لجريدة عمان:
2025-02-06@19:09:55 GMT

ساموراي معاصر

تاريخ النشر: 19th, March 2024 GMT

ساموراي معاصر

لا يزال الأدب الياباني يملك سحره الخارق لممارسته على ذائقتنا (بالنسبة إليّ على الأقل)، حيث يأخذنا في رحلته المدهشة، عبر أسماء جديدة تتواتر إلينا كلّ فترة، بفضل الترجمات، أكانت بلغة أجنبية أم عبر العربية التي أصبحت مكتبتها تضم أسماء كثيرة، منذ ثمانينات القرن الماضي، وهي الفترة التي شهدنا فيها نقل العديد من كتّاب تلك البلاد إلى لغتنا.

قد تكون دار الآداب (بيروت)، هي من فتحت أمامنا تلك الطريق، حين قدمت لنا ذاك الأدب الذي كان مجهولا، لنكتشف فيه قارة كاملة من حيث أساليبه ومناخاته وفضاءاته، كما من حيث موضوعاته المتنوعة المتراوحة من أقصى التقاليد إلى أقصى الحداثة. وحين أقول دار الآداب، لا لألغي دُورًا أخرى -أبدًا- بل لكي أشير إلى أنها الدار التي دأبت -ولا تزال- على تقديم، بشكل منهجي ومستمر، أبرز أصوات الأدب الروائي الياباني. فرحلتها مستمرة في التنقيب وفي الترجمة بطبيعة الحال.

من الأسماء الجديدة التي نكتشفها اليوم، الكاتبة مييكو كاواكامي (مواليد 1976) مع روايتها «الجنّة» (الصادرة حديثًا عن دار الآداب، بترجمة زوينة آل تويه، وهي الرواية التي وصلت إلى اللائحة القصيرة لجائزة البوكر الدولية عام 2022)، حيث تطرح فيها مسألة الهُوية والعلاقة بين الذات والعالم الخارجي، عبر صداقة مراهقين يواجهان عملية إقصاء، لتحمل الرواية بذلك، وبقوة، موضوعات غنيّة جدا حول القيم اليابانية التي تحل مكان التفسير الفكري الغربي.

لا أبالغ لو قلت: إنه اكتشاف منفرد، ومذهل، ويحبس الأنفاس، تقدمه لنا هذه الكاتبة اليابانية التي تكتب «نصًا مؤثرًا»، حول أحلك المواضيع: التحرش، والتنمر والإساءة التي يعاني منها اثنان من المراهقين، صبي صغير (لا نعرف اسمه، بل فقط الألقاب التي تطلق عليه من مثل: ذو النظارتين وغيرها) وفتاة صغيرة (كوجيما)؛ الأول بسبب حَوَل حادّ في عينيه، والثانية بسبب إهمالها المتعمد لمظهرها إثر صدمة وفاة والدها.

يتعرض هذان التلميذان، بشكل دائم، لسوء المعاملة من قبل زملائهما في الفصل الدراسي، لذا «يتعرفان» على نفسيهما، في حياتهما اليومية، على أنهما «ضحايا للمضايقة». إلا أنهما لا يستسلمان للأمر، بل يساعدان ويدعمان بعضهما البعض، من خلال كتابة ملاحظات ورسائل صغيرة لبعضهما، كما من خلال لقائهما المستمر خارج المدرسة.. لقد ساعدتهما هذه اللقاءات -كما الثقة المتبادلة بينهما- على تحمُّل عنف رفاقهما لهما كما الإهانات المستمرة من قبلهم، ليساهم ذلك، في نهاية الأمر، في بنائهما مجدداـ وإعادة تشكيل حياتهما، وجعلهما أقوى بفضل صداقتهما وتواطئهما (بالمعنى الجميل للكلمة)، كي يواجها هذه الحياة بكلّ ما تحمله من مصائب ومصاعب لدرجة أن أحد المراهقين كان قد فكر بالانتحار.

ثمة قراءة مؤثرة في عمل كاواكامي هذا، وعلى الرغم من «صعوبته» (وأقصد أنه لا ينتمي إلى الكتب التي تُؤلَّف لتمضية الوقت والتسلية)، تكمن ميزته في تواجده حول موضوع وواقع قاسيين للغاية. لذا نذهب في خيالنا، مع القراءة، إلى تصور تعاسة المراهقين المحاصرين في شرطهما الاجتماعي والإنساني، حصار الاضطهادات الشتى التي يتعرضان لها، ما يدفعهما إلى الشعور الدائم بالخجل من المعاناة، وهو خجل مضاعف، لا يستطيعان أمامه سوى تبني الصمت.

