من هنأ بوتين بالولاية الجديدة؟.. أسماء تكشف خريطة التحالفات
تاريخ النشر: 19th, March 2024 GMT
رغم الانتقادات الغربية لعملية الانتخابات الرئاسية في روسيا، وفوز فلاديمير بوتين الذي كان متوقعا بها، خرج العديد من "أصدقاء بوتين" في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية لتقديم التهنئة له.
وبينما ندد قادة غربيون بانتخابات غير شرعية، سارع حلفاء الرئيس الروسي إلى تهنئته وتأكيد الدعم والتحالف.
"قمع وترهيب" و"اقتراع دون خيار".. تعليقات أوروبية على انتخاب بوتين اعتبر مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، الاثنين، أن إعادة انتخاب، فلاديمير بوتين، رئيسا لروسيا جرت في انتخابات استندت إلى "القمع والترهيب".
وأعلنت اللجنة الانتخابية الروسية، الاثنين، أن بوتين حقق فوزا "قياسيا" في الانتخابات التي اختتمت، الأحد، معتبرة ذلك دليلا على أن البلاد موحدة خلف الرئيس المهيمن على السلطة منذ نحو ربع قرن.
وقالت رئيسة اللجنة، إيلا بامفيلوفا، "إنه مؤشر قياسي" موضحة أن بوتين نال "حوالى 76 مليون" صوت، ما يمثل 87,29 في المئة.
وتتناقض تعليقات القادة في أنحاء أوروبا والولايات المتحدة بشكل كبير مع رسائل التهنئة التي تدفقت على بوتين من دول في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية، وفق تعبير صحيفة "الغارديان".
وسارع الرئيس الصيني، شي جينبينغ، إلى تهنئة بوتين قائلا إن فوزه "يظهر دعم الشعب الروسي" له، وقال شي: "في الأعوام الأخيرة، توحد الشعب الروسي لتجاوز التحديات... أعتقد أنه بقيادتكم، ستكون روسيا قادرة على تحقيق إنجازات أكبر في التنمية الوطنية والإعمار".
وأرسل الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، إلى نظيره الروسي "خالص تهانيه على فوزه الحاسم وإعادة انتخابه رئيسا لروسيا الاتحادية".
أما الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، فرأى أن "التطور الإيجابي للعلاقات بين تركيا وروسيا سيستمر، وأعلن أن تركيا مستعدة لتأدية دور الوسيط من أجل العودة إلى طاولة المفاوضات مع أوكرانيا"، وفق ما جاء في بيان للرئاسة التركية
وهنأ رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، الرئيس الروسي، مؤكدا على أنه يتطلع إلى تطوير العلاقة "الخاصة" مع بوتين.
وكتب مودي على منصة "أكس" :"أتطلع إلى العمل معا لتعزيز الشراكة الاستراتيجية الخاصة والمميزة التي تجاوزت اختبار الزمن بين الهند وروسيا، في السنوات المقبلة".
وقال الزعيم الكوري الشمالي، كيم جونغ أون، الاثنين، إن الناخبين الروس أظهروا "دعمهم الثابت" لبوتين في الانتخابات.
وكتب كيم في رسالة موجهة إلى بوتين نقلتها وكالة "تاس" للأنباء: "الشعب الروسي أظهر رغبته في تعزيز الوحدة الاجتماعية والسياسية حولكم وبناء روسيا قوية".
واعتبر الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، أن "شقيقنا الأكبر انتصر، وهو أمر يحمل بشرى للعالم".
وقال الرئيس الكوبي، ميغيل دياز كانيل، إن النتيجة الرسمية تعد "مؤشرا صادقا على أن الشعب الروسي يدعم إدارة (بوتين) للبلاد".
وقال الرئيس السوري، بشار الأسد، في بيان موجه لبوتين: "أبارك لكم نصركم وإعادة انتخابكم رئيسا لروسيا الاتحادية وبأغلبية كبيرة، الأمر الذي يؤكد ثقة الشعب الروسي العالية بكم وبسياساتكم الوطنية ورؤاكم الإستراتيجية".
وتمنى لبوتين "التوفيق والنجاح في مسؤولياته ومهامه وللعلاقات المميزة التي تربط سورية وروسيا والتعاون الثنائي الفعّال الذي يجمعهما مزيدا من الازدهار".
وبعث أمير قطر، تميم بن حمد آل ثاني، برقية تهنئة إلى الرئيس الروسي متمنيا له التوفيق و"للعلاقات بين البلدين المزيد من التطور والنماء".
