يبقى السؤال حول فاعلية الكتابة والنشاط خلال هذه الجريمة التي يبيد فيها الاحتلال الإسرائيلي الفلسطينيين في غزة ملحًا، ما الذي يمكن فعله بعد خمسة أشهر من «استئناف» الكيان المحتل عملياته على نحو مكثف في غزة وكل فلسطين. هذا السؤال طرحه على نفسه واحد من أهم الكتاب بالنسبة لي والذي أحرص دومًا على عرض آرائه في مقالاتي بين الحين والآخر.
ما يحاول روبنسون الإشارة إليه هو الخطاب العام المأزوم في أمريكا نفسها، وما يطرحه كل من اليساريين واليمينيين إن كان يمكن أن نفكر في المواقف السياسية على هذا النحو في عالمنا اليوم، يشير «روبنسون» لكثير من الكتب السياسية التي تعالج موضوعات من قبيل «الحرب على أمريكا المسيحية» «الحرب على الغرب» و «معركة إلغاء العقل الأمريكي» في الوقت الذي تعيش فيه أمريكا مثل بقية العالم صراعات حقة، ليست جزءًا من الحوار العام لا مع اليمين ولا مع اليسار، ومنها البطالة في أمريكا، وتراجع دور النقابات، ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية، تهديدات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته على المجتمعات، وتوقف تمويل الصحافة، والسياسات الصارمة غير محسوبة العواقب لمكافحة الجرائم، وأزمة المهاجرين، وفقر الأطفال، فيما ينشغل الفضاء العام بالكتابة عن ثقافة الإلغاء والانتباه! في الوقت الذي ينبغي فيه على المؤسسات الإعلامية أن تسلط الاهتمام على القضايا الأخلاقية الأكثر إلحاحًا مثل: وقف الحرب في مثل هذا التوقيت.
ومع عمل «روبنسون» نفسه على الكتابة المدققة والحريصة على معالجة الموضوعات ذات الأولوية، إلا أن سؤال «الشلل» إزاء حالة العجز عن التغيير يطل برأسه دومًا. فما الفائدة من كتابة مئات المقالات سنويًا، ما الفائدة من قول أي شيء إضافي عما يحدث في غزة ما لم يساهم ذلك أو حتى يؤثر وإن بشكل ما على الإيقاف الفوري لإطلاق النار والقتل الجماعي هناك؟ يُذكر «روبنسون» نفسه بأن ثمة التزامات تجاه الضحايا، ويعتقد أن الصمت هو تواطؤ، وعندما ينظر هو نفسه للتاريخ يجد نفسه معجبًا بأولئك الذين تحدثوا عن الفظائع فيما يزدري أولئك الذين لم يفعلوا أي شيء. ويستدعي في السياق نفسه الاحتجاج الذي حصل على حرب فيتنام في الستينيات، وحالة اليأس التي مر بها المحتجون من الكتاب بعد تصعيد إدارة «نيكسون» للقصف، ومع ذلك فإن التظاهر والكتابة ومحاولة لفت الانتباه لم يتوقفا أبدًا. يتوقف «روبنسون» مليًا أمام «آرون بوشنل» الذي لم يجد سوى الانتحار العلني التضامني لمواجهة ما يحدث للفلسطينين الآن، يستحضر سؤال «بوشنل» في الأيام التي سبقت إضرامه النار في نفسه: ماذا كنت سأفعل لو كنت على قيد الحياة أثناء فترة العبوية؟ أو فترة قوانين (جيم كرو) .. هذا ما تفعله أنت الآن. ويجد بأن هذا السؤال يطارده مثلما يثق بأنه يطار الكثير منا.
