القوى المدنية السودانية وشفرة بناء الجبهة الموحدة
تاريخ النشر: 19th, March 2024 GMT
القوى المدنية السودانية وشفرة بناء الجبهة الموحدة
د. الشفيع خضر سعيد
خلال الفترة الماضية، شهدت الساحة السياسية السودانية أحداثا هامة وذات معنى ودلالات، من بينها أحداث تقع في خانة رفض الحرب والدعوة لوقفها، كزيارة تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) إلى القاهرة ولقائها القيادة المصرية والجامعة العربية وعددا من الكيانات والمجموعات السودانية، واجتماعات الحرية والتغيير/ المجلس المركزي في القاهرة، وتدشين تكتلات سياسية مدنية جديدة، كتنسيقية الخيار الوطني (تخطي) واللقاءات السياسية المشتركة، الثنائية والثلاثية، بين عدد من الأحزاب والتنظيمات.
البيانات والتصريحات الصحافية الصادرة عن هذه اللقاءات والأحداث، تضمنت عددا من القضايا الهامة ذات الصلة المباشرة بما يجري اليوم في السودان، والتي تستدعي التوقف عندها ومناقشتها ما دام تم الدفع بها إلى سطح الحراك السياسي. ومن ضمن هذه القضايا: تكرار الدعوة لبناء أوسع جبهة مدنية ضد الحرب. والإشادة بقرار مجلس الأمن الدولي الأخير القاضي بدعوة أطراف القتال لوقف إنساني للعدائيات خلال شهر رمضان الكريم، ودعوة الأسرة الدولية لتفعيل آليات تنفيذ هذا القرار، الأولوية الآن التصدي للأزمة الإنسانية وما يتهدد شعب السودان من الموت بسبب المجاعة وانعدام الدواء، والضغط لفتح الممرات الآمنة لتوصيل العون الإنساني وتخفيف معانة السودانيين اللاجئين.
حرب 15 أبريل/نيسان من العام الماضي، هي أكبر جريمة ترتكب بحق شعبنا ويتحمل طرفاها مسؤولية التهيئة لها وإشعالها وإستمرارها، ومسؤولية امتهان كرامة الشعب الأعزل واستباحة حياته ومقدراته، مما يجعلهما شريكين فى جريمة الحرب التى لن تسقط بالتقادم أو بالتسوية السياسية، وأن الشريكين غير مؤهلين أخلاقيا وقانونياً لأن يكونا جزءاً من أي مشروع سياسي قادم، بل تستوجب محاستبهما وعدم السماح لهم بالإفلات من العقاب. رفض التدخلات الخارجية التي تعمل على فرض إعادة الشراكة مع العسكر، والعمل على التئام حوار سوداني سوداني لاستعادة المسار المدنى الديمقراطي. تكامل دور الأحزاب السياسية مع أدوار منظمات المجتمع المدني والنقابات التنظيمات، والتصدي لاستبدال دور أي منها بالأخرى. الترحيب بتكوين الآلية الافريقية رفيعة المستوى وبمبعوث الولايات المتحدة الأمريكية الجديد الخاص للسودان، والإشادة بالمبادرات التي قامت بها دول العالم والإقليم في منابر جدة والمنامة والإيقاد، والدعوة لتوحيد هذه المنابر في عملية سياسية واحدة شاملة لا تستثني سوى المؤتمر الوطني وواجهاته. لن تنطلق أي عملية سياسية إلا بعد القضاء على الميليشيا المتمردة.
القوى المدنية السودانية تقف عاجزة حتى الآن عن فك شفرة تحقيق وحدتها كخطوة أولى لفك شفرة كيفية وقف هذه الحرب
إن تنسيقية القوى الوطنية تتجه لتوقيع ميثاق سياسي مع قيادة الجيش السوداني… وغير ذلك من القضايا. ومن الواضح أن بعضا من هذه القضايا يزيد من تعقيدات الوضع الراهن، وبعضها يتناقض أو لا يتسق مع البعض الآخر في انعكاس لتصادم الرؤى واحتدام الصراعات بين المجموعات الفاعلة أو المولدة لهذه القضايا. وكما أشرنا أعلاه، فإن هذه القضايا جميعها تسترعي الانتباه والتوقف عندها ومناقشتها، وهو ما سنقوم به ونورده تباعا في مقالاتنا القادمة. أما مقال اليوم فسنخصصه لمناقشة الدعوة لبناء أوسع جبهة مدنية ضد الحرب.
