سرطان الأمة.. حيثيات الحكم على بديع وعزت وقيادات جماعة الإخوان الإرهابية| فيديو
تاريخ النشر: 19th, March 2024 GMT
أودعت الدائرة الأولى إرهاب بمحكمة جنايات أمن الدولة العليا، برئاسة المستشار محمد السعيد الشربيني وعضوية المستشارين غريب عزت ومحمود زيدان، حيثيات الحكم على محمد بديع مرشد الجماعة الإرهابية، ومحمود عزت القائم بأعمال المرشد وآخرين بالإعدام شنقا، والسجن المؤبد لـ آخرين في القضية التي عرفت إعلاميا بـ أحداث المنصة.
وقالت المحكمة في أسباب الحكم بـ قضية أحداث المنصة، إن جماعة الإخوان المسلمين التي نشأت في إثر ثمانية وعشرين عاما خَلُونَ من القرن الماضي في مدينة الإسماعيلية على يد واضع لبناتها الأولى المدعو حسن البنا - موحياً لأتباعه ومريديه زخرفًا من القول غُرُورًا ويكأنه يدعو لجماعة ربانية لنشر الدعوة الإسلامية ومن خلف ستار تلك المزاعم تسرطنت الجماعة في جسد الدولة المصرية، وتوغلت في مجتمعها فغيبت عقول أذنابها الجماعة لا تعترف بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية للدول الإسلامية، بزعم أن كل بقعة من المعمورة فيها مسلم هي وطن للجماعة، يستوجب من أشياعها ومن والاهم الجهاد في سبيله وصولاً لأستاذية وسيادة العالم بدعوى إعادة الخلافة الإسلامية مجدداً من خلال هدم أنظمة تلك الدول - باستخدامها القوة والعنف والتهديد والإرهاب وترويع المواطنين وتعريض حياتهم للخطر، بمسوغ أن حياة المسلم وماله ليس له فيهما شيء، وإنما هما وقف على نجاح دعوة الجماعة، وأن الجهاد بنشر هذه الدعوة، وتعميمها بين الناس بالحجة والبرهان، فإن أبوا إلا العسف والتمرد على تلك الدعوة - فبالسيف والسنان، حتى بات العنف شيمة جماعة الإخوان المسلمين وديدنها، وسفك دماء كل من جابه أطماعها ووقف في وجه مراميها - منهاجا للجماعة وشرعة لكهنتها، ولا عاصم لتابعيها من استباحتهم القتل - فلا يحسون عليه بعد اقترافه ندماً، ولا يحسون منه قبل اقترافه رهبة أو خوفاً - ويكأنهم شذاذاً قد أفلتوا من قوانين الطبيعة الإنسانية التي تكبر الحياة لإنسانية، وتعظم الاعتداء عليها.
وتابعت المحكمة في حيثيات قضية أحداث المنصة، إذ أمكن لجماعة الإخوان المسلمين تولي مقاليد الحكم في البلاد - فلم يرقبوا في مصر وشعبها إلا ولا ذمة، وأماط سدنتها اللثام عن وجهها القبيح وأغراضهم الحقيقية في ارتقاء سدة الحكم في البلاد من بعد أن عميت أبصارهم إلا عن نشب مخالبهم في مفاصل الدولة إعلاء لمبدأ أن تسيد الجماعة مقدم على الولاء للوطن، مما تردى بأوضاع البلاد في مدارك الهاوية، فما كان من شعب مصر إلا أعلن رفضه لنهج الجماعة وممثلها في مؤسسة الرئاسة - الرئيس الأسبق للبلاد ، فهبوا للمطالبة بعزله واستئصال شأفة جماعته الإرهابية لائذين بحمى الله ثم جيش مصر وشرطتها - اللذين ما كانا ليصما آذانهما عن استغاثة بني وطنهما - فخرجت جموع الشعب المصري إلى الميادين العامة بالقاهرة والمحافظات للتنديد بسياسات الرئيس الأسبق، وما لحق بالبلاد في ظل حكمه وجماعته من تردي للحالتين الاقتصادية والاجتماعية الذي وصلت إليه البلاد آنذاك - مستجيرة بجيش مصر بدعوات النزول في ٢٠١٣/٦/٣٠ لمطالبة القوات المسلحة بمواجهة إرهاب الجماعة.
