لجريدة عمان:
2024-12-22@16:02:23 GMT

رواية «تفصيل ثانوي» أنموذجًا لأدب المقاومة...

تاريخ النشر: 19th, March 2024 GMT

رواية «تفصيل ثانوي» أنموذجًا لأدب المقاومة...

عندما تمت الإشارة لي بإعادة كرَّة العام الماضي لكتابة هذا المقال الرمضاني، وافقت دون تردد استجابة للرغبة المتقدة، والضرورة الملحّة بمَد رقعة فعل المقاومة الصغير الذي نمارسه جميعنا عبر مواقع التواصل الاجتماعي بقلة حيلة. ورغم أنني أدرك أن هذا المقال لا يعد إلا «جرمًا صغيرًا» لا يرقى لأن يماثل ما سخّره آخرون من أنفسهم وأوقاتهم وطاقاتهم وعزيمتهم في خدمة هذه القضية كلا حسب مجاله.

ولكننا بعدما كنا نكرر «أثر الفراشة لا يرى»، حظينا بزمن شهدنا فيه بأم أعيننا أثر الفرد الواحد جليًا، بل وأصبحنا نمنَّي أنفسنا به، ونرجو أن يكون الخلاص على يديه، كما ونعول عليه للتحرر، سواء طال الأمد أم قصر.

إن اختيار رواية «تفصيل ثانوي» للكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي، وقراءتها هو فعل دعم ومقاومة بحد ذاته، لدحر كافة أشكال العنصرية وازدواجية المعايير في وجه الشعوب المضطهدة، فرغم أن الرواية قد صَدرت عام 2017 بنسختها العربية، وقد ترجمتها إليزابيث جاكيت إلى الإنجليزية، لتترشح إثر ذلك لجائزة الكتاب الوطني في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2020، ثم وصولها إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر الدولية عام 2021.

إلا أن ما جعلها تطفو للسطح مرة أخرى في أكتوبر من العام المنصرم هو ترجمتها إلى الألمانية من قبل «غونتر أورت»، وفوزها إثر ذلك بجائزة ليبراتو بريس 2023. وقد كان من المفترض أن تتسلم شبلي الجائزة في حفل يُقام في 20 أكتوبر من العام المنصرم ضمن فعاليات معرض فرانكفورت للكتاب، ولكن مع أصداء «طوفان الأقصى»، فوجئت الأوساط الثقافية سواء في العالم غير الغربي (الإفريقي والآسيوي وأمريكا اللاتينية) المستهدف بالجائزة، أم في الوسط المحلي الألماني بقرار إلغاء الحفل وتأجيله من قبل إدارة المعرض والمسؤولين عن الجائزة، في إشارة واضحة إلى التكالب على إلغاء الصوت الفلسطيني، وبذلك تمتطي الجهتان ركب موجة الانحياز الجلي والدعم المستميت إلى الرواية الإسرائيلية التي اجتاحت ساسته، لكننا أدركنا هنا أنها طالت أيضا مثقفيه وإعلاميه ممن كان يعول عليهم إحقاق الحق كونهم حملة أمهات المعرفة والثقافة في المجتمعات، أوعلى الأقل تبنّي الحيادية.

وبذلك انقلبت الرواية من «عمل فني مؤلف بدقة يحكي عن قوة الحدود وما تصنعه الصراعات العنيفة بالإنسان» إلى «مادة معادية للسامية تصور إسرائيل كآلة قتل -وإسرائيل كذلك-». ولكن بعيدًا عن هذا وذاك فإنه يمكننا القول إن عنصر القوة في هذا العمل الأدبي هو اللغة الرصينة النادرة، والتي تشكّلت لدى الكاتبة جراء إبحارها الدائم في المعاجم اللغوية التي يزخر بها تراثنا العربي، وجميعنا نعلم الدور المهم الذي تلعبه اللغة في تخليد الإنتاج الأدبي لسنوات بل وأحيانا لقرون، وهو السبب ذاته الذي مكّن الرواية من أن تُصدّر للأدب المترجم، وتنال استحسان القراء على اختلاف ألسنتهم. إن من يقرأ الرواية، لا يمتلك إلا أن يُعجب ويتعَّجب بقدرة شبلي الأدبية في سرد الحوادث التاريخية والحالية بتجرد بأسلوب خالٍ من أي لغة استقطابية، أو تحريضية. ولسان حالها يقول لم أصف إلا الحال الإنساني في فلسطين، الذي يقتحم الاحتلال فيها أبسط تفاصيل الحياة اليومية، والذي لن نستطيع أن ندركه، أو نتصوره مهما حاولنا، ولكن الكاتبة نجحت في مقاربة الصورة عبر رواية مقتضبة أغدقتها بتفاصيل دقيقة، مستخدمة لغة دسمةً منحت الكلمات أثيرًا يخرجها من الرواية لدواخل القارئ.

