ينتهي دور الإنسان في الأخير في إطار العبادة لله، في الشهادة بكمال الله

الثورة /
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللَّهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.


اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
البداية في حديثنا على ضوء الآيات المباركة، التي تقدِّم لنا القصص المتضمن للدروس والعبر، والذي فيه الهداية الواسعة لنا، فيما نحتاج إليه في واقع حياتنا، وأداء مسؤولياتنا، وما نواجهه من تحدياتٍ في هذه الحياة، البداية من البداية، في حديث القرآن الكريم عن بداية وجود الإنسان، وعن خلق الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” لآدم “عَلَيْهِ السَّلَام” أبي البشر، وهي قصةٌ عظيمةٌ ومهمةٌ، وتضمنت الكثير من الدروس والعبر، الدروس حتى للملائكة، وللجن، وللإنس.
وتحدث القرآن الكريم عن آدم “عَلَيْهِ السَّلَام” وعن خلقه فيما يقارب الثلاثين موضعاً في القرآن الكريم، فتكررت قصة آدم، وقصة خلقه، وقصته مع الملائكة والسجود، وقصة دخوله في الجنة التي سكنها ثم أُخرج منها، تكررت كثيراً؛ لما فيها من الدروس المهمة جداً، والتي- للأسف- لم تحظَ بالاهتمام اللازم من جهتنا نحن البشر، للاستفادة منها، بما كان سيقينا الكثير من المتاعب والشقاء، وكان له أهمية كبيرة في أن نسير في حياتنا بالاستفادة من التجربة الأولى في وجودنا كبشر على هذه الأرض.
يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في القرآن الكريم: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا}[الإنسان: الآية1]، ما قبل الإنسان بزمنٍ طويل خلق الله السماوات والأرض، وخلق الملائكة بأعداد كثيرة جداً وهائلة، وخلق أيضاً على الأرض عمرها بالكائنات، وبث فيها من كل دابة، وهيأها مسبقاً- قبل خلق الإنسان بدهرٍ طويل- هيأها للإنسان.
قبل خلق الإنسان أيضاً كان هناك مخلوقاتٌ أخرى قد خلقها الله، كما ذكرنا عن الملائكة بأعداد كبيرة وهائلة في السماوات، نشرهم الله في السماوات، وخلق الجان أيضاً قبل خلق الإنسان، كما قال “جلَّ شأنه” في القرآن الكريم: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ}، يعني: من قبل خلق الإنسان، {مِنْ نَارِ السَّمُومِ}[الحجر: الآية27]، فقد مضت فترة طويلة على الأرض قبل أن يُخلق فيها الإنسان، وقبل أن يوجد عليها الكائن البشري، ثم إن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” ما بعد ذلك خلق الإنسان.
في دور الملائكة في السماوات، ومهامهم المتنوعة، تحدث القرآن الكريم عن بعضها، في عبادتهم الدائمة لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فيما يتعلق بعبادة التسبيح والتقديس: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ}[الأنبياء: 20]، ثم مهام أيضا تتعلق بالكون، مهام جعلها الله إليهم، ومهام ارتبطت فيما بعد بالإنسان، مثل: الحفظ للإنسان، والحفظ لأعماله، والتوفي للإنسان، ومسألة النزول بالوحي إلى أنبياء الله ورسله، وغير ذلك من المهام، يمكن أن نتحدث عن بعضها لاحقاً إن شاء الله.
فعلى الإنسان أن يتذكر هذه الحقيقة أولاً: أنه لم يكن شيئاً مذكوراً، وخلق الله السماوات والأرض، وخلق الملائكة، وخلق الجان، وبث في الأرض من كل دابة، قبل أن يُخلق، ثم إن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” خلقه، ووهبه الحياة، واستخلفه في هذه الأرض، وسخر له ما في السماوات وما في الأرض؛ ولهذا يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ}[البقرة: من الآية28].
الإنسان لم يكن موجوداً، لم يكن حياً، لم يكن في ما هو عليه بعدما خلقه الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” من وجود، مستخلفٍ فيه في هذه الأرض، أنعم الله عليه بالنعم التي لا تحصى ولا تعد، كان من قبل لا شيء، كان في عداد العناصر الميتة في تربة الأرض؛ لأن الإنسان خُلِق منها، فكان ما قبل ذلك مجرد عناصر ومعادن ميتة، لا حياة فيها، بين تربة الأرض، ثم إن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” ابتداءً بخلق آدم أبي البشر “عَلَيْهِ السَّلَام”، ثم بخلق نسله، حتى السلالة من الماء المهين التي يتكون منها البشر، يخلقهم الله منها، ما بعد آدم “عَلَيْهِ السَّلَام” هي من عناصر تربة الأرض، تنتقل إلى الإنسان بواسطة الغذاء، ثم تتحول في خلق الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” لها إلى ذلك الماء المهين، ثم يخلق الله منها الإنسان.
فالإنسان في بداية وجوده كنوع، ككائن، ثم على مستوى كل شخصٍ مِنَّا، لم يكن شيئاً مذكوراً، ولم يكن على قيد هذه الحياة، بل كان عناصر ميتة، لا حياة فيها، ولا وجود لها، ولا دور لها في إطار الاستخلاف، {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ}، الله هو الذي أحيانا، ووهبنا الحياة، وأنعم علينا بالوجود كبشر، واستخلفنا في هذه الأرض، وأنعم علينا بنعمه الواسعة.
{فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[البقرة: الآية28]، فبدايتنا من الله بخلقه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” لنا، وإيجاده لنا، وأن وهبنا الحياة، وأن أحاطنا برعايته ورزقه، ونعمه التي لا تحصى ولا تعد، والمصير إليه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}[البقرة: من الآية29]، الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” ربط حياة الإنسان في احتياجاته ومتطلباته بأشياء كثيرة جداً، لا أكثر من متطلبات الإنسان، احتياجاته واسعة، وكثيرة، ومتنوعة: ما يحتاجه لغذائه، ما يحتاجه لملابسه، ما يحتاجه لعلاجه، ما يحتاجه لمساكنه، ما يحتاجه لمختلف شؤون حياته، احتياجاته واسعةٌ جداً، والله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أنعم عليه بهذه الاحتياجات والمتطلبات، ووفر له في الأرض معيشته في كل ما يحتاج إليه، في كل متطلبات حياته، وفرها لهذا الإنسان في الأرض بشكلٍ واسعٍ وعظيم، {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}، كله منه، من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، خلقه للبشر نعمةً عليهم، {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[البقرة: من الآية29].
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}[البقرة: من الآية30]، الملائكة الذين خلقهم الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” قبل خلق الإنسان بوقتٍ طويل، وبأعداد هائلة، وبمهام متنوعة، ونشرهم في أرجاء سماواته، بتلك الأعداد الكبيرة جداً، باعتبار دورهم المنوط بهذا الإنسان، والمتعلق به، بعد أن يخلقه الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” ويستخلفه في هذه الأرض، وباعتبار ما سيحصل في هذه القصة من الدروس والعبر، ومن دروس في مجال الهداية حتى للملائكة، والاختبار الذي سيواجهونه في ذلك، كان الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” قد أخبرهم بأنه سيستخلف على الأرض كائناً ومخلوقاً جديداً، يخلقه على هذه الأرض، لدورٍ واسعٍ في هذه الأرض، يختلف عن دور بقية ما فيها من الدواب: دور الاستخلاف في الأرض، وسنتحدث عن مفهوم الاستخلاف.
فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أخبر الملائكة مسبقاً؛ لأنهم سيرتبطون بدور في حياة هذا الإنسان، ولذلك بما أخبرهم الله به، وشرح لهم عن حالة هذا الإنسان الذي سيستخلفه في الأرض، وعمَّا سيحصل من البشر أثناء استخلافهم في الأرض، في أطار دورهم في هذا الاستخلاف، كان لدى الملائكة معرفة بما أخبرهم الله إياه، وليست المسألة كما يتصور البعض: مجرد تقدير من الملائكة، أو توقعات من جهة الملائكة، أو قياساً على كائنات أخرى كما يقوله بعض المفسرين، المسألة عندما تحدثوا هم في تساؤلهم على طريقة القطع كان هذا يدل على أن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” قد أخبرهم مسبقاً، ثم هذا الإخبار الثاني هو عندما أتى الوقت لخلق هذا الإنسان، فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أخبرهم قبل ذلك بوقت، أنه سيستخلف على هذه الأرض البشر، وشرح لهم عن أحوال البشر، وعمَّا يحصل منهم على وجه الإجمال ربما، ثم أخبرهم للمرة الثانية عندما أتى الوقت لذلك، بمعنى في قوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}، أنه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أراد أن يخلق هذا الإنسان، وأتى وقت خلقه، الوقت المحدد في تدبير الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” وعلمه.
{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[البقرة: من الآية30]، بما كان قد عرفه الملائكة مسبقاً بإخبار الله لهم، مما سيحصل من بعض البشر من مظالم ومفاسد على الأرض، ومنها سفك الدماء، والذي هو من أكبر المآسي في واقع الإنسان، ومن أكبر الجرائم والمظالم، أن يصل الحال في ظلم البشر لبعضهم البعض، أن يقتلوا بعضهم بعضاً عدواناً وظلماً، جريمة رهيبة جداً، ضج منها الملائكة، واستفظعوها واستعظموها، والإفساد في الأرض كذلك بأنواع كثيرة من الفساد.
فالملائكة، وهم الذين يقدسون الله، ويسبحون الله، ويعبدون الله بعبادة التسبيح، والتعظيم، والتمجيد، وهم الذين لا يريدون أن يكون على هذه الأرض من يتحرك فيها بالإفساد فيها، بالسفك للدماء، بالظلم، بالمعاصي لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هذا يعود أيضاً من جهة إلى: ما هم عليه من التعظيم لله، والحالة الإيمانية الراقية، لا يريدون أن يكون في شيءٍ مما خلقه الله من الأقطار، خلق السماوات والأرض، وخلق الكون الشاسع الفسيح جداً، أن يكون في هذا الكوكب، في هذا الحيز من هذه الأجرام السماوية، من يعصي الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ومن يرتكب المفاسد، والجرائم، والمظالم، يعود هذا إلى واقعهم الإيماني، إلى حالتهم الإيمانية من جهة.
ومن جهة ثانية: لم يكن لديهم معرفة كاملة بمفهوم الاستخلاف، وطبيعة الدور الذي يقوم به الإنسان في هذه الأرض، ونظروا إلى المسألة من زاوية واحدة، هي هذه الزاوية: ما يحصل من بعض البشر من مظالم، وجرائم، وإفساد في الأرض.
ولم يكن تساؤلهم هذا من قبيل الاعتراض على الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فهم خاشعون لله، خاضعون لله، قال الله عنهم: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[التحريم: من الآية6]، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[النحل: الآية50]، {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}[الأنبياء: 26 – 27]، فالله أثنى عليهم في القرآن الكريم، بتسليمهم لأمر الله، بخضوعهم لله، بطاعتهم لله، بذوبانهم في العبودية لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ولكنها حالة الاندهاش والحيرة والاستغراب، نظراً من زاوية محددة، وهي هذه الزاوية: الاستنكار لما يفعله البعض من البشر في هذه الحياة، فكانوا مستغربين، مندهشين ومحتارين، وكانوا أيضاً مستائين من ذلك الدور السلبي، الذي سيأتي من بعض البشر، عصياناً لله، وإفساداً في أرضه، وسفكاً للدماء، وارتكاباً للجرائم والفظائع؛ فلذلك تساءلوا هذا السؤال، وعبَّروا عن استعدادهم للقيام بمهمة الاستخلاف في الأرض، التي فهموها في الإطار العام الذي يفهمونه، باعتبار أنهم يعرفون أن أي دور لأي مخلوق هو في إطار العبودية لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهم يعبدون الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” بالتسبيح، والتقديس، والتعظيم، والتمجيد لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فعندما قالوا: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}[البقرة: من الآية30]، هم يعرضون استعدادهم أن يقوموا بهذا الدور في الاستخلاف في الأرض، في إطار العبودية والعبادة لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
{قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[البقرة: من الآية30]، في واقع الحال كان واجب الملائكة، يعني: كان الذي يفترض منهم هو عدم التساؤل أصلاً؛ باعتبار أنهم يؤمنون بعلم الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، أنه بكل شيءٍ عليم، وهو يعلم ما سيحصل من بعض البشر، وهو الذي أعلمهم قبل ذلك بما سيحصل من بعض البشر، وشرح لهم عن حالة الإنسان، وأيضاً هو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” هو أحكم الحاكمين، هو العليم، الحكيم، القدوس، هو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في حكمته من دبَّر هذا التدبير أن يخلق هذا الإنسان، وأن يستخلفه ضمن هذا الدور المنوط به في الأرض…إلخ. ولذلك كان مقتضى إيمان الملائكة: ألَّا يتساءلوا هذا التساؤل، وأن يُسَلِّموا لأمر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأن يتقبلوا المسألة من جانب الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ لأن هذا شيءٌ منه، {إني جاعلٌ} يقول لهم، {إني}: هو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهو العليم، وهو الحكيم، وهو أحكم الحاكمين، وهو القدوس العظيم، والعلي العظيم، والعزيز “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، إلى بقية أسمائه الحسنى.
ولذلك كان مقتضى إيمان الملائكة: أن يسلِّموا لأمر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ لأنه عالمٌ أصلاً بما سيحصل من بعض الناس، وهو الحكيم؛ ولكنهم كانوا في حالة اندهاش وحيرة وتساؤل، ولديهم الرغبة في أن يعرفوا وجه الحكمة، ولديهم- كما قلنا- الاستياء من ذلك الدور السلبي لبعض البشر، الاستياء الشديد يعني من ذلك الدور السلبي لبعض البشر.
فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” خاطبهم بقوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[البقرة: من الآية30]، فهم كان ينقصهم معلومات عن طبيعة هذا الدور بالنسبة للإنسان، عن تناسب الإنسان مع هذا الدور في الاستخلاف على الأرض، عن واقع الملائكة أنفسهم كذلك، في ما كان خافياً عنهم، وسيأتي الإيضاح له في سياق الحديث على ضوء الآيات المباركة، ونظروا من زاوية واحدة، ولم يعرفوا طبيعة هذا الدور على وجه التفصيل، وما يترتب عليه، وأين ينتهي هذا الدور.
فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أراد أن يجعل من الحادثة نفسها، ومن هذا التساؤل نفسه، وسيلةً لهدايتهم، فهو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” بعد ذلك عمل ما يعالج لهم هذا التساؤل، بطريقةٍ يرتقون حتى هم الملائكة في الاهتداء بهدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ لأن كل مخلوق: الملائكة، والجن، والإنس… الجميع بحاجة إلى هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، الجميع ليس في مستوى أن يكون قد وصل إلى الاكتفاء بنفسه، فلا يحتاج إلى هداية الله، فهم كانوا بحاجة إلى هداية الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأمام هذا التساؤل، وهذه الإشكالية التي ظهرت أمامهم، قدَّم الله لهم طريقةً عملية، تساعدهم على معرفة وجه الحكمة في الاستخلاف للبشر، وبداية وجودهم؛ ولذلك بعد قوله: {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}[البقرة: 30 – 31].