وأضافت المحكمة في حيثيات أحداث المنصة، أنه وعلى إثر تلك الدعوات فقد اضطلعت قيادات التنظيم الإخواني - أعضاء مكتب الإرشاد العام بعقد عدة لقاءات تنظيمية فيما بينهم – تدارسوا خلالها الموقف المنصرم بيانه واتفقوا على البدء في تحرك مضاد ومحاولة استباق الجماهير المعارضة للحكم الإخواني في النزول إلى الميادين، وكدأبهم نعقوا معلنين نفيرهم العام في صفوف الجماعة للتهديد والوعيد لمن سيلبى تلك الدعوات، والتحريض على قتلهم بإقرار تلك القيادات سبيل العنف منهجاً لإجهاض هذا التحرك، وإعاقة حركة النقل والمواصلات داخل القاهرة، ووسائل الانتقال إليها من المحافظات الأخرى، وكذا حصار المؤسسات العامة، ودواوين الوزارات وتعطيلها عن أداء عملها، وإحداث حالة من الفوضى العامة بالبلاد لإرهاب جمهور المواطنين، وبث الرعب في نفوسهم لإثنائهم جبراً عن تلبية دعوات الخروج، وفي أعقاب نزول ملايين المصريين في تظاهرات حاشدة بالقاهرة وعدد من محافظات الجمهورية المختلفة يوم ۲۰۱۳/۹/۳۰ ولتصاعد الأمور بالحشد ٢٠١٣/٦/٣٠ والحشد المضاد، بما يهدد الأمن القومي للبلاد و وحدتها وسيادتها.
وأفادت حيثيات المحكمة في قضية أحداث المنصة، وانصياعا لأمر جموع الشعب المصري بإقصاء ذلك النظام الخوان وإسقاط شرعية ممثل تلك الجماعة - الرئيس الأسبق محمد مرسي - وإزاحته وجماعته عن إيوان الحكم، فقد صدر بيان القوات المسلحة بتاريخ ۲۰۱۳/۷/۳ متضمناً عزل (محمد مرسي) وتعطيل العمل بالدستور، ووضع خارطة طريق المستقبل البلاد السياسي، مما أشعل شرارة الكراهية في نفوسه الجماعة الإرهابية وأوقد نار الضغينة، وهو ما أوغر قلوب كهنتها من قادتها وكوادرها وأعضائها ومن شايعهم، وأبى كل أولئك النزول علي إرادة الشعب المصري، فشيدوا أعمدة نواياهم بإزهاق أرواح كل من نقض غزلهم أنكاثاً، واشتد غيظهم ومزجوه بردود أفعال عنيفة فأخذتهم حمية الجاهلية الأولي العنف منهاجاً لا يتجزأ من استراتيجية ذلك التنظيم الإرهابي لائذين بحمى فنعقوا بما لم يسمعوا إلا دعاء الإرهاب ونداءه في سبيل عودة ممثلهم إلى السلطة.
اضطلعت معه قيادات التنظيم الإخواني متمثلين في كلا من المتهمين محمد بديع عبد المجيد محمد سامي، والسيد محمود عزت إبراهيم، ومحمد محمد إبراهيم البلتاجي، وصفوة حمودة حجازي إبراهيم، وأسامة ياسين عبد الوهاب محمد، على إمداد عناصر الجماعة من المعتصمين بمختلف الأسلحة الآلية والمحلية، والذخائر والمولوتوف - لصد أي محاولة لفض الاعتصام ، وكذا استخدام تلك المؤن في مسيراتهم وتجمهراتهم بهدف إحداث الفوضى والتخريب، وزعزعة الأمن ودفع الأجهزة الأمنية للاشتباك مع المعتصمين لتصوير أجهزة الدولة في وضع قتلة متظاهري ومعتصمي ميدان رابعة العدوية وما يتلوه من تجمهراتهم لإيقاع الفتنة وشق صف الشعب المصري، ليستحيلوا أهل مصر وكأنهم شِيَعًا يُقتل بعضهم بعضا - من بعد ما جبلوا على الكفر بقيمة الأوطان فلا يعترفون بها - فما الوطن في عقيدة جماعة الإخوان المسلمين ،وكهانها، وسدنتها - إلا حفنة من تراب تذره الرياح حيث تهوى بهم مراميهم وغاياتهم، وما الدين لديهم إلا زينة يتحلون بها وصولاً للسيطرة والاستحواذ، ولا مانع لديهم من تدمير الدولة للوصول لهدفهم في أكذوبة الخلافة الإسلامية.
