المحبة هى الفريضة الغائبة فى المجتمات المعاصرة على الرغم من أن الديانات السماوية قد أقرَّتها على سبيل الوجوب والأمر: (أحبب الرب إلهك من كل قلبك)، وجعلت كمال الإيمان أو وجوده مُعلّقًا بها: (لن تؤمنوا حتى تحابوا)، (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، كما أمرت الأديان بأن تكون المحبة عامة للجميع: (أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم صلّوا لأجل مضطهديكم)، وأن نبادر بالإحسان إلى الأعداء والخصوم (ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه وليٌّ حميم).
لكن لماذا تراجعت أو ندرتْ فريضة حب الله التى هى مفتاح وباعث لكل أصناف المحبة الأخرى للخلائق؟ ذلك لأسباب منها العصبية والتعصب، ومنها الجاهلية الأخلاقية التى ساد معها الجحود والنكران، ومنها الجاهلية المعرفية التى نتج غياب الوعى بحقيقة الإنسانية وأنها ليست شيئا آخر سوى المحبة، وأن عمارة الكون والاستخلاف فى الأرض لا يتحقق دون المحبة.
ويأتى حب الدنيا فى مقدمة أسباب تراجع أو غياب محبة الله: (كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة)، (ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة)، ويلى ذلك اتخاذ الأنداد لله: (ومن الناس مَنْ يتخذ مِن دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله).
وماهية تلك المحبة التى هى أكمل مقامات العارفين بالله الذين اصطفاهم بها: (فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه) تتمثل فى النظر بعين العقل المتأمل إلى نِعَم الله وعطاياه، وبالقلب إلى قُرْب الله تعالى وعنايته وحفظه، فيحدث التعلق بالمحبوب وزيادة الشوق إليه والأُنس به دون غيره.
وقد قام حُجة الإسلام الغزالى بتقديم التفسير العقلى لتلك المحبة بأنها أنواع خمسة، وهى: ١. محبة الوجود ٢. محبة القائم على دوام الوجود ٣. محبة المحسن إلى الغير ٤. محبة كل ما هو جميل فى ذاته ٥. محبة مَنْ كان بينه وبين المحبوب مناسبة.
وهذه الأنواع لا يُتصور كمالها واجتماعها إلا فى حب الله؛ لأن العبد إذا أحب وجوده فقد أحبَّ واهب هذا الوجود له، وإذا أحبَّ استمرار هذا الوجود فقد أحبَّ الله المالك له والقادر عليه، وإذا أحب المحسنَ فقد أحبَّ الله المُسبغ النِّعم، وإذا أحب الجمالَ فقد أحبَّ الله نبع كل جميل وهو الجمال والجلال فى ذاته، والمناسبة بين المحب والمحبوب موجودة فى الروح التى نفخها الله فى الإنسان وبها استحق الخلافة فى الأرض واستحق سجود الملائكة له.
المصدر: بوابة الوفد
إقرأ أيضاً:
«جمال الغيطانى»
جميعنا سيطوينا النسيان، لا أحد يفلت من سطوة الزمن، ستتلاشى الذكريات، الأحاديث الحميمة، خطواتنا المتكررة أمام عتبات البيوت والسعى اليومى بين الشوارع والأمكنة، جلساتنا المبهجة على المقاهى ووسط الأحباب، الناجى الوحيد من محرقة دقائق العمر وساعاته هو الكاتب والمصور والرسام، هؤلاء يقومون بتسجّيل مضمون اللحظة التى تفنى عبر الكتابة والصورة الفوتوغرافية واللوحة الفنية، فستبقى رواية «قصة مدينتين» لتشارلز ديكنيز عن الثورة الفرنسية، وآلاف الصور الفوتوغرافية عن المجازر الإسرائيلية فى المخيمات الفلسطينية، ولوحة «جرنيكا» للرسام الأشهر فى القرن العشرين «بيكاسو» عن الحرب الأهلية الأسبانية.. حاضرة بكل عنفوانها صالحة للتفكيك من أجل الفهم والتأمل لكل جيل.
يدخل الروائى الكبير «جمال الغيطانى» فى المتاهة الزمنية مع هؤلاء السابق ذكرهم وغيرهم، كحكاء وصانع للسجاد وعاشق للمعمار وصوفى تغشاه التجليات، والغريب والعجيب من السرد فيسجلها بمداد القلم على الورق ممسكاً باللحظة حتى لا تتسرب منه.
