القسام.. فكرة القوة أم قوة الفكرة؟
تاريخ النشر: 19th, March 2024 GMT
الجيش، نفوذ عسكري، كان ولم يزل، في نظر العديد من المؤرخين، ميزانًا للقوّة في مواجهة الأخطار الخارجية، وضمانًا لاستقرار الحكم والسيادة، ضمن ما يسمى: العنف المقنن، وهو ما ثبتَ وَهْمِيّتهُ، حسب ما صرح به نفرٌ من علماء الذرة، رأوا في مبدأ توازن القوى" السيئ السمعة" نظامَ حرب متكاملًا، إما يكرر إخفاقاته، وإما يصنع حربًا جديدة من بقايا أخرى لم تحقق أهدافها.
لم يَعُدْ اعتبار هذا النفوذ -الذي يتبلور إلى شكل من أشكال الجريمة التكنولوجية المنظمة- مجرد ممارسة شرعية للعنف، أمرًا ممكنًا، ولم تعد الذرائع الأمنية الفالتة من قبضة الضوابط الأخلاقية، كافية للاقتناع بأسباب النفوذ، ما دامَت أنها مفتوحة على حلْبة الجحيم، ومدججة بصواريخ نووية في رأس الشيطان، وكتائب دموية ليوم القيامة؟!
لم يكن المؤرخون الغربيون على خطأ إذن – نعوم تشومسكي مثالًا- عندما توقعوا انهيار المنظومة العالمية برمتها على يد الآلة التي فاقت الإنسان غرورًا وبلطجة، ورغم ذاك فإننا نشهد صعود فئة تصحح مسار التاريخ، عبر استعادة الإنسان من آليات استلابه ومحاولات تجريده من جوهره الإنساني، لتعيده إلى حقبة الفروسية، منذ أن كانت القوسُ سرًّا من أسرار الشرف العسكري، ولك أن تتخيل كيف خطفت " الولّاعة " في يد القسامي أنظار العالم المهووس بالتكنولوجيا، فأعادت الاعتبار للجندي (الرّامي) في زمن جيوش الروبوتيك والأوتوماتيك.
القسام إذن لم تكن قوة مسلحة، بل قوة متسلحة بعناصر قيمية، ورسالة إيمانية أشجع بكثير مما يحظى به جنديٌّ إسرائيلي وغربي، ملحد
أنماط الحروب وأخلاقيات التكنولوجياتحدث " فولتير" عن أولئك الذين يرفضون اعتبار القتل الجماعي جريمة، ما دام أنه يُرتكب خلال الحرب.. فالحرب تبرر عندهم كل شيء، ما دامت هي القوة، ولذلك فرضتْ روما العظمى التجنيد الإجباري، وقد حشدتْ من المرتزقة صفوة الصفوة لهيكلة جيشها الأسطوري، بينما كانت أسبرطة ترسل الأطفال من سن السابعة، للخدمة الإلزامية العسكرية التي تمتدّ حتى عمر" الستين" في مجتمعات أوروبية كرستْ تاريخها كله في ميادين الدم.
تلك أممٌ مَجّدَت الحروب، وجعلتْ لها آلهة تُساق إليها القرابين البشرية، في عبودية مطلقة لقوة الشر العمياء!
لم يختلف الواقع الغربي المعاصر عن نواته الفكرية الغابرة، فحضارة القوة هي قوة الحضارة الوحيدة، إذ تغدو تكنولوجيا السلاح المنطقة الآمنة لتجار الساسة والهيمنة، ليس لأنها توفر بيئة أخلاقية للصراعات الدولية تحدّ من الخسائر البشرية والعنف، وتحتكم إلى نظام معلوماتي دقيق وحاسم، بل لما تم نشره من قراءات لأكاديميين ومؤرخين، تُنبئ بانحسار التجنيد الإجباري في المستقبل المنظور، مقابل دور محوري للقوة النارية التكنولوجية في إدارة النزاعات وإطالة أمد الحروب، وهو ما نراه رأي العين في أوكرانيا، وغزة، التي توعد "يوآف غالانت" بخوض حربه ضدها في كل مكان، وإلى أجل غير مسمى!
فأين هي جيوش (السكراب) العربية من كل هذا؟ نحن لا نراها إلا في حفلات النصب أو التنصيب، بالتالي لا يمكنك أن تعتبرها أمة مسلحة على طريقة نابليون؛ لأن سلاحها ينخره السوس ورصاصها (فيشنغ)، لا يكفي سوى لحراسة ممالك مارقة، لا تعبر عن مفهوم الدولة القومية، ولا تليق حتى بمتاحف الشمع أو حروب الدانتيل!
أثارت الحرب السيبرانية جدلًا أخلاقيًا، لافتقارها لتجليات النبل والبسالة في الأداء كما في حقول المواجهة الميدانية، مقلصة بذلك المجال الحيوي لمشاعر الجماهير وعواطفهم الجياشة التي يتفاعل معها إيقاع المعركة والتمَثُّل البطولي للمحارب.
