أدانت قطر الثلاثاء استهداف إسرائيل المدنيين العزّل ومؤسسات التعليم والمواقع الثقافية وقتل الصحفيين وعائلاتهم في قطاع غزة، مؤكدة أن هذه الممارسات تمثل جرائم في حق الإرث الإنساني بموجب الاتفاقيات والمواثيق الدولية.

جاء ذلك خلال أعمال الدورة 219 للمجلس التنفيذي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)، المنعقدة في العاصمة الفرنسية باريس بين 13 و27 مارس/ آذار الجاري.

وقال المندوب الدائم لقطر لدى اليونسكو ناصر الحنزاب "تدين دولة قطر بأشد العبارات استهداف مؤسسات التعليم والمواقع الثقافية، وقتل الصحفيين وعائلاتهم في قطاع غزة".

وأشار إلى قصف إسرائيل مدرسة الفاخورة (شمال قطاع غزة) للمرة الثانية، والعديد من مؤسسات التعليم، وتدمير معالم تراثية منها المسجد العمري في مدينة غزة، وهو أحد معالم التراث الإنساني الشاهد على تعاقب الحضارات في فلسطين، إضافة إلى استهداف الكنائس.

وأكد الحنزاب أن هذه الممارسات تمثل جرائم في حق الإرث الإنساني، التي حرّمت استهدافها كل الاتفاقيات والمواثيق الدولية ذات الصلة.

وأكد دعم قطر لكافة جهود اليونسكو التي تلعب دورا أساسيا لإرساء ثقافة السلام والتعايش، ووقف سفك الدماء في غزة وفك الحصار بجميع أشكاله والالتزام بالشرعية الدولية وقرار المؤتمر العام لليونسكو الخاص بقطاع غزة.

حرب على التراث

وكانت اليونسكو أعربت في 22 فبراير/شباط الماضي عن قلقها العميق بشأن تأثير الهجمات الإسرائيلية على التراث الثقافي في غزة.

وفي 30 ديسمبر/ كانون الأول 2023، ذكر المكتب الإعلامي الحكومي بغزة أن أكثر من 325 موقعا تاريخيا وثقافيا في المنطقة دمّرت بسبب الهجمات الإسرائيلية.

ومن بين المباني التاريخية المدمرة المسجد العمري في جباليا (شمال)، وكنيسة جباليا البيزنطية، ومسجد الشيخ شعبان، وجامع الظفر دمري في منطقة الشجاعية بمدينة غزة، ومقام الخضر في مدينة دير البلح، ومسجد خليل الرحمن في خان يونس (جنوب)، إلى جانب مركز مخطوطات.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: رمضان 1445 حريات

إقرأ أيضاً:

تهويد الأندلس.. تزوير التاريخ العريق لأغراض أيديولوجية حديثة

من المسلم به أن هناك روابط تاريخية وثقافية وحضارية عميقة تربط إسبانيا بالعالم العربي الإسلامي، تمتد أكثر من 2500 عام. وتُعد الأندلس محور هذه العلاقة المتجذرة، إذ تمثل نقطة التقاء حضاري شكّل الهوية المشتركة لكلا الطرفين.

يضع هذا الإرث الفريد إسبانيا في موقع استثنائي مقارنة ببقية الدول الأوروبية التي لم تشهد تفاعلًا مباشرًا ومستدامًا مع العرب والإسلام.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2المفكر التونسي الطاهر لبيب: سيقول العرب يوما أُكلنا يوم أُكلت غزّةlist 2 of 2قتلوا العرعير ورفاقه وطلابه.. عن الإبادة التعليمية في غزةend of list

وإذا طُلب منا تلخيص هذه العلاقة في كلمة واحدة، فلن نجد أفضل من "الأندلس" بكل ما تحمله من دلالات تاريخية وأبعاد ثقافية لا تزال تثير الجدل والانقسام في الأوساط الإسبانية. فالذاكرة الأندلسية تحضر بقوة في كل نقاش حول الثقافة العربية في إسبانيا، حيث تحاول بعض الجهات استدعاء "القضية الأندلسية" عند مناقشة القضايا الراهنة المتعلقة بالعرب والإسلام، لتقييم التجربة الأندلسية وفق معايير معاصرة، من دون أخذ سياقها التاريخي بالاعتبار.