ما قبل تعليم آدم الأسماء خلق الله آدم، كما في الآيات المباركة، الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في الآية المباركة يقول: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ}[ص: الآية71]، وقال “جلَّ شأنه”: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}[الحجر: 28 – 29]، خلق الله آدم، الذي هو بداية الوجود البشري، وبداية النوع الإنساني، هذا النوع من الكائنات الذي هو الإنسان، بدايته آدم، خلق الله آدم من طينة الأرض، فالإنسان في بداية وجوده، وفي استمرار تواجده، مخلوقٌ من طينة الأرض نفسها، فهو كائنٌ أرضي، ليس مخلوقاً من خارج الأرض، ثم أتى إلى كوكب الأرض، خلقه الله من هذه الأرض، من طينتها، من عناصرها.
وعندما خلق الله آدم خلقه كما قال “جلَّ شأنه”: {مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}[الحجر: من الآية26]، الحمأ هو: نوعٌ من الطين، الذي قد بقي لفترة طويلة خاضعاً للرطوبة والمياه حتى تحوَّل إلى تربة لزجة سوداء، ثم سوِّي منه شكل الإنسان من ذلك الطين، عُجن منه شكل مُعَيَّن، وهيكل مُعَيَّن، أشبه ما نشاهده في التماثيل، سوِّي منه شكل الإنسان، وركِّب منه بشكل الإنسان تماماً، وتُرِك حتى يبس.
بعض التفاصيل التي تتعلق بمرحلة تكوين الإنسان من الطين، في بداية خلق آدم “عَلَيْهِ السَّلَام”، تأتي في بعض الأحاديث، في بعض الآثار، لكننا نكتفي بالحديث على ضوء الآيات القرآنية؛ للاختصار، ولئلا نقع في مزالق بعض المرويات غير الصحيحة، فالآية بيَّنت أنه خُلِقَ من الحمأ المسنون، الذي عُجن كثيراً قبل ذلك، ثم سوِّي منه هيكل، هيكل الإنسان تماماً، ثم نفخ الله فيه الروح، ووهبه الحياة، فتحوَّل إلى كائن بلحمه، وشحمه، وعظمه، وعروقه، ودمائه، وجلده، كما هو حال الإنسان تماماً، ووهبه الحواس التي وهبه إياها، والمدارك، والمواهب، والطاقات… وغير ذلك.
{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}[الحجر: الآية29]، فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” خلق آدم، وسواه، ونفخ فيه من روحه، والله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في خلق الإنسان، أولاً- كما قلنا- هو خلقه من طينة الأرض، والإنسان كائنٌ أرضي، كما يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أيضاً: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}[طه: من الآية55].
أيضاً خلقه الله في أحسن تقويم، الله خلق الإنسان خلقاً مميزاً عن بقية الدواب التي على وجه الأرض، فخلقه في أحسن تقويم، وكرَّمه في خلقه، على المستوى الجمالي، على مستوى التركيب، على مستوى ما وهبه إيَّاه، بما يتناسب مع طبيعة ودور الاستخلاف على الأرض، والمهام الواسعة للإنسان في هذه الحياة، وجعل له السمع، والبصر، والفؤاد، والمدارك، التي تساعده وفق هذا الدور الواسع، الذي يختلف عن بقية الدواب على هذه الأرض، وكرَّم الإنسان، وأنعم عليه نعماً عظيمة، كما قال “جلَّ شأنه”: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}[الإسراء: الآية70].
فبداية خلق البشر، ببداية وجود آدم، وبهذه الطريقة، يعني: ابتدأ الله خلق الإنسان من الطين، وثَّقها الله وبيَّنها لعباده في القرآن الكريم، وما قبل القرآن في كتب الله السابقة، وهذه مسألة مهمة للإنسان أن يعرفها، ويعرف أنَّ الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” خلقه ككائنٍ أصيل من بدايته، يعني: هذا النوع الإنساني من بدايته كان إنساناً منذ خلقه الله، منذ الإنسان الأول، الذي هو أبو البشر آدم “عَلَيْهِ السَّلَام”.
ولذلك فنظرية [التطوُّر] هي سخيفة، نظرية باطلة، لا مستند لها، ولا حقيقة لها، هي نظرية تافهة، وسخيفة، ولم يكن ينبغي أبداً أن يتقبَّلها الغرب، وأن تنتشر في الأوساط الغربية لعقودٍ من الزمن، أو لمدة طويلة، أكثر من مسألة عقود من الزمن، لفترة طويلة من الزمن؛ بينما لم تكن منذ البداية تستند إلى أساسٍ علمي، كانت مجرد نظرية، وتصوُّر خاطئ، تصوُّر خاطئ لا يستند إلى حقائق أبداً، ويكذِّب بآيات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ويكذِّب بحقائق الواقع التي نراها في واقع الحياة.
لو كانت نظرية [التطوُّر] صحيحة؛ لكانت مستمرة، فهم عندما زعموا أنَّ أصل الإنسان قرد، ثم تطوَّر إلى كائن بشري مع الوقت، لو كانت المسألة كما يقولون لاستمرت، ولكانت القردة باستمرار تتطور إلى بشر، وتتحول إلى كائنات بشرية، بعد كل فترة دفعة جديدة تأتي من القردة ليتحولوا إلى كائن بشري، لكنها نظرية باطلة، وسخيفة، وليس لها مستندٌ علمي، وهي وفق ما يقدَّم في الغرب من سخافات تسيء إلى الإنسان، وإلى أصله، وإلى دوره، وإلى مسؤولياته ومهامه في هذه الأرض؛ فهم لا يريدون أن يؤمنوا بالكرامة التي وهبها الله لهذا الإنسان، أنَّ الله كرَّمه، كرَّمه في خلقه، وخلقه في أحسن تقويم، وكرَّمه في طريقة حياته، وأسلوب حياته، وفي رزقه، مثلما قال: {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ}[الإسراء: من الآية70]، الله كرَّم هذا الإنسان، وميَّزه عن بقية الدواب على الأرض في كل شيء: في خلقه، في رزقه، في أسلوب حياته، وطريقة حياته، وفي دوره الواسع والمهم والأصيل في هذه الأرض؛ فهم بتلك السخافات يسيئون إلى الإنسان، ويسعون إلى أن تتغير نظرة الإنسان حتى تجاه نفسه، وأن يتنكَّر لنعمة الله عليه، وأن يتنكَّر لدوره الحقيقي، ومسؤوليته المهمة على هذه الأرض.
فالإنسان مخلوقٌ وكائنٌ أرضيٌ، وبدايته هي هذه البداية: أنَّ الله خلقه، وكرَّمه، وأسجد له ملائكته، أسجدهم لآدم أبي البشر “عَلَيْهِ السَّلَام”، وفيه تكريم حتى للبشر أنفسهم بشكلٍ عام، وللإنسان ككائن ونوع من المخلوقات بشكلٍ عام.
الإنسان أيضاً- ككائنٍ أرضي- مخلوقٌ للاستخلاف، ما هو مفهوم الاستخلاف في الأرض؟ الاستخلاف في الأرض بالنسبة للإنسان هو في إطار العبودية لله تعالى، يعني: هو يؤدِّي دوراً كعبد لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، الله هو الذي خلقه، وأنعم عليه، ووهبه ما وهبه من الطاقات، والقدرات، والمدارك، التي تساعده على أداء دور معيَّن، دور في إطار العبودية لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهو يعود إلى عمارة هذه الحياة، وتطوير هذه الحياة؛ باعتبار أنَّ الإنسان رُبِطَ في احتياجاته، ومتطلبات حياته بهذه الأرض؛ ليعمل فيها، ليطوِّر فيها، لينتج فيها، ليستخرج ما أودعه الله فيها من النعم، وليستفيد منها، ولتكون عمارته لهذه الحياة، وحركته في هذه الحياة، وما يترتب عليها- يترتب عليها الشيء الكثير- على أساس القيام بالقسط، ووفق هدي الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” وتعليماته.