تجدر الإشارة إلى أن النقاد حول ما يعرف بـ«دراسة النص» ينقسمون إلى مذاهب عدة، نذكر منها المدرسة البنيوية التي تعامل النص بصفته منغلقًا مكتفيًا بذاته، لا يعطي سوى دلالة واحدة، على عكس المدرسة التفكيكية التي تفتح المجال لتعدد المداليل. والمدرسة الأسلوبية التي تميز سمات ونغمة اللغة المستخدمة. وكذلك، المدرسة السيميائية (علم العلامات) التي تعتبر اللغة نظام إشاريًا، محفزًا للطاقة التخيلية لدى القارئ، حاثةً إياه للكشف عن البعد النفسي والجمالي والدلالي للنص. ونتيجة لذلك؛ فإنك قد لا تستطيع سوى أن تحب الرواية أو تكرهها دون أي شعور وسطي. فالقارئ الحَرفي الهاوي سيجدها غارقة في السطحية والرتابة والتكرار-وهو ما أجده أسلوبًا مقصودًا-، دون أي تصعيد دراماتيكي، ودون أن يصله أي معنى، وسينقدها بأنها لا ترقى إلا أن تكون قصة قصيرة-رغم أني أجد أن الكاتبة اقتضبت وما اقتضبت في آن واحد-، وقد يصل به الحد، لئلا يتمكن حتى من إكمالها. وفي المقابل، ستجد القارئ الصبور ذا البعد الأدبي مهووسًا بالتركيز على التقاط تفاصيلها، وما تبثه من مشاعر، متحرِّقًا، للتعريج على قراءة مختلف مراجعات القراء عنها وتأويلاتهم لها.

إن الرواية تقع في خطين زمنيين يفصل بينهما ربع قرن، تنسج وتقاطع شبلي بينهما الدلالات الثانوية ببراعة واقتدار، تتجرأ على ألا تمنح الشخصيات أية أسماء، مكتفية بتسميات معينة كالقائد والبدوية والموظفة، للإشارة إليها. بالإضافة إلى تخففها عن رسم أي أبعاد للشخصيات كخلفياتهم الثقافية أو الاجتماعية أو النفسية خاصة في القسم الأول منها، متخليةً بذلك عن جميع «الرتوش» التي تشكل عادة مادة دسمة للكاتب، لجذب انتباه القراء ونيل إعجابهم، وتغذية فضولهم. لا تتسلح الكاتبة في هذه الرواية سوى بلغة إيحائية كثيفة اكتسبتها عبر رحلة مضنية في قواميس اللغة كـ«لسان العرب لابن منظور»، باحثة عما أسمته «الكلمات التي تفتح أزقة حسية وفكرية جديدة». كما تسلحت كذلك بالتفاصيل الثانوية كالزمان والمكان، والخرائط، وأسماء القرى، وأنواع الأشجار، والمحاصيل، والحوادث العَرضية كرائحة البنزين، وعواء الكلاب، والمسنَّين. كما أن مُكنة الكاتبة تجّلت أيضا في تنويع الأسلوب السردي، ففي حين أنها صاغت القسم الأول من الرواية بشكل إخباري تقريري، عديم المشاعر والأحاسيس، فقد أغدقت القسم الثاني منها بكومة من الاختلاجات النفسية كالهوس اللا واقعي نحو الواقعة والقلق المرضي، الذي أدى بالموظفة لفعلٍ ثانوي صغير قادها لنهايتها المرسومة.