شهدت العلاقات الإسبانية العربية مراحل متباينة بين التصادم والحوار، لا سيما بعد سقوط الأندلس في القرن الخامس عشر. فقد كان لهذه القضية تأثير عميق على مسار هذه العلاقة، سواء خلال المواجهات بين إسبانيا والإمبراطورية العثمانية في البحر الأبيض المتوسط خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، أو في التفاعلات اللاحقة مع دول المغرب العربي. كما لعبت الكنيسة الكاثوليكية الإسبانية دورًا محوريا في إنهاء الوجود الإسلامي في الأندلس، بدءًا بترحيل اليهود ثم فرض قوانين مجحفة على المسلمين، وصولًا إلى الطرد النهائي للموريسكيين عام 1615.

إعلان الأندلس.. هوية متنازع عليها تاريخيا

لم تقتصر انعكاسات الأندلس على العلاقة مع العرب والمسلمين فحسب، بل امتدت إلى الداخل الإسباني، إذ ظلت محل جدل بين النخب الثقافية منذ القرن التاسع عشر. فهناك تيار يرفض الحقبة الأندلسية باعتبارها انحرافًا عن الهوية القومية الإسبانية، في حين يرى آخرون أن هذا الإرث جزء لا يتجزأ من التراث الوطني الإسباني. وقد أدى هذا التباين إلى مطالبات بحماية المعالم الإسلامية والبحث في الإرث الأندلسي من منظور أكثر إنصافًا. ومن المفارقات أن بعض الأوساط العلمانية المناهضة للكنيسة الكاثوليكية كانت أكثر تقبلًا لهذا التراث مقارنة بالدوائر المحافظة المرتبطة بالمؤسسة الدينية.

أدت هذه التناقضات إلى "أدلجة" النقاش حول الأندلس، مما جعل تحليل الثقافة العربية في إسبانيا مسألة شائكة تخضع لتأويلات متضاربة، يغيب عنها المنهج العلمي الموضوعي. ويبرز التسامح والتعايش بين الأديان في ظل الحكم الإسلامي كإحدى القضايا المحورية في هذا الجدل، حيث قدمت بعض المبادرات صورة مثالية عن الأندلس باعتبارها نموذجًا "للحضارات الثلاث" -الإسلامية والمسيحية واليهودية- التي يُقال إنها ساهمت بشكل متساوٍ في بناء الحضارة الأندلسية.

في هذا السياق، ظهرت أطروحات تدّعي أن المسيحيين واليهود كانوا شركاء في إدارة الدولة الأندلسية، وأن الإنجازات الحضارية الكبرى تُعزى إلى مساهمات شخصيات وتيارات غير إسلامية. ورغم أن بعض الباحثين يربطون هذا التوجه بالسعي لتعزيز البعد المسيحي في الهوية الإسبانية، فإن هذه الرواية تتجاهل الواقع التاريخي. فالمصادر الأندلسية والعربية والمسيحية لم تشر إلى دور محوري لليهود في المجال السياسي أو الاجتماعي، إذ كانوا يعيشون في الأندلس كمجتمع منعزل يركز على شؤونه الاقتصادية، من دون أن يكون لهم تأثير يُذكر في رسم سياسات الدولة أو تشكيل مسارها الحضاري.

إعلان "غزو تهويدي" ممنهج في المدن الأندلسية

إننا نشهد في المدة الأخيرة نزعة متزايدة تهدف إلى تضخيم الإسهام اليهودي في حضارة الأندلس على حساب الدور الإسلامي، عبر إعادة تشكيل الذاكرة التاريخية لمنح اليهود مكانة لم تكن لهم في الواقع. وقد أخذت هذه النزعة منحى خطيرًا في العديد من المدن الأندلسية العريقة، حيث تشهد اجتياحًا ثقافيا منظمًا يثير قلق الأوساط الأكاديمية والثقافية والاجتماعية.

