الأنف العراقي الخارق وسط كوبونات المال العام
تاريخ النشر: 19th, March 2024 GMT
آخر تحديث: 19 مارس 2024 - 11:15 صبقلم:مسار عبد المحسن راضي تحذير: “لا أنْفَ يصِحُّ لك كأنفك”.. لا أعرف لماذا أستأهل أنف رواية من الروسي نيقولا غوغول. يشهدُ الله أنّي لستُ حاسِداً فعيني مشغولة بماركيز اللاتيني؛ الكولومبي الجنسية. الاثنان لعنة على عُنقِ جميع الكُتَّاب إلى يوم الدين. أُراهن بأن جميعهم يتمنى شظيةً من لعنتيهما تدخلُ أصابعهم، لبري أقلامهم من كتابة كُل الأشياء التافهة والاستيلاء على مخزون العبقرية المُخمَّر في أقبية الحياة والتاريخ.
عوداً على بدء، أريدُ أن أنصِّب محكمة تاريخية لمحاكمة أنف غوغول. لا يقِل لي أحد إنَّ غوغول أعطى “ذا المنخرين” بُعداً كونياً. أنفُ غوغول شفط كُل الأوكسجين الكوني وترك الأنف العراقي بلا رواية. دعوني أُعرِّفُكُم على الأصل، بعد رشفِ جُرعة من نبيذ رواية الفرنسي إدمون روستان التي نقلها المصري مصطفى لطفي المنفلوطي إلى العربية؛ رواية (الشاعر سيرانو دي برجراك). مختصرُ الرواية أنَّ الجميع فيها يُقاتِل الجميع وهو يُلقي الشعر.. لا فرق بين نبيلٍ و لص. البطل الحقيقي ليس سيرانو كُلَّه كما قد يوهِمُنا العنوان بل أنفُه. طيلة الفصول خصوم سيرانو الذين كان يصرعهم بالسيف والقصيدة دِفاعاً عن كرامة أنفه، خرجوا من منخاريه اللذين شكَّلا مع بقية أنفه “ميني/ Mini” شمَّامة. أيضاً، إذا كنت يا شقيقي العربي تسكنُ في الغرب وصادف أن تشاجرت مع جارٍ لك فرنسي أو روسي، إيّاك أن تُفجِّر مواهبك الصوتية وأنت تعلمُ أنَّ لديك أخاً عراقياً في الحي، إذ ستجِدُ نفسك أمام معادلةٍ رياضية: صوتك العالي سيتناسبُ طردياً مع سواد الكدمة في أعين جيرانك. المتشكِّك في قدرة هذهِ الأنوف على الإيثار عليه أن يتحضَّر لحسدٍ لاتيني. هل تعلم عزيزي القارئ أنَّ لديها قُدرةً على جذبِ قلوب النساء.. ودليلُنا محتلٌ أميركي. وزير الخارجية الأميركي ومستشار الأمن القومي الأسبق هنري كيسنجر استغرب في مُذكَّراته من ولع النساء به، بعد حيازته للوزارة مباشرةً. علَّق بما مفاده “هل من المعقول أنّني بتلك الوسامة؟”. أصرَّ على أن وسامته لها صِلة بانجذاب النساء إلى رائحة الرجال الأقوياء، ولكن كيف كان لأنفه الذي كان بحجم رُبعِ شمَّامة صغيرة جدّاً أن يسمح بهروب روائح القوَّة من منخريه؟ لستُ مغالياً إذا نصحتُ جميع الشباب العربي بإجراء عمليات تجميل بلاستيكية لأنوفهم لجعلها قريبة من حجم ميني شمَّامة. لكنّ عليهم إجراءها في عيادات أمنهم الاجتماعي والتاريخي، بعيداً عن نفخ بوتوكس التغيير في أقدامهم السياسية. سوف أُقدِّمُ لكم نُبذة أسباب عن هذه النصيحة. الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 وفَّر للعراقيين عيادة تجميلٍ ديمقراطية لأنف 2003. في سوق العراق المزدحم بمراكز التجميل، كانت النتيجة الطبيعية أننا بعد مدَّة لم نعُد قادرين على منافسة المسؤولين.. قادة البلاد ومُذلِّي العباد. مثلاً وليس بخلاً في توضيح أثر البوتوكس، سمعنا سياسيَّة عراقية تقول “كُلنا أخذنا كومشنات”. ترجمةُ ذلك للقارئ الصبور “أموال نقدية أو حصَّة من المشروع، لضمان حصولك على عقدٍ حكوميٍ مُغرٍ” وللأمانة فإن العراق بذلك يطبق