من جهة أخرى فإن الكاتب الرائع «بانكاج ميشرا» الذي سبق وأن كتبت عن كتابه «عصر الغضب» المترجم حديثًا إلى العربية كتب قبل أيام مقالًا رائعًا في لندن ريفيو بعنوان : The Shoah after Gaza تحدث فيه عن استغلال إسرائيل اليوم لذاكرة الهولوكوست « تحويل قتل ستة ملايين يهودي إلى انشغال وطني مكثف، وأساس جديد لهوية إسرائيل. فقد عملت المؤسسة الإسرائيلية على إنتاج ونشر نسخة خاصة جدًا من الهولوكوست يمكن استخدامها لإضفاء الشرعية على الصهيونية المتشددة والتوسعية». الأمر الذي دفع الإسرائيليين التي تبني المبدأ العدمي «البقاء للأقوى» ويكتب عن وعي اليهود أنفسهم ممن لاحقتهم النازية ونزلوا في معسكرات المحرقة بهذه الكارثة حتى وان كانوا مع تأسيس إسرائيل في بدايتها، أو الشعور بالسخط لاضطرار اليهود تبرير حاجتهم لدولة بعد كل ما حدث. «بانكاج ميشرا» نفسه الذي نشأ في عائلة هندوسية من الطبقة العليا في الهند كانت له علاقة وجدانية بإسرائيل في طفولته، لكن كل هذا صار قيد المراجعة بعد بعض الوقت. ما يهمني في مقالة «ميشرا» والذي أحاول الكتابة عنه في مقالي هذا هو إشارته للتعتيم الذي يحصل على تصفية وإبادة الناس في غزة بالإضافة لإنكارها من قبل أدوات الهيمنة الغربية العسكرية والثقافية. وأن نجد أنفسنا في وضع غير مسبوق نشهد فيه إبادة هذا العدد الكبير من الناس أمام أعيننا، والتي تأتي مع قدر عال من الجبن والرعونة والرقابة التي لا تسمح لنا بالتعبير عما نشاهده فحسب بل إنها تسخر من صدمتنا وحزننا، إن ما يحدث هو تسميم مباشر لأيامنا التي نعيشها بإدراك أننا بينما نمضي في حياتنا يتعرض مئات من الأشخاص العاديين مثلنا للقتل أو يجبرون على أن يشهدوا مقتل أطفالهم.
يراجع «بانكاج ميشرا» أعمال كتاب يهود نجوا من المحرقة من أمثال بريمو ليفي وزيغمونت باومن، و جان آمري للحيلولة دون استمرار هذا العبث الإسرائيلي وإمعان هذا الكيان في الإصرار على الإبقاء على منطق المحرقة نفسه الذي تعرض له اليهود في الهولوكوست. ليس هذا فحسب بل يذهب لتحليل أعمال الأدب الأمريكي ورؤاها حول ما يحدث إبان هذا الدعم اللامحدود لإسرائيل وجرائمها. إنه وعلى الرغم من هذا «الجنون» المحض فلا شك أن للكتابة مكانا ومساهمة عليها أن تنتزعها انتزاعًا في إيقاف ما يحدث.
أمل السعيدي كاتبة وقاصة عمانية
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
لكل مسعف قصة.. قافلة رفح التي قتلتها إسرائيل بدم بارد
لم يكن المسعف الفلسطيني رفعت رضوان يعلم، حين ارتدى بزته الطبية وحمل حقيبته الإسعافية فجرًا، أن هذه المهمة ستكون الأخيرة في حياته، برفقة زملائه، لإنقاذ عددٍ من المواطنين الفلسطينيين الذين تعرضوا للقصف الإسرائيلي في حيّ تلّ السلطان، غرب مدينة رفح جنوب قطاع غزة فجر يوم 23 مارس/آذار الماضي.
فعند الساعة 05:20 صباحًا، تحرك فريقٌ مشترك من الهلال الأحمر الفلسطيني والدفاع المدني وإحدى الوكالات الأممية، استجابةً لنداءات استغاثة أطلقها جرحى فلسطينيون كانوا محاصرين.
انطلقوا بنية إنسانية خالصة، لا يحملون سوى الضمادات وقلوبٍ مخلصة، لكنهم -دون أن يعلموا- كانوا الهدفَ القادم لجيش الاحتلال الإسرائيلي.
ولكن ما بدأ كمهمة إنقاذ انتهى بمجزرة دامية، فبعد وقت قصير من انطلاق الفريق انقطع الاتصال به، وبعد ساعات أعلنت قوات الاحتلال أن المنطقة أصبحت منطقة عسكرية مغلقة.
المسعف رفعت رضوان كان يوثق تفاصيل المهمة بهاتفه النقال دون أن يدرك أنه سيوثق أيضًا الجريمة النكراء التي هزت العالم، تلك كانت اللحظات الأخيرة في حياة مجموعة من المسعفين الفلسطينيين الذين قُتلوا على يد جنود الاحتلال الإسرائيلي بدم بارد.
الهاتف الذي كان بحوزة رفعت رضوان عُثر عليه مع جثمانه، موثقًا المشاهد الأخيرة التي تكشف أبعاد المجزرة، وكان رفعت في سيارة الإسعاف الثالثة ضمن قافلة ضمت سيارة إطفاء انطلقت للبحث عن سيارة إسعاف أخرى تابعة للهلال الأحمر الفلسطيني فقدت الاتصال بقاعدتها، وضُعت علامات واضحة على جميع المركبات في القافلة، مع وميض أضواء الطوارئ.