منذ سنوات قليلة، برزت محاولات متزايدة لإقناع البلديات والجهات الحكومية الإسبانية بضرورة "إحياء التراث اليهودي" تحت ذريعة إعادة الاعتبار لما يُعرف "بأبناء سفاراد" (يهود الأندلس) ودورهم في تشكيل الهوية الإسبانية الحديثة. وتحت هذا العنوان، تدفع بعض الجهات، بدعم من "اللوبي الداعم لإسرائيل"، نحو إعادة قراءة التاريخ الأندلسي برؤية تُسلط الضوء على الوجود اليهودي، في حين يجري تهميش الهوية الإسلامية للمدن الأندلسية، رغم أن معظم المعالم والبقايا الأثرية تشهد بوضوح على الطابع العربي الإسلامي لهذه الحواضر.

وقد أصبح من المألوف أن يصادف الزائر إلى المدن الأندلسية القديمة لافتات وإعلانات سياحية وتصريحات لمسؤولين محليين تتحدث بإسهاب عن "استثنائية" العنصر اليهودي، في حين يجري التقليل من الإرث الإسلامي لهذه المدن. والأمر لا يقتصر على الخطاب الرسمي فحسب، بل يمتد إلى الإهمال المتعمد للآثار الإسلامية الذي أدى إلى تدهور بعضها بسبب غياب الصيانة، بينما تُرمم بعض المواقع التي يُنسب إليها طابع يهودي رغم محدوديتها من حيث العدد والتأثير التاريخي.

مدينة كاثيريس (Cáceres) الواقعة في إقليم إكستريمادورا كانت معروفة في العصر الأندلسي باسم "قاصرش" (شترستوك) مدينة كاثيريس

من بين المدن التي تعكس هذه الظاهرة، تبرز مدينة كاثيريس (Cáceres) في إقليم إكستريمادورا، والتي كانت تُعرف في الأندلس باسم "قاصرش". أسست هذه المدينة على أنقاض مستوطنة رومانية، لكنها اكتسبت أهميتها في العصر الإسلامي، خاصة بعد استيلاء الموحدين عليها في القرن الثاني عشر. ورغم أن المسلمين حكموا المدينة لما يقارب 5 قرون، وأقاموا فيها أسوارًا يبلغ طولها نحو 1200 متر، فإن الخطاب السياحي الحالي يضخم الدور اليهودي فيها، بينما يتم تجاهل البصمة الإسلامية التي أكدها العديد من الجغرافيين والمؤرخين العرب، مثل ابن حوقل والإدريسي وياقوت الحموي، والذين شددوا جميعًا على أن المدينة كانت عربية إسلامية بامتياز.

إعلان

ورغم أن اسم Cáceres نفسه مشتق من الاسم العربي "قاصرش" (مشتق من كلمة "قصر")، فإن البلدية المحلية تضع لافتات وإشارات توجه الزوار إلى ما يُسمى "بالمعالم اليهودية"، في حين تُترك المعالم الإسلامية عرضة للإهمال أو يُعاد استخدامها من دون الإشارة إلى أصلها الإسلامي. ويلاحظ الزوار غياب أي جهد لتعريف السياح بالتاريخ العربي للمدينة، مقابل الترويج الكثيف لرواية "الحارة اليهودية" و"الإرث السفاردي".

مدينة سيغوبيا (شقوبية) الواقعة وسط إسبانيا (شترستوك) مدينة سيغوبيا

لا يختلف الأمر كثيرًا في مدينة سيغوبيا (شقوبية) الواقعة وسط إسبانيا، حيث تحظى الأحياء التي يُنسب إليها إرث يهودي باهتمام كبير، في حين يُطمس الإرث العربي الإسلامي للمدينة، رغم أن المسلمين فتحوها في القرن الثامن للميلاد وبقوا فيها حتى أواخر القرن الحادي عشر، عندما استولى عليها الملك القشتالي ألفونسو السادس. وبينما تُخصص البلدية مسارات سياحية متكاملة لاستكشاف "الأحياء اليهودية"، فإن الإشارة إلى الحقبة الإسلامية تكون سطحية ومحدودة للغاية، كأن المدينة لم تكن جزءًا من الأندلس لقرون طويلة.