الأممية الشيوعيَّة بالخط الإسلامي.. لا فرق بين عربيٍ وأعجمي إلَّا بـ“الكومشن”. سياسيٌ آخر لا يقاضي الآخرين عشائرياً على أُمميته، اشتهر بتصريحه السوبر جريء عن الرشوة وعُملة الدولار “كُلنا أخذنا رشاوي” اللتين لم تتركا غصَّة في قلب مسؤولٍ عراقي. السياسي نفسه صرّح في الأيام السابقة، وعبر الأثير الإعلامي بما مفادُه “بأن أفضل المُرشَّحين لمنصب محافظ صلاح الدين عليه ملفات فساد وتدعمهُ شخصية شهيرة معروفة بأنها توهِب العباد خاصَّة عشيرته ما هو حقٌ للبلاد”. كانت فضيحة “كوبونات” النفط التي وزَّعها النظام السابق على فنانين وشعراء ومثقفين عرب قد سُرِّبت بعد عام 2003 على الملأ لإعطاء جُرعة سريعة من نبيذ الشرعية للنظام المتأسلم الذي أثبت بأنَّ الدّولَرَة وبقية العُملات الأجنبية طريقٌ آخر إلى السماء المُفرغة من الحِسان والولدان المُخلَّدين.. ربّما لأنهم حصلوا على عقود عملٍ في البلاد.أسأل: هل كوبونات المال العام الذي يتم الحديث عن سرقته علناً أكثر ديمقراطية وإسلامية من النظيرة النفطية في عهد النظام السابق؟الضابط البريطاني ستيفن هيمسلي لونغريغ الذي عمل مفتِّشاً إدارياً في العراق لسنين طويلة، أبدى دهشته من قُدرة العراق على النجاة من “ضربات القدر الخارقة” التي تعرَّض لها عبر التاريخ. تخيَّل أيها القارئ بحسب الضابط “جوني” وهي كناية يستخدمها المصاروة للعسكري البريطاني بينما يستخدم أهل الشام “توني” ككنايةٍ نظيرة، أنَّ الأنف الديني للعراقي لم يكُن “متطرِّفاً في مذهبيته” رغم أنَّ العثمانيين والفرس استخدموا خدّيه كقبضات في صراعهم الجيوإستراتيجي. الأنفُ العراقي وعلى اعتبار أنّه لا يوجد عراقيٌ دون أنف، كَشَفت الكاتبة اللبنانية هادية سعيد كم هو ذوَّاقٌ في شمِّ رائحة الأبطال بقولها “العراقيون أبطالهم من ورقٍ وتاريخهم لا لحم ولا دم له”. هذه الجملة العبقرية ذات النوايا الانتقادية بالتمام والكمال، تُفصِح دون قصدٍ عن الحاجة إلى أن تكون هناك موجة أولى من الأبطال في العراق مثل جميع العراقيين الذين شاركوا في ثورة تشرين وأيَّدوها، والذين ذهبنا إلى تأريخهم وتصنيفهم بسرعة رغم كُل مصائب قلَّة الوعي السياسي وفضائح بعض أفرادِها البارزين في لعق أحذية المُدولَرين، عسى أن تكون موجة الأبطال الثانية أكثر نقاءً بالدينار العراقي وأكثر عجزاً في الألسُن الطويلة التي استطاعت قطع المسافة من ساحة التحرير إلى خضراء الدِّمَنِ (حسناء في منبت سوء) برمشةِ عين. المُفارقة أنَّ بعض الدول العربية وعلى رأسها الإمارات العربية المتحدة وسوريا كان لهما مع الأنف العراقي الذي شوَّهه بوتوكس 2003 وحتّى قبل ذلك التاريخ للإمارات (حسب علمي) تعاملٌ رفيع. رغم كُلِّ ظروفه سَقَياهُ فِنجان خير من دِلالهم وأحياناً كثيرة أعطوه الدلال ليأخذ كفاية أنفه.بعد هذه المُرافعة أصبحت أفُكِّرُ جدياً في الحصول على درجة أكاديمية في القانون الدولي للأنوف، لكنني سأنتقي زبائني من المنطقة العربية بعد قياسِ أنوفهم بأنفي، ودون تقبيلها بـ”بوتوكس” الربيع وتجميل أنوف الحسنات الصغيرة كشمَّامة إنجازات.أتمنى لأنوف جميع العرب رِفعةً كغزة وشاعريةً كـمحمد مهدي الجواهري وعبدالرزاق عبدالواحد وحياة سياسية خالية من بثور كوبونات المال العام.