و أرسل الأمير البحريني، سلمان بن حمد آل خليفة، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، برقية تهنئة إلى بوتين "رئيس روسيا الاتحادية الصديقة بمناسبة فوزه في الانتخابات الرئاسية لفترة رئاسية جديدة".
من جهتها، كتبت وكالة الأنباء السعودية "واس" أن "خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد يهنئان رئيس روسيا الاتحادية بمناسبة إعادة انتخابه لفترة رئاسية جديدة".
وأعربا عن "أصدق التهاني، وأطيب التمنيات بالتوفيق والسداد لفخامته، ولشعب روسيا الاتحادية الصديق المزيد من التقدم والازدهار".
وفي بيان نشرته الرئاسة المصرية، تقدم الرئيس عبد الفتاح السيسي "بخالص التهنئة" إلى بوتين.
وتسلط ردود الفعل المتناقضة بين الغرب ومناطق أخرى حول العالم على التغييرات الجيوسياسية التي ظهرت على نطاق واسع منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، قبل نحو عامين، الذي أدى إلى أزمة في العلاقات بين روسيا والغرب، وفق الغارديان.
وقالت الصحيفة إنه في مواجهة العلاقات المتوترة على نحو متزايد مع الولايات المتحدة، سعت الصين إلى توسيع نفوذها على المستوى الدولي، "وبدافع من الاعتقاد بأن عصر الهيمنة الأميركية قد وصل إلى نهايته، حاولت بكين تأمين مجال نفوذها الخاص الذي يتناقض مع الغرب، وأثبتت روسيا في عهد بوتين أنها شريك راغب في هذا السعي".
وبعد إعلان "النصر" يوم الاثنين، استغل بوتين خطابا أمام أنصاره ليعلن مرة أخرى أن "تايوان جزء لا يتجزأ من جمهورية الصين الشعبية"، في رسالة موجهة إلى حكومة بكين التي تسعى إلى ضم تايوان.
والصين وروسيا عضوان أيضا في مجموعة "بريكس" التي تهدف إلى منافسة الولايات المتحدة بتوحيد الاقتصادات الناشئة، مثل البرازيل وجنوب أفريقيا والهند.
وبعد أن بدأت روسيا حربها على أوكرانيا، صوتت 141 دولة لصالح قرار للأمم المتحدة يدين الغزو.
ومع ذلك، فإن هذا التأييد لا يظهر حقيقة مفادها أن ثلثي سكان العالم يعيشون في بلدان محايدة أو ذات ميول روسية، وفق وحدة الاستخبارات الاقتصادية (EIU) التابعة لمجلة "إيكونوميست".
ووجد التحليل أن دولا مثل البرازيل والسعودية وجنوب أفريقيا والهند بذلت قصارى جهدها لتجنب الانحياز إلى أحد الجانبين في الصراع بين روسيا وأوكرانيا.
ويوم الاثنين، ردد رئيس الوزراء الهندي، مودي، كلمات شي، قائلا إنه يتطلع إلى تعزيز "الشراكة الاستراتيجية الخاصة والمتميزة" بين نيودلهي وموسكو.
ومنذ أن بدأت الحرب في فبراير 2022، حرص مودي على عدم اتخاذ موقف قوي ضد الغزو، وكانت الهند أكبر مشتر منفرد للنفط الروسي، إذ استفادت مصافي التكرير الهندية من الانخفاض الكبير في أسعار النفط الروسي بعد أن حظرت أوروبا وارداته منه، وخففت الهند في الوقت نفسه من الضغوط على صناعة النفط الروسية، مما عزز تحالف البلدين.
واحتفال زعماء أميركا اللاتينية الذين كانوا على خلاف تاريخي مع الولايات المتحدة، بفوز بوتين، ما يعكس مدى زيادة التقارب بين هذه الدول وموسكو بعد عزلة روسيا عن الغرب.
وتم استقبال فوز بوتين بحرارة في العديد من دول غرب ووسط أفريقيا، مثل مالي والنيجر، التي باتت تحكمها مجالس عسكرية وصلت إلى السلطة بانقلابات.
وسعت روسيا إلى مغازلة العديد من هذه الدول في منطقة الساحل، بعد أن قطعت علاقاتها مع حلفائها التقليديين، فرنسا والولايات المتحدة، في أعقاب الانقلابات.