مدينة ألميريا المطلة على البحر الأبيض المتوسط تواجه محاولات طمس هويتها العربية الإسلامية (شترستوك) مدينة ألميريا

تتجلى هذه المحاولات أيضًا في مدينة ألميريا، المطلة على البحر الأبيض المتوسط، والتي شهدت تحركًا ملحوظًا من قبل أكاديميين ومثقفين محليين لمواجهة محاولات طمس هويتها العربية الإسلامية. ومن أبرز هؤلاء الباحث جرجس ليرولا أستاذ التاريخ والأدب العربي الأندلسي في جامعة ألميريا الذي قاد جهودًا لمواجهة عمليات "التهويد الثقافي" التي تتبناها السلطات المحلية بالتعاون مع جهات دولية تسعى إلى إعادة رسم خريطة الإرث الأندلسي وفق أجندات محددة، كما أدان مثقفون عرب كالشاعر والمترجم جعفر الوني في كتاباته هذه الظاهرة الخطيرة.

إعلان استغلال الإرث الأندلسي لخدمة أجندات سياسية تحالف اليمين المتطرف

من المفارقات العجيبة في هذا السياق أن اليمين المتطرف في أوروبا الذي كان حتى وقت قريب يعادي ما يُسمى "الهيمنة اليهودية" أصبح اليوم أحد أبرز الداعمين "للإحياء اليهودي" في إسبانيا، بعد تحالفه مع جماعات الضغط "الصهيونية". وقد أدى هذا التحالف غير المتوقع إلى تشويه متعمد لصورة التاريخ الإسلامي للأندلس، بهدف تعزيز رؤية بديلة تخدم مصالح سياسية وأيديولوجية معينة.

ونتيجة لذلك، باتت الأحزاب اليمينية الإسبانية التي كانت ترفض سابقًا الاعتراف بأي دور يهودي في أوروبا من أشد المناصرين لإبراز العنصر اليهودي في سردية الأندلس، في الوقت الذي تتصاعد فيه حملات الإسلاموفوبيا في القارة الأوروبية.

غياب الدور العربي في مواجهة التزييف

وسط هذه التحولات، يبرز التساؤل: أين المؤسسات الثقافية العربية من هذه الحملة المنظمة لإعادة صياغة التاريخ؟ ولماذا لم نشهد تحركًا جادًّا من الجامعات والمراكز البحثية العربية لتوثيق الإرث الأندلسي والدفاع عن هويته الإسلامية؟ إن غياب الرواية العربية عن المشهد يسمح لهذه التوجهات بالتوسع من دون رادع، وذلك يستوجب تفعيل جهود بحثية وإعلامية لمواجهة هذا التزييف الممنهج وإعادة تقديم الأندلس بصورتها الحقيقية كإحدى أهم محطات التفاعل الحضاري الإسلامي في أوروبا.

خطاب أنصار "التهويد الأندلسي"

تكشف أدبيات أنصار التهويد الأندلسي عن خطاب مؤدلج آخذ في التمدد داخل الأوساط الأكاديمية والثقافية والسياسية، مدعومًا بجهات رسمية تشرف على عمليات الترميم وإعادة الإعمار، ويتمثل في نقاط رئيسية:

كتاب "ألميريا.. القاعدة البحرية والاقتصادية والثقافية للأندلس" للأستاذ جرجس ليرولا والذي يدافع عن الإرث الأندلسي (الجزيرة)

حمل هذا الخطاب هجوما عنيفا شنه أحد رموز هذا التيار التهويدي مؤخرًا على الأستاذ جرجس ليرولا والجمعيات الأهلية التي تدافع عن الإرث الأندلسي، وذلك في رسالة نشرتها صحيفة "لا تريبونا" الصادرة في ألميريا. هاجم كاتب المقال دعوات الأستاذ ليرولا لسحب اللافتات والإعلانات التي نصبتها بلدية المدينة في بعض الشوارع الرئيسية، والتي تزعم أن هذه الأماكن كانت أزقة للحارة اليهودية أو مواقع لمعابد عبرية، رغم غياب أي دليل تاريخي أو أثري يؤكد هذه الادعاءات. لهذا تركّز موقف الجمعيات المدافعة عن الإرث الأندلسي على ضرورة إعادة النظر في هذه الممارسات، وحماية الذاكرة التاريخية للمدينة من التزييف المتعمد.