في تصريح للمتحدثة باسم نادي القلم في برلين إيفا ميناسه «إن الرواية لن تصبح مختلفة، أو أفضل، أو أسوأ، لمجرد تغير نشرة الأخبار. إما أن الرواية تستحق التكريم أو لا تستحق». إن الرواية الفريدة سيسطع نورها بالقراء والقراء وحدهم، شريطة أن يفهموها ويصل صدق الكلمات إليهم. إن الجوائز هي تزكية ثانوية للكاتب، حَسْب شبلي بصمتها في قُرَّائها من خلال إضافة مفردة «تفصيل ثانوي» لمعجمهم اللغوي يستخدمونه على غرار «على الهامش»، بالإضافة إلى غرقهم في تفاصيل صغيرة كمصير زميلتها الموظفة التي منحتها هويتها، ومصير زميلها الذي استأجر السيارة لها؟ مذكرين أخيرا أن صوت الضمير الإنساني يؤكد أنه في القضية الفلسطينية لا فرد ولا فعل ثانوي، كل تفصيلٍ أساسي مهما صغر حجمه أو تأثيره.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

ريم بسيوني ترصد مسيرة الإمام أبو حامد الغزالي في رواية «الغواص»

فى أحدث رواياتها «الغواص.. أبوحامد الغزالى»، تستعرض الدكتورة ريم بسيونى، سيرة ومسرداً ورؤية لحياة الإمام أبوحامد الغزالى، الملقب بحجة الإسلام، أحد أعلام عصره، وأحد علماء وفلاسفة المسلمين فى القرن الخامس الهجرى، وأحد أهم مفكرى العالم، ومن أكثر علماء المسلمين تأثيراً على الإطلاق، سواء فى الغرب أو الشرق، وأكثر مفكر تمت الكتابة عنه فى كل العالم حتى بعد موته بأكثر من ألف عام، وتُرجم الكثير من أعماله لكل لغات العالم.

كُتبه فى الفقه الشافعى وعلم الكلام تُدرَّس كمرجع أساسى فى مدارس الشافعية وأسس لفكر صوفى منظم وشامل

ترصد «بسيونى» عدداً من الظروف التى كتب فيها مؤلفاته متنوعة المشارب، وتقول: «كتبه فى الفقه الشافعى وعلم الكلام تُدرَّس كمرجع أساسى فى مدارس الشافعية، وكتبه عن الصوفية أسست لفكر صوفى منظم وشامل وأثرت فى كل علماء الصوفية من بعده».

كتابه «المنقذ من الضلال» أثر على الفيلسوف ديكارت الذى كتب عن رحلة مشابهة جداً

ويعد كتاب «المنقذ من الضلال»، من أشهر كتب السير الذاتية فى العالم، ورحلته من الشك إلى اليقين التى كتب عنها فى «المنقذ من الضلال»، فى الغالب أثرت على الفيلسوف ديكارت الذى كتب عن رحلة مشابهة جداً، مع أن «ديكارت» ولد بعد «الغزالى» بنحو 530 عاماً فى فرنسا، فيما يعد كتابه «إحياء علوم الدين» من أهم كتب الفكر الإسلامى، ومن أكثر كتب «الأخلاق» و«الصوفية» تأثيراً فى العالم، وحاول «الغزالى» فى كتاباته أن ينقذ الأمة من التيه والغرق، ووضع على عاتقه تكليفاً بتبديد الحيرة وتصفية النفوس.

حفظ كتاب «الأم» للشافعى عن ظهر قلب كأنما يملك فى صدره مكتبة بغداد

تقع الرواية، الصادرة عن دار نهضة مصر، فى نحو 500 صفحة، وتقع فى سبعة أبواب، مقسمة إلى 21 فصلاً، وتحمل عناوين الأبواب على التوالى: «الرحيل، أصفهان، بغداد الفراق، الحال، العودة، الغواص..».