المصدر: شبكة اخبار العراق
إقرأ أيضاً:
رحل محمد حسن وهبه، وما الذي تبقى من زيت القناديل؟
صديق عبد الهادي
(1)
للشاعر الألماني "برشت" او "بريخت" كما ينطقه آخرون، قصيدة بليغة، محتواً ونصاً، وخاصة عند الإطلاع على تلك النسخة من ترجمتها البديعة التي بذلها صديقنا ومربينا العزيز دكتور محمد سليمان. ولتلك الدرجة التي يحار فيها المرء في أي لغةٍ أصلٍ كتبها "برشت"؟! وقد جاءت القصيدة تحت عنوان "أسئلةُ عاملٍ قارئ".
إنه لمن الصعب الإقتطاف منها، لأن الإقتطاف يهدمها مبناً ومعناً، أو يكاد! ولكن، لابد مما ليس منه بد. إذ يقول/
"منْ بنى طيبة ذات الأبواب السبع
الكتب لا تحوي غير أسماء الملوك
هل حمل الملوك كتل الصخر يا ترى؟!
وبابل التي حُطِمتْ مرات عديدات
منْ أعاد بناءها كل هذه المرات؟!
وفي أي المنازل كان يسكن عمال ليما
الذهبية المشرقة؟!
وفي المساء - حين إكتمل سور الصين العظيم –
أين ذهب البناؤون؟!
روما الجبارة مليئة بأقواس النصر
منْ شيَّدها؟
وعلى منْ إنتصر القياصرة؟!
وهل كانت بيزنطة الجميلة تحوي قصوراً
لكل ساكنيها؟!".
كلما أطلَّتْ هذه القصيدة أمامي ساءلتُ نفسي، ألا تنطبق تلك التساؤلات، الثرة والغارقة في الجدل، على النشاطات الإنسانية والنضالية في حقول الحياة الأخرى؟، وبالطبع، دائماً في البال أولئك "الفعلة" "المجهولين" "تحت الأرض"، الذين كلما تحطمت "بابلنا"، أو كادت، أعادوها لنا في كامل عافيتها وبهائها!
كان الراحل محمد حسن وهبه، وعن جدارة، أحد أولئك الــــــــ"تحت الأرض"، ولشطرٍ كبيرٍ من حياته.
(2)
تعرفت على رفيقنا الراحل في تقاطعات "العمل العام"، بعد عودة الحياة الديمقرطية إثر إنتفاضة مارس/أبريل في العام 1985. فمن الوهلة الأولى لا يعطيك الإنطباع بحبه للعمل العام وحسب وإنما، وفي يسر، بأنه إنسانٌ صُمم لذلك. رجلٌ سهل وودودٌ وذو تجربة صلدة، تتقمصه روحٌ آسرة ومتأصلة لا فكاك للمرء من إيحائها، بأنك تعرفه ومنذ زمن طويل. كان يتوسل المزحة ودونما تكلف في تجاوز المواقف المربكة، وكم هي غاصةٌ بها الحياة ومسروفةٌ بها غضون العمل العام ومطارفه!
عملت في صحبته وصحبة صديقنا المناضل الراحل محمد بابكر. والأثنان كانا يمثلان مورداً ثراً في التصدي لقضايا العمل العام، وخاصةً النقابي. طاقات مدهشه يحفها تواضع جم، أكثر إدهاشٍ هو الآخر. تعرفت على الراحل محمد بابكر في قسم المديرية بسجن كوبر إبان نظام المخلوع نميري ولفترة امتدت لأكثر من عام. وهو الذي قدمني للراحل "محمد حسن وهبه"، ومنذها كانت صداقة ثلاثتنا.
جرتْ انتخابات النقابات الفرعية منها والعامة في العام 1988، وفازت "قوى الإنتفاضة"، التي كانت تضم كل الإتجاهات، ما عدا الإسلاميين الذين كانوا يمثلون او بالأحرى يطلق عليهم "سدنة مايو". فازت "قوى الإنتفاضة" بما مجموعه 48 من عدد 52 نقابة عامة لاجل تكوين الإتحاد العام للموظفين في السودان.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن ما تمّ بعد إنتفاضة مارس/ ابريل 1985 في شأن إستعادة النقابات وفرض شرعيتها من خلال الإنتخاب الحر والديمقراطي هو ما لم تنجح في فعله قوى الثورة عقب ثورة ديسمبر 2018 مما كان له الأثر الكبير في كشف ضعف الثورة وفي وتأكيد غفلتها. فلقد ظلت كل القوانين كما هي وكأن ثورة لم تكن!
