الإمام محمد بن إدريس القرشي المُطَّلِبِي الشافعي، يلتقي نسبه مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم في جده عبد مناف، وهو ثالث الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة بعد الإمامين أبي حنيفة النعمان بن ثابت ومالك بن أنس. يوصف بأنه "عقل فقهي ومنهجي عبقري"؛ وبأنه "مجدد القرن الثاني الهجري"، ويعد أول من وضع لبنات علم أصول الفقه بكتابه "الرسالة".

إمام في الفقه والحديث وعلم التفسير، وأديب وشاعر، ساد زمانه واستمر في المسلمين أثره وذكره.

المولد والنشأة

ولد محمد بن إدريس الشافعي بغزة في شهر رجب سنة 150هـ الموافق أغسطس/آب 767م، ولم يكد يحفظ ملامح والده إدريس حتى وافته المنية، فنشأ يتيما في حجر أمه فاطمة بنت عبد الله الأزدية (نسبة إلى قبيلة الأزد)، التي قررت الرجوع به وهو ابن عامين إلى مكة خوفا من أن يضيع أصله ونسبه. وفي تلك الربوع؛ منزل الوحي وانطلاق نور رسالة الإسلام، نشأ وترعرع.

الدراسة والتكوين العلمي

ما إن بلغ سن التمييز حتى دفعت به والدته إلى التعليم رغم الفقر وضيق الحال، فحفظ القرآن الكريم وهو ابن سبع سنين. ويقول عن هذه المرحلة: "ّكنت يتيما في حجر أمي ولم يكن لها مال، وكان المعلم يرضى من أمي أن أخلفه إذا قام".

ظهرت عليه في وقت مبكر علامات النجابة والذكاء واتقاد العقل، فوجَّهته والدته إلى إتقان تلاوة القرآن وتفسيره على أيدي شيوخ التفسير في المسجد الحرام، وأقبل بعدها على حفظ الحديث النبوي، وكان آية في الحفظ.

مسجد الإمام الشافعي في القاهرة  (الجزيرة)

درس اللغة والنحو، ولما لاحظ دخول الغريب من الكلمات والتعابير في حديث المسلمين الجدد من غير العرب، اتجهت همته إلى اللغة وعمل بنصيحة الليث بن سعد، إمام مصر، بضرورة إتقان اللغة وأسرار بلاغتها وفنون آدابها، وحفظ الشعر الذي سبق نزول القرآن الكريم، لأنه يساعد على فهم معاني عدد من الآيات والأحاديث، ونُصح بالخروج إلى البادية وتعلم كلام هذيل وشعرها؛ فقد كانوا أفصح العرب، وشعرهم غني بكنوز اللغة.

خرج إلى بادية لقبيلة هذيل قريبة من مكة، فعاش مع أهلها سنوات عديدة؛ فحفظ أشعارهم وأخبارهم وكلامهم، وتعلم منهم اللغة والرماية والفروسية. وقد قال الشافعي عن هذه المرحلة "كانت همتي في شيئين: الرمي والعلم، فصرت في الرمي بحيث أصيب من عشرة عشرة".

عاد بعدها إلى مكة وفي صدره إلى جوار القرآن الكريم والشعر والآداب والأخبار والأنساب، ثروة هائلة من اللغة فتحت له مغاليق المعاني، وأكسبته ذوقا أدبيا أتاح له إدراك لطائف البلاغة وأسرار البيان، لدرجة جعلت الأصمعي يقول "صححت شعر هذيل على فتى من قريش اسمه محمد بن إدريس الشافعي".

المسار العلمي

بينما هو يسير ذات يوم على دابة تمثل ببيت شعر، قال له كاتب والد مصعب بن عبد الله الزبيري مستنكرا "مثلك يذهب بمروءته في هذا؟ أين أنت من الفقه؟ قال فهزه ذلك وقصد مسلما بن خالد الزنجي مفتي مكة ثم قدم المدينة على مالك".

أقبل بعدها على أهل الحديث والتفسير من شيوخ مكة وعلمائها، ومن بينهم مقاتل بن سليمان ومسلم بن خالد الزنجي الذي أذن له بالإفتاء، وقال له "آن لك أن تفتي"، لكنه تهيَّب مقام الفتيا واختار الرحلة لطلب مزيد من العلم.

كانت المدينة المنورة أولى منازله في الرحلة، وقصد دار إمام دار الهجرة مالك بن أنس بعدما حفظ موطأه كاملا، فلازمه يفيد من علمه، ورحل بعدها إلى الكوفة بالعراق فتتلمذ على القاضي محمد بن الحسن الشيباني وأبي يوسف، وأخذ من علمهما ونسخ كتبا عديدة، وانتقل بعدها إلى بلاد فارس وغيرها، فاستغرقت رحلته سنتين ازداد فيهما فقها وعلما بالأمصار وأحوال الناس وطباعهم.

وظيفة ومحنة

لما عاد إلى المدينة لازم الإمام مالكا حتى وفاته سنة 179هـ، ففكر في عمل يدفع به حاجته، ووافق ذلك قدوم والي اليمن إلى الحجاز وطلب أن يصحبه معه (قيل إن بعض القرشيين تدخلوا لدى الوالي لأجل اصطحابه معه بعدما أثنوا على نسبه وعلمه وأخلاقه) وولاَّه على نجران.

كانت تلك أول وآخر وظيفة تقلدها الشافعي، وتسببت له في محنة كادت تهلكه، إذ جلب له حسن تدبيره وارتفاع ذكره بين الناس -شكرا وتقديرا لعلمه وعمله- المتاعب مع الوالي لما أبى أن يقره على مظالمه الكثيرة.