واستخدم بوتين انهيار اتفاق الحبوب الذي ضمن استمرار تصدير المواد الغذائية من أوكرانيا إلى الأسواق العالمية، والعديد منها في أفريقيا، وسيلة لتعزيز دعمه في المنطقة.
وفي يوليو 2023، وعد بتسليم شحنات الحبوب مجانا إلى بوركينا فاسو وزيمبابوي ومالي والصومال وجمهورية أفريقيا الوسطى وإريتريا. وتم بالفعل شحن الدفعات الأولى منها، الشهر الماضي، وفقا للحكومة الروسية.
المصدر: الحرة
كلمات دلالية: روسیا الاتحادیة الشعب الروسی
إقرأ أيضاً:
السلطان هيثم.. القائد الذي يصنع عُمان الجديدة
عندما نقرأ أحداث التاريخ ونتصفح مساراته نجد بشكل واضح أن الدول والشعوب تقف، دوما، عند مفترق الطرق، ويتحدد مصيرها في منعطفات الأحداث على أيدي قادتها الذين يصنعون التحولات الكبرى التي يتضح حجمها وأبعادها البنائية والتأسيسية بعد حين: بعد سنوات وربما عقود وأحيانا بعض نصف قرن أو أكثر؛ فليس سهلا أن يشكل الباحث أو المتأمل للأحداث التاريخية رؤية متكاملة في لحظة تداعي الحدث وتوالي تفاصيله.
في كتابه "الأبطال" يطرح المؤرخ الإسكتلندي توماس كارليل رؤية عميقة عن دور القادة العظماء في تشكيل مسار التاريخ فيعتبر "البطل" هو الشخص الذي يتمتع بصفات استثنائية، تجعل منه مصدر إلهام لأمته/شعبه، ويمنحه القدرة على التأثير العميق في مجريات الأمور وتوجيه الناس في اللحظات الحاسمة. البطل، في نظر كارليل، ليس مجرد شخصية تاريخية عظيمة، بل رمز للقوة الروحية والأخلاقية التي تشع منها أفكار وإلهام قادران على تحريك الشعوب وتغيير مصائرهم.
ويرى كارليل بأن التاريخ الإنساني هو في جوهره تاريخ الأبطال، وأن هؤلاء القادة العظام هم المحرك الأساسي للتغيرات الكبرى.
واللحظات الحاسمة في التاريخ تتطلب ظهور أبطال عظام يمتلكون القدرة على تحويل مسار الأمور، ويمثلون الأمل الأخير للشعوب في الأوقات العصيبة. والقائد البطولي هو الذي يظهر في هذه اللحظات ليوجه الأمة ويمنح الناس رؤية واضحة للمستقبل.
وهذه الرؤية التي يطرحها كارليل تبدو شديدة الوضوح في عهد حكام أسرة ألبوسعيد منذ الإمام المؤسس أحمد بن سعيد وإلى اليوم حيث يتسنم عرش عُمان العظيم جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، حفظه الله ورعاه، الذي تتجسد فيه بشكل واضح موصفات "البطل" الذي جاء لأمته في لحظة حاسمة وعند مفترق طرق وألهم فيها الأمل واستطاع بحكمته تحويل مسار الأمور في لحظة تحولات كبرى في المنطقة والعالم إلى حيث الاستقرار والقدرة على بناء يقين بالمستقبل.
كان المشهد الداخلي والخارجي في عُمان شديد التعقيد في اللحظة التي وصل فيها حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، حفظه الله ورعاه إلى سدة الحكم؛ فقد كانت عُمان، سليلة التاريخ والأمجاد تعيش في لحظة إقليمية وعالمية شديدة التعقيد، وفي لحظة داخلية صعوبة بعد رحيل السلطان قابوس الذي فُجع به الجميع.. كانت عُمان تعيش أزمة مالية خانقة أثرت على الاقتصاد ورفعت المديونية إلى رقم تاريخي، وتعيش أزمة صحية بسبب جائحة كوفيد19، وتعيش حزنا كبيرا على رحيل السلطان قابوس.. بدا الأمر شديد التعقيد، ومسارات حلوله صعبة للغاية لأنها ترتبط بالمشهد العالمي، حركته المالية وحركته الاقتصادية ومسارات التعافي من الوباء لم تكن واضحة على الإطلاق ليس في عُمان فقط ولكن في العالم أجمع. وأمام هذا المشهد كان لا بد من "بطل" يستطيع أن يصنع تحولا تاريخيا يبدأ من الداخل بإعادة اليقين إلى الناس ويجري إصلاحات اقتصادية ومالية وهيكلية في بنية الحكومة، ثم يمتد الأمر إلى الخارج للعمل على حفض حدة التوترات الإقليمية.
