منتصف القرن الـ19، شهدت الصين صراعا داميا عرف باسم حروب الأفيون، ووصفها مؤرخون بأنها "أقذر حرب في التاريخ" نظرا لاستخدام بريطانيا للأفيون سلاحا ضد الصين. واتخذت هذه الحرب شكل نزاعين مسلحين بين الإمبراطورية البريطانية وسلالة تشينغ الحاكمة بالصين.

وساهمت التجهيزات العسكرية الحديثة آنذاك بريطانيا لتحقيق انتصار سهل على الصين، وكبدتها في المعاهدات التي ألزمتها بتوقيعها خسائر كثيرة، أدت لإضعاف حكم أسرة تشينغ والحكومة والإمبراطورية الصينية، وأجبرت بكين على فتح موانئها أمام حركة التجارة الأوروبية.

كما أخذت إنجلترا حق السيادة على هونغ كونغ، ولم تعدها للصين إلا عام 1997.

الأسباب

عرف الصراع الأول بـ"حرب الأفيون الأولى" وجرت وقائعها بين عامي 1839 و1842، بين الصين وبريطانيا، بينما انضمت فرنسا لحرب الأفيون الثانية (1856-1860) المعروفة أيضا باسم "حرب السهم" أو "الحرب الأنجلو فرنسية في الصين" لمساندة بريطانيا ضد الصينيين.

وكان السبب الرئيسي لاندلاع الحرب مطلع القرن الـ19 عندما واجهت الصين أزمة أخلاقية واقتصادية خانقة، تمثلت في انتشار تجارة الأفيون غير المشروعة التي مارسها التجار الإنجليز عبر "شركة الهند الشرقية".

وازدادت تجارة الأفيون بشكل هائل منذ عشرينيات القرن الـ18، محدثة أضرارا اجتماعية واقتصادية كارثية على الشعب الصيني. فمع ازدياد تعاطي الأفيون تفاقمت المشكلات الصحية وانهارت القوى العاملة وازدادت الفوضى، مما هدد استقرار الدولة.

وعام 1839 قررت الحكومة الصينية مواجهة هذه الكارثة، فأحرقت مخزونا ضخما من الأفيون كان التجار الإنجليز يخزنونه في إقليم غوانغزو، وصادرت 1400 طن من هذه المادة.

حرب الأفيون الثانية بريشة غوستاف دور (غيتي)

ولم ترض هذه الخطوة بريطانيا التي كانت تسعى وراء الأرباح الضخمة من تجارة الأفيون، فاستخدمت القوة العسكرية لإجبار الصين على فتح أسواقها أمامها.

ومع ازدياد حدة التوتر بين البلدين بسبب تجارة الأفيون غير المشروعة، وقع حادث أشعل فتيل الحرب في يوليو/تموز 1839، حين قام بحار بريطاني بأعمال شغب في إحدى القرى الصينية أسفرت عن قتل قروي وتخريب معبد بوذي. حينها طالبت بكين بتسليم المذنبين لمحاكمتهم إلا أن حكومة لندن رفضت.

واتخذت حكومة بكين موقفا حازما ضد تجارة الأفيون غير المشروعة التي مارسها التجار البريطانيون، فرفضت السماح للتجارة الأجنبية إلا بشروط تضمنت الالتزام بالقانون الصيني، والتوقف عن تهريب الأفيون، وخضوع التجار الأجانب للولاية القضائية الصينية.

ورفض "تشارلز إليوت" المراقب البريطاني للتجارة مع الصين هذه الشروط، وعلق التجارة بين البلدين وسحب جميع السفن البريطانية من هناك، مما أدى إلى تصاعد التوتر بشكل كبير، واتخذت الصين خطوات عسكرية ضد البريطانيين، منها حصار ميناء "كانتون".

بداية حرب الأفيون الأولى (1842-1839)

مع تصاعد التوتر بين الصين وبريطانيا، اندلعت حرب الأفيون عام 1839، عندما حاول التاجر البريطاني "رويال ساكسون" كسر الحظر الصيني، فخرجت سفن البحرية الصينية لصدّه. لكنّ الأسطول البريطاني تدخل لحماية ساكسون، وشنّ هجوما مدمرا على السفن الصينية.