ووافق ذلك خروج تسعة من العلويين في اليمن على الخلافة، فاستغلها الحاقدون بمن فيهم الوالي، ووشوا به عند الخليفة هارون الرشيد بتهمة أنه رأس الخارجين عليه، وكتب الوالي للخليفة: إن الشافعي "وتسعة آخرين من العلويين يكادون يخرجون على الحاكم … ولا أمر لي معه ولا نهي، فهو يعمل بلسانه ما لا يقدر عليه المقاتل بسيفه"، فأمره الرشيد باعتقالهم وإرسالهم إليه، فاقتيد مع التسعة إلى بغداد على ظهر بغل سنة 184هـ مثقلا بالأغلال في عنقه والحديد في قدميه وعمره 34 سنة.

ولم ينج الشافعي من المحنة إلا باللطف الإلهي وفطنته وقوة حجته، وشهادة شيخه القاضي محمد بن الحسن لصالحه عند الخليفة. وذكر الشافعي هذه المحنة في الجزء الأول من كتابه "الأم"، وروى أنهم دخلوا على الرشيد، وأمر بقطع رؤوسهم واحدا تلو الآخر إلى أن وصل دوره فقال "ثم قدمت ومحمد بن الحسن جالس معه، فقال لي مثل ما قال للفتى (الذي مر قبله) فقلت: يا أمير المؤمنين لست بطالبي ولا علوي، وإنما دخلت في القوم بغيا عليهم، وإنما أنا رجل من بني المطلب بن عبد مناف من قصي، ولي مع ذلك حظ من العلم والفقه، والقاضي يعرف ذلك، أنا محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف. فقال لي: أنت محمد بن إدريس؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: ما ذكرك لي محمد بن الحسن. ثم عطف على محمد بن الحسن، فقال: يا محمد ما يقول هذا، هل هو كما يقول؟ قال: بلى وله من العلم محل كبير، وليس الذي رفع عليه من شأنه، قال: فخذه إليك حتى أنظر في أمره".

كتاب مسند الإمام الشافعي (مواقع التواصل الاجتماعي)

وتذكر كتب التاريخ أن الرشيد أمر في أثناء الحوار مع الشافعي بفك الحديد عنه وأجلسه، ثم أمر القاضي محمد بن الحسن الشيباني باصطحابه وإكرامه، وقد أقنع القاضي الخليفة حتى رضي عنه واقتنع ببراءته، وعقد له مجلسا لأهل العلم والفقه وعلوم أخرى ليختبره، فأعجب والحضور بسعة علمه وحسن منطقه فأكرمه بالعطايا.

كانت للشافعي في هذه المرحلة مناظرات علمية مشهودة مع محمد بن الحسن وغيره، وقد أعجب الرشيد بمنطق الشافعي وقوة حجته، وبلغ صيته كل أهل العراق، وتحدثت عنه كتب الفقه والحديث والتاريخ. وقد حاول محمد بن الحسن أن يجذبه إلى صف الخليفة، الذي عرض عليه أن يوليه القضاء أو يجعله واليا على أي بلاد يختارها، لكنه آثر البقاء بعيدا عن المناصب والصراع السياسي، فاستعفاه واستأذنه في التفرغ للعلم، إذ أقبل على علوم الرياضيات والفيزياء والعلوم الطبيعية وغيرها، ثم استأذن في العودة إلى مكة.

وعدّ بعض العلماء هذه المحنة سببا في ابتعاده عن الولاية والسلطان، إذ رفض تولي القضاء وتفرغ للعلم بعدما أكرمه هارون الرشيد بمال وفير، تصدق بنصفه على فقراء مكة تنفيذا لوصية والدته، ودبّر أمور معيشته بالباقي.

العودة إلى بغداد

مكث نحو تسع سنوات في مكة يُلقي دروسه في الحرم المكي، ويلتقيه كبار العلماء في موسم الحج، ثم سافر مرة أخرى إلى بغداد سنة 195هـ، فأقبل عليه العلماء والمحدثون وأهل الرأي، وأصبح لديه تلاميذ وأتباع بالعراق، من أشهرهم الإمام أحمد بن حنبل، الذي لم يفارق مجلسه بجامعها الغربي. وهناك ألف كتاب "الرسالة" الذي وضع به الأساسَ لعلم أصول الفقه، أي شروط الاستدلال بالقرآن والسنة والإجماع والقياس، وبيان الناسخ والمنسوخ ومراتب العموم والخصوص وغير ذلك.

ولما تولى المأمون الخلافة، عزم الشافعي على الرحيل لما لاحظه من غلبة الفرس ونفوذهم في دوائر الحكم، وتشجيع الحاكم الجديد على الفلسفة والترجمة، والخوض في علم الكلام الذي كان ينهى عنه ويقول "ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح". وعرض عليه المأمون تولي القضاء فاستعفى واستأذن للسفر إلى مصر سنة 199هـ/815م.

كتاب الرسالة للإمام الشافعي (الجزيرة) الرحيل إلى مصر

خرج أهل بغداد لوداعه ومنهم أحمد بن حنبل وهو ممسك بيده فقال له الشافعي:

لقد أصبحت نفسي تتوق إلى مصر ** ومن دونها أرض المهام والفقر

ووالله لا أدري أللعز والغنى** أساق إليها أم أساق إلى القبر

فبكى الإمام أحمد، ورافقه في سفره ثلة من تلاميذه منهم ابن الزبير الحميدي والربيع. ولما وصل إلى مصر ألقى الدروس بجامع عمرو بن العاص، فتعلق به الناس وأحبوه وأقام بين ظهرانيهم أربع سنين ونيّفًا، أعاد فيها كتابة مصنفه "الرسالة"، وراجع عددا من آرائه وأقواله في كتبه ونقحها على ضوء ما حصَّله من العلم عبر رحلاته، لا سيما في المدينة والعراق، فأفاد من محاسن مدرستي أهل الرأي وأهل الحديث، ليؤسس مدرسة جديدة تجمع بينهما. ويسَّر الله له تلاميذ نشروا علمه ومذهبه.