بالطبع هذه الدعوة متكررة وثابتة في كل لقاءات القوى المدنية الرافضة للحرب، ولكن حتى اللحظة لم تتحقق. وقد ناقشنا اسباب ذلك في عدة مقالات سابقة، أشرنا فيها إلى أن القوى المدنية السودانية تقف عاجزة حتى الآن عن فك شفرة تحقيق وحدتها كخطوة أولى لفك شفرة كيفية وقف هذه الحرب. نقطة ثانية هامة ومزعجة في نفس الوقت، ما جاء في بيان قوى الحرية والتغيير، عقب اجتماعها الأخير في القاهرة، حول «مواصلة العمل بجدية لعقد المؤتمر التأسيسي لـ «تقدم» ليتوج المجهودات التي تمت خلال الفترة الماضية ويمتن أسس العمل المشترك داخل «تقدم» ويقوي من جهودها في وقف الحرب وإعادة تأسيس الدولة السودانية». فيبدو من هذه الفقرة أن فكرة المؤتمر التأسيسي عند الحرية والتغيير وقوى «تقدم» هي أنه مؤتمر لمكونات تقدم الحالية حصريا، بينما ما كنا نعتقده، أو نتمناه، أن يكون المؤتمر تتويجا لمسعى يحقق وحدة كل القوى المدنية، داخل «تقدم» وخارجها، فتقدم جزء أساسي من هذه القوى ولكنها ليست الكل.
إن القوى المدنية السودانية المنادية بوقف الحرب، متعددة من حيث تكويناتها وانتظامها في كتل وتحالفات، ونحن لا نقبل التشكيك في وطنية أي من هذه الكتل والتنظيمات ما دامت كلها تتمسك بموقف رافض للحرب، لكن بدون وحدتها، أو التنسيق المتكامل فيما بينها، ستظل أنشطتها مجرد ثرثرة إعلامية، وستفتح الباب أمام التسويات التي ستعيد إنتاج الأزمة. وكررنا كثيرا أيضا القول بأن المناداة بوقف الحرب لا تعني طعن الجيش السوداني في ظهره أو السماح بهزيمته وتحطيمه، مثلما لا تعني دعم قوات الدعم السريع ونصرتها في هذه الحرب، بل تعني، بكل بساطة، رفض قتل السوداني لأخيه السوداني ورفض تدمير الوطن، وتعني رفض الحرب مطلقا في كل أرجاء البلاد، ورفض أن يكون الاقتتال بديلا للحوار والتفاوض لحل الخلافات والأزمات السياسية والاجتماعية، مهما بلغت من الحدة والتعقيد.
من جانب آخر، فإن العمل المشترك ضد الحرب لا يتطلب وحدة أو ذوبانا تنظيميا بين المجموعات
المدنية المختلفة، ولكنه، انطلاقا من الموقف الموحد ضد الحرب، يتطلب التوافق حول التمسك بصناعة سودانية خالصة للعملية السياسية بعد توقف الحرب، كما يتطلب فهما مشتركا للتعامل مع المجتمع الدولي والإقليمي. وأي مسعى لوحدة القوى المدنية السودانية وتجميعها في منبر واحد، من الضروري أن يرتكز على مبادئ الشفافية، الكل يشارك في التحضير، وأن يكون المسعى سودانيا بعيدا عن أي تدخلات خارجية، ويتم تمويل كل مراحله ذاتيا، وأجندته الرئيسية تتضمن التوافق حول الرؤية لكيفية وقف الحرب، ومخاطبة المأساة الإنسانية الراهنة، وشكل العملية السياسية.
الوسومالأحزاب السياسية السودان القاهرة المؤتمر الوطني تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية- تقدم د. الشفيع خضر سعيد مصر ميثاق سياسيالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الأحزاب السياسية السودان القاهرة المؤتمر الوطني تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية تقدم مصر ميثاق سياسي القوى المدنیة السودانیة تنسیقیة القوى هذه القضایا وقف الحرب ضد الحرب من هذه
إقرأ أيضاً:
الحركة الإسلامية السودانية… المأزق والغنيمة
منذ أن اندلعت الحرب في السودان منذ عامين ويزيد، أشارت الاتهامات إلى دور الحركة الإسلامية ممثلة في حزب المؤتمر الوطني ـ أحد أسماء عديدة استنسختها الحركة الإسلامية في السودان طوال تاريخها السياسي ـ بدورها في إشعال وتوجيه مسار الحرب الجارية منذ الخامس عشر من أبريل 2023. والمبررات التي تسوقها هذه الاتهامات ومن بينها تحليلات المراقبين، محاولتها العودة إلى السلطة، التي فقدتها بثورة ديسمبر 2019، بعد حكم استمر لثلاثة عقود. وهذه النتائج لا تخلو بطبيعة الحال من صحة، إذ أن الحرب الجارية يعود أطرافها إلى مكونات الحركة الإسلامية، كنتيجة منطقية لسياساتها في الجيش الذي تهمين عليه، وقوات الدعم السريع التي كونتها وقننَّت وجودها، والكتائب الشعبية التي تنتمي إليها تنظيما. وتعد الحركة الإسلامية السودانية الوحيدة بين حركات الإسلام السياسي، في العالمين العربي والإسلامي، التي تصل إلى السلطة وتستحوذ على مؤسساتها، وتفرض هيمنتها بحكم منفرد وسلطة خالصة، في أعتى إقصاء سياسي يمارسه تنظيم سياسي سوداني منذ الاستقلال.
