لا يزال الأدب الياباني يملك سحره الخارق لممارسته على ذائقتنا (بالنسبة إليّ على الأقل)، حيث يأخذنا في رحلته المدهشة، عبر أسماء جديدة تتواتر إلينا كلّ فترة، بفضل الترجمات، أكانت بلغة أجنبية أم عبر العربية التي أصبحت مكتبتها تضم أسماء كثيرة، منذ ثمانينات القرن الماضي، وهي الفترة التي شهدنا فيها نقل العديد من كتّاب تلك البلاد إلى لغتنا.
من الأسماء الجديدة التي نكتشفها اليوم، الكاتبة مييكو كاواكامي (مواليد 1976) مع روايتها «الجنّة» (الصادرة حديثًا عن دار الآداب، بترجمة زوينة آل تويه، وهي الرواية التي وصلت إلى اللائحة القصيرة لجائزة البوكر الدولية عام 2022)، حيث تطرح فيها مسألة الهُوية والعلاقة بين الذات والعالم الخارجي، عبر صداقة مراهقين يواجهان عملية إقصاء، لتحمل الرواية بذلك، وبقوة، موضوعات غنيّة جدا حول القيم اليابانية التي تحل مكان التفسير الفكري الغربي.
لا أبالغ لو قلت: إنه اكتشاف منفرد، ومذهل، ويحبس الأنفاس، تقدمه لنا هذه الكاتبة اليابانية التي تكتب «نصًا مؤثرًا»، حول أحلك المواضيع: التحرش، والتنمر والإساءة التي يعاني منها اثنان من المراهقين، صبي صغير (لا نعرف اسمه، بل فقط الألقاب التي تطلق عليه من مثل: ذو النظارتين وغيرها) وفتاة صغيرة (كوجيما)؛ الأول بسبب حَوَل حادّ في عينيه، والثانية بسبب إهمالها المتعمد لمظهرها إثر صدمة وفاة والدها.
يتعرض هذان التلميذان، بشكل دائم، لسوء المعاملة من قبل زملائهما في الفصل الدراسي، لذا «يتعرفان» على نفسيهما، في حياتهما اليومية، على أنهما «ضحايا للمضايقة». إلا أنهما لا يستسلمان للأمر، بل يساعدان ويدعمان بعضهما البعض، من خلال كتابة ملاحظات ورسائل صغيرة لبعضهما، كما من خلال لقائهما المستمر خارج المدرسة.. لقد ساعدتهما هذه اللقاءات -كما الثقة المتبادلة بينهما- على تحمُّل عنف رفاقهما لهما كما الإهانات المستمرة من قبلهم، ليساهم ذلك، في نهاية الأمر، في بنائهما مجدداـ وإعادة تشكيل حياتهما، وجعلهما أقوى بفضل صداقتهما وتواطئهما (بالمعنى الجميل للكلمة)، كي يواجها هذه الحياة بكلّ ما تحمله من مصائب ومصاعب لدرجة أن أحد المراهقين كان قد فكر بالانتحار.
ثمة قراءة مؤثرة في عمل كاواكامي هذا، وعلى الرغم من «صعوبته» (وأقصد أنه لا ينتمي إلى الكتب التي تُؤلَّف لتمضية الوقت والتسلية)، تكمن ميزته في تواجده حول موضوع وواقع قاسيين للغاية. لذا نذهب في خيالنا، مع القراءة، إلى تصور تعاسة المراهقين المحاصرين في شرطهما الاجتماعي والإنساني، حصار الاضطهادات الشتى التي يتعرضان لها، ما يدفعهما إلى الشعور الدائم بالخجل من المعاناة، وهو خجل مضاعف، لا يستطيعان أمامه سوى تبني الصمت.
السؤال الكبير الذي تطرحه الرواية وتظهره، والذي لا يمكن الاستهانة به، هو إلى أي حدّ لا يمكن اعتبار فترة المراهقة، الفترة الأكثر بهجة في حياتنا.. فهذه الفترة الفريدة من البناء والصيرورة هي فترة مركزية وأساسية، لذا يجب أن نكون منتبهين قدر ما نستطيع، إذ يمكن لذلك أن يدفع بالمراهق إلى أن يحبس نفسه في الصمت ويدمر نفسه ببطء ما يقوده في النهاية إلى العزلة المطلقة.