عندما يؤدِّي الإنسان هذا الدور وفق هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ تتجلَّى فيما أنعم الله به عليه من النعم الواسعة، وفي واقع حياته، مظاهر قدرة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، مظاهر لرحمة الله، مظاهر لكرم الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأيضاً لتدبيره العجيب، لألوهيته “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهي مظاهر في واقع الحياة بكلها، وفي الكون بكله، لكن لها في واقع الإنسان نمط جديد من الحياة، يختلف عن غيره، ثم يتجلَّى من خلال ذلك بكله الشهادة بكمال الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، يعني: فالإنسان يؤدِّي دوراً فيه عبادة لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ولكن لها أنماط وجوانب تختلف عمَّا عليه الملائكة، عمَّا عليه الملائكة؛ باعتبار أنَّ الإنسان في تكوينه وخلقه له متطلبات كثيرة: في غذائه، في طعامه، في شرابه، في ملابسه، في بقية متطلبات حياته: في متطلباته للعلاج والشفاء، في متطلباته للسكن والعمران… مختلف احتياجات الإنسان الواسعة، والتي تتسع وتتطور باستمرار، منذ بداية الوجود البشري كانت تتطور باستمرار، وتتسع باستمرار، ويتوسَّع الإنسان في إنتاجه في هذه الحياة؛ فهو يتحرك في هذه الأرض فيما أودع الله له فيها، وسخَّر الله له فيها؛ ولهذا يتحدث القرآن كثيراً عن نعم الله الواسعة، وعن التسخير، أنَّ الله سخَّر للإنسان هذه النعم، ليستطيع أن ينتفع منها بأشكال واسعة، وطرائق متنوعة، واحتياجاته فيها تتسع، وتزداد، وتتنوع إلى مستوى عجيب.
فينتهي دور الإنسان في الأخير في إطار العبادة لله، في الشهادة بكمال الله، هو عندما يتحرك في هذه الأرض، وما أودع الله له فيها، وما سخَّر له فيها، وفق هدي الله وتعليماته، وعلى أساس إقامة القسط؛ يسمو هذا الإنسان، وتتجلَّى أيضاً مظاهر رحمة الله، وكرمه، ونعمه العظيمة على هذا الإنسان بشكلٍ واسع؛ فهو يشهد بذلك بكمال الله، بعظمة الله، برحمة الله، ضمن الشواهد التي يمتلئ بها هذا الكون، ولكن- كما قلنا- بنمط يختلف عن بقية الأشياء.
في مخالفته لهدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” هو يجني على نفسه، عندما يُفسِد في الأرض، عندما يسفك الدماء، عندما ينحرف عن تعليمات الله؛ يسبب لنفسه هو المضار، الأخطار، الشقاء، العذاب؛ وبالتالي هو حتى بذلك- رغماً عنه- يشهد بعظمة هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وتعليماته المقدَّسة والمباركة، التي تدل على علمه وحكمته.
وهناك مثال رائع قدَّمه الشهيد القائد “رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ”، يُقَرِّب إلى الأذهان هذه المسألة: في واقعنا نحن البشر، عندما يذهب الإنسان إلى الطبيب، ويقدِّم لك وصفةً طبية، ويحذِّرك من أشياء معينة تؤثِّر على صحتك، فإذا التزمت بتلك الوصفة الطبية، وحصلت على النتيجة من ورائها؛ أنت ستشهد لذلك الطبيب بأنه ماهرٌ، وحاذقٌ، وصاحب خبرة ومعرفة في مهنته الطبية، وعندما لا تلتزم، وتعمل أو أنك مثلاً تمارس أشياء حذَّرك منها، أو تأخذ أشياء وتتناول أشياء حذَّرك منها، فتتضرر بذلك؛ أنت أيضاً ستلحظ ما قال لك، ما هو شاهدٌ على حكمته، على معرفته، على خبرته؛ لأنه كان قد حذَّرك، ونهاك، وبيَّن لك المخاطر الناتجة عن استخدامك لتلك الأشياء، أو تناولك لها.
فالإنسان في واقع حياته، عندما يسير وفق هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، في دوره في هذه الحياة، الذي هو دور مرتبطٌ به، بحياته؛ فهو سيرى هو وسيقدِّم أيضاً من واقع حياته الشهادة بحكمة الله، بعلمه، برحمته، بفضله، بكرمه، ويتجلى ذلك فيما تجلَّى من خلال عمله، والنتائج المترتبة على ذلك، وعندما ينحرف، فتكون المخاطر والعواقب التي حذَّره الله منها، هذا أيضاً فيه شهادة على علم الله، على حكمته، وهو حذَّر الإنسان من ذلك، ونهاه عن ذلك.
فالاستخلاف للإنسان في الأرض هو لدورٍ مهم، وواسع، ومتميز عن بقية الدواب على هذه الأرض؛ ولذلك فالإنسان أيضاً بهذا الدور، وبهذه المسؤولية الكبيرة، التي يتبين من الجزاء عليها عظمها وأهميتها، هو أُكرِمَ بهذا الدور، هي نعمةٌ كبيرةٌ عليه، أن خلقه الله في أحسن تقويم، بتلك الكيفية، ثم أن استخلفه لهذا الدور المهم، وأناط به هذه المسؤولية الكبرى، هذا أيضاً من التكريم للإنسان، فالإنسان وُجِدَ على هذه الحياة، ولهذا الدور ابتداءً؛ ولذلك فالإنسان ليس منفياً على الأرض، وهذا مما يرتبط به سوء فهم لدى البعض.
البعض يقدِّمون المسألة: أنَّ الإنسان نفي إلى هذه الأرض، أنه خُلِقَ في الجنة، بناءً- في تصوُّرهم- على أنها جنة الآخرة، ثم إنه بسبب معصية آدم نُفي نفياً إلى هذه الأرض، وأصبح منفياً على هذه الأرض.
الإنسان ليس منفياً على هذه الأرض، الإنسان خلق منها، وخلق للاستخلاف فيها، ووجِدَ لهذا الدور الذي هو دورٌ عظيم، ليس دوراً مسيئاً إليه، أو ينتقص منه، وفيه خيرٌ كبيرٌ له، وهو نعمةٌ عظيمةٌ عليه. وسنوضح هذه النقطة، ونتحدث عن بقية القصة- إن شاء الله- في القسم الثاني منها، في المحاضرة القادمة.
نَسْألُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّج عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

المصدر: الثورة نت

إقرأ أيضاً:

قائد الثورة : رسالة للمجرم «ترامب» بأن شعبنا ثابت بكل قناعة في مواجهة الطغاة المستكبرين

 

 

الثورة /

أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
خروج شعبنا اليوم، الخروج العظيم، الواسع، الكبير، في العاصمة صنعاء وبقية المحافظات، كان إحياءً عملياً جهادياً عظيماً للذكرى التاريخية العظيمة: ذكرى غزوة بدرٍ الكبرى، وأكرم وأنعم به من إحياء! إحياء بالموقف، إحياء بالعمل، إحياء بالاستمرار على الخط، والنهج، والطريق، في الصراط المستقيم، وهذه نعمةٌ كبيرةٌ، وتوفيقٌ من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».
في خروج شعبنا اليمنى في هذه الذكرى، ليؤكِّد على ثباته على موقفه المناصر للشعب الفلسطيني، ووقوفه ضد الطغيان الأمريكي والإسرائيلي، وتصديه للتصعيد العدواني الأمريكي تجاه بلدنا، هذا الخروج هو خروجٌ جهاديٌ في سبيل الله تعالى، في إطار الموقف الحق، الموقف الذي يرضي الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، ويُعبِّر عن هوية هذا الشعب، عن قيمه، عن انتمائه الإيماني الأصيل، عن وفائه لرسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ»، وللإسلام العظيم، عن أنه شعبٌ يتمسك بمبادئه الإسلامية العظيمة؛ ولـذلك هو شعبٌ يتمتع بالعزَّة الإيمانية، لا يقبل بالإذلال، ولا يقبل بالاستباحة، ولا يقبل بالخنوع لأعداء الله.