شيوخه

أخذ العلم عن شيوخ وعلماء كثر، فبمكة أخذ عن سفيان بن عيينة، ومسلم بن خالد بن فروة الزنجي، ومقاتل بن سليمان، وعمه محمد بن علي بن شافع، وعبد الرحمن بن أبي بكر المليكي، وسعيد بن سالم، والفضيل بن عياض وغيرهم.

وأخذ بالمدينة عن الإمام مالك بن أنس، وعن إبراهيم بن سعد الأنصاري، وإبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي، ومحمد بن سعيد بن أبي فديك، وعبد الله بن نافع الصائغ وغيرهم.

وبالعراق أخذ عن كبار تلاميذ الإمام أبي حنيفة؛ وأبرزهم القاضي محمد بن الحسن الشيباني وأبو يوسف، كما أخذ عن وكيع بن الجراح بن مليح، وأبي أسامة حماد بن زيد، وإسماعيل بن علية وغيرهم. وباليمن أخذ عن هشام بن يوسف قاضي صنعاء، وأخذ عن عمرو بن أبي سلمة علم الإمام الأوزاعي، وعن يحيى بن حسان أخذ علم الليث بن سعد.

تلاميذه

أخذ العلم عن الشافعي عدد كبير من التلاميذ، أبرزهم رابع أئمة المذاهب الفقهية المعتمدة عند أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل، وأبو محمد الربيع بن سليمان المرادي، والربيع بن سليمان الجيزي، وعبد الله بن الزبير الحميدي، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري.

كما أخذ عنه أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، الذي لازمه منذ أن قدم مصرا ووصف بأنه حافظ مذهب الشافعي، وهو الذي ألف الكتب التي عليها مدار المذهب الشافعي بعد كتب الإمام. كما تتلمذ على الشافعي علماء آخرون كالحارث المحاسبي أحد أعلام التصوف، والحارث بن سريج البغدادي.

أصول مذهبه الفقهي

كان الشافعي على مذهب شيخه الإمام مالك بن أنس، لا يخرج عنه في الفتوى، لكن رحلته العلمية مكنته من الاطلاع على أحوال غير التي كانت سائدة بالحجاز، ولا سيما في العراق، حيث كثرة الملل والمذاهب والنحل واختلاط الأعراق والقبائل، فاكتسب مزيدا من العلم ورأى أن طرق بناء الفتوى تُدخل الواقع في الاعتبار ومنهج النظر في النوازل.

وأسهم ذلك كله في تأسيس مذهب خاص به في الاجتهاد وبناء الأحكام الشرعية في العراق، ثم لما يرحل إلى مصر واستقر بها وتبنى مذهبا جديدا يجمع فيه بين منهجي أهل الحديث وأهل الرأي، بعدما راجع كثيرا من آرائه وفتاواه الفقهية التي قال بها في العراق، كما أعاد تصنيف عدد من كتبه، خاصة "الرسالة" و"الأم"، وهذا ما يفسر ما تتضمنه كتب الشافعية من عبارات "قول الإمام الشافعي في مذهبه الأول (المذهب العراقي) أو قوله في مصر أي في مذهبه الثاني".

أقام الشافعي مذهبه الفقهي -الذي توفي عليه-على خمسة أصول مضبوطة فصلها في كتابيه "الأم" و"الرسالة" وهي:

الأصل الأول: كتاب الله تعالى الذي يحتاج إلى معرفة باللغة العربية ومعانيها وأسرارها. الأصل الثاني: السنة النبوية ولو كان راوي الحديث واحدا، شريطة أن يكون ثقة في دينه معروفا بالصدق حافظا عالما بما يحدث به، بريئا من التدليس في روايته، متصل السند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. الأصل الثالث: الإجماع كأن يقول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قولا ولا يُعلم له مخالف. الأصل الرابع: يقدم قول الصحابي ويفضله بدل إعمال الرأي إذا لم يجد في الكتاب والسنة والإجماع مراده. الأصل الخامس: القياس الذي اعتبره مرادفا للاجتهاد وأعلى مراتبه. مؤسس علم أصول الفقه

يشرح ابن خلدون في "المقدمة" باختصار السياق التاريخي الذي أسس فيه الإمام الشافعي علم أصول الفقه بكتابه "الرسالة"، استجابة لطلب صديقه الإمام العالم عبد الرحمن بن مهدي، فيقول "واعلم أن هذا الفن من الفنون المستحدثة في الملة، وكان السلف في غنية عنه، بما أن استفادة المعاني من الألفاظ لا تحتاج إلى أزيد مما عندهم من الملكة اللسانية، وأما القوانين التي يحتاج إليها في استفادة الأحكام خصوصا، فمنهم من أخذ معظمها، وأما الأسانيد فلم يكونوا يحتاجون إلى النظر فيها لقرب العصر وممارسة النقلة وخبرتهم بهم، فلما انقرض السلف وذهب الصدر الأول، وانقلبت العلوم كلها صناعة كما قررناه من قبل، احتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين والقواعد لاستفادة الأحكام من الأدلة، فكتبوها فنا قائما برأسه سموه أصول الفقه، وكان أول من كتب فيه الشافعي رضي الله تعالى عنه".

ويظهر من كلام ابن خلدون أن الصحابة والتابعين مارسوا تلك القواعد في اجتهاداتهم، وتمثلوا تلك الضوابط ملكة وسليقة، من دون أن تكون لها مصطلحات وقواعد مضبوطة وتسميات دقيقة، فجاء الشافعي فأسس لجمع هذه القواعد وتصنيفها في كتابه "الرسالة"، فدشن بذلك منهجا لاستنباط الأحكام ومناهج الاستدلال التي هي روح علم أصول الفقه.

واستعان الشافعي في ذلك بخبرته بالمدرستين الرئيسيتين في الفقه الإسلامي؛ أهل الحديث وأهل الرأي، حيث يقول ابن حجر العسقلاني "فاجتمع له علم أهل الرأي وعلم أهل الحديث، فتصرف في ذلك حتى أصل الأصول وقعد القواعد، وأذعن له الموافق والمخالف، واشتهر أمره وعلا ذكره وارتفع قدره حتى صار منه ما صار".