ثمة أسئلة تربوية، بالطبع، لكن هناك أيضا أسئلة فلسفية تطرحها الكاتبة اليابانية (وهي بالمناسبة خريجة قسم الفلسفة، وموسيقية). أسئلة يطرحها الصديقان من كل جانب: وجود الخير والشر، والقوي ضد الضعيف، وتفاهة الشر والعنف وعبثيته، والضحايا والجلادون، وما إلى ذلك.
موضوع صعب تتناوله مييكو كاواكامي، والذي، من دون الوقوع في العاطفة، يوضح لنا إلى أي مدى لا يُغفر لك كونك مختلفًا، سواء كان هذا الاختلاف مرغوبًا أم لا، وبخاصة خلال فترة المراهقة وربما أكثر من ذلك في بلد مثل اليابان. وعلى الرغم من هذا الموضوع الشائك، تُلقّح كاواكامي روايتها بتيّار شعري نشعر بأنفاسه في كل صفحة؛ تيّار حزين لكنه جميل أيضا. فبرغم العنف والاشمئزاز اللذين يواجههما البطلان، فإن ثمة غنائية تسود كما هو الحال في كثير من الأحيان في هذا النوع من الأدب الياباني.
ثمة شيء في هذه الصداقة «المضحكة» التي تربط الشخصيات، الغموض، القبول بمصير لا يكاد يفكر فيه أحد. مصير يتغير في هذه النهاية المفتوحة التي تُظهر مكان كل شخص في عالم يحدث فيه أننا لا نجد فيه مكاننا «اللعين» هذا: إذ من الصعب أن تكون على طبيعتك، وأن تكون بسيطا في بعض الأحيان، وأن تعطي الأولوية دائمًا للمظهر على حساب كل شيء آخر. ليس ذلك كله سوى تأثير الآخرين الخبيث عليك، الحاضرين في حياتك، والذين لا يبدو أنهم بحاجة إلى موافقتك أبدًا ليكونوا ما يريدون.
هناك رائحة خاصة جدًا تطفو حول هذا الكتاب، بين الصفاء والعنف، ورؤية مقلقة للخير والشر والبحث عن هُوية الفرد في هذه الفترة من الحياة التي تحدّد مستقبل الجميع. بهذا المعنى، من خلال رغبتهما في عدم الاستسلام أخلاقيًا مع عدم المقاومة جسديًا، فإن بطلي «الجنّة» الصغيرين هما «ساموراي» حقيقيان في التقاليد الثقافية والاجتماعية اليابانية التي تستمر بمرور الوقت.
لكن ما هي «الجنّة» إذن (في العنوان)؟ من أين تأتي؟ هل هي ما بعد الموت (إذ لا بدّ أن يفكر القارئ، وبشكل عفوي، حين يقرأ كلمة الغلاف الأخير، أن المراهقين سينتحران)؟ لا. إنها لوحة كوجيما المفضلة، والتي أطلقت عليها اسم «الجنة». توضح تعريفها للراوي بمثال، عندما يكونان في متحف الفنون: «الجنة لوحة تصور حبيبين يأكلان كعكا في غرفة بها سجاد أحمر وطاولة... وما يبهج حقا هو أنه باستطاعتهما مدّ عنقيهما كيفما أرادا. أينما ذهبا، أيّا ما كان يفعلانه... لا شيء يفرق بينهما»... وتضيف بعد أسطر: «... شيء مؤلم جدا وقع لهما، محزن جدا. لكن أتعرف ماذا؟ لقد تخطيا ذلك، وعاشا في توافق تام».
إسكندر حبش كاتب وصحفي من لبنان
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
مصطفى بكري: الأزمات التي تحيط بالمنطقة جعلت الدولة تضع قانونا لتنظيم وجود اللاجئين
أكد الإعلامي مصطفى بكري، أن مصر ملتزمة لكافة تعهداها الدولية في استقبال اللاجئين، ومصر تؤكد على التزامها بالاتفاق الدولي الموقع في فترة الخمسينيات.
وقال مصطفى بكري، خلال تقديمها برنامج “حقائق وأسرار”، عبر فضائية “صدى البلد”، أن الازمات التي ضربت المنطقة خلال الفترة الأخيرة كان لا بد أن يتم وجود قانون لتنظيم وجود اللاجئين في مصر، والدولة هي لها الحق في تقنين أوضاع اللاجئين.
وتابع مقدم برنامج “حقائق وأسرار”، أن هناك 9 ونصف مليون لاجئ، على الرغم أن المفوضية سجلت 850 الف لاجئ فقطـ، فكان لا بد من أن تنظم الدولة وضع اللاجئين.