هذا الإحياء العملي، العظيم، المهم، هو تعزيزٌ يصل به هذا الشعب العزيز حاضره بماضيه المجيد، في نصرة الإسلام، في الجهاد في سبيل الله تعالى، في حمل راية الإسلام، وفي نفس الاتِّجاه، الاتِّجاه ضد الطغيان، الطغيان الكافر، طغيان قوى الشر، قوى الإجرام، قوى الكفر، القوى الظلامية، الظالمة، المفسدة، المستكبرة في الأرض، فمثلما كان الطغيان الكافر آنذاك مُتَمَثِّلاً بجبهة الكفر، التي حاربها رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ»؛ الطغيان الكافر الظالم في هذا العصر يَتَمَثَّل في أمريكا وإسرائيل، ومن يدور في فلكهم، شعبنا العزيز هو يسير في اتِّجاه الاقتداء برسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ»، والسير على نهجه وفي طريقه.
رسالة اليوم، التي قدَّمها شعبنا العزيز بخروجه الواسع العظيم، هي رسالةٌ واضحة:
• أولاً: للشعب الفلسطيني، شعبنا يؤكِّد لهم باستمرار أنهم لن يكونوا وحدهم، الشعب الفلسطيني لن يكون وحده، لن نقبل- كشعبٍ يمني- بأن يستفرد به العدو الإسرائيلي، بشراكةٍ وحمايةٍ أمريكية، للعمل على إبادته، وتجويعه، وتهجيره، وتصفية قضيته، ومصادرة فلسطين والمُقَدَّسَات في فلسطين، هذا هو الهدف الإسرائيلي والأمريكي، لكنَّ شعبنا لن يقبل بذلك أبداً؛ باعتبار موقفه الإيماني، والتزامه الديني والأخلاقي والإنساني، تجاه هذه القضية وهذه المظلومية.
• ورسالةٌ واضحة فيما يتعلق بالتصدِّي للعدوان الأمريكي، حينما أعلن الأمريكي جولةً جديدةً من العدوان على بلدنا، إسناداً منه للعدو الإسرائيلي؛ فشعبنا العزيز لن يقف مُتفرِّجاً تجاه هذا العدوان الذي يستهدفه، ويستهدفه لموقفه الحق، فشعبنا العزيز قدَّم رسالة صمود وثبات، في مواجهة الطغيان والعدوان الأمريكي.
• رسالةً للمجرم المعتوه الكافر [ترامب]، بأن شعبنا العزيز هو ثابتٌ بكل قناعةٍ، بكل بسالةٍ، بِعِزَّة الإيمان، بثقته بالله تعالى، واعتماده على الله، وتوكله على الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وإيمانه بوعد الله الصادق بالنصر، في مواجهة الطغاة المستكبرين.
ولـذلك فهذه الرسائل المهمة للأعداء، الأمريكيين والإسرائيليين أيضاً، والرسالة التي يؤكِّد بها شعبنا العزيز ثباته على موقفه في مناصرة الشعب الفلسطيني، هي رسائل واضحة وجليَّة، ومعها الموقف، البارحة اشتبكت قواتنا المسلحة المجاهدة مع حاملة الطائرات الأمريكية، التي هربت أثناء الاشتباك إلى أقصى شمال البحر الأحمر، تهرب إلى مسافة (ألف وثلاثمائة كيلو)، كذلك تصدَّت قواتنا المسلحة لمحاولات الأعداء لشن هجومٍ عدواني.
فهذه الرسائل العملية، في إطار الموقف الشعبي، وإطار الموقف من القوات المسلحة، في أدائها الجهادي العظيم، يجعل- فعلاً- من إحياء هذه المناسبة فرقاناً عظيماً في هذا العصر، فرقاناً مهماً بين الإسلام والكفر، بين الإيمان والنفاق، بين خيار الخنوع والذِّلَّة للكافرين، الذي يَتَبَنَّاه البعض من أبناء الأُمَّة للأسف، وبين الاتِّجاه الإيماني الثابت، بالعِزَّة على الكافرين، الامتداد لنهج الإيمان، لموقف رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ».
فأمام هذا المشهد العظيم، الذي كان واضحاً في الحضور المليوني لشعبنا العزيز، في إطار الموقف العملي الجهادي، نُقدِّم أيضاً من جديد التحذير للأمريكي: أن استمراره في عدوانه على بلدنا، إسناداً منه للعدو الإسرائيلي، إنما يدفع بنا إلى مواجهة تصعيده بخياراتٍ تصعيدية إضافية، نحن نواجِّه الآن عدوانه بالاستهداف لحاملة طائراته، بالاستهداف لبوارجه وقطعه الحربية في البحر؛ ولكن حينما يستمر في عدوانه لدينا خيارات تصعيدية أكبر من ذلك، وأكثر إيلاماً له، وإزعاجاً له، وغيظاً له من ذلك، فنحن نوجِّه إليه التحذير، وليستفد مما قدَّمه شعبنا العزيز اليوم من رسالة واضحة وقوية، تؤكِّد على ثباته على موقفه.
أيضاً بالنسبة للعدو الإسرائيلي، إصراره على منع دخول المساعدات إلى قطاع غزَّة، هو عدوانٌ كبير، إجرامٌ رهيبٌ وفظيع، لا يمكن السكوت عنه، ونحن حتى تجاه هذه المسألة، قلنا: موقفنا في حظر الملاحة على السفن الإسرائيلية هي خطوةٌ أولى، لكن عندما تشتد مجاعة الشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة، لا يمكن أن نتفرَّج وأن يكون موقفنا فقط عند هذا المستوى؛ لأن المعيار لمواقفنا هو: مسؤوليتنا الدينية والإيمانية والأخلاقية، مع فعل ما نستطيعه، وما نتمكن منه؛ ولـذلك لا نتردد عندما يستلزم الحال، وتقتضي المسؤولية، أن نُقْدِم على خطوة أكبر، أو عملٍ أكبر، فنحن مستعدون.
في محاضرة اليوم، نتحدث أيضاً- بعد أن نتوجَّه إلى شعبنا بالشكر والإشادة، ونسأل الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» أن يكتب أجركم، وأن يُبَيِّض وجوهكم، وأن يرفع قدركم، وأن يتقبَّل منكم هذا الخروج العظيم، والإحياء العظيم لهذه الغزوة المباركة لذكرها، في إطار الموقف والعمل الذي يرضي الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وَالتَّحَرُّك جهاداً في سبيل الله وابتغاء مرضاته- نتحدث في هذه المحاضرة عن غزوة بدرٍ الكبرى، بما تُقَدِّمه لنا، ونحن في إطار الموقف والعمل؛ ولأُمَّتنا، وهي بحاجة إلى التذكير بذلك، من دروسٍ وعبرٍ مهمة.
محاضرتنا في هذا اليوم سنبدأ فيها بمقدِّمات مهمة لهذه الغزوة، هذه الغزوة التي تُذَكِّرنا برسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ»، بمسيرته، بجهاده، وهو لنا الأسوة والقدوة، الذي نهتدي به، ونهتدي بسيرته، بمواقفه، بتحركاته، نحن نؤمن بأنه رسول الله وخاتم أنبياءه، القدوة، الأسوة، والهادي لنا إلى طريق الحق؛ ولـذلك عندما نعود إلى مثل هذه المناسبات، ونستذكر من خلالها ما هو جزءٌ من سيرة رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ»، فذلك في إطار الاهتداء، والاقتداء، والاتِّباع.