كاد هذا الطقس ينقرض فعلًا، لولا اللقطات الموثقة للقسام، التي تداولها نشطاء العالم على السوشيال ميديا، مأخوذين بمشاهد الإقدام والاستبسال والاستهداف من "المسافة صفر".
كسبت القسام المعركة الأخلاقية والإعلامية بجدارة، فأطاحت بالدعاية الغربية، التي تنضوي تحت لوائها الأهداف العنصرية لإعادة تدوير الحملات الصليبية، وأسطورة الأرض التوراتية، فحتى الوعي العالمي بدا ناضجًا بما يكفي لرفض اجترار السردية ذاتها مجددًا، وكأنه كان ينتظر قوة بمواصفات مختلفة – روحية وفكرية – يتماهى معها ويستلهم منها أسباب ثورته على المفاهيم المشوهة وأساليب تخدير الوعي وحرف الحقائق، فكانت: "الطوفان".
القسام إذن لم تكن قوة مسلحة، بل قوة متسلحة بعناصر قيمية، ورسالة إيمانية أشجع بكثير مما يحظى به جنديٌّ إسرائيلي وغربي، ملحد، لا يؤمن بالتوراة والإنجيل، وليس مستعدًّا لخوض حرب خارج الشاشات والتطبيقات الرقمية؛ لأن المعركة بالنسبة إليه جولة تسلية، أو لعبة أزرار، يقتحم غمارها بحكمته السوداء: تكنولوجيا الموت!
وهذا تحديدًا ما صنع الفارق الأخلاقي والبطولي بين النموذجين، من حيث أعاد المقاوم القساميُّ الاعتبار للجندية كالتزام منهجي تحكمه معايير العزة والكرامة التي تستنبط مقومات القوة من الإعدادات التربوية للنفس، وتكشف عن دلالات جديدة للقتال، والصمود والتضحية، ما يفوق احتمال البشر، واستيعاب العقل الغربي الذي لا يتوقع بالطبع، أن يضحي جنوده بأرواحهم في سبيل التكنولوجيا أو في سبيل البروباغندا، أو حتى في سبيل العنصرية!
سوق سوداء للمرتزقة والحيواناتيستند توماس فريدمان إلى علم النفس التطوري – ليفسر طبيعة الصراع بمنطق حيواني – فيعيد تدوير خطاب بابا الفاتيكان"أوربانوس الثاني- 1095″ لما دعا الأوروبيين إلى تحرير الكراهية بالبحث عن موارد الكلأ والسكن، في أراضي كنيسة القيامة، ثم نزعها من العرق الملعون، مُقدمًا لهم حروبَ بقاءٍ حيوانية، وصكوكًا للغفران يُدخلهم بها الجنة.. فهل هناك جنة للحيوانات غير الغابة، يا بابا؟!
الحروب بهذا الفهم الشاذ، لن تكون (عملية سياسية بطرق مختلفة)، فالحيوانات لا تتعاطى السياسة، ولم تعرف الخصخصة التي عمتْ أوروبا في عصورها المظلمة، حيث كانت الإمبراطوريات " البيضاء الفاضلة"، تُشيّد أجنحة عسكرية "5 نجوم" لمرتزقة تشتريهم من سوق العبيد، تمامًا كما يفعل الاحتلال مع مرتزقة جدد يلتقطهم من السوق العنكبوتية السوداء، ليلقي بهم في حفرة الجحيم!
لا يختلف فريدمان عن زميله في مزرعة أورويل للحيوانات: " روسو"، فقد اعتبر هذا الحربَ شكلًا من أشكال العلاقات بين دول عالم الحيوان، مع العلم أن عتاة الجنرالات لم يغادروا الغلاف الفلسفي لمقالة فريدمان، حين رأوا في الحرب حرباء الغابة، فما الذي أبقته شلة داروين هذه، لأبناء آدم من حكمة وعقل، يا ربّاه؟!
يقولون لك إن الدول تصنع الحروب كما تصنع الحروب الدول، ما يعني أن الحرب عقيدة، وطريقة يؤسسها كهنة المقامات من أصحاب الدم الأزرق، ويتشربها أتباعهم ومريدوهم، أما المال فطقس من طقوس الدخول في مسالك العقيدة، وأما الجيش الإسرائيلي فلم يبارح مزرعة عمه أورويل، حتى بعد ترقية الغابة إلى مملكة، في مقالة فريدمان للنيويورك تايمز، لكنه نسي أن جيش المرتزقة لا يملك عناصر الانتماء الموجودة في المجتمعات الحيوانية، والتي يستبسل أفرادها بالدفاع عنها حتى الموت، ولذلك لن يجد نتنياهو قردًا محترمًا، يستعين بفئران مأجورة لحماية جمهورية الموز خاصته، فمهام الشرف لا توهب للُّقطاء أو للفرائس، حتى في عالم الحيوان!