واتفقت تلكم العناصر القائدة، والموجهة للمعتصمين مع من والاهم من المتطرفين - المتهمين " الهاربين " عاصم عبد الماجد محمد ماضي، ومحمد عبد المقصود محمد عفيفي على تحريض المعتصمين وحشدهم للقيام بمسيرة ضخمة بطريق النصر، ومحاولة السيطرة عليه، ومد نطاق الاعتصام بتجمهر مستقل عنه - لإحداث شلل بمنطقة مدينة نصر والمحاور المؤدية منها وإليها من بعد أن اتفقوا على إحلال الجماعة بالوطن - رافضين له، وفي مساء يوم ٢٠١٣/٧/٢٦ ، وبناء على تكليف من قيادات جماعة الإخوان المسلمين، ومن بينهم المتهمين محمد محمد إبراهيم البلتاجي، صفوة حمودة حجازي إبراهيم وأسامة ياسين عبد الوهاب محمد - تحرك ما يزيد على الألفين من معتصمي ميدان رابعة العدوية - بعضهم من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، والبعض منضم لجماعات محظورة موالية لجماعة الإخوان المسلمين وما كانت مشاركتهم إلا لطاعتهم العمياء لما أصدرته قياداتهم من مدبري التجمهر لهم من التكليفات غرض التجمهر ، وقد جمع المتجمهرون غرض إرهابي واحد هو مقارفة الجرائم التي وقعت تنفيذاً للغرض من تجمهرهم، من بعد أن توحدت نياتهم على الاعتداء بكافة أشكاله وصوره، وظلت هذه النية تصاحبهم حتى نفذوا غرضهم المذكور.
تسلحت عناصر من بين ذلكم المتجمهرين بالأسلحة النارية والخرطوش والأسلحة البيضاء، وزجاجات المولوتوف، والعصى، والحجارة - أمدهم بها المتهمون من الأول حتى الثامن بأمر الإحالة - سالفي الذكر، وصولاً إلى زعزعة الأمن والسلم الاجتماعي وإشاعة حالة من الفوضى، وتمكن المتجمهرون من السيطرة على طريق النصر، واقتلعوا أرصفته وأقاموا سواتر من بلاطات الأرصفة المقتلعة، وذلك بهدف إرباك المشهد السياسي والتغطية على خروج المؤيدون للفريق عبد الفتاح السيسي، وفي الساعات الأولي من صباح اليوم التالي تزايدت أعداد المتجمهرين لقرابة الخمسة آلاف متظاهر ولعلمهم بتمركز قوات الشرطة بمطلع كوبري ٦ أكتوبر، وبالقرب مـن نـادي السكة الحديد - فقد توجهوا صوب مطلع الكوبري من ناحية طريق النصر بغرض السيطرة عليه، عاقدون العزم المصمم على قتل أياً من رجال الشرطة المرابطين بمسرح الأحداث وكذا على المواطنين المتوجهين من وإلى ميدان التحرير - المعارضين لتوجهاتهم من بعد ما عقدوا العزم المصمم على قتل من يجدوه أو يصادفوه من المعارضين لأفعالهم العدائية - فما كانوا للمصريين إخوانا ولا للسلمية مسلمين، وما أن أدرك المتجمهرون قوات الشرطة المتمركزة بمطلع كوبري أكتوبر إلا وقاموا بالتعدي عليهم بالأسلحة المختلفة.