مسيرة رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ» في إقامة الدين، وفي بناء الأُمَّة، وفي الحركة في مختلف المجالات في هذه الحياة على أساس القرآن الكريم، هي مسيرة هدايةٍ للمسلمين على امتداد التاريخ، وليس فقط للجيل المعاصر له من المسلمين؛ وإنما يحسب هو «صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ» حساب كل الأجيال اللاحقة؛ ولـذلك فهو يتحرَّك بناءً على ذلك، يُقَدِّم في حركته، في ترتيباته العملية، في خطواته العملية، في مواقفه العملية، ما فيه الهداية لكل الأجيال المسلمة إلى نهاية التاريخ، ولا يحسب فقط حساب عصره وزمنه، فيما يقوم به في إطار حركته في إقامة دين الله، وبناء الأُمَّة، والعمل في مختلف المجالات على أساس هدي القرآن الكريم، وهذه مسألة مهمة بالنسبة لنا أن نعيها جيداً؛ لأنها تُقَدِّم لنا ما يقوم به رسول الله «صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ» في إطار الاهتداء، لنستفيد منه، ونهتدي به.
عادةً ما يدرس الناس الأحداث التاريخية؛ للاستفادة منها في معرفة الأسباب والنتائج، يعني: هذه من أهم ما يستفيد منها البشر، عندما يعودون لدراسة الأحداث التاريخية؛ ليستفيدوا منها- من واقع التجربة العملية التي قد حصلت- معرفةً بالأسباب والنتائج: أسباب النصر، وأسباب الهزيمة؛ وأن يدرسوا أسباب النجاح، أسباب الفشل… وهكذا، وهذه مسألة مهمة جدًّا، ومفيدة في نفس الوقت.
لكن فيما يتعلق بسيرة رسول الله «صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ»، والأحداث التاريخية في إطار جهاده وعمله، فهي مع أنها غنيةٌ جدًّا بالدروس المرتبطة فيما يتعلق بهذا الجانب، مدرسة كبيرة مهمة وملهمة في الدروس والعبر، فيما يتعلق بالأسباب، والنتائج، والسُّنَن في هذه الحياة، فهناك أيضاً اعتبار آخر مع ذلك، أرقى وأهم، وهو: أن رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ»، مع نجاحه العظيم الذي لا مثيل له؛ لأنه يُقاس فيه:
• الإمكانات البسيطة جدًّا، على المستوى المادي، وعلى مستوى العدد والعُدَّة.
• وفي نفس الوقت التعقيدات الكبيرة، على مستوى الظروف، والوضع، وجهة الأعداء.
• وحجم النتائج، والإنجاز العظيم الذي تحقق مع كل ذلك.
وهذه مسألة مهمة جدًّا، في نظرتنا إلى ما تحقق على يد رسول الله «صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ» والمؤمنين معه، وطبيعة ونوعية الإنجاز الذي حققه؛ لأنه إنجاز عظيم، يعني: صناعة تحوُّل كبير جدًّا في الوضع بكله، وفي مسار التاريخ.
مع كل ذلك، رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ» هو في موقع القدوة والهداية، هو رسول الله الذي يصلنا به انتماؤنا الديني والإيماني، على قاعدة وأساس الاتِّباع، الاتِّباع له؛ ولـذلك هذه ميزة كبيرة لسيرة رسول الله «صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ»، فرقٌ بين أن نقرأ- مثلاً- الأحداث التي في سيرته، والأحداث الأخرى:
• الأحداث الأخرى قد نستفيد منها في إطار استيعاب السُّنَن الإلهية، فيما يتعلق بالأسباب والنتائج.
• لكن هذا نستفيده من سيرة رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ»، وفي مقام الاهتداء، والاقتداء، والاتِّباع، من واقع هذه الصلة، وهذا الانتماء الإيماني.
ولـذلك يقول الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» في القرآن الكريم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب:21].
للأحداث التاريخية، التي غيَّرت مجرى التاريخ، وصنعت تحوُّلات كبيرة في واقع البشر والناس، لها أهمية خاصة بين بقية الأحداث، التاريخ مليءٌ بالأحداث، لكن هناك أحداث تختلف عن غيرها، بهذه الميزة: أنها أحداث غيَّرت مجرى التاريخ، صنعت تحوُّلات جديدة في واقع المجتمع البشري، كانت لها تأثيرات كبيرة، وممتدة عبر الأجيال، لم تكن تأثيراتها محدودة على مستوى ظرف مُعَيَّن، أو مجتمع مُعَيَّن، أو لزمن محدود؛ بل امتدَّت على مستوى نطاقها الواسع في الواقع البشري، وعلى مستوى الزمن، امتدَّت إلى الأجيال، لهذه الأحداث أهمية خاصة بين غيرها من الأحداث.
ومن تلك الأحداث التاريخية، التي لها هذه الأهمية، وهذه الميزة، هي: غزوة بدرٍ الكبرى، وأيضاً فتح مكة، وسيأتي الحديث عن فتح مكة في محاضرة أخرى إن شاء الله، هذه التأثيرات، هذه التحوُّلات، امتداد هذا التأثير إلى زمننا هذا، وما بعد زمننا إلى نهاية التاريخ؛ فلها أهمية كبيرة، ولها علاقة كبيرة بنا.
أُمَّتُنَا في هذه المرحلة بالذات، وهي في حالة كبيرة من الاستهداف، ويقابلها حالة كبيرة من التخبُّط في داخل الأُمَّة، على مستوى الخيارات، والقرارات، والمواقف، والتوجيهات، أُمَّتنا- بالنظر إلى كل ذلك- هي أحوج ما تكون إلى العودة إلى سيرة رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ»، واستلهام الدروس والعبر منها، ومن جهاده، من موقع التأسِّي، والاقتداء، والثقة، كما قلنا: العلاقة برسول الله هي علاقة إيمانية، وحركته ومسيرته هي مسيرة إيمانية، يعني: لم يكن يعمل ما يعمل، ويتَّخذ ما يتَّخذ من قرارات كآراء شخصية، بعيدة عن الموقف الإيماني والديني، أو منفصلةً عن الاعتبار الإيماني والديني؛ إنما كان يتحرَّك بنور الله، بهدى الله، وفق تعليمات الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، عن غزوة بدر، يقول الله له: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ}[الأنفال:5]، في إطار توجيهات الله، وتعليمات الله، ولـذلك فحركة رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ» العملية (في جهاده، في مسيرته) هي في إطار العمل لتطبيق تعليمات الله، وتنفيذ توجيهات الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»؛ فهي مدرسةٌ:
• في الالتزام الإيماني والديني.
• وفي الأداء للمسؤوليات الإيمانية والدينية على أساس ذلك.
فلها هذه القيمة، يعني: ليست المسألة أننا ندرس أفكار أشخاص، تصرفات أشخاص عاديين، في إطار تجاربهم كأشخاص عاديين، نحن عندما ندرس سيرة رسول الله ندرس الإسلام، ندرس الإيمان، ندرس الحق يتجسَّد عملياً في الواقع، يتحرَّك في ميدان الحياة، ونرى أنفسنا- بحكم انتمائنا الإيماني- مُلزمين بأن نسير في هذا الاتِّجاه، وأن نهتدي برسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ»، وبما قدَّمه، وتتعزز لدينا الثقة بأنها منهجية ناجحة.
رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ» تحرَّك بالقرآن الكريم، تحرَّك بتوجيهات الله وتعليماته، التي نقرأها في كتابه، ندرسها في القرآن، فكيف كانت النتائج؟ واجه ظروفاً صعبة، بالغة التعقيد، لكن كيف كانت النتائج؟ هذا نراه جَلِيّاً في سيرة رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ»؛ مما يعزز الثقة في الانطلاقة الإيمانية، مما يعطي الاطمئنان تجاه النتائج المهمة لتعليمات الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» حينما نتحرَّك على أساسها، أن لها نتائج عظيمة؛ لأنها من حكمة الله، من رحمته، بعلمه «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، ليست توجيهات عشوائية، ممن لا يعلم ما يجري في الزمن من متغيرات، ومن ظروف، هي تعليمات الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، الذي يعلم الغيب والشهادة، {يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}[الفرقان:6].