كانت هذه المواصفات متوفرة في السلطان هيثم، الرجل الهادئ وصاحب النظرة العميقة والمتأملة، وكان العمانيون على يقين أنه يملك القدرة على إحداث التغيير في لحظة تاريخية لا تقبل التجريب.
واستطاع جلالة السلطان المعظم أن يعيد بناء المشهد الداخلي وفق رؤية واضحة المعالم هي رؤية "عُمان 2040" التي لم تكن رؤية تجريبية ظهرت في لحظة حاجة ماسة ولكنها رؤية بنيت على أسس عالية الدقة من التخطيط المحكم والمشاركة الشعبية. رسخ السلطان هيثم منذ خطاباته الأولى مصطلح "النهضة المتجددة" واستطاع هذا المصطلح ومعطياته التطبيقية التي وظفها الإعلام العماني بشكل مهني من تجسير الفجوة بين مرحلتين وبين عهدين، وألهم المصطلح العمانيين الذين شعروا عمليا أن النهضة "تتجدد" وأن هناك متغيرات حقيقية تجاوزت التغييرات العابرة إلى تغيرات هيكلية عميقة طالت بنية الحكومة التي أعيد هيكلتها بعد أقل من ثمانية أشهر من تولي السلطان لمقاليد الحكم، وبعد عام كامل عند إصدار نظام أساسي جديد للدولة وضع مسارا محكما لعملية انتقال ولاية الحكم ورسخ لدولة العدل والمساواة والحقوق ورسخ لمبدأ الحوكمة وكذلك للقيم الثقافية والأخلاقية التي تنطلق منها مبادئ سلطنة عمان.
وكانت الإصلاحات التي طالت الاقتصاد ومسارات الانفاق المالي والتي حققت نتاج إيجابية بشكل سريع فاق التوقعات هي الأكثر تأثيرا في يقين العمانيين وألهبت طموحاتهم وتطلعاتهم نحو غد أكثر إشراقا وأيقنوا سريعا أنه القائد/ البطل القادر على صناعة مستقبل مختلف لعُمان وفق رؤية تجمع بين تاريخ عريق واستراتيجيات حداثة، تمثل النهضة الشاملة.
ولكي نفهم جوهر الفكر القيادي الذي يتمتع به جلالة السلطان المعظم لا بد من العودة إلى الجذور التي نشأت فيها جلالة السلطان والتي شكلت وعيه بعُمان وبتاريخها وشكلت وعيه بالمنطقة المحيطة بعمان والتي تؤثر في كل مسارات الأحداث.
القيادة الأخلاقية
ولد السلطان هيثم في بيت حكمة وسياسة وبطولة فهو سليل سلاطين البوسعيد الذين حولوا عُمان إلى واحدة من أعظم إمبراطوريات العالم في القرن التاسع عشر وراكموا أمجادها عبر قرون طويلة من الفعل الحضاري، وتربى، حفظه الله، على القيم التي جعلت عُمان دولة ذات حضور مستقل وصوت معتدل في المحافل الدولية. ومر السلطان هيثم بتجارب صقلت تجربته القيادية. فعلاوة على أنه كان قريبا من الناس ومن نبضهم فقد كان على مستوى كبير من الوعي السياسي بعد سنوات طويلة من العمل في وزارة الخارجية حيث مركز الدبلوماسية العمانية وتماسها من القضايا العالمية ومواقفها الممتدة من عمق مبادئها السياسية والتاريخية، وعبر ذلك أدرك المحركات الثقافية التي تحرك الأمم والشعوب وتنعكس على سياساتهم الخارجية. كانت تلك التجربة مهمة جدا في بناء شخصية القائد في فهم الأبعاد الخارجية للعالم أجمع. ثم كانت تجربة وزارة التراث والثقافة والتي لا تقل أهمية عن تجربة الخارجية. وعبر هذه التجربة تعمق وعي جلالة السلطان بتاريخ وطنه ومنجزه الحضاري ومواطن قوته الأمر الذي جعله تصوراته حول المستقبل أكثر يسرا وسهولة.