 

شاعر العلماء وإمام الحكماء

تميَّز الإمام الشافعي عن باقي الأئمة الأربعة بميوله الأدبية الشعرية وهي من بركات عيشه في منطقة هذيل، حتى وصف بأنه "شاعر العلماء وإمام الحكماء"، وقيل عنه "يبدو أن الشعر قد غلب الإمام الشافعي فجرى في مداده من غير سعي ولا طلب"، رغم أنه كان يحرص على التقليل منه ويقول في ذلك:

ولولا الشعر بالعلماء يزري ** لكنت اليوم أشعر من لبيد

وأَشجعَ في الوغي من كل ليث ** وآل مهلب وبني يزيد

وقد جمع شعره في ديوان حمل اسمه ضم حوالي 143 قصيدة، لا تزال تتردد بين الناس لما فيها من عمق الحكمة وسهولة العبارة وجمال الأسلوب، عبَّر فيها عن مراحل مختلفة من حياته، ولحظات مناجاته للخالق كقوله مثلا:

إليك إله الخلق أرفع رغبتي ** وإن كنتُ -يا ذا المنِّ والجود- مجرما

ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي ** جعلت الرجا مني لعفوك سلما

كما عكس في شعره أسلوبه في التعامل مع الذات والآخر، من قبيل قوله:

صُنِ النفس واحملها على ما يزينها ** تعش سالما والقول فيك جميل

ولا تُرينَّ الناس إلا تجملا ** نبا بك دهر أو جفاك خليل

وإن ضاق رزق اليوم فاصبر إلى غد ** عسى نكبات الدهر عنك تزول

ولا خير في ود امرئ متلون ** إذا الريح مالت مال حيث تميل

وما أكثر الإخوان حين تعدهم ** ولكنهم في النائبات قليل

المؤلفات

ألف الإمام الشافعي كتبا عديدة في الفقه وأصوله والحديث والتفسير والأدب واللغة، شكلت إرثا فكريا ثمينا، ومن أبرز مؤلفاته:

كتاب الرسالة الذي ألفه في العراق تم أعاد تنقيحه في مصر. كتاب أحكام القرآن، وقد جُمع بعد وفاته، ويضم شرحه لآيات قرآنية وفق مذهبه وعلمه. كتاب جماع العلم، الذي دافع فيه عن السنّة وحجيتها، وأثبت ضرورة اتباعها وكذلك فرائض وأركان الدين الإسلامي. كتاب إبطال الاستحسان. كتاب مسند الإمام الشافعي، ويضم الأحاديث النبوية التي تأكد بنفسه من إسنادها وصحتها. كتاب اختلاف الحديث، وقد أزال فيه اللبس والخلاف عن بعض الأحاديث. كتاب اختلاف مالك والشافعي كتاب الأم، وهو سفر عظيم من عدة أجزاء، وقد وصف بأنه "الموسوعة الفقهية التأسيسية للمذهب الشافعي"، وكان آخر ما كتبه في حياته، وضمنه خلاصة أفكاره، وحججه في  المسائل الفقهية المختلف عليها، كما ضمنه وصيته. الوفاة

توفي الأمام الشافعي في آخر ليلة من رجب سنة 204هـ الموافق 20 يناير/كانون الثاني 820م وعمره 54 عاما بعد مرض أنهكه.

ودفن بالقاهرة واحتفى به المصريون حيا وميتا، إذ بنوا لقبره ضريحا وقبة أمر صلاح الدين الأيوبي سنة 575هـ/1179م بتجديدها بقبة مطلية بالنحاس الأصفر.

كما بنيت بجوار ضريحه المدرسة الصلاحية وأصبحت مركزا لنشر الفقه الشافعي. ويعتبر ضريح الشافعي في منطقة مصر القديمة وسط القاهرة من أكبر الأضرحة في مصر.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: رمضان 1445 حريات الإمام الشافعی مالک بن أنس الشافعی فی أهل الحدیث فی العراق بن سلیمان من العلم عبد الله إلى مصر بن أبی بن عبد أخذ عن

إقرأ أيضاً:

في محاضرته الرمضانية الثانية قائد الثورة: القرآن الكريم هو كتاب هداية جاء بأحسن القصص

الثورة /

أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ جَمِيعِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.

الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.

أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:

السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

في موضوع القصص القرآني، كُنَّا عرضنا في شهر رمضان المبارك من العام الماضي عدداً من القصص القرآني، عن بعضٍ من أنبياء الله، وتحدثنا في هذا السياق عن بعضٍ من مميزات القصص القرآني، وعن ما يتعلق بهذا الموضوع، في مقدمة ذلك: لماذا أتى في القرآن الكريم نماذج معينة من القصص والأحداث التاريخية، وما يميِّز العرض القرآني والتقديم القرآني لما قَصَّهُ من قصصٍ عن الماضي، ونبهنا أن القرآن الكريم هو كتاب هداية، هو في الأساس ليس كتاباً تاريخياً، يُقدِّم العرض والسرد التاريخي كما هي الكتب التاريخية، أو يقدِّم القصص كذلك كما هي الكتب المتخصصة في هذا المجال، ولكنه أكبر وأهم من كل ذلك.

القرآن الكريم هو كتاب هداية؛ ولـذلك فما قدَّمه من نماذج متنوعة من القصص والأحداث التاريخية، قدَّمه كأسلوب من أساليب الهداية؛ ولـذلك ضمَّنه الكثير من الدروس والعبر، وعرض فيه الكثير من الحقائق المهمة جدًّا؛ ولـذلك فهو غنيٌ بمحتواه من الدروس، ومن العبر، ومن الحقائق، ومن المفاهيم العظيمة، التي هي كلها تندرج تحت عنوان (الهداية)، فيها هدايةٌ لنا نحن في واقعنا، في ظروف حياتنا، في ديننا، في استلهام القيم العظيمة والأخلاق العظيمة، عندما نسمعها ونراها متجسدةً في الواقع، فيما عرضه الله لنا من النماذج الراقية من أوليائه من الأنبياء، والرسل، والمؤمنين… وهكذا.

فالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» قال في القرآن الكريم: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا}[الإسراء:89]، فكان من ضمن ذلك هو: ما أتى به من القصص والأنباء في نماذج معينة، مختارة بهداية الله، بعلمه، بحكمته، يختار لنا أحسن القصص، التي تتضمن دروساً مهمة، نحن في أمسِّ الحاجة إليها، وتعرض لنا حقائق مهمة، وتعرض لنا السنن الالهية، وهذا من أهم ما في القصص القرآني.

أيضا هي- كما أشرنا في شهر رمضان المبارك من العام الماضي- هي من معالم الرسالة الإلهية؛ لأنها من أنباء الغيب، وأوحاها الله إلى رسوله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ»، وهو أميٌّ في مجتمعٍ أميٍّ، لم يكن يعلم شيئاً عن ذلك؛ ولهـذا قال الله «جَلَّ شَأنُهُ»: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}[هود:49].

هي أيضاً ملهمةٌ في مقام التأسي والاهتداء، كما ذكرنا عن قصص الأنبياء والمؤمنين، وقال الله «جَلَّ شَأنُهُ»: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}[هود:120].

الممــيزات للقصـص القـــرآني ممــيزات عظيمــــة ومهمـــة:

الله «جَلَّ شَأنُهُ» قال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}[يوسف:3].

• في مقدمة هذه المميزات: أنــه مــن الله:

الذي قصَّ علينا تلك النماذج من القصص هو الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»؛ وبالتالي فهي حقٌّ، كل ما ورد فيها من تفاصيل وحقائق، ليس فيها أي شائبة من الشوائب التي يتعرض لها الكثير من القصص التاريخية، والأحداث التاريخية، والكتب التاريخية؛ أمَّا ما قدَّمه الله لنا في القرآن الكريم فهو حقٌّ خالص، ليس فيه أي شيءٍ من الزيف، ولا من الخرافات، ولا من الأساطير، ولا من الروايات غير الصحيحة، فهو يأتي لنا بالحقِّ في ذلك، وبالحقيقة الخالصة النقية، التي لا يشوبها أي شائبة؛ ولهـذا يقول: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ}[الكهف:13].

• ثم أيضاً الاختيار من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»:

اختار لنا؛ لأن سِجِلّ التاريخ هو سجلٌ كبيرٌ جدًّا، ونحن آخر الأمم، حتى على المستوى التخصصي، لا يستطيع الإنسان أن يستوعب كل الأحداث التاريخية على كثرتها، لو أمضى كل عمره، لكن الله اختار لنا بعلمه، بحكمته، وهو العليم بما نحتاج إليه أكثر شيء، وما هو الأكثر فائدةً لنا، فقدَّم لنا نماذج متنوعة، متنوعة، وسنتحدث عن قيمة وأهمية هذا التنوع.

فالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» باختياره لنا من سِجِلّ التاريخ الهائل نماذج معينة، تتناسب مع ظروف حياتنا، حتى لا يحتاج الإنسان أن يمضي كل عمره، ولا يصل بعد إلى استقراء الحقائق والأحداث التاريخية والقصص في التاريخ، اختار نماذج معينة، متنوعة، مهمة، مفيدة جدًّا، وإذا كان الاختيار هو من الله، فهل هناك أحد يمكن أن يكون أكثر دقةً وحكمةً في هذا الاختيار نفسه؟ معاذ الله!

• كذلك العــرض القــرآني عرض راقٍ جدًّا:

على مستوى الأسلوب، والتعبير، والطريقة، وعرض فيه هداية بكل ما تعنيه الكلمة، وسليم من كل المؤثرات السلبية، يعني: حتى عندما يعرض حقائق فيها جوانب سلبية كحقائق، كوقائع حصلت، هو يُقدِّمها بشكلٍ يبعدها عن التأثير السلبي، وأنت تسمعها، أو تتلوها في القرآن الكريم، فأنت لا تتأثر سلباً؛ وإنما يقدمها بطريقة راقية جدًّا، وذكرنا أمثلة لذلك في العام الماضي، ونذكر- إن شاء الله- أمثلة لذلك في هذه المحاضرات إن شاء الله.

• كذلك في غناها بالدروس والعبر:

في عرض الحقائق، في عرض المفاهيم، في تصحيح التصورات، في الجانب التربوي لها، في جوانب كثيرة ومهمة، في بيان السنن الإلهية، ولـذلك يقول الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}[يوسف:111]؛ ولـذلك فمسألة التركيز على موطن العبرة من القصة هي مسألة أساسية في العرض القرآني؛ لأنه- كما قلنا- كتاب هداية.

• كما أن من المميزات لما في القرآن الكريم من القصص: أنهــا قصـصٌ واقعيــة:

ليست خيالية، بل هي أمثلة من الواقع، وهذا يمنح الإنسان ثقة تجاه تلك القصص، وتجاه ما فيها من حقائق، وما يستلهم منها من دروس وعبر… وغير ذلك؛ لأن الواقع البشري فيه الكثير من القصص- يعني كأسلوب- التي فيها إمَّا الكثير من الزيف والخرافات، ليست نقيةً في النقل، أو كأسلوب آخر بعيداً عن الواقع، هناك أيضاً الكثير من القصص الخيالية في واقع البشر التي تُنقل، لتصور شيئاً من الحياة، لكنه ليس بواقعٍ في الحياة؛ إنما هو جانبٌ خيالي، ويراد له أن يكون إما من قبيل التسلية، أو من قبيل التأثير في النفوس، أو بشكلٍ أو بآخر.