وبدأت حينها الأعمال العدائية عندما قصفت سفينة حربية بريطانية ثكنة صينية في هونغ كونغ. وعام 1840 أرسلت بريطانيا قوة عسكرية إلى الصين، مزودة بأسلحة متطورة حينها، وبحلول مايو/أيار 1841 احتلت القوات البريطانية كانتون، ثم هزمت القوات الصينية في هجوم مضاد بسبب ضعف تجهيزها وتسليحها.

تشارلز إليوت المشرف الرئيسي للتجارة البريطانية بالصين وأول مدير لهونغ كونغ (غيتي) نهاية الحرب الأولى

أواخر أغسطس/آب 1842، استولى البريطانيون على نانجينغ، عاصمة الصين آنذاك، ولم يجد الإمبراطور الصيني أمامه مخرجا سوى التفاوض مع بريطانيا، فأعلن استسلامه ووقع معاهدة نانجينغ التي تضمنت بنودها:

فتح 5 موانئ صينية للتجارة الأجنبية. دفع تعويضات كبيرة لبريطانيا. تنازل الصين لبريطانيا عن جزيرة هونغ كونغ. السماح لبريطانيا بإنشاء مستوطنة في شنغهاي.

وكانت هذه الهزيمة الأولى في سلسلة طويلة من الهزائم التي تكبدتها الصين في حرب الأفيون. وخلال عامين ونصف العام، استولى البريطانيون على مدن ساحلية هامة مثل كانتون وتشوسان ونينغبو ودينغهاي وشنغهاي.

وبموجب الاتفاقية، دفعت الصين تعويضا كبيرا لبريطانيا، وتنازلت عن جزيرة هونغ كونغ، وزادت عدد الموانئ المخصصة للتجارة مع لندن من ميناء واحد إلى خمسة، من بينها شنغهاي.

كما احتفظ الإنجليز بالحق في المثول أمام المحاكم البريطانية فقط دون الصينية، وحصلت المملكة المتحدة على وضعية الدولة الأجنبية الأكثر تفضيلا بالصين، ولم تقدم لندن أي شيء في المقابل سوى الموافقة على إنهاء القتال.

حشد في بكين يقرؤون المعاهدة التي أنهت الحروب الصينية (غيتي) حرب الأفيون الثانية (1860-1856)

في أعقاب حرب الأفيون الأولى، سيطرت مشاعر متضاربة على الصينيين، فبينما واجهت البلاد آثار الهزيمة المرّة، حاول المسؤولون الصينيون التكيف مع بنود معاهدة نانجينغ.

ولم تكن هذه المعاهدة العقبة الوحيدة، فقد فرضت كل من فرنسا والولايات المتحدة معاهدات غير متكافئة على الصين عام 1844، مما زاد من حدة التوتر. وما فاقم الأمور بشكل كبير المطالب البريطانية الجديدة عام 1854، والتي تضمنت فتح جميع الموانئ الصينية أمام التجار الأجانب وخفض التعريفة المفروضة على المنتجات البريطانية إلى الصفر.

يضاف إليها مطالبة بريطانيا بإضفاء الشرعية على تجارة الأفيون الذي تستقدمه من بورما والهند إلى الصين، فأثارت هذه المطالب غضبا عارما في الصين، ورفضت الحكومة الخضوع لها.

أبرز المحطات

عام 1856، شنت بريطانيا وفرنسا حربا ثانية على الصين، عرفت باسم حرب الأفيون الثانية، وكانت أكثر قسوة من سابقتها، إذ احتلت القوات البريطانية والفرنسية العاصمة بكين، وأحرقت القصر الصيفي.

وبدأت شرارة الحرب بحادثة "السهم" وهي سفينة تهريب مسجلة بالصين، لكن مقر الشركة التابعة لها كان في المستعمرة البريطانية هونغ كونغ، وعندما اعترض المسؤولون الصينيون السفينة واعتقلوا طاقمها المكون من 12 شخصا للاشتباه في ضلوعهم بأنشطة تهريب وقرصنة، احتج البريطانيون. علما بأن السلطات الصينية كان يحق لها قانونيا اعتراض السفينة لأن رخصة تسجيلها في هونغ كونغ كانت قد انتهت صلاحيتها.

