سِفْر الأفلاج من كتاب بيان الشرع
تاريخ النشر: 19th, March 2024 GMT
كتاب بيان الشرع موسوعة فقهية في اثنين وسبعين جزءا ألفها العالم أبو عبدالله محمد بن إبراهيم الكندي السمدي النزوي (ت:508هـ)، ثم اعتنى من جاء بعده بالكتاب أيّما عناية بنسخه وتداوله والنقل عنه وباختصاره والاستخلاص منه، ولا تكاد تخلو خزانة عمانية من شيء من أجزائه حتى أنه في دار المخطوطات العمانية وحدها أكثر من 700 مخطوط لأجزاء الكتاب.
والحق أن الكتاب مدونة جمع أشتاتها المؤلف ابتداء، ثم جاء من جاء بعده وزاد عليه زيادات كثيرة، كحال غالب كتب التراث العماني في القرون الأولى من تاريخ التأليف. ولعل الموقف من الزيادات على الكتب ذو وجهين، أحدهما الاستحسان لأنها حفظت نصوصا كثيرة من مصادر مفقودة لم يُكتَب لها البقاء، والآخر اعتبار تلك الزيادات تعدِّيًا على نص المؤلف حتى غدا من العسير تمييزه عن الزيادات في أحيان كثيرة.
وبالعودة إلى موضوع كتاب بيان الشرع وهو الفقه مع شيء من أصول الدين والسياسة الشرعية في بعض أجزائه غير أنه مع ذلك مكنز للشوارد التاريخية والألفاظ الحضارية والفوائد اللغوية، بل يضم في بعض أجزائه نصوصا في العلوم التجريبية والبحتة.
ونودُّ ها هنا الإلماع إلى جزء مهم من أجزاء الكتاب موضوعه فقه الأفلاج، والأفلاج قِوام الحياة في كثير من قرى عمان منذ قرون طويلة. يشتمل الجزء التاسع والثلاثون من الكتاب على أبواب كثيرة يدور أغلبها حول قضايا الأفلاج وحفرها وصيانتها ودوران مياهها، وما يتعلق بحقوق الملاك وبإدارة الأفلاج والأحكام المتعلقة بذلك. كما يكتنز الجزء نصوصا تاريخية عن وقائع حدثت في أفلاج عديدة بداخلية عمان منذ القرن الثالث الهجري.
هذا فضلًا عن ذكر العديد من الأعلام والكثير من المصطلحات والألفاظ الحضارية، وتوثيق جملة من القواعد والسنن والأعراف التي جرى عليها غالب أهل القرى العمانية ذات الأفلاج. فمن الأمثلة على القضايا التي جاءت في أبواب الكتاب مسألة حريم الأفلاج أي حدودها وإحراماتها وقد تراوحت من 300 إلى 500 ذراع على اختلاف بين عدد من الفقهاء الذين نقل عنهم الكتاب. أما عن قواعد وسنن وأعراف الأفلاج فلها أمثلة كثيرة ضمن مسائل الكتاب منها مثلا تقسيم حصص مياه الأفلاج، ومثاله قضية فلج القسوات الذي يسقى محلة الرحى من إزكي، في جواب لأبي علي الحسن بن أحمد (ت:503هـ)، إذ جاء في النص أنه كانت للفلج سنن وأعراف في تقسيم مياهه ثم طرأت بعض المعارضات، وفيه أيضا تفصيل الوحدات التوزيعية لمياه الفلج من الأكبر إلى الأصغر: «والجملة فيه اثنتا عشرة خبورة، في كل خبورة ستون أثرًا...الخ»، وذكر بعض تقاليد أهل الفلج وطرائقهم إذا انكسر الفلج بالسيل. وهذا المجيب نفسه ذكر بعد هذا النص جوابا مماثلا في فلج ضوت من نزوى إذا كسره وادي كلبوه. كما خصص المؤلف بابا في الزيادة في أوادّ الفلج أي وحداته التوزيعية الكبرى، وهي قاعدة اتُّبِعَت في بعض أفلاج عمان قديمًا إذ تُزاد في القاعدة التوزيعية حصة كبرى (بادة أو خبورة) فتُقعد (تؤجر) لمصلحة الفلج إذا ضعفت موارده أو طرأ عليه ما يدعو إلى تحصيل المال لخدمته. وعن المسؤولية المشتركة التي تقع على كافة المُلّاك في الفلج في شأن خدمة الأفلاج وصيانتها قول المجيب في إحدى المسائل: «ويؤخذ أهل البلد أيضا بإصلاح أنهارهم التي لهم ويحدث فيها الفساد، وأما ما يقترح فليس يُحكَم عليهم به إلا أن يتفقوا على ذلك»، وثمة مسائل كثيرة عن الجبهة أو الجباه وهم من يمكن أن نطلق عليهم فريق إدارة الفلج، وما يترتب عليهم من مهام وواجبات. وفي الكتاب من الألفاظ الحضارية المتعلقة بالأفلاج الكثير مثل: الثقاب، والأطوى، والمنازف، والخبورة، والجباه، والبيادير، والآد، والإتاق، والقناطر، والساقية الجائز، والساقية غير الجائز، والوجين، وغيرها كثير. ولعل القريب من الأفلاج وشؤونها يرى أن جملة من تلك الألفاظ لا تزال مستعملة حتى اليوم، غير أنه في المقابل اندثر استعمال بعضها، أو اختلفت الألفاظ المستعملة من بلد إلى آخر.