• من مميزات العرض القرآني للقصص وما فيه أيضاً: أنه يقدِّم لنا جوانب نفسية، ولكن ليس من باب التخمين والتقدير؛ وإنما من باب الحقيقة:

لأنه من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، الذي يعلم ما في النفوس، يعلم الواقع النفسي، عندما يعرض قصصاً لأشخاص، لنماذج معينة، لأمم؛ فالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» هو العليم بذات الصدور، العليم بخفايا النفوس، عندما يقدِّم لنا صورةً عن الدوافع، عن الواقع النفسي، وعن الحالة النفسية، يُقدِّمه وهو العليم به كحقائق، حقائق ممن يعلم ما في النفوس، حتى ما هو في خفايا الفكر والتفكير، يقدِّمه وهو العليم بذلك؛ ولـذلك فهو لا يقدِّم لنا فقط الأحداث بشكلها الخارجي، بل في عمقها، في الواقع النفسي، في الدوافع، في الحالات النفسية، وهذه دروس مهمة حتى في هذه الأمور، التي نحتاج فيها حتى هي إلى دروس وإلى عبر؛ لأنها جانبٌ أساسيٌ في واقع حياتنا.

التنوع في القصص القرآني هو كذلك مهمٌ، وغنيٌ، ومفيدٌ جدًّا:

• نماذج من قصص الأنبياء، مجموعة كبيرة من أنبياء الله ورسله، وكذلك حتى هذا الجانب (في قصص الأنبياء) فيه أيضاً نماذج لظروف مختلفة، وأحوال مختلفة، ومقامات متنوعة.

• نماذج من قصص المؤمنين من أولياء الله، من غير الأنبياء: مثلما هي قصة أصحاب الكهف، مؤمن آل فرعون، مؤمن أهل القرية في (سورة يس)… وغير ذلك.

• نماذج من قصص النساء: على مستوى الجانب الإيماني، مثلما في قصة الصديقة الطاهرة (مريم ابنت عمران)، وباسمها سورة في القرآن الكريم، وتحدث القرآن عنها في مواضع متعددة، وكذلك عن غيرها.

• نماذج عن الأقوام والأمم: قوم نوح، عاد، ثمود، قوم فرعون… وغيرهم.

• نماذج عن التجار.

• نماذج عن المزارعين.

• نماذج عن العلماء.

• نماذج عن الملوك…

وهكذا… قصصٌ واسع.

فهي نماذج نستفيد منها في مختلف مجالات حياتنا، يعني: في الجانب العقائدي، في الجانب السياسي، في الجانب الاقتصادي، في الجانب الاجتماعي، في المجال الأخلاقي، في شؤون حياتنا نحن أيضاً، الشؤون المختلفة، ونحن آخر الأمم، بين أيدينا رصيدٌ هائلٌ من الأحداث، من التجارب في الواقع البشري، وهذا ما يساعدنا على أن نستفيد منها كتجارب واقعية، عرضت لنا نماذج متعددة ومتنوعة، تُقدِّم لنا الدروس المهمة، التي تزيدنا حكمةً، ورشداً، وبصيرةً، ووعياً، وفهماً، وتساعدنا على تَجَنُّب المزالق، المزالق في هذه الحياة، الأخطاء الكبيرة، التوجهات التي لها نتائج كارثية، العواقب الخطيرة، التي تكون نتيجةً لتوجهات معينة، أو مواقف معينة، كذلك دروساً في مجال الدعوة إلى الله، دروساً في مجال معرفة الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وهذا من أهم ما نستفيده من القصص القرآني حتى في مجال معرفة الله، وهذا مما سنلحظه- إن شاء الله- فيما نعرضه.

عرضنا في شهر رمضان المبارك من العام الماضي من قصص القرآن:

• عن نبي الله آدم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، وزوجه حواء «عَلَيْهَا السَّلّامُ».

• وكذلك عن قصة ابني آدم.

• وعن نبي الله إدريس «عَلَيْهِ السَّلَامُ».

• وعن نبي الله نوح «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، وكذلك عن قومه في سياق قصته.

• وعن نبي الله هود «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، وقومه عاد.

• وعن قصة نبي الله صالح «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، وقومه ثمود.

ويتضح لنا كم تضمن العرض القرآني لتلك القصص من دروسٍ مهمة، وحقائق كثيرة، وعِبر عظيمة، بالرغم من أنَّا عرضناها باختصار، وبمحدودية ما نعرفه وما نقدمه.

في هذا الشهر المبارك، نبدأ مشوارنا مع القصص القرآني مع نبي عظيمٍ، من أبرز رسل الله وأنبيائه، ورد ذكره في القرآن الكريم (تسعاً وستين مرة)، وتحدث القرآن الكريم عنه في (خمسٍ وعشرين سورة) في قصصٍ عنه، وحقائق مهمة تتعلق به، منها سورةٌ باسمه في القرآن الكريم (سورة إبراهيم).

الحديث عن نبي الله ورسوله وخليله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، فيما قَصَّهُ القرآن الكريم عنه، متنوعٌ تنوعاً مفيداً، في أحوالٍ وظروفٍ متنوعة، ومقاماتٍ متعددة، وشؤونٍ مختلفة، وكلها غنيةٌ بالدروس والعِبر، ومسيرة حياته مدرسةٌ متكاملة في الهداية، في الأخلاق، في القيم، في الحكمة، في الرشد، في العلاقة مع الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»… في جوانب كثيرة، نتحدث عن الكثير منها إن شاء الله، بقدر ما يوفقنا الله له.

رسول الله ونبيه وخليله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» منحه الله الوسام الرفيع، والحديث عنه في القرآن الكريم يبيِّن لنا عظيم مقامه، ورفيع منزلته، ودرجته العالية، الله قال عنه: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}[النساء:125]، هذا وسام رفيع جدًّا، من أعلى وأعظم الأوسمة، التي تبيِّن منزلته الرفيعة عند الله «جَلَّ شَأنُهُ».