الأمانة الإلهية في سورة العادياتيضع موقع أكاديمية " جنيفا" قائمة لأكثر من خمسة وأربعين نزاعًا مسلحًا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مع مصادر نشأتها ودعمها الأجنبية.. بحيث تغدو مليشيات النزاع أشبه بحجارة النرد اليابانية" غو"، التي يتحكم بها لاعبان يوسّعان رقعة اللعب حسب الحاجة.
تدير أميركا الحجارة في سياق من الشراكة الإستراتيجية، وخصخصة الحروب عبر عملاء مزدوجين: (مسلحين موقوتين، أو جيوش بديلة) لصالح كيان "إسرائيل" يفتقر إلى "محاربين أبطال".. ما يؤكد أن الحربَ عنصر وجودي لأميركا وإسرائيل، ولكن بنسق تجاري له وجه إقطاعي يحول المسلح إلى سلعة، والجندي إلى كبسة إلكترونية بمواصفات تناسب آلهة الحروب ومتطلبات السوق.
ولهذا تحديدًا لا يمكنك أن تعتبر القسام حجر طاولة في هذه المعمعة، ما دام أن القسام فكرة لها منطقها النفسي ومبدؤها الوجودي الذي يتحرك بين حسْنَيَيْن: النصر أو الشهادة؟
لو تأملتَ الخيول ضمن الرؤية القرآنية، في سورة العاديات تحديدًا، لوجدتَ أن الفروسية هي الرسالة وهي الأمانة، فمشهد الإغارة وما يسبقه من تدرجات ذهنية واستنفار روحي، يصاحبهما تصاعد أدائي مُحكم – لا يشوبه تخاذل ولا تردد – ما هو إلا انعكاس بلاغي للمقومات النفسية للمحارب المسلم، الذي لا يتعامل مع الحرب كهدف للبقاء أو الهيمنة، بل كاستثناء، لا بد من تجنبه قدر المستطاع، فمن اضطر لا باغيًا ولا عاديًا، فالجهاد سنام يقينه.
يتجاوز الإيقاع الفكري للمعركة القسامية ميدان المواجهة، إلى مجال أكثر حيويةً وامتدادًا: الجنة، وكل ما يحتاجه المحارب لإدراكها هو: تكبيرة ورمية وسجدة خلود، وكلها مشاهد حيّة رسّخت " الطوفان " كقوة مركزية تنطلق من مركز قوة نفسية، تتغلب على نوازعها، وتنعتق من أغلالها التي تشل الهمم وتكبل العزائم، بحيث يغدو هذا التشريح التقييمي للأداء، هو الحاضنة القيمية لخصال الشرف في المعركة: الحق والحماسة.
حسنًا إذن، الجنة هي الأمانة الإلهية في الفكر القسامي، أما الحرب التي لا قلب لها، فهي في الفكر الدارويني حجر الفلاسفة الصّدِئ، أو العشبة الملعونة للغابة: العنصرية!
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: رمضان 1445 حريات
إقرأ أيضاً:
الجزيرة.. البناء الإيجابي بـ «الخطوات الثماني»
مراد المصري (أبوظبي)
واصل الجزيرة خطوات التقدم في عملية إعادة ترتيب الصفوف هذا الموسم، حيث منحه الفوز على دبا الحصن 1-0، «النقطة 30» هذا الموسم، في «دوري أدنوك للمحترفين»، بزيادة 8 نقاط عن حصيلته «22 نقطة» مع نهاية «الجولة 18» في الموسم الماضي.
ونجح «فخر أبوظبي» في حصد الفوز التاسع، مقابل 3 تعادلات، و5 خسائر، في ختام ا«لجولة 18» من الموسم الحالي، مقارنة بـ 6 انتصارات، و4 تعادلات، و8 خسائر في التوقيت نفسه من الموسم الماضي.
وإلى جانب محاولة الجزيرة إنهاء الموسم في أفضل مركز ممكن بالدوري، بعدما أنهى الموسم برصيد 35 نقطة فقط، ويواصل المنافسة على لقبي كأس صاحب السمو رئيس الدولة، وكأس مصرف أبوظبي الإسلامي، وذلك بعد تغييرات عديدة على صفوفه خلال الصيف الماضي، في خطوات إيجابية من الإدارة، لإعادة البناء بشكل سليم، وبقيادة مدرب جديد هو المغربي الحسين عموتة، مع رفع جودة الأجانب بضم لاعبين مثل محمد النني ونبيل فقير، ومنح مساحة أكبر للاعبين المقيمين، مع مواصلة اقتناص المواهب الشابة، في عمل سيكون له الأثر المهم، سواءً في الموسم الحالي، أو خلال الموسم المقبل أيضاً.
وأكد عموتة عقب المباراة، أن الفوز يعتبر مهماً، وإن جاء بصعوبة أمام منافس يلعب بشراسة، بحثاً عن حصد النقاط في هذه المرحلة من الموسم، وقال:«صنعنا 5 أو 6 فرص محققة للتسجيل، لم نوفق في ترجمتها إلى أهداف، وتأخر الهدف، لكن بالإصرار والعقلية القوية نجحنا في حصد الفوز في النهاية».