اللورد إلجين والأمير كونغ يوقعان معاهدة بكين (غيتي)

واستغلت بريطانيا هذه الحادثة ذريعة لشن حرب جديدة على الصين، فأجبرتها على إطلاق طاقم سفينة "السهم". وعندما امتثلت الصين، لم يكتف البريطانيون بذلك، بل دمروا 4 حصون ساحلية وأغرقوا أكثر من 20 سفينة صينية، ولم يكن لدى الصين القوة العسكرية الكافية للدفاع عن سيادتها أمام هذا الهجوم الجديد.

وحينها كانت الصين لا تزال تعاني من آثار حرب الأفيون الأولى، ولم تكن تمتلك الأسلحة الحديثة التي كانت لدى بريطانيا وفرنسا. وقرر الفرنسيون الانضمام إلى الحملة العسكرية البريطانية، متخذين ذريعة لذلك مقتل مبشر فرنسي بالمناطق الداخلية للصين في وقت مبكر من عام 1856.

وتأخرت بريطانيا في تجميع قواتها في الصين، إذ حولت تلك التي كانت بالطريق إلى الهند للمساعدة في إخماد التمرد الهندي، ولم تبدأ عملياتها العسكرية مع فرنسا إلا أواخر عام 1857. وسرعان ما استولت القوات البريطانية والفرنسية على كانتون، وأطاحت بحاكم المدينة، ونصّبت مسؤولا يمتثل للأوامر.

وفي مايو/أيار 1858، أجبرت القوات المتحالفة الصينَ على توقيع معاهدات تيانجين، التي نصت على إقامة مبعوثين أجانب في بكين، وفتح موانئ جديدة للتجارة والإقامة الغربية وحرية تنقل المبشرين المسيحيين في الصين.

ولكن بعد توقيعها، لم تصدق الصين على المعاهدات بشكل كامل، ورفضت بعض بنودها، خاصة تلك المتعلقة بإقامة سفراء أجانب في بكين. فدفع ذلك بريطانيا إلى تصعيد هجماتها على الحصون الصينية.

وعام 1859 صدت القوات الصينية هجوما بريطانيا على حصون داجو، لكن ذلك لم يمنع القوات المهاجمة من شق طريقها شمالا إلى بكين. وانضم الفرنسيون إلى البريطانيين ودخلوا المدينة، وأحرقوا القصر الصيفي بالمحيط الشمالي الغربي، تجنبا لمهاجمة المدينة المحرمة، موطن الإمبراطور الصيني.

الأفيون يستخرج من براعم نبات الخشخاش (غيتي)

وانسحب البريطانيون من تيانجين صيف 1858، لكنهم عادوا إلى المنطقة في يونيو/حزيران 1859 في طريقهم إلى بكين مع دبلوماسيين فرنسيين وبريطانيين للتصديق على المعاهدات، فرفض الصينيون السماح لهم بالمرور عبر حصون داغو واقترحوا طريقا بديلا إلى بكين.

وقررت القوات التي يقودها البريطانيون عدم سلوك الطريق الآخر، وحاولت بدلا من ذلك المضي قدما عبر داغو، ولكن الصينيين صدوهم وكبدوهم خسائر فادحة.

ورفض الصينيون بعد ذلك التصديق على المعاهدات، واستأنف الحلفاء هجماتهم على بكين، في أغسطس/آب 1860، ودمرت قوة بريطانية فرنسية بطاريات داغو، وتقدمت إلى أعلى النهر نحو تيانجين.

وفي أكتوبر/تشرين الأول استولت القوات البريطانية على بكين ودمرت وأحرقت قصر الصيف التابع للإمبراطور يوانمينغ يوان. وفي وقت لاحق من ذلك الشهر، وقع الصينيون اتفاقية بكين، التي وافقوا فيها على الالتزام بمعاهدات تيانجين، وأيضا تنازلوا للبريطانيين عن الجزء الجنوبي من شبه جزيرة كولون المجاورة لهونغ كونغ.