إعلانوفي عملية البحث، رصد الطاقم السيارة المفقودة على جانب الطريق. قال أحد المسعفين في الفيديو الذي وثقه رفعت: "إنهم مبعثرون على الأرض! انظروا، انظروا!" نزل رفعت مع مسعفين آخرين من سيارتهم للاطمئنان على زملائهم الذين سقطوا، ولكن حين يتحول المنقذ إلى هدف، انطلق صوت الرصاص من رشاشات وبنادق جنود الاحتلال الذين نفذوا المجزرة بحق المسعفين.
أصيب رفعت، وفي لحظاته الأخيرة صلى ودعا الله مرارًا وتكرارًا ليغفر له وطلب المسامحة من والدته لاختياره طريق الإسعاف الذي وضعه في طريق الأذى. توقفت بعدها صلواته مع توقف نبض حياته، وبعد العثور على جثامين الضحايا، تبين أن قوات الاحتلال قتلت 8 من عمال الهلال الأحمر الفلسطيني في تلك الليلة، إضافة إلى 6 من العاملين في الدفاع المدني الفلسطيني كانوا في المهمة نفسها. وتم القبض على مسعف تاسع يُدعى أسعد النصاصرة.
هؤلاء المسعفون لم يكونوا مجرد أرقام، بل كانوا أشخاصًا لهم حياة وعائلات وأحلام، ولكل منهم صفات مميزة أحبها من حوله، وفي هذا التقرير نسلط الضوء على الجانب الإنساني لهؤلاء الشهداء من خلال شهادات معارفهم وزملائهم الذين عاشروهم وأحبوهم. المسعف إبراهيم أبو الكاس، الذي رافق الشهداء خلال سنوات خدمتهم، تحدث للجزيرة نت عن حياتهم وعملهم الإنساني ضمن طواقم الهلال الأحمر الفلسطيني، مشيرًا إلى 16 شهرًا من حرب الإبادة المستمرة على غزة.
رفعت رضوان: الحفيد الطيب الذي وثق الجريمة بهاتفهفرفعت، ابن الـ24، كان روحًا لطيفة. "لقد حرص على مساعدة أي امرأة مسنة يصادفها"، يقول أبو الكاس. "كان يسعى للحصول على دعواتهن الصادقة عندما يقدم لهن المساعدة، ثم يودعهن برقة تجعلك تعتقد أنها جدته".
بوجهه الجاد ونظارته، كان حضور أشرف، ذو الـ32 عامًا، مطمئنًا لزملائه، بدأ التطوع عام 2021 ومنذ ذلك الحين كان يحرص على تقديم وجبات الإفطار لزملائه في رمضان، سواء بإعدادها بمركز الهلال الأحمر أو بجلب الطعام من منزله.
عُرف عز الدين (51 عامًا) بهدوء النفس المطمئنة وروح الدعابة، وكان شعاره: "سنعود إن كُتب لنا، وإن لم نعد فهي أقدارنا".
إعلانويقول أبو كاس إن عزالدين كان أبا جميلا.. وأخا عزيزا.. هدوء النفس المطمئنة.. كان يمازح الجميع.. وكان شعاره.. سنعود إن كتب لنا.. وإن لم نعد فهي أقدارنا..
قبل أن ينتقل إلى مركز إسعاف رفح بعد أن كان يعمل في مركز إسعاف خانيونس.. يقوم خلال الليل بعمل ساعة راحة لكل طاقم.. ويطمئن أن جميعها قد تناول العشاء.. حتى كان يكتب أسماء العاملين خوفا من أن ينسى أحدهم.
كان محمد (36 عامًا) شغوفًا بمساعدة الناس، ويُعرف بقدرته على إيجاد الحلول للنازحين، رغم التحديات.
أب لطفل يبلغ 15 عامًا، مكث في المقر أيامًا متتالية، يتفانى في عمله، ابنه هو النور الذي يضيء له الطريق.
ويروي عنه أبو كاس إحدى القصص بالقول ذات يوم ماطر.. كانت هناك سيدة طاعنة في السن تريد قطع الطريق، ولا تستطيع.. حديث الشركاء قد دار بين محمد ومصطفى.. هل نحن شركاء بالطبع.. مهما كانت المهمة؟ بالتأكيد.. قم ننقذ تلك السيدة وننقلها للجانب الآخر من الطريق.. وبالفعل يضعون لها كرسيا ومن ثم يجلسونها.. ويحملونها إلى الجانب الآخر من الطريق.. وسط ابتسامات جميلة وهم يزفون العجوز وكأنها عروس.. وتقوم هي بالزغاريد والدعاء لهم..