كان "محمد حسن وهبه" أحد الذين كانوا من وراء إنجاز قيام الإتحاد العام للموظفين، والذي تمً على إثره إنتخاب الراحل محمد بابكر وبشكل ديمقراطي أميناً عاماً له. كان "محمد حسن وهبه" مسؤولنا الأول عن إدارة تلك الحملة وقيادة ذلك العمل. كان أحد المعنيين بإعادة "بناء بابل"، وقد فعل ذلك على أكمل وجه. والآن جاء يوم شكره المستحق.
(3)
لم يجمع بيننا العمل العام لوحده وإنما جمعت بيننا "البراري" بكل تفردها وزخم "قواها الإشتراكية" التليدة إن كان في ترشيحها لـ"فاطمة" أو في تكريمها لـ"سكينة عالم"، والذي كان وبعقودٍ طويلة قبل تجشم "هيلاري" و"كاميلا" لمصاعب المعاظلة مع عتاة الرأسمال!.
كنت أغشاه كثيراً، وليس لماماً، للتزود من معارفه الحياتية ومن فيض روحه السمح، ومن لطائفه كذلك. كنت أسكن "كوريا" ويقطن هو في "إمتداد ناصر". ذات مساء وجدت في معيته المناضل الراحل "يوسف حسين"، وكما هو معلوم فهو رجل صارم القسمات وللذي يراه لأول مرة لا شك أنه سيظن أن هذا الرجل بينه والإبتسام ما تصنعه القطيعة البائنة!. أنهما صديقان، ولكن للمرء أن يعجب كيف تسنى ذلك، فــ"وهبه" سيلٌ متدفق من "الحكاوي" و"المِلَح" والضحك المجلجل؟!
إن لوهبه قدرة فائقة على صناعة الأصدقاء، إن جاز القول.
وهبه حكاءٌ بإمتياز، لا يدانيه أحد. كان يبدع حين يحكي عن طُرَفِ زميله الراحل الأستاذ "أبو بكر أبو الريش" المحامي، الذي تميز هو الآخر بالحس الفكه والروح اللطيف، والطيب. كانت طرفته الأثيرة لوهبه، وهما طلاب في المدرسة الثانوية في مدينة بورتسودان، حين سأل أحد الأساتذة "ابوبكر" عن إسمه بالكامل فقال له :إسمي أبو بكر أبو الريش. فأردف الأستاذ: هل فعلاً اسم أبيك أبو الريش؟، فرد عليه أبو بكر: "بالمناسبة يا أستاذ أمي ذاتها إسمها أبو الريش!"، فإنفجر الطلاب بالضحك. حينما يحكي وهبة هذه الطرفة يحكيها وكأنها حدثت بالأمس، وحتى حينما يعيد "حكوتها" يعيدها بشكلٍ مختلف، في كل مرة، عن سابقتها. فتلك موهبة لا يتوفر عليها الكثيرون!
إن في مرافقة رواد العمل العام من أمثال وهبه، والذين يجمعون كل تلك المواهب، يصير العمل العام وبكل صعوباته وتعقيداته متعة، فضلاً عن كونه في معيتهم يمثل مدرسة حياتية نوعية ترقى إلى مستوى الرسالة المقدسة، التي يكون المرء على إستعدادٍ كاملٍ للتضحية بحياته من أجلها.
(4)
إن رفيقنا الراحل "محمد حسن وهبه" هو أحد الذين قدموا التضحيات الجسام بدون منٍ او سعيٍ مبغوضٍ للشهرة. عاش بسيطاً بين الناس وكريماً ذا "يدٍ خرقاء" حينما يطلب الناس بيته. إنه أحد أولئك الذين هم "زيت القناديل"، الذين تساكنوا، " تحت الأرض "، وتآلفوا مع الحرمان من طيب العيش والأهل، ولردحٍ طويلٍ من حيواتهم! إنه أحدُ منْ عناهم "برشت" أيضاً، حين قال/
"والعظمة تبرز من داخل أكواخٍ بالية
تتقدم في ثقة
تزحم كل الآماد
والشهرة تسأل حائرة - دون جواب –
عمنْ أقْدَمَ، أفْلَحَ، أنْجَزَ هاتيك الأمجاد!
فلتتقدم للضوء وجوهكم، لحظات
فلتتقدم هاتيك المغمورة مستورة
فلتتقدم كي تتقبل من أيدينا
كل الشكر
وكل الحب" (*)
فلك كل الشكر، رفيقنا "محمد حسن وهبه"، ولك كل الحب.
ولتخلد روحك في عليين.
___________________.
(*) من قصيدة "تقريظ العمل السري".
نقلا من صفحة الاستاذ صديق عبد الهادي على الفيس بوك