والمحكمة وهي بصدد تقدير العقاب الذي يتناسب مع الفعل الإجرامي المسند للمتهمين - الأول محمد بديع عبد المجيد محمد سامي والثاني محمود عزت إبراهيم إبراهيم والثالث محمد محمد إبراهيم البلتاجي والرابع عمرو محمد ذكي محمد " والخامس" أسامة يس عبد الوهاب محمد" والسادس " صفوة حمودة حجازي "رمضان" والسابع عاصم عبد الماجد محمد ماضي" والثامن محمد عبد المقصود محمد عفيفي - لا تجد من سبيل للرأفة ويتعين القصاص منهم حقا وعدلاً والحكم عليهم بإجماع آراء أعضاء المحكمة – بالإعدام امتثالاً لقوله تعالى «إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تَقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ».
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: جماعة الإخوان المسلمین قضیة أحداث المنصة الشعب المصری المحکمة فی من بعد
إقرأ أيضاً:
الإخوان المسلمون.. إشكالية الذاكرة المثقوبة!
قبل أيام نشر الزميل العزيز، قطب العربي، مقالا في موقع "عربي21"، بعنوان "نهايات المئوية الأولى للإخوان.. تحديات البقاء".
ولست معنيا هنا بمناقشة فكرة بقاء الجماعة من عدمه، بقدر اهتمامي ببحث قدرتها على اصطناع روايات تاريخية غير صحيحة، لاستخدامها في تبرير أخطائها، حيث تم تمرير بعض المرويات غير الصحيحة مثل أنه "أصبحت الجماعة جزءا أساسيا من حركة وطنية واسعة ضده، وهو ما لم يحتمله الملك، فسعى إلى شيطنة الجماعة، واتهامها بكل نقيصة"، أو أن علاقتها بضباط يوليو/ تموز 1952 تغيرت حين "طالب الإخوان بعودة الديمقراطية، وتسليم الحكم للمدنيين، مع عودة الضباط إلى ثكناتهم".
وسأعود إلى هاتين الواقعتين لاحقا، لكن لا بد من الإشارة هنا إلى الدراسة المهمة التي نشرها الباحث حسام تمام -رحمه الله- عام 2003 بعنوان "لماذا لا يكتب الإخوان تاريخهم"، حيث حث تمام في الدراسة جماعة الإخوان المسلمين، على ضرورة الإسراع بكتابة تاريخهم، خاصة ما يتعلق منه بعلاقتهم بتنظيم الضباط الأحرار، والكشف عن دور الجماعة في الإطاحة بالملك فاروق، وما تلاها من أحداث غيرت وجه الحياة في مصر والمنطقة بأسرها.
الجماعة لا تتعامل مع تاريخها بوصفها مؤسسة بحثية، بل باعتبارها طرفا مشاركا وصانعا له، وفي ظل الصراع السياسي والأيديولوجي الذي تخوضه الجماعة، فمن غير المتوقع أن ننتظر الحقيقة كاملة، إضافة إلى أن إخراج الجماعة لرواية تاريخية معتمدة، سيوقع الباحثين في العنت والمشقة للخروج من أسر الرواية الرسمية، أو تنقية ما ورد فيها من مرويات تخالف روايات أخرى أشد موثوقية
الباحث الراحل (ت: 2011) تساءل قبل 22 عاما قائلا: "فهل ينطق الإخوان ويكشفون تاريخهم الحقيقي والمسكوت عنه مع ثورة يوليو أم يظل قرار الفرار إلى الصمت؟".
لكن وبعد هذه المدة ورحيل جميع شهود تلك المرحلة تقريبا، اتضح للجميع أن الجماعة اختارت اللوذ بالصمت، وهو ذات الخيار الذي تتبناه حاليا، والأغلب مستقبلا، بشأن أسرار ما حدث منذ 25 كانون الثاني/ يناير 2011 وحتى الآن.
فالجماعة لا تتعامل مع تاريخها بوصفها مؤسسة بحثية، بل باعتبارها طرفا مشاركا وصانعا له، وفي ظل الصراع السياسي والأيديولوجي الذي تخوضه الجماعة، فمن غير المتوقع أن ننتظر الحقيقة كاملة، إضافة إلى أن إخراج الجماعة لرواية تاريخية معتمدة، سيوقع الباحثين في العنت والمشقة للخروج من أسر الرواية الرسمية، أو تنقية ما ورد فيها من مرويات تخالف روايات أخرى أشد موثوقية.