إعلان تكتيكات أنصار التهويد

هذه الدعوات قوبلت برد فعل متوقع من أنصار التهويد الذين لجؤوا إلى تكتيكاتهم المعهودة في تشويه خصومهم. فقد احتوت الرسالة على مجموعة من المغالطات والتأويلات التي دأبت الجماعات المرتبطة بالمصالح الإسرائيلية في أوروبا على الترويج لها، إذ حاول كاتبها ربط التشكيك في صحة اللافتات اليهودية المزعومة "بمعاداة السامية" وإنكار المحرقة النازية. وبحسب منطقه، فإن كل من يعترض على المبالغة في إبراز الدور اليهودي في الأندلس يُعامل كما لو كان "ينكر الهولوكوست"، في محاولة مكشوفة لمصادرة أي نقاش موضوعي حول هذا الملف.

وأصبحت إستراتيجية "معاداة السامية" مكررة ومكشوفة، إذ يستخدمها اللوبي الصهيوني عالميا لإسكات أي أصوات تنتقد سياسات إسرائيل أو تعترض على محاولات إعادة كتابة التاريخ وفق مصالح ضيقة. ففي كل مرة يُثار فيها الجدل حول الروايات التاريخية، تسارع هذه الجهات إلى شيطنة المعارضين، مستخدمة سلاح "معاداة السامية" لإسكات أي جدل أكاديمي أو موضوعي.

ومن اللافت أن صاحب مقال صحيفة "لا تريبونا"، كارميلو لوبيث كاريكي، الذي يترأس جمعية تُعنى "بالترويج للثقافة السفاردية"، يرتبط بعلاقات وثيقة مع السلطات المحلية في ألميريا. كذلك فإن منظمته، إلى جانب مؤسسات أخرى تنشط في مجال "إحياء التراث اليهودي"، تتلقى تمويلًا مباشرًا وغير مباشر من جهات إسرائيلية ومنظمات ضغط مرتبطة بها في أوروبا. ويعكس هذا التمويل مدى التداخل بين الأجندات الثقافية والسياسية، إذ يجري استغلال الإرث الأندلسي كأداة لخدمة مصالح معينة، بعيدًا عن الحقائق التاريخية.

التأثيم الانتقائي.. محاولة لتبرئة الممالك النصرانية

إحدى أبرز المغالطات التي يروج لها أنصار التهويد الأندلسي هي محاولة تحميل المسلمين وحدهم مسؤولية اضطهاد اليهود، مع تبرئة الملوك النصارى من مسؤوليتهم عن طردهم من إسبانيا. فوفقًا لهذه الرواية، فإن المشكلة لم تكن في السياسات الإقصائية للممالك المسيحية، بل في "كراهية الحكام والمواطنين المسلمين لليهود".

ويتكرر هذا النهج في العديد من الكتابات، حيث يسعى أصحاب هذا التوجه إلى التركيز على حقبة الموحدين، واتهامهم باضطهاد اليهود وتدمير أحيائهم في المدن الأندلسية مثل ألميريا. ويستغل كاريكي هذه النقطة ليصوّر الموحدين على أنهم "أصوليون متعصبون"، في محاولة لخلق رابط ضمني بين الإسلام في الماضي والحركات الأصولية الحديثة، وهو خطاب يتبناه اليمين المتطرف الأوروبي لتبرير سياساته المناهضة للمسلمين في أوروبا اليوم.

إعلان

إن هذا التلاعب بالتاريخ ليس مجرد جدل أكاديمي، بل يحمل أبعادًا سياسية واضحة. فكثير من المدافعين عن فكرة "سفاراد" -وهو المصطلح الذي يستخدم للإشارة إلى اليهود الأندلسيين- ينشطون في دوائر سياسية وإعلامية تعمل بشكل ممنهج على تشويه الرواية التاريخية، بهدف ترسيخ خطاب يخدم أجندات محددة. وأحد الأساليب التي يعتمدونها هي المقارنة المضللة بين معارضي التهويد المطلق للتركة الأندلسية وبين "أبناء محاكم التفتيش"، كأن الدعوة إلى مراجعة الروايات التاريخية تعادل تأييد جرائم النازية ومحاكم التفتيش في العصور الوسطى.