المدارس النظامية وفرت له ولشقيقه بيتاً وطعاماً.. والعلم أنقذه من الضياع فى شوارع «طوس»

وتتناول الرواية مسيرة «الغزالى» منذ ولادته فى «طوس» فى بلاد فارس، وصولاً إلى توليه إمامة بغداد، وما واجهه من تساؤلات وتحديات طورت من فكره، ثم تخليه عن منصب الإمامة بما لها من مكانة رفيعة، كما تتعرض إلى مواقفه من الفكر الفلسفى والرؤى الصوفية، كما تتعرض لحياته الشخصية وعلاقته بشقيقه «أحمد»، كما تتضمن الرواية جانباً تخييلياً لحياته الخاصة وعلاقته بزوجته.

تولى إمامة بغداد فى سن الثالثة والثلاثين بدعم من الوزير «نظام الملك» فى عام 1090م.. وتخلى عنها وتعرض لحرب شعواء من أعداء النجاح والحُسَّاد طوال مسيرته

تسوق المؤلفة فى أول الرواية «قصة حقيقية» عن تفسيرها لمخطوطة «الأسد والغواص»، التى تم تداولها من مكتبة الإسكندرية عام 1977، والتى ترجع إلى أوائل القرن السادس الهجرى، الثانى عشر الميلادى، وتجد المؤلفة رابطاً بين مؤلف المخطوطة و«الغزالى» نفسه، وتجيب عن الأسئلة، وترجح أن بطل مخطوطة «الأسد والغواص» يحاكى «الغزالى» فى شخصيته ومصيره: «أرجح أن كاتب مخطوطة الأسد والغواص امرأة قريبة من الغزالى، تعرف عنه ما يجعل القارئ يربط بين البطل الغواص والغزالى».

تنطلق الرواية من مرحلة فى حياة «الغزالى»، المولود فى 1057م، وهو لم يكمل العشرين من عمره بعد، وتروى قصة الرحيل ومتاعب الطريق برفقة شقيقه «أحمد»، من «طوس» إلى «نيسابور» فى عام 1071م، ويتناول هذا الفصل وقائع الرحلة وصعوباتها، وعلاقة الشقيقين اليتيمين آنذاك، ومحاولة قُطّاع الطريق الاستحواذ على أوراق «الغزالى»، وهذه الأوراق التى بدأ «الغزالى» كتابتها منذ السابعة من عمره، وأنقذها من اللصوص وافتداها بنفسه: «بعد أيام من الوصول إلى نيسابور كان محمد قد حفظ كل كراساته عن ظهر قلب وزاد عليها خمسة عشر ألف ورقة».

تتبع الرواية التحاق «الغزالى» بالمدرسة النظامية، وموقفه من العلوم التى بدأ يتلقاها فى «نيسابور»: «جلس فى درسه يستمع إلى الإمام الجوينى؛ يجيب عن أسئلته، ويساعد الطلاب على الفهم، ينطلق لسانه باليقين وقلبه بالشك، كل شىء وهم! كل شىء! حتى زبد البحر يخدع العقل فيظنه شاطئاً ونجاة، لم يعد النوم سهلاً، وأصبح ترديد الدروس التى لم يعد يقنع بها أصعب من النوم»، وترصد المرحلة بداياته مع الشك: «اختلطت عليه العلوم حتى وهو فى هذه السن».

نبوغ «الغزالى» كان ملحوظاً لأستاذه ولزملائه: «عندما سألوا الإمام الجوينى عن طالبه النابغة محمد، قال إنه بحر مغدق، أو بحر مغرق، لم يتأكد أحد، هذا طالب غير كل الطلاب، يلتقط الكلمة قبل أن تخرج، حفظ كتاب (الأم) للشافعى عن ظهر قلب كأنما يملك فى صدره مكتبة بغداد»، وبدأ «الغزالى» رحلته الفكرية فى هذه المرحلة بتساؤلات: «أين الحقيقة؟ وأين تكمن: فى كتب الفقه أم الكلام، أم فى آراء المعتزلة أم الملحدين، أم فى كتب الفلاسفة الحشوية؟ هل وصل لها الشيعة والباطنية؟ وهل هناك حقيقة نصبو إليها أصلاً؟ ما جدوى الموت؟ وما متعة الحياة؟»، حتى إنه يسأل عن جدوى الالتحاق بالمدرسة النظامية التى أنشأها الوزير الأعظم «نظام الملك»، فلم يكن العلم سوى الخيار الوحيد له ولشقيقه لإنقاذهما من الضياع بعد رحيل أبويهما «لا يملك الخيار، إما أن يموت جوعاً، وإما أن يلجأ إلى مدارس النظامية»، كانت المدرسة توفر له ولشقيقه بيتاً وطعاماً «العلم ينقذه من الضياع فى شوارع طوس هو وأحمد».