لذا، فرغم أن مطالبة "تمام" حينها كانت وجيهة وطبيعية، وتحمس لها البعض من داخل الجماعة وخارجها، لكني اليوم أقول إن قرار "الفرار إلى الصمت" الذي اختاره التنظيم، كان هو الأشد إفادة والأنفع للتاريخ، ولصيانة الذاكرة الوطنية.
لكن عدم وجود تأريخ رسمي ومعتمد للجماعة جعل الباحثين أمام روايتين للأحداث، إحداهما شعبوية مصنوعة بعنابة موجهة لأبناء التنظيم، عبر الخطب والمؤتمرات وفي ثنايا المقالات التربوية والدعوية، أما الرواية الثانية، وهي الأقرب إلى الصواب، إن لم تكن الأصوب على الإطلاق، فيجب البحث عنها بعناية في مرويات ومذكرات شهود عيان، خاصة قادة الجماعة، وما كتبه آخرون من خارجها في مذكراتهم أو أعمالهم البحثية ذات الصلة، مع ملاحظة أن الرواية الشعبوية تظل لها قوة تأثير هائلة على وعي أبناء التنظيم، وليس من السهل زحزحة تلك القناعات حتى بروايات أخرى لقادة الجماعة وليس لخصومها.
الروايتان الشعبوية والحقيقية
في الدراسة المشار إليها، قلل تمام من أهمية ما تركه قادة الجماعة من مذكرات وشهادات بشأن ما حدث في تموز/ يوليو 1952، واعتبر أنها "أقرب للاجتهادات الشخصية التي تأخذ -في الغالب- طابع المذكرات وربما المقتطفات والذكريات والخواطر الذاتية منها إلى الكتابة التاريخية المعتمدة". لكن هذا التقليل لم يكن دقيقا، فمذكرات هؤلاء القادة تعد رافدا مهمّا يمكن من خلاله تصويب الروايات الشعبوية الرائجة بشأن أحداث مفصلية، ومن ثم الوصول إلى التفسير الصحيح لسلوك الفاعلين في تلك الحقب الزمنية.
فمثلا، تردّ الرواية الشعبوية الصِدام بين الجماعة ورئيس الوزراء الراحل محمود فهمي النقراشي؛ إلى اشتراك الجماعة في حرب فلسطين 1948، وتحرك النقراشي ضد الجماعة بناء على أوامر بريطانية صهيونية. لكن شهادة محمود الصباغ في كتابه "حقيقة التنظيم الخاص ودوره في دعوة الإخوان المسلمين"، الذي قدم له المرشد الخامس الأستاذ مصطفى مشهور، تقدم لنا رواية أخرى لعلاقة تحالف وطيدة بين الإخوان والنقراشي.
فالصباغ يقرر أن الجماعة رأت أن "تأييد النقراشي باشا إذا ما سلك أسلوبا جديدا في مواجهة الإنجليز أجدى وأنفع من دخول البلاد في اضطرابات داخلية جديدة". وأرسل البنا رسالة باسم الإخوان إلى رئيس مجلس الأمن الدولي، للتصدي لاتهام زعيم حزب الوفد مصطفى النحاس باشا؛ للنقراشي بالديكتاتورية.
ويكمل الصباغ شهادته على تلك العلاقة، وانعكاسها على الحرب في فلسطين فيقول: "كان من نتائج سياسية تعاون الإخوان المسلمين مع حكومة النقراشي باشا الثانية، فور إعلانها أنها عزمت على قطع المفاوضات ومنابذة الإنجليز في هيئة الأمم المتحدة، أن سهّلت للإخوان المسلمين رسالتها في تسليح الفلسطينيين".
بل يمضي الشوط إلى نهايته، فالنقراشي كان يتابع وصول أفواج الإخوان إلى فلسطين بسلام، وتذليل العقبات أمامها. والمفاجأة أنه وحسب تأكيد الصباغ، الذي كان مسجونا على ذمة قضية "السيارة الجيب" الشهيرة، لم يكن في السجون من أعضاء الجماعة حتى مقتل النقراشي إلا المتهمون في تلك القضية فقط!
إذن، فنحن هنا أمام رواية مكتوبة تناقض السردية الشعبوية، عن اعتقال النقراشي لمجاهدي الجماعة عقب عودتهم قسريا من فلسطين، والزج بهم في السجون.