إن هذه المحاولات لإعادة رسم التاريخ وفق رؤية أحادية يجب أن تواجه برد علمي وأكاديمي يستند إلى الحقائق والوثائق، وليس إلى الأيديولوجيا والمصالح السياسية. فالحفاظ على الهوية الأندلسية لا يعني إقصاء أي مكون تاريخي، ولكنه يقتضي عرض الحقيقة التاريخية كما هي من دون مبالغات أو إسقاطات أيديولوجية.

مواجهة محاولات التهويد.. حقائق وادعاءات

إن غياب التحرك العربي والإسلامي الجاد لمواجهة هذا التلاعب يترك الساحة مفتوحة أمام هذه الروايات، ويجعل من الضروري دعم الجهود الأكاديمية والثقافية التي تعيد التوازن إلى النقاش حول الإرث الأندلسي، وتمنع تحويله إلى أداة لخدمة أجندات سياسية معاصرة.

لا شك أن هذه المحاولات المستمرة لإعادة صياغة التاريخ الأندلسي تنطلق من رؤية تهدف إلى طمس الطابع الإسلامي للحضارة الأندلسية، بل يمكن القول إن التهويد الثقافي للأندلس ليس سوى مرادف مباشر لهذا التهميش الممنهج. فمن خلال تضخيم إسهامات الثقافات غير الإسلامية، يُراد إيصال رسالة إلى المواطن الإسباني والأوروبي مفادها أن ما قدمته الأندلس من إنجازات حضارية هو في جوهره ثمرة لعطاء غير المسلمين، متجاهلين الدور المركزي الذي لعبته الحضارة الإسلامية في هذه النهضة.

ورغم هذا التوجه السائد، فإن هناك مبادرات متواضعة تحاول التصدي لهذا التزييف، مثل جمعية "أصدقاء القصبة" في ألميريا، إلى جانب عدد من الجمعيات المنتشرة في مدن أندلسية أخرى. ورغم أن هذه الجمعيات لا تحظى بتمويل يُذكر، فإنها تبذل جهودًا كبيرة للحفاظ على الإرث الإسلامي في الأندلس ومواجهة حملات التحريف والتهميش.

إعلان

وفي حالة ألميريا، لا تسعى الأصوات المناهضة للتهويد المفرط إلى إقصاء أي طرف، بل تطالب فقط بإنصاف جميع المكونات الثقافية التي شكلت الحضارة الأندلسية من دون مبالغة أو تهميش لأي طرف على حساب الآخر.

وفي هذا السياق، ردّ الأستاذ جرجس ليرولا على مزاعم ممثل الجماعة التهويدية عبر رسالة نشرتها الصحيفة ذاتها، داحضًا الادعاءات التي حاولت تحميل المسلمين مسؤولية اضطهاد اليهود، مؤكدًا أن معاناة اليهود في إسبانيا لم تبدأ مع الحكام المسلمين، بل مع الملوك النصارى الذين أجبروهم جميعًا على الرحيل عام 1492.

أما في ما يخص ألميريا تحديدًا، فقد فنّد ليرولا الادعاءات القائلة إن الموحدين القادمين من جنوب المغرب قد دمروا أحياء اليهود وممتلكاتهم في عام 1157، موضحًا أن الدمار الذي لحق بمساكن اليهود القريبة من الميناء وقع عام 1147 إثر اجتياح أسطول الجنويين (من إيطاليا) وسفن مملكة آراغون (شمال شرق إسبانيا).