لذلك كل الشكر والامتنان للقائمين على مؤتمر أدباء مصر فى دورته السادسة والثلاثين والتى ستنطلق يوم الأحد القادم فى محافظة المنيا، على تقديم الروائى الكبير الراحل «جمال الغيطانى» شخصية المؤتمر، بعد مرور تسع سنوات على غيابه جسدياً فى عام 2015.
كما أدعو إدارة المؤتمر أن تعيد تقديم ومناقشة ماقامت بنشره صحيفة «أخبار الأدب» فى الذكرى السابعة لرحيل مؤسسها الكاتب والروائى «جمال الغيطانى»، حيث قدمت فصلا من كتاب «المقريزى: وجدان التاريخ المصرى» الذى كان سيصدر فى ذلك الوقت للدكتور ناصر الربّاط أستاذ كرسى الآغا خان ل العمارة الإسلامية فى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا «MIT». وفيه يرصد التأثيرات التى دخلت على كتابة الغيطانى جراء تعمقه فى استلهام وتحليل كتابات المؤرخ البارز تقى الدين المقريزى، وكيف قام بتوسيع وتعزيز وإعادة تخيل الواقع الاجتماعى للقاهرة عبر السرد الخيالى.
شكل تقى الدين المقريزى، مؤرخ مصر الأهم، مصدر إلهام بالنسبة لجيل أدباء وشعراء ما بعد هزيمة ١٩٦٧. وأصبح بفضل تحليله التاريخى العميق ونفسه الوطنى العارم والمبثوث فى تضاعيف كتبه، وبخاصة كتابه الأهم، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، نموذجًا للوطنية الحقة ودليلًا هادياً للبحث المؤلم عن الهوية ومثلًا عن مقاومة الفساد والقمع عن طريق الكلمة الجريئة والحس الأخلاقى الذى لا يساوم.
وقد امتد تأثيره إلى عدة أنواع أدبية تتراوح بين الرواية التاريخية والسيرة الذاتية الخيالية إلى السفر عبر الزمن والإرهاصات الشعرية الجريئة..
ولج المقريزى المجال القصصى والروائى على يد روائيين كبار على رأسهم المرحوم جمال الغيطانى الذى ولد فى قرية جهينة من صعيد مصر لكنه نشأ فى حى الجمالية القاهرى الذى خلدته ثلاثية معلمه نجيب محفوظ. لم يغادر الغيطانى فضاءات المدينة القديمة حتى عندما انتقل إلى الجزء الحديث من القاهرة. ظلت لديه أماكنه المفضلة فى قاهرة الفاطميين والمماليك- الأزقة والمنازل التاريخية والمقاهى، التى عاد إليها مرارًا وتكرارًا. أثرت هذه الأماكن، وعبق تاريخها، على كتابات الغيطانى الإبداعية بعمق، وتحول بعضها إلى إشارات مفعمة بالرسائل الانتمائية والحضرية والمعمارية الخالصة استخدمها الغيطانى لتأطير الكثير من رواياته فى المكان والزمان. علاوة على ذلك، لجأ الغيطانى، ربما كمظهر من رد فعل جيله على صدمة هزيمة ١٩٦٧ وتعثر مشروع النهضة والتحديث قبلها وبعدها، إلى التقاليد الأدبية العربية الكلاسيكية والتراث الصوفى. فهو، بجانب الإلهام التاريخى، كان يبحث بشغف عن نماذج من أساليب الكتابة الصوفية الإشراقية التى كان يمكن له أن يتبناها والتى سيزداد تأثيرها على أسلوبه فى التعبير والكتابة لاحقًا. كان الغيطانى، على حد تعبير المترجم الشهير همفرى ديفيز الذى ترجم نصوصًا لكل من محفوظ والغيطانى، رائدًا فى ابتكار «نوع من الواقعية السحرية ولكن من الطراز المصرى المكثف، له جذور فى تاريخ الأدب العربى ولكن أيضًا فى مجالات التصوف والغيبيات وما شابهها». كان نوع الخطط، بتركيزه الشديد على مصر، أحد الأشكال الأدبية التاريخية الرئيسية التى جذبت الغيطانى. وهى قد أثرت على مشروعه الروائى على مستويين: كدليل هادٍ لتاريخ وجغرافيا المدينة التى تؤطر بنية العديد من رواياته، وكأساليب نصية أصيلة تصلح للكلام عن الأماكن والمبانى التى احتلت حيزًا مهمًا فى سرد الغيطانى.
وأخيراً يقول عنه الناقد الأدبى الدكتور حسين حمودة: «لا يزال الغيطانى حاضرا معنا، فقد راهن دوما على أن يدفع سطوة النسيان، وهو درس الخلود الذى استقاه من أجداده الفراعنة.