فى محاولات للوصول إلى الحقيقة، ودراسته لمختلف العلوم، كانت عذابات الشك تُشقى عقل الشاب يوماً بعد يوم، كان يرى أن الحقيقة مرتبطة باليقين، وكل العلوم لديه فى هذه المرحلة بلا يقين، حتى المنطق والرياضيات لا تكفى لتشرح هذا العالم وكل تغيراته، هو الخيال ما يؤرقه، خداع الحواس لا شىء بالنسبة لخداع العقل، وتقتبس من قوله: «كل علم لا نتيقنه، فهو علم لا ثقة به ولا أمان معه، فمقياس اليقين إذن هو الأمان، ومعنى الأمان الثقة»، ولم يكن لدى «الغزالى» فى هذه المرحلة المبكرة لا ثقة ولا أمان.

بدأ حياته بالشك فى كل ما حوله.. وكلما زاد الإطراء على ذكائه وعبقريته هوى اليقين

وهناك فى «نيسابور» طالت هذه المرحلة مع «الغزالى»: «مزقت الذئاب عقل محمد يوماً وراء يوم، كلما أدرك ما لا يدركه غيره شك فى عقله، وكلما زاد الإطراء على ذكائه وعبقريته هوى اليقين واستقر فى أعماق البحر بلا أمل فى نجاة»، ومن كلمات «الغزالى» نفسه المعبرة عن حاله فى هذه الفترة: «يارب، أعطنى الثقة فى عقلى قبل أن أصاب بالجنون».

تتعرض الرواية إلى ما التقاه «الغزالى» فى حياته مع أعداء النجاح والحُسَّاد فى مسيرته، ومع ذيوع صيته فى هذه المرحلة المبكرة، يبدأ أحد طلاب المدرسة «منصور»، وأحد الأساتذة «الشيخ المسمارى»، أحد أساتذة المدرسة، الكيد له، ولم يتمكنا من النيل منه، وهاتان الشخصيتان تستمران على مدار الرواية فى الظهور فى حياة «الغزالى»، ويتصاعد الحسد والحقد من جانبهما عليه لدرجة تصل إلى تبييت النية لقتله فى أواخر مراحل حياته، لكن «الغزالى» منشغل فى المدرسة بدراسة علوم الدين وسبر أغوار نفوس تلهث وراء الطغيان: «ساعة يحفظ درساً، وساعة يشهد على قسوة الشباب ونفورهم من رقة القلوب وصفائها»، وفى هذه الفترة وتقديراً لنبوغه فقد اختاره الإمام الجوينى، أستاذه، لإعادة شرح الدروس على الطلاب زملائه.

تتصاعد الأحداث فى الرواية عن رأى «الغزالى» فى المدرسة النظامية، كما ترصد ملامح علاقته الوثيقة بشقيقه «أحمد»، وبعد عام من الدراسة فى «نيسابور»، يكون «الغزالى» على موعد مع اللقاء المنتظر مع الوزير الأعظم صاحب المدرسة «نظام الملك»، الذى أنقذ السنة والمذهب الشافعى بالذات، وترصد المؤلفة محاورات دارت بين «نظام الملك»، فى هذا اليوم، و«الغزالى»، الطالب بالمدرسة، حول المذهب الشيعى، والتى تنتهى إلى إعجاب الوزير بمجادلات الشاب الصغير محمد، وينتهى اللقاء الأول بقول الوزير لـ«الغزالى»: «لطالما أخرجت طوس أعظم رجال هذه الأمة، تأتى إلىَّ غداً فى القصر، سأكون فى استقبالك».