أسطورة "الغيتوهات اليهودية" في الأندلس

يؤكد ليرولا، وهو رئيس مؤسسة ابن طفيل للدراسات الأندلسية، أن المصادر التاريخية الإسلامية والمسيحية القديمة لا تتحدث عن وجود "حارات يهودية" داخل المدن الأندلسية. وبعكس ما يروج له دعاة التهويد، فإن فكرة الحارات اليهودية أو "الغيتوهات" لم تنشأ إلا بعد استيلاء الممالك النصرانية على المعاقل الأندلسية، خاصة في وسط شبه الجزيرة الإيبيرية وجزر البليار (مايوركا).

ويشير ليرولا إلى أن الحكام المسلمين لم يجبروا اليهود على العيش في مناطق منفصلة، بل إن اليهود أنفسهم كانوا يميلون إلى التجمع في أماكن محددة لأسباب اجتماعية ومهنية. أما العزل القسري لليهود في أحياء مغلقة بأسوار وبوابات، فقد كان سياسة فرضها ملوك قشتالة وآراغون بعد سيطرتهم على المدن الأندلسية، وليس جزءًا من السياسة الإسلامية.

لكن هذه الحقائق لا تهمّ دعاة التهويد الثقافي، لأنهم لا ينطلقون من اعتبارات علمية، بل يسعون إلى تحقيق أهداف أيديولوجية تتجاوز حدود البحث الأكاديمي. فالهدف ليس فقط إعادة تأطير تاريخ الأندلس، بل إعادة توجيه الوعي الأوروبي نحو رؤية تلغي الدور الإسلامي في بناء هذه الحضارة، وتحصر إنجازاتها في إسهامات اليهود والمسيحيين.

إعلان

وأمام هذه المحاولات المتواصلة، يبرز السؤال الذي يفرض نفسه: أين المؤسسات الرسمية العربية من هذا الإهمال الممنهج؟ أين المشاريع التي تهدف إلى ترميم المعالم الإسلامية في الأندلس وإحيائها؟ أين الجهود العربية والإسبانية لدعم الجمعيات والمؤسسات الثقافية التي تسعى للحفاظ على هذا الإرث؟ أين الدعم العربي لجمعية "أصدقاء القصبة في ألميريا"، و"المؤسسة الإسلامية في إسبانيا" (فونسي)، و"دائرة الصداقة العربية الإسبانية" (ثيار)، وغيرها من المنظمات التي تعمل للحفاظ على الهوية الأندلسية؟

هذه الأسئلة رغم أهميتها تبقى بلا إجابة، وبينما تستثمر جهات دولية في إعادة رسم تاريخ الأندلس وفق رؤيتها الخاصة، يبدو أن الجانب العربي غائب تمامًا عن هذا الصراع الثقافي، رغم أنه يمس أحد أبرز الفصول في تاريخه الحضاري. فهل يستمر هذا التجاهل حتى تضيع الهوية الإسلامية للأندلس، ويصبح التاريخ حكرًا على روايات مشوهة لا تعكس الحقيقة؟

أستاذ اللغة والتاريخ في قسم الدراسات العربية والإسلامية، جامعة مدريد المستقلة (أوتونوما مدريد).

مقالات مشابهة

  • صحيفة عبرية ترجح استهداف إسرائيل لتشييع نصرالله إذا تحول لـاستعراض قوة
  • الذكاء الإصطناعي يقتل لبنانيين.. هكذا استغلته إسرائيل!
  • تحقيق: شركات التكنولوجيا الأمريكية مكنت إسرائيل من قتل الفلسطينيين واللبنانيين
  • مصدر حشدوي:الفياض في طهران لتفعيل استهداف القوات الأمريكية وضرب إسرائيل
  • تهويد الأندلس.. تزوير التاريخ العريق لأغراض أيديولوجية حديثة
  • قائد محور تعز يبحث مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر سبل تعزيز التعاون الإنساني
  • مؤسسة هند رجب تتقدم بشكوى إلى الجنائية الدولية ضد خارجية العدو الصهيوني
  • “هند رجب” تقدم شكوى إلى الجنائية الدولية ضد وزير الخارجية الإسرائيلي
  • جيروزاليم بوست: دعوى أمام الجنائية الدولية تتهم وزير الخارجية الإسرائيلي بجرائم حرب113.
  • إسرائيل ترفض تنفيذ البروتوكول الإنساني في غزة