ولـذلك يجب أن ننطلق من هذا المنطلق في قراءتنا للسيرة، في نظرتنا إلى الأحداث في عصر رسول الله، في حركة رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ»، فتعاليمه القَيِّمَة هي على أساسٍ من نور الله وهدايته، ويجب أن ننطلق بثقة، وأن تتعزز هذه الثقة، وأن نستفيد منه في كيفية التطبيق.
ثم- بناءً على ذلك- أن تكون هي (القرآن الكريم، ومسيرة رسول الله وجهاده) معياراً لنا نحن المسلمين، في هذه المرحلة بالذات، لتقييم الآراء، والتوجيهات، والمواقف؛ لأن هناك- وللأسف الشديد- حالة تخبُّط كبيرة جدًّا في واقع الأُمَّة.
الأعداء يتَّجهون لاستهدافها، (الأمريكي، والإسرائيلي، والحركة الصهيونية اليهودية) يتَّجهون لاستهداف هذه الأُمَّة، ولديهم خيارات واضحة، وخطوات واضحة، ومواقف واضحة، وتوجُّه ناجز، ومحدد وواضح، يعني: ليست المسألة عندهم مسألة يغرقون على كل خطوة، على كل إجراء، على كل موقف، في جدل، وينشغلون، ويتعرقلون نتيجةً لذلك، لا، لديهم مخطط يسيرون عليه، ومشروع واضح، هو (المشروع الصهيوني)، هو الأساس الذي يتحركون عليه، ولديهم أهداف عملية محددة وواضحة، ولديهم سياسات محددة أيضاً وواضحة، كلها سياسات عدوانية، ويعملون على تحقيق المكاسب المرحلية؛ ليصلوا- في نهاية المطاف- إلى الأهداف النهائية، فلديهم وضوح في اتِّجاههم.
وللأسف الشديد، كان هذا لا ينبغي أن يكون لديهم وفي نفس الوقت مفقود لدى المسلمين، يعني: أن المسلمين هم الأولى، بأن يكونوا هم الذين يتحرَّكون ضد أعدائهم، على أساس المواقف الواضحة، والثوابت، وعلى أساس الرؤية الصحيحة المدروسة، والخطة الكاملة؛ لأن المواقف لدى المسلمين ليست مواقف ثابتة، هي مجرد ردود أفعال عارضة، يعني: كلما أقدم الأعداء على خطوة في نطاق مشروعهم الواسع؛ كانت ردة فعل المسلمين، المتفاوتة، المتناقضة، المضطربة، ردة فعلٍ لحظية، لحظية، في الموقف المستجد، وكأنه موقف ليس له أي سياق، وليس وراءه أيضاً أي شيء يتبعه، يعني: كأن اليهودي فقط افتعل مشكلة هكذا طارئة، كيف يتعاملون معها، ثم افتعل مشكلة ثانية… وهكذا، يتخبَّطون- للأسف الشديد- في حالةٍ من العمى، من العمى، في حالةٍ من الغباء، في حالةٍ من الجهل الرهيب والفظيع، وهذا هو نتيجة لإعراضهم عن القرآن، لإعراضهم عن رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ»، وعن الاستفادة منه في الحركة على أساس القرآن، ونتيجةً لعدم نظرتهم الجادَّة، الموضوعية، إلى الأعداء، وما هي خطة الأعداء، وما هو المشروع الحقيقي للأعداء، الذي يتحركون على أساسه.
ولــذلك فالحركة الارتجالية للأُمَّة، والمواقف الآنية واللحظية، ليست صحيحة إطلاقاً، وتتفاوت، وتضطرب، وأكثرها في الاتِّجاه الذي ليس له أي أثر أبداً في مواجهة الأعداء، ولا أي قيمة، ولا أي أهمية.
فنحن بحاجة إلى أن نجعل من حركة رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ»، ومن سيرته، ومن مواقفه الناجحة، التي ثبت نجاحها، مدرسةً لنا، وأن نُقَيِّم بناءً على ذلك- شعوب إسلامية وبلدان إسلامية- أن نقيم الآراء والتَّوجُّهات: هل هي في نفس هذا الاتِّجاه؟ هل هي تنسجم مع القرآن، مع حركة رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ»، أو لا تنسجم؟ إذا كانت لا تنسجم، فلا ينبغي أن تأخذ بها الأُمَّة، أن تغرق فيها الأُمَّة، أن تُضِيْع الأُمَّة لأجلها الوقت، الجهد، الفرص، وبالشكل الذي يتيح للأعداء تحقيق المزيد من الإنجازات، وتعزيز فرصهم؛ لتحقيق إنجازاتٍ أخرى إضافية، هذه مسألة مهمة جدًّا.
الأُمَّة مستهدفة في غاية الاستهداف، وفي وضعٍ خطيرٍ للغاية، أعداؤها واضحون، واضحون جدًّا في القتل اليوم، في الاحتلال، في التدمير، والأعداء هم يسعون إلى ماذا؟
• إلى تدمير هذه الأُمَّة.
• إلى طمس هويتها الدينية.
• إلى احتلال أوطانها.
• إلى نهب ثرواتها.
• إلى استعبادها.
• إلى إذلالها.
ولهـذا لا يتوقفون، من حربٍ إلى حرب؛ ومن غزو بلد إلى غزو بلد؛ ومن تدمير بلد بمؤامراتهم عليه من الداخل، إلى اجتياح بلد آخر بشكل مباشر… وهكذا.
يعني: عندما- مثلاً- نعود إلى هذه السنوات الماضية، لِنُقَيِّم- هذه مسألة التَّقْيِيم غائبة لدى المسلمين- لِنُقَيِّم على مدى عشرين عاماً، كيف يفعل الأمريكي والإسرائيلي، هل تركوا هذه الأُمَّة لتهدأ؟ على مدى عشرين عاماً فقط، فما بَالُك والمسألة من قبل ذلك بكثير، ومستمرة، وستستمر من جانب الأعداء، ستستمر من جانبهم، لن يتوقفوا عن ذلك، لن يوقفهم إلَّا الردع، إلَّا الهزيمة، إِلَّا مَنَعَة في واقع الأُمَّة، تَحُوْلُ بينهم وبين تخطيط مؤامراتهم، وتنفيذ أعمالهم العدوانية والإجرامية تجاه هذه الأُمَّة.
فالأُمَّة هي تتضرر بالخيارات الخاطئة، والقرارات الخاطئة، التي تتيح لأعدائها المزيد من السيطرة، من التمكُّن من تنفيذ مؤامراتهم في داخلها؛ لأنهم يشتغلون في كل الاتِّجاهات: الاجتياح المباشر، الأعمال المباشرة، والأعمال التي من داخل الأُمَّة؛ فهم يشتغلون ويَتَحَرَّكون بهذا الشكل.
يَــوْمُ الفُرْقَــان، هو العنوان العظيم لغزوة بدرٍ الكبرى، (يوم الفرقان) كما سمَّاه الله في (سورة الأنفال)، يعني: أنه يومٌ فارقٌ في التاريخ؛ ولـذلك يجب أن ننظر إلى هذه الذكرى باهتمام كبير؛ لأنه تَرَتَّب عليها نتائج عظيمة جدًّا، والمهم أن نستفيد منها ومن أمثالها:
• في تصحيح الرؤية في واقع الأُمَّة، هذا جانب.
• وأيضاً في استنهاض العزائم والهمم في داخل الأُمَّة.
• في ترسيخ الأمل في الاتِّجاه العملي الصحيح.
لأن هنـــاك مـن جــانب الأعــــداء:
• ضخّ هائل جدًّا للإرجاف، والتهويل، والتيئيس، والإحباط، في أوساط الأُمَّة.
• وهناك أيضاً على مستوى التشويش للرؤية ضخّ كبير جدًّا، شغل كبير من جانب الأعداء: تشكيك، تلبيس، ترسيخ لخيارات خاطئة كما قلنا.