السؤال الكبير الذي تطرحه الرواية وتظهره، والذي لا يمكن الاستهانة به، هو إلى أي حدّ لا يمكن اعتبار فترة المراهقة، الفترة الأكثر بهجة في حياتنا.. فهذه الفترة الفريدة من البناء والصيرورة هي فترة مركزية وأساسية، لذا يجب أن نكون منتبهين قدر ما نستطيع، إذ يمكن لذلك أن يدفع بالمراهق إلى أن يحبس نفسه في الصمت ويدمر نفسه ببطء ما يقوده في النهاية إلى العزلة المطلقة.

ثمة أسئلة تربوية، بالطبع، لكن هناك أيضا أسئلة فلسفية تطرحها الكاتبة اليابانية (وهي بالمناسبة خريجة قسم الفلسفة، وموسيقية). أسئلة يطرحها الصديقان من كل جانب: وجود الخير والشر، والقوي ضد الضعيف، وتفاهة الشر والعنف وعبثيته، والضحايا والجلادون، وما إلى ذلك.

موضوع صعب تتناوله مييكو كاواكامي، والذي، من دون الوقوع في العاطفة، يوضح لنا إلى أي مدى لا يُغفر لك كونك مختلفًا، سواء كان هذا الاختلاف مرغوبًا أم لا، وبخاصة خلال فترة المراهقة وربما أكثر من ذلك في بلد مثل اليابان. وعلى الرغم من هذا الموضوع الشائك، تُلقّح كاواكامي روايتها بتيّار شعري نشعر بأنفاسه في كل صفحة؛ تيّار حزين لكنه جميل أيضا. فبرغم العنف والاشمئزاز اللذين يواجههما البطلان، فإن ثمة غنائية تسود كما هو الحال في كثير من الأحيان في هذا النوع من الأدب الياباني.

ثمة شيء في هذه الصداقة «المضحكة» التي تربط الشخصيات، الغموض، القبول بمصير لا يكاد يفكر فيه أحد. مصير يتغير في هذه النهاية المفتوحة التي تُظهر مكان كل شخص في عالم يحدث فيه أننا لا نجد فيه مكاننا «اللعين» هذا: إذ من الصعب أن تكون على طبيعتك، وأن تكون بسيطا في بعض الأحيان، وأن تعطي الأولوية دائمًا للمظهر على حساب كل شيء آخر. ليس ذلك كله سوى تأثير الآخرين الخبيث عليك، الحاضرين في حياتك، والذين لا يبدو أنهم بحاجة إلى موافقتك أبدًا ليكونوا ما يريدون.

هناك رائحة خاصة جدًا تطفو حول هذا الكتاب، بين الصفاء والعنف، ورؤية مقلقة للخير والشر والبحث عن هُوية الفرد في هذه الفترة من الحياة التي تحدّد مستقبل الجميع. بهذا المعنى، من خلال رغبتهما في عدم الاستسلام أخلاقيًا مع عدم المقاومة جسديًا، فإن بطلي «الجنّة» الصغيرين هما «ساموراي» حقيقيان في التقاليد الثقافية والاجتماعية اليابانية التي تستمر بمرور الوقت.

لكن ما هي «الجنّة» إذن (في العنوان)؟ من أين تأتي؟ هل هي ما بعد الموت (إذ لا بدّ أن يفكر القارئ، وبشكل عفوي، حين يقرأ كلمة الغلاف الأخير، أن المراهقين سينتحران)؟ لا. إنها لوحة كوجيما المفضلة، والتي أطلقت عليها اسم «الجنة». توضح تعريفها للراوي بمثال، عندما يكونان في متحف الفنون: «الجنة لوحة تصور حبيبين يأكلان كعكا في غرفة بها سجاد أحمر وطاولة... وما يبهج حقا هو أنه باستطاعتهما مدّ عنقيهما كيفما أرادا. أينما ذهبا، أيّا ما كان يفعلانه... لا شيء يفرق بينهما»... وتضيف بعد أسطر: «... شيء مؤلم جدا وقع لهما، محزن جدا. لكن أتعرف ماذا؟ لقد تخطيا ذلك، وعاشا في توافق تام».