مقامه أيضاً بين الأنبياء والرسل، هو من أرفعهم مقاماً، ومن أفضلهم، ومن أعلاهم منزلة، فمنزلته بينهم هم كأنبياء ورسل منزلة عالية جدًّا؛ لأن مقامات وفضل الأنبياء يتفاوت في مستوى منزلتهم، وكمالهم، وأدوارهم، كما قال الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» في القرآن الكريم: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}[البقرة : 253]، وكما قال «جَلَّ شَأنُهُ»: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ}[الإسراء:55]، فمقامه بين الأنبياء والرسل مقامٌ عظيم، قدوةٌ لغيره من الرسل والأنبياء ممن أتى بعده؛ ولهـذا تُقَدّم الكثير من الدروس والعبر من حياته، من سيرته، لهم في مقام القدوة، واستلهام الدروس والعبر.

قبل أن ندخل في تفاصيل القصص القرآني عنه، نعرض عرضاً موجزاً عن مقامه العظيم، وعناوين عن شخصيته وكماله الإنساني والإيماني:

نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، كما قال الله عنه: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}[البقرة: 124]، هو شخصيةٌ عالمية، تلتقي على تعظيمه وتقديره الكثير من الأمم، والطوائف، والملل، والأديان، بل وتدَّعيه رمزاً لها، كُلٌّ منهم يدَّعي أنه رمزٌ له، وتدَّعِي الاقتداء به، إلى درجة أن مشركي العرب، الذين كانوا على الوثنية في الجاهلية، كانوا يدَّعون أنهم يقتدون به، ويعتبرونه الرمز العظيم لهم، مع ما هم عليه من انحراف كبير، وكفر بالرسالة والرسل والأنبياء، وهم في حال الشرك والوثنية، كذلك هو حال اليهود، يدَّعونه رمزاً لهم، وينسبونه منهم، في انتمائه العقائدي والديني، وكذلك هو الحال بالنسبة للنصارى، وبالنسبة لغيرهم، هناك كذلك أقوام، وأمم، وطوائف، وملل، لها نفس الدعوى.

ولهـذا رد الله عليهم في القرآن الكريم، في قوله «جَلَّ شَأنُهُ»: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[آل عمران:67]، ليرد عليهم في تلك الادَّعاءات، ويقول: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ}[آل عمران:68]، بين كل للذين يدَّعون أنه رمزٌ لهم، وأنهم يقتدون به، وأنهم منتمون عقائديًا ودينياً إليه، أولى الناس به من؟ {لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران:68]، يعني: هم الذين- فعلاً- يمثلون امتداداً لنهجه: رسول الله محمد «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ»، والذين آمنوا معه، هم الذين يمثلون امتداداً لنهج نبي الله إبراهيم وملته ودينه، وهم أولى الناس بهذا الانتماء.

فيما يتعلق بنماذج من العناوين القرآنية عن شخصيته: وهو- كما قلنا- من منحه الله الوسام الرفيع، العظيم، العجيب، الذي يندهش الإنسان أمامه، عندما قال: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}[النساء:125]، فيما يفيده هذا من علاقته العظيمة بالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، ومنزلته الرفيعة جدًّا، (معنى: خليلاً، يعني: حبيباً وولياً)، الله اتَّخذه حبيباً له وولياً، وهو في مقام المحبة لله، والمحبة من الله له في مستوى عالٍ جدًّا، مُقَرَّبٌ جدًّا من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، يحبه الله محبةً عظيمة، ويحظى بمنزلةٍ رفيعة، وهذا بنفسه وسامٌ عظيم، يبيِّن ما هو عليه من الكمال الإيماني والطهارة، وسنتحدث عن هذه النقطة- إن شاء الله- في سياق القَصص، عندما ندخل في التفاصيل؛ ولـذلك هو حظي برعايةٍ عجيبةٍ من الله، وهذا من الدروس المهمة في قصص نبي الله ابراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»: ما حظي به من رعايةٍ عجيبةٍ من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وما منحه الله، هذا درسٌ مهمٌ جدًّا في رعاية الله لأوليائه، وما يمنحهم، ما يمنحهم ويَمُنُّ به عليهم في إطار رعايته لهم، فله مكانته الراقية، ومنزلته الرفيعة في علاقته بالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».

يقول الله «جَلَّ شَأنُهُ» في القرآن الكريم: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا}[النحل:120]، هذا التعبير العجيب: {كَانَ أُمَّةً}، يُقدِّم لنا صورةً عن كمال إبراهيم، عن منزلته الرفيعة، عن دوره العظيم:

• كَانَ أُمَّةً فيما حازه من كمالٍ إنسانيٍ وإيمانيٍ ومواصفاتٍ راقية، وفيما حمله من قيم، وجسَّده من مبادئ، يعدل أُمَّةً بكلها، يساوي أُمَّةً بكلها، فاجتمع فيه ما لو تفرَّق في أُمَّة، من مواصفات الكمال الإيماني والأخلاقي والإنساني، لكانت أُمة نموذجية، لكانت أُمَّةً صالحة، هذا تعبير عظيم جدًّا، هذا يُقرِّب لنا وإلى أذهاننا مستوى عظمة شخصيته، ومستوى كماله.

• وكَانَ أُمَّةً في أهليته العالية، في مقام الاهتداء والقدوة؛ فكان رمزاً للأنبياء، وإماماً للناس، ومعلماً عالمياً للمجتمع البشري.

• وكَانَ أُمَّةً في دوره العظيم، الذي قام به في إرساء دعائم الحق والخير والهدى، وفي تصديه للطغيان والضلال، وما بذله من جهدٍ في ذلك، بالرغم من أنه بدأ بمفرده، لكنَّ حجم هذا الدور الذي نهض به، بما تنهض به أُمَّة، إلى هذا المستوى، شخص له هذا الدور، له هذا التأثير، يعادل مجهود أُمَّة، ودور أُمَّة، ونهضة أُمَّة، وحركة أُمَّة، هذا يفيد مستوى الدور العظيم الذي قام به، وما بذله من جهد، وما حققه من تأثير ونتائج.