والمشهد السياسي الذي أعقب ثورة ديسمبر، والمرحلة الانتقالية، جعلت من وجود الحركة الإسلامية أمرا لا يتقبله الشعور العام، ما اضطرها إلى العودة إلى أساليبها التي تتقنها في العمل التنظيمي السري، وتحويل المواقف لصالحها، وفقا لتنظيمها البراغماتي وآلياته الفاعلة في المشهد السياسي. وتعتبر الحركة السودانية دون نظيراتها ممن تستهدف السلطة والدولة كهدف أقصى في أولوياتها التنظيمية، ما أنتج خطابا أمنيا متشددا عن سائر المبادئ والشعارات التي عادة ما ترفعها جماعات الإسلام السياسي. وما يشير إلى دور الحركة الفاعل في الحرب الجارية، عودة وجوهها القيادية، وإعادة تعيين كوادرها البارزة في مناصب الدولة التي فقدتها، وتمكنت من العودة منذ انقلاب الجنرال البرهان في أكتوبر 2021 الذي شاركت فيه حينها قوات الدعم السريع.
باتت وحدة السودان مهددة، وبدأ بالفعل ما يسمى بالحكومة الموازية في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع، ما يعني واقعا جديدا لن تكون فيه الحركة الإسلامية اللاعب الوحيد بين لاعبين جدد يدعي كل منهم شرعية لا تحققها إلا قوة السلاح
وعندما حانت الفرصة نظريا وتطبيقا على الواقع في اختبار شعار «الإسلام دين ودولة» و»الإسلام هو الحل» وغيرها من شعارات رددتها الجماعات الإسلامية كبرامج للتحشيد، أكثر منها رؤى، أو خططا، في الدول التي وصلت فيها إلى الحكم باستثناء تونس في ائتلاف النهضة ومصر مرسي. ويكون السودان البلد الوحيد الذي طبقت فيه نموذجها، فبعد ثلاثة عقود على سدة الحكم، لم يلفح طرحها الفكري في الخروج من تقاليد الدولة التقليدية، أو فرض رؤيتها، إذ اصطدمت بالواقع بعيدا عن الشعار أو النظرية، ولكنها تخلت عن أصولها النظرية، لواقع لا تستطيع إنتاج بديل له. وهو الواقع الذي ظل دائماً مثار جدل حول علاقة الدولة بالديمقراطية والمرأة والأقليات وحقوق الإنسان، التي حاولت الأطروحات الإسلامية السياسية إيجاد صيغة توافقية، بإضفاء صفة إسلامية تطويعا لاصطلاحات في مدار الفقه الإسلامي، وإن لم تفلح في تعريفها لموقع في الدولة الحديثة، كممارسة الشورى بديلاً عن الديمقراطية والتعددية، ومصدر السلطات وغيرها مما ظل في حدود النصوص والشعارات دون التطبيق الناجز. وتقود الحركة الإسلامية حرباً فجرت معها ما يتجاوز طموح العودة إلى السلطة، التي بات موطنها بفعل الحرب في غياهب المجهول، والاستراتيجية التي تتبعها في مواصلة الحرب، إلى سحق الطرف الآخر بدعاوى مختلفة يخرجها من دائرة منطلقاتها الإسلامية، ذلك بأن نتائج الحرب لم تقتصر على الجانب العسكري، في ما أوقعته من شروخ اجتماعية وعنصرية بليغة الأثر. وبذلك تكون الحركة الإسلامية قد تبنت خطابا مصدره الحرب وويلاتها، لا القيم المؤسسة لتوجهات برامجها المعلنة على الأقل. فمن خلال هذه الفوضى غير الخلاقة تواجه الحركة تحديا إقليميا ودوليا في العودة الطبيعية، وإن استطاعت بحكم الواقع تعزيز قبضتها على السلطة والدولة والحرب، وطرحها لن يرحب به في الداخل والخارج، بما تواجهه من سياسات إقليمية مناوئة لمشروعها، وتورط قادتها الملاحقين قانونيا، وما فرضته الإدارة الأمريكية مؤخرا من عقوبات شملت شخصياتها النافذة، بما فيها أمينها العام علي كرتي في أعقاب الحرب 2023. وما تعتمد عليها موافقة على الواقع السياسي المستجد تجربتها الممتدة وأذرعها الاقتصادية والعسكرية، وكل ذلك لم يعد التحكم به ممكنا أيضا في ظل واقع الحرب وما بعدها، أي بما يعني المستقبل السياسي لتنظيم اعتمد الدولة كأداة وحيدة في تنفيذ برنامجه.