ومن الأحداث التاريخية التي نُقلت في الكتاب قصة اجتياح السيل لفلج الخطم بمنح في السنة التي غرق فيها الإمام الوارث بن كعب (ت:192هـ)، فلم يجدوا إلى إخراج الفلج سبيلا، إلا في أرض أهل نزوى وهي أرض بني زياد، فاستشار الإمام غسان بن عبدالله الفقيه أبا عثمان سليمان بن عثمان فأجاب بأنه يجوز إخراج الفلج في أموال الناس بالثمن بالقيمة التي يقررها العدول، فأخذ الإمام غسان برأي أبي عثمان. ويلخص نص آخر قصة فلج لأهل إزكي في رمهم الذي يجمعهم وهو فلج حَبُوب «كان قد خرب وذهب في القديم، فقاضى عليه موسى بن علي من معدنهم الذي يجمعهم وأقام فيه العمال حتى أخرجوه وجرى. وبلغنا أنه أنفق على إخراجه نحو مائة ألف درهم، وهو منذ أخرجه خارج بعد إلى اليوم، وكان الصلاح فيما فعل».
وثمة وثائق نُقلت بنصها في هذا الجزء من الكتاب منها وثيقة فلج ذي نيم المؤرخة يوم 10 ربيع الأول سنة 428هـ منقولة عن خط محمد بن أحمد بن محمد بن الحسن السعالي. ومنها وثيقة حكم القاضي أبي محمد نجاد بن موسى المنحي بين أهل فلج ضوت وفلج الخوبي بنزوى، بحضور أبي محمد نبهان بن أبي المعمر، وأبي عبدالله محمد بن إبراهيم، ويوسف بن محمد بن يوسف، والحسن بن محمد بن الحسن، ومن حضر من جباة الفلجين، ويظهر من النص أنه جرى التوافق بين الطرفين وزال الخلاف في القضايا التي اختلفوا فيها وكان ذلك سنة 448هـ. وتحتشد في هذا الجزء من الكتاب كثير من الإشارات التاريخية والحضارية.
محمد بن عامر العيسري: باحث في التراث العماني.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: محمد بن
إقرأ أيضاً:
منصة عين تدشّن أربعة كتب جديدة ضمن مشروع الكتاب الصوتي
تزامنًا مع معرض مسقط الدولي للكتاب الذي يفتح أبوابه اليوم (الخميس)، وفي إطار مشروع "الكتاب الصوتي" الذي أطلقته وزارة الإعلام منذ عام 2021، أعلنت منصة "عين" عن تدشين أربعة كتب صوتية جديدة، لترتفع بذلك حصيلة ما أنتجته المنصة إلى واحدٍ وستين كتابًا صوتيًّا، تتوزع بين أجناس أدبية وفكرية متعددة. ويأتي هذا الإنجاز استمرارًا للجهود المبذولة في توسيع نطاق الوصول إلى المعرفة المقروءة من خلال الصوت، وتوفير محتوى عربي غني يخاطب ذائقة الجمهور بمختلف فئاته.