الخسائر البشرية

خلّفت حرب الأفيون ندوبا عميقة في التاريخ الصيني، ليس فقط على المستوى السياسي والاقتصادي، بل البشري أيضا، فقد قتل ما يقرب من 20 مليون نسمة خلال الحرب، أي ما يعادل 10% من سكان الصين وقتها، من بينهم 3 ملايين جندي من الجانبين.

وكان الفارق في عدد الضحايا هائلا، حيث قتل ما يقرب من 350 جنديا بريطانيا فقط مقارنة بأكثر من 3 آلاف صيني، ورغم أن حرب الأفيون الثانية كانت أقصر من سابقتها، فإن النتائج كانت مماثلة بمئات الضحايا الأوروبيين مقارنة بآلاف الضحايا الصينيين.

توقيع المفوضين على بروتوكول السلام في بكين (غيتي) نتائج حرب الأفيون الثانية

في كلا الصراعين، انتصرت القوى الأجنبية ونالت امتيازات تجارية وقانونية وإقليمية في الصين. وتعتبر حرب الأفيون الثانية علامة فارقة في تاريخ بكين، إذ أدت إلى تغييرات جذرية في الصين على كافة الأصعدة، وخلّفت إرثا من المشاعر المعادية للأجانب في الصين.

ومثّلت هذه الصراعات بداية حقبة من المعاهدات الجائرة والتدخلات الأخرى في السيادة الصينية، مما ساهم في إضعاف سلالة تشينغ وسقوطها لصالح جمهورية الصين أوائل القرن العشرين. وقد نتج عن هذه الحرب:

إضعاف سلطة سلالة تشينغ الحاكمة. فتح موانئ جديدة للتجارة الأجنبية. السماح بإقامة سفراء أجانب في بكين. حق السفر الأجنبي داخل الصين. تعويضات كبيرة للحلفاء. حرية تنقل المبشرين المسيحيين. تقنين تجارة الأفيون.

وأخيرا، أدت الحرب إلى نهب ثروات الصين من قبل القوى الأجنبية، وسيطرتها على التجارة في البلاد، وإعاقة التنمية الاقتصادية.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: رمضان 1445 حريات القوات البریطانیة هونغ کونغ على الصین فی الصین فی بکین

إقرأ أيضاً:

فورين أفيرز: لهذه الأسباب لا تخاف بكين من ترامب

نشرت مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية تقريرًا تحدثت فيه عن موقف الصين من عودة دونالد ترامب إلى الرئاسة.

وقالت المجلة، في هذا التقرير الذي ترجمته "عربي21"، إن دونالد ترامب ظلّ يهاجم الصين لسنوات ويصفها بأنها السبب الجذري لجميع أنواع العلل في الولايات المتحدة. وقد ظهرت الصين في تجمعات ترامب ومؤتمراته الصحفية كخصم متوحش، وعدو لا يستطيع أحد إخضاعه سوى ترامب. وخلال فترة ولايته الأولى، قلب ترامب عقودًا من السياسة الأمريكية رأسًا على عقب من خلال إطلاق حرب تجارية مع الصين. ومع استعداده لبدء ولايته الثانية، تشير خطاباته وتعييناته الوزارية إلى أنه سيضاعف من هذا النهج المتشدد، ومن المتوقع أن تزداد العلاقة المتوترة بين البلدين تأزمًا.

لكن قادة الصين ليسوا خائفين من ترامب وقد تعلموا الكثير من ولايته الأولى. وتعتقد بكين أن بإمكانها تجاوز المواجهات التي قد تؤدي إلى لجوء ترامب إلى الحمائية الاقتصادية. كما أن التزام ترامب المشكوك فيه تجاه حلفاء الولايات المتحدة سيشجع الدول الأخرى على التحوط في رهاناتها وبناء علاقات مع بكين لتعويض عدم القدرة على التنبؤ بتصرفات واشنطن. كما أن احتمال وقوع اشتباكات عسكرية مع الولايات المتحدة منخفض. وبما أن السياسة الخارجية لترامب لم تنم عن أي التزامات أيديولوجية عميقة، فإنه من المستبعد أن تأخذ المنافسة بين البلدين الأبعاد الأكثر تدميرًا للحرب الباردة.