الإخوان والملك فاروق
وهذا مثال ثانٍ، ورد في مقال الزميل قطب العربي، عن "شيطنة الملك للجماعة" لكونها كانت جزءا من حركة وطنية واسعة ضده.
لكن الثابت تاريخيا أنه عقب انتهاء أزمة اغتيال النقراشي، ومقتل الأستاذ حسن البنا، تم إلغاء الحظر عام 1951، وتم اختيار الأستاذ حسن الهضيبي مرشدا خلفا للبنا، وبعيدا عن جدل كيفية الاختيار، فالثابت أنه لاقى قبولا لدى القصر الملكي، حيث وافق الملك على لقائه، وتحدث معه عن ضرورة مواجهة الشيوعية، عقب خروج القوات البريطانية المرتقب من مصر. وخرج بعدها الهضيبي ليصف اللقاء للصحافة بقوله: "دعوة كريمة من ملك كريم". وفي التفاصيل الكثير مما يمكن أن يقال.
الإخوان وعبد الناصر
المثال الثالث يخص علاقة عبد الناصر بالإخوان المسلمين، فالرواية المكتوبة تدحض السردية الشعبوية، من أن العلاقة كانت عابرة أو محض تعاون مؤقت.
أهم تحديات بقاء الجماعة هو قدرتها على قراءة تاريخها قراءة صحيحة، من واقع شهادات قادتها وغيرهم، ثم الاعتراف بما فيه من أخطاء وضمان عدم تكرارها
فالمرشد الرابع الأستاذ محمد حامد أبو النصر، يذكر في كتابه "حقيقة الخلاف بين الإخوان المسلمين وعبد الناصر" بالتفصيل بيعة عبد الناصر عام 1945 تقريبا، للأستاذ صالح عشماوي في منزله بالقاهرة، نيابة عن المرشد العام. ولم يكن عبد الناصر بمفرده بل كان معه أسماء عسكرية مشهورة، مثل عبد الحكيم عامر، وكمال الدين حسين، وخالد محيي الدين، وآخرين بايعوا في وقت لاحق.
وهذا يفسر لنا سبب انحياز أطياف من الجماعة، ومن التنظيم السري بشكل خاص، لعبد الناصر في مواجهة الهضيبي، فهو الأقدم بيعة ووجودا داخل الجماعة، وكان محل ثقة أيضا.
ورغم تذبذب العلاقة بين الجماعة وعبد الناصر صعودا وهبوطا في الفترة من بين 1952 إلى 1954، إلا أن التواصل بينهما لم ينقطع، ووافقه الإخوان على إجراءات حل الأحزاب. بل ودعموه في أشد حالات ضعفه، عقب بيان 25 آذار/ مارس 1954، الذي التزم فيه بعودة الأحزاب، وإلغاء الحظر السياسي، وتسليم السلطة للمدنيين. لكنه التف على البيان بالتواصل مع الإخوان رغم أن العلاقة بينهما حينها كانت سيئة للغاية، وتعهد لهم بعودة الجماعة مرة أخرى عقب قرار حلها في كانون الثاني/ يناير من نفس العام.
وبالفعل أعلن الإخوان على لسان الهضيبي رفض بيان آذار/ مارس، فكانوا -مع آخرين- معينا لعبد الناصر على التنصل من البيان الذي كان يمكن أن يغير تاريخ مصر السياسي إذا ما عاد الجيش إلى ثكناته، وتم استئناف الحياة النيابية.
الخلاصة
كانت تلك مجرد أمثلة، فالذاكرة المثقوبة للجماعة ألحقت ضررا بالغا بها، إذ حجبتها عن رؤية أخطائها، ومن ثم العمل على تقويمها وعدم تكرارها، فالأخطاء الكارثية التي ارتكبتها ما بين عامي 1952 إلى 1954 كررتها مرة أخرى في الفترة من 2011 إلى 2013، ومن الطبيعي أن تكون النتائج متشابهة إن لم تتطابق.
من هنا أظن أن أهم تحديات بقاء الجماعة هو قدرتها على قراءة تاريخها قراءة صحيحة، من واقع شهادات قادتها وغيرهم، ثم الاعتراف بما فيه من أخطاء وضمان عدم تكرارها.