت صحيفة غارديان البريطانية عام 2012 بشجاعة فيوغارد، واصفة إياه بـ"الأفريكاني العنيد الذي ساعد في كشف وحشية نظام الفصل العنصري وظلمه الأعمى للعالم".

لم يقتصر تأثير فيوغارد على المسرح، بل امتد إلى السينما، إذ سُلطت الأضواء عليه مجددا عام 2006 عندما فاز فيلم "تسوتسي" المقتبس من قصة قصيرة كتبها عام 1961 بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، ليصبح أول فيلم جنوب أفريقي ينال هذا التكريم.

أما مسرحيته "السيد هارولد والصبيان" -التي استلهمها من سيرته الذاتية- فتدور أحداثها في خمسينيات القرن الماضي، وتتناول قضية التحيز العنصري من خلال العلاقة بين مراهق أبيض ورجلين أسودين يعملان لدى عائلته.

إعلان ثيمة المقاومة

شكّلت مسرحيات أتول فيوغارد مرآة تعكس معاناة السود في جنوب أفريقيا، إذ تكررت في أعماله ثيمة المقاومة، ولا سيما في مسرحيتيه الشهيرتين "سيزوي بانزي مات"، و"الجزيرة"، واللتين كتبهما بالتعاون مع رفيقيه في النضال المسرحي جون كاني ووينستون نتشونا.

تناولت مسرحية "سيزوي بانزي مات" -التي عُرضت لأول مرة عام 1972- قضايا الهوية والكرامة الإنسانية، حيث تدور حول رجل أسود يجد بطاقة هوية لشخص متوفٍ، ويضطر إلى انتحال هويته للحصول على فرصة عمل، في إدانة واضحة للقوانين العنصرية التي فرضت قيودا مشددة على حركة السود في البلاد.

"صحيح أن نظام الفصل العنصري حصرني، لكنني فخور بالعمل الذي نتج عن ذلك، والذي يحمل اسمي"

أما مسرحية "الجزيرة" -التي استُلهمت من تجربة السجناء السياسيين في جزيرة روبن آيلاند حيث سُجن نيلسون مانديلا- فقد سلطت الضوء على القمع السياسي والمعاناة داخل المعتقلات من خلال قصة رجلين يقضيان حكما بالسجن مع الأشغال الشاقة.

وفي تصريح لوكالة الصحافة الفرنسية عام 1995 بعد عام من أول انتخابات ديمقراطية غير عنصرية في جنوب أفريقيا قال فيوغارد "صحيح أن نظام الفصل العنصري حصرني، لكنني فخور بالعمل الذي نتج عن ذلك، والذي يحمل اسمي".

وكان هذا الموقف انعكاسا واضحا لإيمانه بدور الأدب والمسرح باعتبارهما وسيلة قوية للمقاومة والتغيير.

إرث مستمر بعد زوال الفصل العنصري

لم يتوقف فيوغارد عن استكشاف تداعيات الفصل العنصري حتى بعد انتهائه رسميا في عام 1994، إذ واصل في أعماله المسرحية استعراض إرث هذا النظام في جنوب أفريقيا الجديدة.

وفي مسرحية "الرجل الأول" الصادرة عام 1997 عاد إلى طفولته وتأملاته الشخصية، في حين ناقش في مسرحية "أرض الناس الجميلة" -التي كتبها في العقد الأخير من حياته- التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي واجهتها البلاد بعد التحول الديمقراطي.

إعلان

حصد فيوغارد خلال مسيرته الحافلة العديد من الجوائز، كان أبرزها جائزة توني الخاصة عام 2011 عن مجمل أعماله المسرحية -وهي واحدة من أرفع الجوائز المسرحية في العالم- تقديرا لإسهاماته الفريدة في الفن المسرحي.

كما منحته الأكاديمية البريطانية لفنون السينما والتلفزيون جائزة تقديرية عن إبداعاته السينمائية والمسرحية.

وتأثر أتول فيوغارد بالنسيج القانوني والسياسي لجنوب أفريقيا، كما تأثر بكتاب عالميين مثل جورج أورويل وبرتولت بريخت وآرثر ميلر الذين استخدموا المسرح أداة نقدية لكشف الاستبداد والظلم.

وبفضل جرأته أصبح أحد الأسماء البارزة في حركة "المسرح الاحتجاجي"، والتي ظهرت في جنوب أفريقيا لمواجهة التمييز العنصري من خلال الأعمال الدرامية.

يذكر أن أعمال فيوغارد لم تكن تُعرض بسهولة في جنوب أفريقيا خلال فترة الفصل العنصري، إذ كانت تُمنع أو تُفرض عليها رقابة صارمة، مما اضطره إلى تقديم عروض سرية أو نقل مسرحياته إلى خارج البلاد، حيث لقيت إشادة واسعة في لندن ونيويورك ومدن أخرى.

ووُلد أتول فيوغارد عام 1932 في بلدة ميدلبورغ بجنوب أفريقيا لأب من أصول أيرلندية وفرنسية وأم أفريقية.

ونشأ في بيئة متواضعة بمدينة بورت إليزابيث، حيث التحق بمدارس محلية، قبل أن يدرس الفلسفة والأنثروبولوجيا في جامعة كيب تاون، لكنه تركها دون إكمال دراسته.

قضى فيوغارد فترة من حياته في التدريس، إذ عمل أستاذا مساعدا للكتابة المسرحية والإخراج بجامعة كاليفورنيا في سان دييغو.

ورغم عودته إلى جنوب أفريقيا بعد انتهاء الفصل العنصري فإنه أعرب عن خيبة أمله من التحديات التي واجهتها البلاد في فترة ما بعد الفصل العنصري، وهي الخيبة التي يشترك فيها معه كثير من أبناء جيله من المناضلين ضد الفصل العنصري.

مقالات مشابهة

  • الاتحاد الأوروبي يعلن عن استثمارات بقيمة 5 مليارات دولار في جنوب أفريقيا
  • أبرز الفئات التي شملها قرار الداخلية السورية إلغاء بلاغات منع السفر
  • تعرف على موعد سفر الزمالك إلى جنوب إفريقيا
  • دير مار مرقس بجنوب أفريقيا.. منارة روحية ومسيرة شهداء
  • العواك: النظام السياسي الرئاسي ضمن مسودة الإعلان الدستوري لا يسمح أن تقوم سلطة بعزل سلطة أخرى
  • العواك: عملنا على إعادة النظام السياسي إلى سكة دستورية حقيقية وأوصينا بتقديم دستور دائم
  • مركز الملك سلمان للإغاثة يوزّع 400 سلة غذائية في منطقتي جوهانسبرغ و هيلدركرون بجمهورية جنوب أفريقيا
  • “اغاثي الملك سلمان” يوزّع 400 سلة غذائية في جنوب أفريقيا
  • اقتصادية النواب تقر توسيع نطاق عمليات البنك الأوروبي بدول أفريقيا جنوب الصحراء
  • الأدب المسرحي ضد العنصرية.. وفاة كاسر محرمات جنوب أفريقيا أتول فيوغارد