قادة الصين ليسوا قلقين بشأن ترامب
أوضحت المجلة أن بكين ترى أن نتيجة الانتخابات الرئاسية للولايات المتحدة لن يكون لها تأثير كبير على المسار العام للسياسة الأمريكية تجاه الصين. وبغض النظر عمن سيدخل البيت الأبيض، فإن الرئيس القادم للولايات المتحدة سيكون مدعومًا بإجماع من الحزبين الجمهوري والديمقراطي اللذين يعتبران الصين تهديدًا للهيمنة الأمريكية على العالم، لكن سياسة ترامب في فترة ولايته الثانية قد تكون مختلفة حتى عن سياسة ولايته الأولى. فقد ملأ ترامب المناصب المهمة في السياسة الخارجية والأمن القومي بشخصيات يمينية متطرفة، وبعضهم لا يتجاوز عمره 50 سنة، وهو ما يمثل خروجًا عن نوعية كبار المسؤولين الذين اختارهم بعد انتخابات سنة 2016، كما أن العديد منهم بلغوا سن الرشد خلال صعود الصين الصاروخي على الساحة العالمية، لذا فهم يرون الصين على أنها التهديد الرئيسي للولايات المتحدة، ويفضلون سياسات أكثر تطرفًا لقمعها.

قد لا تنجح هذه المقاربة المتشددة بشكل جيد في السياق الجيوسياسي الذي تغير كثيرًا منذ ولاية ترامب الأولى. فعندما دخل ترامب البيت الأبيض في سنة 2017، اعتقدت معظم الدول أنه سيتصرف كزعيم تقليدي أيديولوجيًا، وكصانع قرار عقلاني اقتصاديًا. وقد دعت بكين ترامب لزيارة الصين في السنة الأولى من ولايته. ورغم معارضة الولايات المتحدة لضم روسيا لشبه جزيرة القرم في 2014، دعا الكرملين ترامب إلى موسكو في سنة 2017 لحضور احتفال روسيا السنوي بالانتصار في الحرب العالمية الثانية.

لكن القادة يحرصون هذه المرة على حماية بلدانهم من حالة عدم اليقين التي قد تُحدثها ولاية ترامب الثانية. فقد دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ترامب إلى باريس في أوائل كانون الأول/ ديسمبر، على أمل أن يؤكد للرئيس المنتخب أن الأوروبيين هم أصحاب القرار عندما يتعلق الأمر بأمنهم.

وتشعر ألمانيا واليابان بالقلق من أن يطالب ترامب بمزيد من المدفوعات المالية لضمان الوجود العسكري الأمريكي في بلديهما، وتخشى الحكومة المؤقتة في كوريا الجنوبية من أن يستغل ترامب افتقارها للسلطة لانتزاع مكاسب اقتصادية.

وسيتعين على ترامب أن يتعامل مع حقيقة أن روسيا والولايات المتحدة الآن على طرفي نقيض في الحرب في أوكرانيا، كما أن دعم واشنطن السياسي الثابت والمساعدات العسكرية التي قدمتها واشنطن للعملية الوحشية التي قامت بها "إسرائيل" في غزة - والتي يعتبرها الكثيرون في العالم عملاً من أعمال الإبادة الجماعية - قد كشف المزيد من النفاق في ادعاءات الولايات المتحدة بمناصرة القانون الدولي وحقوق الإنسان.

أصبحت بكين الآن أكثر مهارة في إدارة منافستها مع واشنطن، ويمكن القول إن هذه المنافسة بدأت بشكل جدي في 2010 عندما شرع الرئيس الأمريكي باراك أوباما في "التوجه نحو آسيا"، وقد تعاملت بكين مع الاستراتيجيات المختلفة لإدارات أوباما وترامب وبايدن.

حاول أوباما وبايدن احتواء الصين من خلال مقاربات متعددة الأطراف، بينما اتخذ ترامب مسارًا أكثر أحادية. لذا، فإن القادة الصينيين ليسوا منزعجين من فوز ترامب بولاية أخرى، حتى أنهم أصدروا علنًا مبادئ توجيهية استراتيجية حول كيفية التعامل مع السياسات المحتملة للرئيس المنتخب. ووفقًا للوثيقة التي نشرتها القنصلية العامة للصين في لوس أنجلوس في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر، ستلتزم بكين بـ "الاحترام المتبادل والتعايش السلمي والتعاون المربح للجانبين كمبادئ للتعامل مع العلاقات الصينية الأمريكية".