أدرك السلطان هيثم عبر قربه من نبض المجتمع وعبر فهمه العميق لثقافته ولوعي المجتمع المبني على وعيه التاريخي آمال العمانيين وخاصة أجيال الشباب منهم وبنى رؤيته على فكرة التوازن في الحفاظ على الهوية والانفتاح على العالم فكان يركز في كل مناسبة على البناء الأخلاقي والتمسك بالقيم العماني وبالوسطية والاعتدال رغم حديثه المستمر عن الدولة العصرية المتقدمة والانفتاح الاقتصادي.
هكذا تبدو شخصية السلطان هيثم واضحة المعالم، فالانفتاح من وجهة نظره لا يعني الانسلاخ من قيم المجتمع ومن مبادئه وهذا الرؤية هي رؤية القائد الذي لا يبني لحظة آنية تهمل البناء الحضاري، إنه قائد معني بالبناء الأخلاقي والحضاري الذي يمتلك صفة الاستدامة والبقاء والتأثير العميق.
رؤية عمان
لم تكن رؤية عمان 2040 التي يمكن أن ننظر لها باعتبارها مشروع حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم لعمان في لحظة تاريخية مهمة مجرد وثيقة تخطيط لتسيير العمل الحكومي في الدولة، إنما كانت انعكاسا لطموحات بلد بأسره كان يبحث عن رؤية في لحظة تحولات كبرى في العالم. كانت الرؤية تستند إلى تلك الطموحات التي تم بلورتها عبر دراسات معمقة واستشارات واسعة مع جميع فئات المجتمع. من يتأمل وثيقة الرؤية يدرك أنها تعزز فكرة أن الاستدامة والابتكار هما ركيزتان أساسيتان، وتستهدف تحويل التحديات إلى فرص واعدة، مع التركيز على العمانيين باعتبارهم الثروة الأهم والهدف والغاية النهائية من كل عمل.
وكان واضحا أن فكر السلطان هيثم الاستراتيجي المبني، كما سبق، على رؤية واسعة وعميقة لعُمان وللعالم يدرك خطر الاعتماد على النفط وحده في وقت لم يعد فيه النفط في المكانة العالية التي يمكن أن تضمن المستقبل في ظل التقلبات الاقتصادية العالمية؛ ولذلك، اتجه إلى تنويع مصادر الدخل، عبر تبني الاستثمار في الطاقة المتجددة وفي التكنولوجيا المتقدمة وفي قطاعات السياحة، والخدمات اللوجستية.. ورغم أن الطريق ما زال في عتباته الأولى في إطار إحداث تغيرات جوهرية في بنية اقتصادية إلا أن الأهداف بدأت تتحقق في الكثير من مسارات العمل وبدأت مساهمة القطاعات غير النفطية تنمو بشكل واضح. ومثل هذه الرؤية التقدمية ستصنع مع الوقت اقتصادا متينا ومستداما يستطيع يوفر حياة كريمة للأجيال القادمة.
إن ما يميز رؤية السلطان هيثم واستراتيجيته المستقبلية التي نقرأها في "رؤية عمان" هو ارتباطها الوثيق بالإنسان؛ فهي تهدف إلى تطوير التعليم والتدريب، ليكون أبناء عمان هم صناع المستقبل، وليس مجرد مستهلكين له.
لم تتوقف خطوات جلالة السلطان المعظم عند الخطط الاقتصادية من أجل الانتاج، بل امتدت لتشمل إصلاحات عميقة في بنية الاقتصاد وفلسفته وكذلك الإدارة وغاياتها. لقد شرع السلطان، أعزه الله، في سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية، تعيد هيكلة المؤسسات وتحقق الاستدامة المالية، وتزيد من كفاءة الأداء الحكومي.. وكان هذا التوجه مبنيا على فهم أن الإصلاح الاقتصادي ضروري لبقاء الدولة قوية ومرنة أمام التحديات الكبرى التي تحدث في العالم وتقلبات الأسواق والحروب التي بليت بها المنطقة. ومن بين أهم الإصلاحات التي أقرتها رؤية السلطان هيثم للحكم تنظيم سوق العمل، ودعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وتطوير القطاع السياحي ليكون مصدرا مستداما للدخل خاصة وأن سلطنة عمان تمتلك مقومات سياحية استثنائية.