بزيارة «الغزالى» إلى قصر الوزير ودخوله القصور لأول مرة فى حياته، تبدأ علاقة تقدير ومحبة بين الاثنين، واتفاق على الصحبة، رغم فارق السن، إذ كان «محمد» فى سن أولاد أو أحفاد الوزير، وهى العلاقة التى تستمر وتتوطد إلى آخر حياة «نظام الملك»، وفى سن الحادية والعشرين يشجعه الوزير على تأليف الكتب، باعتبار الكتابة واجباً عليه.

ترصد الرواية أيضاً تطور العلاقة بين الاثنين، وإعجاب الوزير بعقلية الشاب يوماً بعد يوم: «كانا يتمتعان بعلاقة يصعب فهمها، يحب كل منهما الآخر ويحذره، يحتاج إليه ويتقيه، رجل فى السبعين وشاب فى الثامنة والعشرين»، وبالفعل يصدر «الغزالى»، فى حياة أستاذه الإمام الجوينى، إمام الحرمين، باكورة كتبه (المنخول من تعليقات الأصول)، يبرز فيه دفاعه عن المذهب الشافعى، وتبادل العلماء الكتاب فى هيبة، واصفين إياه بأنه يتقن المعانى والكلمات، يعرف كيف يختار الحروف وكيف ينمقها، ولكنه يملك أيضاً جسارة ربما تؤدى به إلى الهلاك، وفى الثامنة والعشرين ينتقد «الغزالى»، فى كتابه، بعض أحكام المذهب المالكى والمذهب الحنفى.

وتأتى الزيارة التى تشكل أيضاً بداية مرحلة يصبو فيها «الغزالى» إلى أعلى المراتب آنذاك؛ إذ يُطلب الشاب لمقابلة السلطان «ملك شاه» فى «أصفهان»، وبعدها يتغير به الحال: «محمد الفتى الطوسى أصبح إمام خراسان وهو لم يتعدَّ الثامنة والعشرين، ويشهد الإمام، بحكم منصبه الجديد، على حياة جديدة لم يألفها من قبل: معسكر السلطان السلجوقى، الذى أصبح محمد يقضى فيه معظم وقته، أصبح عالماً جديداً عليه، أدرك كيف تحاك المؤامرات، وكيف تتغير النفوس، وأيقن أن النفاق يؤدى بصاحبه إلى القرب من الملك».

الحياة الشخصية لـ«الغزالى» تشغل حيزاً فى الرواية، والتى لم تجز الكاتبة، إن كانت مبنية على حقائق بالكامل أم هى خيال روائى ضرورى للعمل الأدبى، لكن على أية حال، تأتى فى الرواية علاقة «الغزالى» بـ«ثريا»، المرأة الدمشقية التى أحبته وصارت زوجته: «يطلقون عليه إمام خراسان، حجة الإسلام، زين العابدين، العالم الأوحد، مفتى الأمة، وشرف الأئمة، ولكن «ثريا» أطلقت عليه (الغواص)، منذ أول لحظة رأت محمد بن محمد الغزالى (غواص)، وويل لمن لا يتقن السباحة من عشق الغواص»، وهى العلاقة التى تمر بمنحنيات عدة قبل أن يتزوجا، وينجبا فيما بعد 5 أبناء أكبرهم «حامد» الذى كُنى به الغزالى «أبوحامد».

يشغل التاريخ خلفية مهمة فى تطور الأحداث، إذ تزامنت حياة «الغزالى» مع العديد من الأحداث التاريخية المؤثرة، وبخاصة أن العالم العربى كان يخضع لعدة قوى؛ الدولة العباسية فى بغداد، والدولة الفاطمية فى مصر، والدولة السلجوقية فى بلاد فارس، إلى جانب الباطنية وسيطرة جماعة الحشاشين آنذاك، وتتعرض الرواية إلى شكل خريطة الدولة الإسلامية: «فالخليفة فى بغداد بلا سلطة، لديه متسع من الوقت للصيد والخطبة. فى مصر دولة بنى عبيد، الفاطميون يحكمون بخليفة آخر وإمام آخر، وفى خراسان أنقذ السلطان السلجوقى، القادم من بلاد ما وراء النهر، الخليفة العباسى من دولة الفاطميين».