الاضطرابات المقبلة
أشارت المجلة إلى أن ترامب يبدو عازمًا على الانخراط في الحمائية الاقتصادية، خصوصًا مع الصين، وقد أشار إلى أنه قد يفرض المزيد من الرسوم الجمركية على البضائع الصينية. ويفرض المزيد من القيود على الاستثمار الأمريكي في الصين وكذلك على رأس المال الصيني في سوق الأسهم الأمريكية، ستؤدي هذه القرارات حتمًا إلى مزيد من المشاحنات بين بكين وواشنطن.

وقد مددت إدارة بايدن التعريفات الجمركية التي فرضها ترامب على المنتجات الصينية خلال فترة ولايته الأولى، لكنها ركزت بشكل أساسي على استبعاد الصين من سلاسل التوريد التكنولوجية، ولم تسعَ إلى فصل الاقتصاد الأمريكي عن الصين بشكل شامل، ولكن من المرجح أن يدفع ترامب في فترة ولايته الثانية لفصل أوسع نطاقًا ويحاول تقليل حصة المنتجات الصينية في الولايات المتحدة، ومن المرجح أن ترد بكين بالمثل، وقد تؤدي ديناميكية المعاملة بالمثل إلى دفع الحرب التجارية المشتعلة بين القوتين إلى مستويات جديدة، مما قد ينتج عنه عواقب وخيمة على الاقتصاد العالمي.

وبينما يتجه ترامب إلى تصعيد الحرب التجارية، من المرجح أن تكثف إدارته الضغط العسكري على بكين، فلطالما لجأ ترامب للتعامل مع خصومه عبر تكتيكات التنمر والخداع، مثل تهديده بمهاجمة كوريا الشمالية بـ"النار والغضب" في 2017.

ويُعتبر كل من ماركو روبيو، مرشح ترامب لمنصب وزير الخارجية، وبيت هيغسيث، المرشح لمنصب وزير الدفاع، من المتشددين المناهضين للصين والشيوعية. وإذا وافق مجلس الشيوخ على ترشيحاتهم، فقد يشجعون ميل ترامب للمناورة عندما تسعى الولايات المتحدة إلى معالجة التوترات العسكرية مع بكين، مما قد يؤدي إلى أزمات مع بكين حول بحر الصين الجنوبي وتايوان. وقد تُكرر واشنطن أزمات كتلك التي أعقبت زيارة نانسي بيلوسي لتايوان في 2022، حين ردّت الصين بتصعيد عسكري. ولا يُستبعد أن يتسبب ترامب أو مسؤولوه في حوادث مشابهة تزيد التوترات مع الصين.

وأضافت المجلة أن ولاية ترامب الثانية ستُجمّد الحوارات الرسمية مع بكين، التي تراجع عدد قنواتها من أكثر من 90 قناة رسمية في عهد أوباما إلى صفر بنهاية ولايته الأولى. ومن المتوقع أن يعلق ترامب قنوات بايدن الحوارية مع الصين والتي تبلغ 20 قناة ويستبدلها بأخرى تحت إشرافه المباشر. وستتعامل الصين بحذر مع ترامب، متذكرة تدهور العلاقات بعد زيارته لبكين في 2017 ورفض واشنطن وضع الصين كدولة نامية في منظمة التجارة العالمية.

قد تتصاعد العداوة بين الصين والولايات المتحدة على المستوى المجتمعي مع تصاعد الشعبوية والقومية في البلدين. وتنفيذ ترامب تهديداته الاقتصادية ضد الصين سيزيد التوتر السياسي ويشجع العداء بين الشعوب، حيث يحمّل الشعبويون في البلدين القوى الخارجية مسؤولية أزماتهم الداخلية. وهذا التوجه، المدعوم من الحكومات، سيجعل تحسين العلاقات الثنائية أصعب تحت ضغط اجتماعي وثقافي متزايد.