وأمام هذه التغيرات الهيكلية والإصلاحات الاقتصادية العميقة برز إيمان جلالة السلطان هيثم بمبدأ الحوكمة باعتبارها أحد أهم ضمانات الكفاءة، وأعطى السلطان، حفظه الله، الشفافية والمساءلة أهمية كبرى باعتبارهما قواعد ثابتة في إدارة الدولة، مؤكدًا أن الولاء الحقيقي لعُمان يعني خدمة الوطن بكل تفان. وأكد على أهمية فتح قنوات تواصل بين الحكومة والمواطنين، ليكون المجتمع شريكا في رسم السياسات المستقبلية وهذا التوجه يعكس إيمان السلطان بأن النهضة لا تتحقق إلا بتكاتف الجميع.
ورغم إلحاح القضايا المالية والاقتصادية في اللحظة التي جاء فيها جلالة السلطان للحكم إلا أنه لم يتجاوز قيد أنملة الاهتمام بالقضايا الثقافية وبترسيخ الهوية الوطنية والتمسك بكل قوة بالقيم والمبادئ الأخلاقية التي تبقى صمام الأمان لأي مجتمع. ويبقى الحفاظ عليها أحد أهم أولويات القائد الذي تنطلق رؤيته من عمق مجتمع وثقافته.
كان هذا المسار الإصلاحي الهم الأول والأساسي الذي شغل جلالة السلطان هيثم المعظم منذ العتبات الأولى لعهده الميمون، لكنه لم يكن الهم الوحيد فقد كانت السياسة الخارجية ملحة جدا نظرا للأحداث الكبرى التي كانت تتشكل في العالم. حافظ جلالة السلطان المعظم على نظرية الحياد الإيجابي الذي تتبناه سلطنة عمان في سياستها الخارجية، وأضاف جلالته، أعزه الله، رؤيته الخاصة التي تعزز من دور عُمان كوسيط موثوق ومؤثر في الإقليم. ورغم الأحداث الكبرى والفاصلة التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الأربع الماضية إلا أن عُمان لم تفرط في مبادئها السياسية التي الراسخة بل زاد تمسكها بها ونستطيع فهم ذلك من خلال قراءة مواقفها من الحرب الظالمة على قطاع غزة. أكسب عاهل البلاد المفدى السياسة الخارجية العمانية زخما جديدا يجمع بين الحوار والسعي لتحقيق السلام في منطقة تعصف بها التوترات ولكن دون تفريط في المبادئ والقيم. لقد أعطى جلالة السلطان المعظم خلال أحداث كبيرة محيطة بعمان درسا مهما في الحفاظ على استقلال القرار السياسي وعدم التأثر بالأحداث ولكن، أيضا، دون تفريط في العلاقات الطيبة مع دول العالم.
المشهد جميل لكن التحديات موجودة
يبدو المشهد مشرقا جدا، وهو كذلك لكن التحديات لم تختفِ على الإطلاق والعالم ما زال يعيش لحظات من غياب اليقين في قضايا كثيرة.. ما زال الاقتصاد العالمي متذبذب، وما زالت التغيرات المناخية تفاجئنا بحجمها وعُمان من بين الدولة المتأثرة بهذا التغيير بشكل كبير، وما زالت أزمات المنطقة مشتعلة ومعقدة جدا وعصية على الحل.
لم يكن العالم في يوم من الأيام خاليا من التعقيدات ومن الأزمات والتخطيط الجيد والثقة من شأنها أن تفتح آفاقا لمسارات المستقبل، وهي مسارات ممكنة جدا عندما تتوفر الإرادة والعزيمة والعمل الجماعي.
هكذا بدا جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم فيما نعتبرها سنوات التأسيس لعده الميمون قائد حمل قضايا وطنه على عاتقه وعاهد شعبه منذ اليوم الأول من يبقى مخلصا لقضاياه. لقد مزج بين عراقة الماضي التي تتمته به سلطنة عمان ورؤيته للمستقبل مستندا إلى إرادة صلبة وإيمان عميق بوطنه. ومرة أخرى لم تكن رؤيته مخطط اقتصادي بل حلم جماعي يسعى إلى تحقيق نهضة شاملة ومستدامة، يشارك فيها كل مواطن من أجل عُمان التي نحلم بها جميعا.
إنه "البطل" الذي تحدث عنه كارليل، قائد صادق مع نفسه ومع الآخرين، وقادر على مواجهة الحقائق ولديه عمق في فهم العالم وقدرة على رؤية الحقيقة ويملك القوة على اتخاذ القرارات المصيرية ومستعد للوقوف مع الحق مهما كانت التحديات.
* عاصم الشيدي رئيس تحرير جريدة عمان