قال أبو كاس أحب رائد الذي كان بلغ من العمر، 25 عاما ، وكان يحب التقاط الصور، سخيفة، جادة، غير رسمية، وكان رائد أعرب عن أمله في أن يرى العالم صوره يوما ما وأن يتمكن من نقل معاناة شعبه من خلال عمله.
بدأ التطوع مع جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني عام 2018، عندما كان عمره 18 عاما، خلال احتجاجات مسيرة العودة الكبرى.
قتلت إسرائيل 214 متظاهرا، بينهم 46 طفلا، خلال هذه المظاهرات، وأصابت 36 ألفا و100، بينهم نحو 8,800 طفل.
إعلانرائد هو الأصغر من بين 5 أشقاء، ولم يتزوج بعد، على الرغم من أن عائلته كانت تأمل في أن يتزوج بعد الحرب. لكن هذا لم يحدث، ويروي والد رائد انتظارا مروعا لمدة 9 أيام لمعرفة ما حدث لطفله الأصغر، ويكافح من أجل كبح اليقين بأنه قد أعدم مع زملائه.
رغم إصابته في مهمة سابقة، أصر صالح (42 عامًا) على العودة للعمل لإنقاذ الأرواح.
وقال شقيقه حسين للجزيرة إن صالح أحب عمله أيضا، وعاد بمجرد تعافيه من الجراحة في عام 2024.
وأوضح حسين أنه في شباط/فبراير الماضي، كان صالح في مهمة لمساعدة الجرحى عندما فتحت القوات الإسرائيلية النار على المسعفين، على الرغم من إبلاغه بأنهم سيكونون هناك.
أصيب صالح بجروح بالغة في الكتف والصدر، وانتهى به الأمر إلى قضاء بعض الوقت في المستشفى لإجراء عملية جراحية، وبعد ذلك عاد مباشرة إلى العمل.
أبو الكاس تحدث عن شجاعته: "لقد كان مكرسا للمساعدة، وكان يقول إنه أينما كان الناس يصرخون طلبا للمساعدة، فهذا هو المكان الذي يجب أن نكون فيه، للرد عليهم".
قال أبو الكاس إن أسعد البالغ من العمر 47 عاما كان أبا لـ6 أولاد كما أنه أبدى دائما صبرا لا نهاية له للتفاوض مع الأطفال. كلما رأى أطفالا يلعبون في الشارع، كان يذهب إلى القيادة والتعامل معهم، ويقدم لهم الحلوى للخروج من الطريق والذهاب للعب في مكان آمن، سرعان ما اكتشفه الأطفال، وسيلعبون في الشارع مرة أخرى في المرة القادمة، يضحكون ويقولون: "لقد خدعناك!"، لكن أسعد لم يمانع قط، واستمر ببساطة في تسليم الحلويات.
لم تكن جثته من بين أولئك الذين تم العثور عليهم عندما ذهبت بعثة دولية للبحث عن عمال الطوارئ المفقودين، تم القبض عليه وتقييده وأخذه بعيدا، وفقا للشاهد الوحيد الناجي، منذر عابد.
تحدث الأب البالغ من العمر 47 عاما إلى عائلته آخر مرة في المساء الذي اختفى فيه، وأخبرهم أنه في طريقه إلى مقر جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني لتناول الإفطار مع زملائه، وفقا لابنه محمد.
إعلانعندما حاولوا الاتصال به في وقت قريب من السحور، لم يستجب واكتشفوا من المقر الرئيسي أنه لا أحد يستطيع الوصول إليه أو إلى عمال الطوارئ الآخرين.
وقال ابنه إنه كان دائما يحذر عائلته من أنه كلما توجه في مهمة قد لا يعود، لكن مع استمرار أسعد في أعمال الإنقاذ لصالح جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، حاولوا دائما تجنب التفكير في ذلك.
هذا التقرير، الذي أعده فريق الجزيرة نت، سلط الضوء على الجانب الإنساني لبعض الشهداء الأبطال من فرق الدفاع المدني والهلال الأحمر الفلسطيني، الذين قدموا أرواحهم في سبيل مساعدة أهالي غزة الذين يتعرضون للقصف والقتل الممنهج من قبل الاحتلال الإسرائيلي منذ 18 شهرًا، من خلال كلمات المسعف إبراهيم أبو الكاس، الذي عاشر هؤلاء الأبطال وعايش تفاصيل حياتهم.