إسكندر حبش كاتب وصحفي من لبنان

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

القادري لـ سانا: تمكّن عدد كبير من المعلمين من العودة إلى أماكن عملهم التي هُجّروا منها بسبب النظام البائد، وهو ما يوفّر الاستقرار للمدارس في تلك المناطق

2025-02-05sanaسابق القادري لـ سانا: تمكّنت كوادرنا في مديريات التربية والإدارة المركزية من دراسة طلبات النقل بدقّة خلال فترة زمنية قياسية، وذلك بهدف تسهيل الأمور على المدرسين وتوزيعهم وفق الاحتياج انظر ايضاًالقادري لـ سانا: تمكّنت كوادرنا في مديريات التربية والإدارة المركزية من دراسة طلبات النقل بدقّة خلال فترة زمنية قياسية، وذلك بهدف تسهيل الأمور على المدرسين وتوزيعهم وفق الاحتياج

آخر الأخبار 2025-02-05وزير التربية والتعليم نذير القادري لـ سانا: ضمن عملية التنظيم الإداري للواقع التربوي، وبعد دراسة واقع الكوادر التعليمية والإدارية بالمحافظات، أصدرنا عدة قرارات نقل للكوادر التعليمية إلى محافظاتهم التي تقدموا بطلبات النقل إليها خلال العطلة الانتصافية 2025-02-04قطر الخيرية تسيّر 85 شاحنة مساعدات لدعم المتضررين في الداخل السوري والتركي 2025-02-04مباحثات سورية تشيكية للتعاون في مجال تنفيذ محطات تنقية مياه ‏شرب في المناطق الأشد احتياجاً 2025-02-04دورة تدريبية ‏حول مراقبة نوعية المياه لتعزيز قدرة مجتمعات الغوطة الشرقية في مواجهة ‏ندرة المياه 2025-02-04الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال مؤتمر صحفي مع السيد الرئيس أحمد الشرع في أنقرة: أرحب بالسيد الشرع وممتن لاستضافته في أنقرة 2025-02-04مباحثات مع الجمعية الطبية السورية الأمريكية حول سبل النهوض بالقطاع ‏الصحي ‏ 2025-02-04التأمينات الاجتماعية توضح الحالات التي تستحق المعاش التقاعدي 2025-02-04وزير الشؤون الاجتماعية والعمل يلتقي العاملين في محافظة القنيطرة في مختلف القطاعات 2025-02-04الرئيس أردوغان يستقبل الرئيس الشرع 2025-02-04ملك المغرب يؤكد في برقية تهنئة للرئيس الشرع دعم بلاده ومساندتها لسوريا

صور من سورية منوعات تيك توك تستأنف خدماتها في الولايات المتحدة بفضل ترامب 2025-01-20 الصين تطلق مجموعة جديدة من الأقمار الصناعية إلى الفضاء 2024-12-05فرص عمل جامعة حلب تعلن عن حاجتها لمحاضرين من حملة الإجازات الجامعية بأنواعها كافة 2025-01-23 الخارجية تعلن برنامج اختبارات المرحلة الرابعة في مسابقتها لتعيين عاملين ‏دبلوماسيين 2024-12-05حدث في مثل هذا اليوم 2024-12-077 كانون الأول-اليوم العالمي للطيران المدني 2024-12-066 كانون الأول 2004- اقتحام القنصلية الأمريكية في جدة بالمملكة العربية السعودية 2024-12-05 5 كانون الأول – اليوم الوطني في تايلاند 2024-12-033 كانون الأول 1621- عالم الفلك الإيطالي جاليليو جاليلي يخترع التلسكوب الخاص به 2024-12-022 كانون الأول- اليوم الوطني في الإمارات العربية المتحدة 2024-12-011 كانون الأول 1942 – إمبراطور اليابان هيروهيتو يوقع على قرار إعلان الحرب على الولايات المتحدة
مواقع صديقة أسعار العملات رسائل سانا هيئة التحرير اتصل بنا للإعلان على موقعنا
Powered by sana | Designed by team to develop the softwarethemetf © Copyright 2025, All Rights Reserved

مقالات مشابهة

  • نقاش حول مصادر الأدب الشعبي والأمثال
  • لقاءات للأطفال ضمن أنشطة ثقافة الفيوم في إجازة نصف العام
  • ويليام بوروز.. رائد الفوضى الأدبية وكاتب المحظورات
  • اللقاء الأسبوعي لنادي ثقافة سوهاج بمكتبة رفاعة الطهطاوي
  • مدام دي سيفينيه.. أيقونة الأدب الفرنسي الخالدة في فن الرسائل
  • القادري لـ سانا: تمكّن عدد كبير من المعلمين من العودة إلى أماكن عملهم التي هُجّروا منها بسبب النظام البائد، وهو ما يوفّر الاستقرار للمدارس في تلك المناطق
  • الكاتب الأردني محمد سناجلة: يجب الاهتمام بالبحث العلمي في مجتمعاتنا لسد الفجوة مع الخارج
  • صالون معرض الكتاب يناقش العلاقات الثقافية بين مصر ولبنان وفلسطين
  • من تكون الشابة السورية التي رافقت الشرع خلال زيارته إلى السعودية؟
  • على أجنحة الخيال الفارسي.. 69 قصة من كنوز الشرق