ولهـذا عندما قال الله عنه هذا التعبير، فهو تعبير جامع، جمع كل هذه الدلائل والمفاهيم.

{كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ}[النحل:120]، هنا يعرض لنا القرآن الكريم مواصفات راقية جدًّا، تبيِّن لنا كيف كان في مستوى إيمانه، كيف كانت علاقته بالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وهذا من أهم ما أهَّله لهذا الدور، وارتقى به إلى هذه المنزلة، وهذا المقام العظيم.

{قَانِتًا لِلَّهِ}، هذه مواصفات مهمة، مجموعة من المواصفات تندرج تحت عنوان (قَانِتاً لِلَّهِ)، كان خاضعا لله، مطيعاً له؛ ولـذلك ففي قوله «جَلَّ شَأنُهُ»: {قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} كم يجتمع لنا؟ يجتمع لنا أنه كان نموذجاً عظيماً:

• في المحبة لله تعالى، والإخلاص له، والاستقامة على نهجه.

• وفي الخضوع التام لله.

• وفي الخشوع لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».

• وفي الثبات على نهج الله.

كل هذه العناوين تجتمع تحت قوله تعالى: {قَانِتًا لِلَّهِ حَنِفًا}، وسنتحدث أيضاً في سياق التفاصيل، في القَصص عن نبي الله إبراهيم، عن كيف تجسَّدت هذه العناوين في واقعه، في حركته، في أعماله، في مواقفه، بشكلٍ عظيمٍ ومميَّز.

عَـــرَض القُـــرْآنَ الكريـــم عنـــه أيضــاً أنه:

• كان رمزاً عظيماً في التسليم لله تعالى والإسلام له: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[البقرة:131]، في التفاصيل في القصص عنه سيأتي نماذج في واقعه العملي، عن هذا الإسلام والتسليم لله «جَلَّ شَأنُهُ»

• قدَّمه على أنه نموذج راقٍ في المصداقية، {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا}[مريم: 41]، (صِدِّيقًا): مصدقاً بكلمات الله تعالى، وكانت مصداقيته في أقواله، في انتمائه، في أعماله، تامة وراقية جدًّا.

• نموذج في اليقين، وسيأتي الحديث عن ذلك.

• في الشكر: {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ}[النحل:121]، يُقدِّر نعم الله عليه، ويُعظِّم نعم الله عليه، ويشكر الله على نعمه في أقواله، في أفعاله، وفي أعماله، بقلبه وسلوكه، وسيأتي أيضاً تفاصيل عن هذا الموضوع، وهذا العنوان.

• في الرشد، والعلم، والحجة، والحكمة، والبصيرة كذلك: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}[الأنبياء:51]، كان راشداً، حكيماً، على بصيرة، على معرفة، على علم، {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ}[ص:45]، فهو من المتمسكين، والمقدمين، والمسهمين، في إقامة الحق، وفي مسيرة النبوة والرسالة أعطى دفعاً كبيراً للحق والهدى، استمر لأجيالٍ طويلة، {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ}[الأنعام:83]، وستأتي التفاصيل أيضاً عن ذلك.

• في الحلم: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}[التوبة:114]، وفي آيةٍ أخرى: {لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ}[هود:75]، فهو من ذوي الحلم، ونموذج في الحلم، وستأتي التفاصيل، وتعريف هذا العنوان ودلالاته.

• في الكرم، في حسن الضيافة: كذلك في القصص تأتي التفاصيل.

• رمزٌ في البراءة، والموقف الحاسم من أعداء الله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا}[الممتحنة:4].

العناوين كثيرة، والتفاصيل كثيرة، وكثيراً من العناوين نأتي اليها مع المفاهيم، مع الحقائق، مع الدروس، مع العبر، في سياق القَصَص الذي قَصَّهُ الله عنه، وقدَّم في ذلك القصص- كما قلنا- نماذج من ظروف متنوعة، وشؤون مختلفة، وأحوال متعددة.

نَسْألُ اللَّهَ «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء، وَأَنْ يَتَقَبَّلَ مِنَّا وَمِنْكُمُ الصِّيَامَ، وَالقِيامَ، وَصَالِحَ الأَعْمَال، وَأَنْ يَجْعَلَنَا فِي هَذَا الشَّهْر الكَرِيم مِنْ عُتقَائِهِ وَنُقذَائِهِ مِنَ النَّار.

وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

مقالات مشابهة

  • معاريف : هذا هو الكنز الذي استولت عليه حماس من “إسرائيل”
  • دفعوا بها لـ «الأمم المتحدة» .. «التغيير» تنشر مذكرة كُتّاب و أدباء و نشطاء سودانيين بشأن وقف الحرب
  • الغريب عبد الله قاضي… حين يموت الكبار في صمت الصغار
  • مذكرة من الكُتّاب والأدباء والنشطاء السودانيين إلى الأمين العام للأمم المتحدة تطالب بوقف الحرب في السودان وحماية المدنيين
  • أمين كبار العلماء: التصدق والإنفاق من أفضل الأعمال في شهر رمضان
  • سعاد صالح: أنا ضد مسلسل"معاوية" لأنه يسبب فتنة بين السنة والشيعة
  • الطبق الذي كان يفضله الرسول عليه الصلاة والسلام
  • في محاضرته الرمضانية الثانية قائد الثورة: القرآن الكريم هو كتاب هداية جاء بأحسن القصص
  • أحمد عمر هاشم: ذكر الله يحقق ما لا يحققه الدعاء
  • كيف يكون الكون بزمانه وأحداثه أمام الله في وقت واحد؟.. علي جمعة يوضح