ثم لماذا كان خيار الحرب وبالطريقة التي تتم بها، وأيا تكن الغاية من ورائها، يكون ضمن أجندة منظومة سياسية لاستعادة سلطة فقدتها؟ والإجابة تنبثق من تاريخ الحركة نفسه، الذي اعتمد الخيار العسكري طوال سني حكمها، بكل ما صاحبه من سياسات أمنية فظة منتهكة حقوق الإنسان على المستويات كافة. ولأنه لم يكن من خيار آخر مدني يسمح لها بالعودة عبر الطرق المدنية المعهودة في الديمقراطيات، خاصة أن جسمها السياسي (المؤتمر الوطني) حظر من المشاركة السياسية في الفترة الانتقالية السابقة، باعتبارها حزبا محلولا. ومن المفارقات أن الأسباب ذاتها هي ما بررت به انقلابها الأول على الديمقراطية الثالثة بقيادة البشير في انقلابها 1989 الذي امتد طوال هذه السنوات.
انطلاقا من تجربة حكمها المطلق وما استحوذت عليه من إمكانيات هائلة بتسخير مقدرات الدولة لصالح حزبها وجماعاتها، تجاهلت الحركة الإسلامية كل عوامل الانهيار التي تأتي على النظم الديكتاتورية، والتآكل جراء الفساد السياسي والاقتصادي، ونظام كانت شرايينه قد تصلبت، وبالتالي نجحت الهبة الشعبية في اقتلاعه سنة 2019، وذلك التجاهل الذي تجاوز حقائق الواقع أدى الى سقوط نظامها. ولكن فقدان السلطة لم يكن من السهل أن تتقبله جماعة ظلت ممسكة بمفاصل الدولة وامتيازاتها حصريا، على منظومة وحيدة ومن يمكن فهم دور الجماعة في موقفها من مسار الحرب وتأييدها المطلق لاستمرارها، أيا تكن فداحة النتائج المترتبة عليها. وبهذا تجد الحركة الإسلامية نفسها في مأزق سياسي وعسكري وتورط أخلاقي في حرب خرجت عما ألفته من صراعات سابقة، حيث باتت وحدة السودان مهددة، بل بدأت بالفعل ما يسمى بالحكومة الموازية في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع، ما يعني واقعا جديدا لن تكون فيه اللاعب الوحيد بين لاعبين جدد يدعي كل منهما شرعية لا تحققها إلا قوة السلاح.
فما كسبت الحركة الإسلامية من الحرب الجارية بناء على تصوراتها السياسية من عودتها لغنيمة السلطة، لا يقاس بما أحدثته من مخاطر أصابت البنية السياسية السودانية وفداحة الأزمة الإنسانية. وهذا الاتجاه كشف عن معاندة دائما ما تبديها النظم السلطوية إلى حين انهيارها، ومن ثم تكون فداحة النتائج أزمة وطنية ومسؤولية تاريخية ثقيلة، يصعب التخلص من آثارها الأخلاقية والسياسية على المدى الطويل. وإذا كان حزب المؤتمر الوطني يحاول إيجاد توافق حرج بين موقفه الداعم لاستمرار الحرب، وما يستعيده من سلطة متخفية من وراء حكومة الأمر الواقع، فسيجد نفسه في مأزق أكثر حرجا مهما قدم من تنازلات لصالح سياسات المنطقة وتحالفاتها بما فيها الإدارة الأمريكية الجديدة. وبما أنها تعتبر أقوى تنظيم سياسي بموارده المالية والتنظيمية الهائلة، لم تستفد الحركة الإسلامية من تحويلها لصالح مشروع سياسي، بعيدا عن أفق التنظيم الضيق ومحدودية التصورات الحزبية، التي تغلب عليها أهداف تكتيكية طارئة، خاصة أن المشاركة السياسية الواسعة والاجماع الوطني لا يمكن تحقيقه في ظل الأوضاع القائمة، ما يسمح لها بانفراد والتحكم في أروقة دولة استعادتها.
كاتب سوداني
عن القدس العربي اللندنية# السبت 26/أبريل 2025م
nassyid@gmail.com