احذروا الفجوة
أشارت المجلة إلى أن ولاية ترامب الثانية قد تثير تصاعد التوترات مع الصين عبر الضغوط الاقتصادية والعسكرية، لكن قلة اهتمامه بالأيديولوجيا قد تخفف التنافس. فترامب لا يهتم بحقوق الإنسان أو تعديل النظام الصيني ولن تدخله في شؤونها الداخلية. ومن جانبها، تركز بكين على استقرارها الداخلي دون نشر أيديولوجيتها. وقد تزيد الصراعات الاقتصادية والاستراتيجية، لكنها لن تتحول إلى صراعات أيديولوجية تضع الدولتين على مسار تصادمي مباشر.

وأفادت المجلة بأن الانعزالية السياسية لترامب قد تدفع إلى تقليل دعم حلفاء الولايات المتحدة التقليديين. لطالما انتقد الرئيس المنتخب حلفاء الولايات المتحدة لاعتمادهم على قوتها وسخائها. وهذه الانتقادات قد تدفع الحلفاء، سواء في أوروبا أو شرق آسيا، إلى تبني استراتيجية الموازنة بين الصين والولايات المتحدة.

ومنذ 2022، أدت الحرب في أوكرانيا إلى تقارب أكبر بين الدول الغربية والولايات المتحدة. لكن إذا قلص ترامب المساعدات العسكرية لأوكرانيا، فقد تتراجع الثقة في وعود الأمن الأمريكية. ومن أجل دعم الجهود الأوكرانية، قد تصبح الدول الأوروبية أكثر تمسكًا باستراتيجية الموازنة، مما يفتح فرصًا للصين لتعزيز التعاون الاقتصادي مع الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة. ويرى ترامب نفسه كصانع سلام، وقد تلعب الصين دورًا في مساعدته على إنهاء الحرب، خاصة أنها تستفيد من ذلك اقتصاديًا ولديها نفوذ مع روسيا.



وذكرت المجلة أن ترامب سيسعى لتجنب الصراع مع الصين رغم خطابه المتشدد. وبينما يظل استقلال تايوان مصدر توتر، فإن حربًا بين البلدين غير مرجحة، حيث تركز الصين على إنعاش اقتصادها المتباطئ بدل وضع جدول لإعادة التوحيد. في المقابل، يطمح ترامب لترسيخ إرثه كرئيس عظيم، وسيُركز على الإصلاحات الداخلية وبناء اقتصاد قوي، متجنبًا التورط في قضية تايوان أو حرب كبرى، متمسكًا بفخره بعدم إشعال أي حرب خلال ولايته الأولى.

واعتبرت المجلة أن التوقعات بحرب باردة بين الصين وترامب غير دقيقة، فالمنافسة بينهما تتركز على التكنولوجيا وليس الأيديولوجيا. وتعتمد الصين والولايات المتحدة على الابتكار في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والتنافس على الأسواق وسلاسل الإمداد. ولا تسعى الصين لتغيير أيديولوجيات الدول الأخرى، ولا يهتم ترامب بنشر القيم الأمريكية. كما يرفض الحروب بالوكالة، معتبرًا حرب أوكرانيا مثالًا غير مقبول، ولا يُرجح إشعاله نزاعات مشابهة مع الصين التي تفوق روسيا في الموارد الاقتصادية والعسكرية.

مقالات مشابهة

  • الخارجية الصينية: بكين مستعدة لتوسيع التعاون العملي مع أعضاء مجموعة البريكس وشركائها
  • وزير التعليم يبحث مع سفير الصين التوسع في تدريس اللغة الصينية بمصر
  • أزمة لصناع المحتوى.. يوتيوب تشن حملة على الفيديوهات التي تحمل عناوين مثيرة للانتباه
  • الطائرات المسيّرة الصينية.. الحلول الفعالة التي تهدد الأمن القومي الأمريكي
  • تايمز: عندما يتعلق الأمر بالقيم البريطانية الأمر جد معقد
  • فورين أفيرز: لهذه الأسباب لا تخاف بكين من ترامب
  • بريطانيا تختبر سلاحا جديدا للتصدي للمسيّرات بتكلفة زهيدة
  • بريطانيا تختبر سلاحاً محورياً يدمر المسيّرات بـ10 بنسات
  • بريطانيا تختبر سلاحا متطورا لتدمير المسيّرات
  • أربكان: سنطبق الإعدام مثل السعودية!