أدب عالمي بصوت عُماني
الكتاب الأول الذي انضم حديثًا إلى مكتبة "عين" الصوتية هو "الساذجة: قصص من الأدب العالمي"، وهو مختارات قصصية مترجمة لأشهر كتّاب العالم، من أمثال تشيخوف، وماركيز، وكافكا، وأورويل، وكاواباتا، وجيمس جويس، وغيرهم. ترجم الكتاب الصادر عن مؤسسة الانتشار العربي في بيروت عام 2008 عدد من المترجمين ينتمون إلى "مجموعة الترجمة العُمانية" في جامعة السلطان قابوس، وهم أحمد حسن المعيني، وابتهاج الحارثي، وعلياء الشحي، وهلال المعمري، ويونس الحراصي، وشمسة الحوسني، وجهينة الكندي، وأحلام المعمري، وأمل النبهاني، وخليفة الكندي، وفاطمة المعمري، ومي سعيد العبري. تقدم هذه القصص مشاهد إنسانية تعالج قضايا الصراع النفسي، والقلق الوجودي، وتعقيدات العلاقات الاجتماعية، بأسلوب أدبي رفيع. ومن بين ما جاء في إحدى قصص الكتاب: "ذهبتُ إلى الفراش ولكني لم أستطع النوم... بدأتُ أحس أنني مهما فعلت فلن أستطيع أبدًا تحقيق ما أرغب به". وقد قُرئ الكتاب بصوت المذيعَيْن أحمد الكلباني وماجدة المزروعي، وأخرجه تقنيًّا حمد الوردي.
سيرة من الضوء والانتصار
أما الكتاب الثاني فهو السيرة المؤثرة "قصة حياتي" لهيلين كيلر، الأيقونة الأميركية التي تغلبت على إعاقتي السمع والبصر لتصبح أول كفيفة تنال شهادة جامعية. ترجمت الكتاب المترجمة العراقية الدكتورة أنوار يوسف، ونشرته دار الرافدين عام 2021. تنقل كيلر في هذا العمل روحًا متوثبة ومعرفة عميقة بالحياة، وتقول في أحد مقاطع الكتاب: "إن المعرفة سعادة، لأن معناها أن تعرف الأهداف الحقيقية من الزائفة". وقد أُلقِي الكتاب بصوت المذيعة فاطمة إحسان، وأخرجه فنيًّا أيمن الحبسي.
ضحك ودموع تحت القصف
الكتاب الثالث يحمل عنوانًا صادمًا ومركبًا: "ضحك ولعب.. دموع وحرب: يوميات العدوان على غزة"، للكاتبة الفلسطينية سما حسن، والصادر عن الدار العربية للعلوم ناشرون عام 2015، بتقديم من الروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله. يوثق الكتاب تفاصيل العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2014، والتي لا تختلف كثيرًا عن تفاصيل حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل هذه الأيام، وذلك من منظور يومي حميمي يعايش الخوف والرجاء في بيت صغير تأوي إليه الكاتبة وأولادها الأربعة. تقول سما: "في غزة، أحسد كل من يموت مرة واحدة، لأن الأحياء يموتون كل لحظة". قرأت اليوميات بصوتها المذيعة أمل السعيدي، وأخرجتها صوتيًّا المخرجة فاطمة الرواس.
قصائد من رماد الروح
أما الكتاب الرابع والأخير، فهو الديوان الشعري "لديّ ما أنسى" للشاعر العُماني حسن المطروشي، الصادر ضمن أعماله الشعرية الكاملة الصادرة مؤخرًا عن مؤسسة الانتشار العربي. يضم الديوان خمسًا وعشرين قصيدة، تتأرجح بين شعر التفعيلة والقصيدة العمودية، وتمتاز بلغة مشحونة بالتأمل والقلق والبحث عن الهوية. يقول المطروشي في إحدى قصائده: "أغادرُ من ريحٍ لأخرى تُحيلني رمادًا، وإن بَعْثَرْتِه سَأُضيءُ!". وقد قرأ حسن المطروشي ديوانه بصوته، بينما تولى الإخراج الصوتي جمال الشعيلي.
وتجري حاليًّا الاستعدادات لتدشين مجموعة جديدة من الكتب في الأسابيع المقبلة، في إطار مشروع منصة "عين" الطموح لإثراء الفضاء السمعي العربي، عبر تقديم محتوى أدبي وثقافي متنوع يلبي تطلعات القرّاء المستمعين، ويجعل من الصوت جسرًا حيًّا نحو المعرفة، والتأمل، والانفعال الجمالي.