من المحطات المهمة فى حياة «الغزالى» أيضاً، توليه إمامة بغداد وهو فى سن الثالثة والثلاثين، بدعم من الوزير «نظام الملك» فى عام 1090م، إذ كان يشرف على كل الواعظين فى مساجد بغداد آنذاك، ليعرف حياة القصور وتبدأ رحلته وحربه، وتتبع الرواية أيضاً بالتوازى رحلة «حجة الإسلام» فى مجادلاته مع معاصريه فى هذه الفترة، هذا من جانب، وتتعرض من جانب آخر لعلاقته بنفسه، وموقفه من عدد من القضايا مثل «العقل»، و«الصوفية»، وأهل الحكم ورجال الدولة واختلاف الحكام والدسائس الكثيرة فى هذا الزمان، وكيف مرت عليه الحياة فى بغداد بعد مقتل «نظام الملك»، وتشير الرواية لمواقفه لما أحاط به والتبس على الناس، ومنها رفضه تكفير الباطنية، ويسجل موقفه منهم فى كتابه «المستظهرى» لينتقد مذهب الباطنية، ويعطى الشرعية للخليفة.

وفى سبيل محاججة الفلاسفة، يتجه للتعمق فى قراءة كتب الفلسفة والصوفية «كتب الفلسفة والمنطق استولت على عقله... ولكنها كتب الصوفية التى نزعت شغاف القلب فأصبح عرضة لكل ريح وكل نسيم طفيف»، وبعدها كتب كتابه «مقاصد الفلاسفة» يشرح فيه الفلسفة وعلومها، استطاع أن يلخصها فى أقل من عامين.

وكان الإمام نهِماً إلى الحياة والمعرفة، و«تمكن الغزالى من الدنيا، أصبح الخليفة الشاب يتلهف للقائه والبقاء حوله. وكل الأعداء تقف حائرة وكل ملوك الأرض تشاهده بإعجاب»، وهذه المرحلة تتبعها مرحلة أشد أهمية فى حياة «الغزالى» حينما يقرر التخلى عن المناصب والمال والبحث عن الحقيقة وارتياح قلبه، ويرحل عن بيته، وهى مرحلة جهاد النفس والتخلى عن جميع مظاهر الترف، لتبدأ رحلة جديدة يسجلها فى كتابه المهم «المنقذ من الضلال»، لتتبدل الحال، ومضامين الكتابة، ويصير لسان حال «الغزالى»: «وعند حضرة الحق سبحانه وتعالى كل ما لم يكن خالصاً وفيه رياء غير مقبول».

وفى الختام يمكن القول إن القراءة فى رواية «الغواص»، ورحلة الإمام الغزالى، رحلة شيقة فى تحولات النفوس البشرية، وفى اكتشاف منابع قوة الإنسان، ومواطن ضعفه، هى سيرة ونس للتائهين والحائرين والباحثين عن الحقيقة، وكيف واجه المؤامرات والمكائد التى حيكت ضده ومحاولات إبعاده عن المشهد أكثر من مرة، واختياراته فى الحياة وكيف واجه المحن الكثيرة فى مراحل حياته المختلفة ومنها فقد ولديه (حامد وأحمد) إبان انتشار الطاعون.

مقالات مشابهة

  • رشحتها جريدة "إندبندنت" لجائزة أفضل رواية!
  • وضع حجر أساس بناء مدرسة تعليم ثانوي بقرية الوفاء في سمالوط
  • ما الذي يريده محمود عباس من مطاردته لرجال المقاومة بعد كل تلك الملاحم؟!
  • برج الحوت.. حظك اليوم السبت21 ديسمبر: الحب هو اللغة التي نفهمها جميعًا
  • رواية جديدة لفرار الأسد.. هرب بمدرّعة روسية واصطحب معه 3 أشخاص
  • عميل للموساد الإسرائيلي يكشف تفصيل عملية تفجيرات البيجر في لبنان
  • الدبيبة: نريد قوانين انتخابية عادلة دون تفصيل على أحد.. وحكومتي تكافح الفساد
  • الرواية الكاملة لهروب الأسد .. وسر اتصال مفاجئ بالمقداد
  • الرواية الكاملة لهروب الأسد .. تفاصيل لم تنشر من قبل
  • ريم بسيوني ترصد مسيرة الإمام أبو حامد الغزالي في رواية «الغواص»