أمام هذا وذاك يجب أن ننظر إلى (يوم الفرقان)، إلى ذكرى غزوة بدرٍ الكبرى، وما بعدها، وما قبلها، في سيرة رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ»، بما يفيدنا لتصحيح الرؤية، بما يفيدنا لاستنهاض العزائم والهمم، بما يفيدنا أيضاً لترسيخ الأمل في الثقة بوعد الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» والنصر، والتغيير للواقع المظلم والمذلِّ، والمهين والمخزي للأمة، والدفع في الاتِّجاه الصحيح، الاتِّجاه العملي الصحيح الذي يحقق ذلك.
من أول الدروس في غزوة بدرٍ الكبرى، هو: درس يتعلق بأهمية الجهاد في سبيل الله تعالى، أنه هو الخيار الصحيح، الذي يصنع الله به التَّحَوُّلات، الذي يُشَكِّل حمايةً حقيقيةً للأمة، الذي يدفع الخطر من جهة الأعداء، ويدفع شَرَّهُم، هذه مسألة مهمة.
الخيارات التي تُطرح في الساحة، والخيارات المُتَّبعة- بالفعل- في واقع الأُمَّة، هي الخيارات الأخرى:
• خيارات (الجمود، القعود، الاستسلام): وهذا لدى فئة واسعة من أبناء الأُمَّة: لدى أنظمة، وحكومات، وزعماء، واتِّجاهات فكرية، واتِّجاهات ثقافية، واتِّجاهات سياسية، ولدى جماهيرها من أبناء الأُمَّة، رؤيتهم هي هكذا: أنه في مقابل ما يعمله الأمريكيون، ماذا نعمل نحن كمسلمين؟ نسكت، نجمد، نتركهم لفعل ما يفعلون، ونترك الساحة مفتوحةً أمامهم لفعل ما يريدون.
وهذا هو أيضاً تَوجُّهٌ ليس حتى في الإطار العقلاني الفطري، يعني: يَشُذُّ حتى عن الفطرة، كيف ذلك؟! كيف ذلك؟! لكنَّها حالة خطيرة في واقع الأُمَّة، أن يكون هذا تفكيراً سائداً لدى فئة واسعة من المسلمين: حكومات، وفي أوساط الشعوب، وفي أوساط النُّخَب… وغيرهم.
• هناك اتِّجاه آخر من أبناء الأُمَّة له رأي أسوأ من ذلك: رأيه هو التعاون: التعاون مع الأعداء، التحالف مع الأعداء، التَّجَنُّد مع الأعداء، الدخول في إطار مؤامراتهم كأدوات لهم.
أمَّا هذه فهي طامة كبرى، واتِّجاه يُمَثِّل حالة ارتداد عن مبادئ الإسلام، وقيمه العظيمة، وأخلاقه الكريمة، ومشروعه لإقامة العدل في الحياة؛ وفي نفس الوقت تمكين تام للعدو، وإعانة له على النفس، على هذه الأُمَّة، على أوطانها، على شعوبها، على ثرواتها، وَتَجَنُّد مضاد لمبادئ الإسلام، يتناقض معها كلياً.
الجهاد في سبيل الله تعالى هو الوسيلة الحقيقية التي يمكن أن تحمي الأُمَّة، أن تدفع عنها الشَّرّ والأشرار؛ لأنه في إطار سُنَّة من سُنَنِ الله تعالى، سُنَّة من سُنَنِه في هذه الحياة، سُنَّة من السنن الحاكمة، الحاكمة في مسألة الأسباب والنتائج في مسيرة البشر.
الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» قال في القرآن الكريم: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ}[البقرة:251]، هذه هي سُنَّة من سُنَن الله تعالى: أن الله يدفع الناس بعضهم ببعض، هذا التدافع، هذا الدفع الذي يأتي في إطار المواقف العملية، في إطار المواجهة، في إطار التَّصدِّي للطغيان، الذي يَحُدّ من طغيان الآخرين، لولا هذه السنة الإلهية لفسدت الأرض بالكامل، ولما بقيت حياة للمجتمع البشري عليها؛ لأن هناك في أوساط البشر من هم في مستوى طغيانهم، وعدوانيتهم، وشَرِّهِم، وإجرامهم، إلى درجة يمكن ألَّا تبقى الحياة معهم، وألَّا يُبْقُوا للحياة وجوداً على هذا الأرض، إلَّا بشكلٍ فاسدٍ تماماً، يعني: ليس فيه أي شيءٍ من الصلاح، يعني: تتحول الحياة في المجتمع البشري: إمَّا أن تنتهي بالكامل؛ وإمَّا أن تصل إلى درجة- من فسادها- إلى درجة فظيعة جدًّا، تتحوَّل إلى حياة حيوانية، بهيمية، لا يبقى فيها أي قيمة للوجود الإنساني، ولا للجوهر الإنساني، للكرامة الإنسانية، للاعتبار الإنساني، ولا يبقى فيها أي مستوى من الاستقرار إطلاقاً، ولا تبقى فيها أي شيءٍ من مظاهر الاستخلاف في الأرض: لا عِمارة للحياة، ولا ازدهار في الحياة، ولا استقرار في الحياة.
ولـذلك هذه السُّنَّة الإلهية في دفع الناس بعضهم لبعض، يأتي في إطارها عنوان الجهاد في سبيل الله، يقول الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا}[الحج:40]، على مستوى الشعائر الدينية، حتى هي لَما بَقِيَت.
ولـذلك عندما أتى الإذن والتوجيه للمسلمين بالجهاد، في قول الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}[الحج:39]، يأتي أيضاً في سياق الدفع للظلم، إذا كانت الأُمَّة لا تريد أن تُقاتل، فالأعداء يريدون هم أن يقاتلوها، وأن يقتلوها، وأن يُبِيدُوها، العدو الإسرائيلي يَقْتُل يومياً، يَقْتُل من الناس المسالمين، يَقْتُل من الناس العاديين، يَقْتُل من العاملين في المجال الإنساني، من صحفيين، مدنيين، بشكلٍ يومي، يقتلهم عدواناً وظلماً؛ ولـذلك فالأُمَّة بحاجة إلى أن تتحرك في إطار السُّنَّة الإلهية؛ لدفع الظلم عن نفسها، لدفع الخطر عنها؛ ولـذلك تحرَّك رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ» في غزوة بدرٍ الكبرى.
لو كان هناك نجاح للخيارات الأخرى، وكانت أرشد، وأصوب، وأحكم، وأرحم، وأنسب؛ لكان رسول الله هو الأَوْلَى «صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ»، فيما هو عليه من رشد، من رحمة، من حكمة، بأن يتبنى أي خيار آخر بديلاً عن الجهاد في سبيل الله.
نكتفي في هذه المحاضرة بهذا المقدار، في هذه المُقَدِّمَة.
وَنَسْألُ اللَّهَ «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسرَانَا، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

مقالات مشابهة

  • قائد الثورة : رسالة للمجرم «ترامب» بأن شعبنا ثابت بكل قناعة في مواجهة الطغاة المستكبرين
  • نص المحاضرة الرمضانية الـ 16 للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي
  • (نص) المحاضرة الرمضانية السادسة عشرة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي
  • نص كلمة قائد الثورة حول آخر التطورات والمستجدات 17 مارس 2025
  • (نص + فيديو) كلمة السيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي حول آخر التطورات والمستجدات
  • نص كلمة قائد الثورة حول آخر التطورات والمستجدات
  • (نص) المحاضرة الرمضانية الخامسة عشرة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي
  • الإنسان مفتقرٌ إلى هداية الله الواسعة
  • شاهد| المحاضرة الرمضانية الخامسة عشرة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي (فيديو)
  • علي جمعة: الموت حقيقة متكررة.. والعاقل يبحث عن أسئلة سبب خلق الله لنا