يظل شهر رمضان المبارك مرتبطًا في نفوسنا جميعًا، بذكريات ومواقف لا تُنسى، تستمر عالقةً في الذِّهن، مهما بلغنا من العُمر، بحكم ارتباطها بمراحل حياتنا، منذ الطفولة وحتى الآن.
ما بين الماضي والحاضر، لطالما تُجرى مقارنات، وتُعقد باستمرار، لذاكرة الماضي الجميل، بلحظاته وأدق تفاصيله.. فكيف إذا كان ذلك الماضي هو «سيد الشهور»، الذي عِشنا معه أجمل وأروع ذكرياتنا؟
مؤخرًا، في إحدى الأمسيات الرمضانية، مع بعض الأصدقاء، تطرق حديثنا إلى «عيد الأم»، وماذا سيقدم كلُّ واحدٍ منَّا إلى أمه في هذه المناسبة؟، خصوصًا أننا في الماضي كنَّا نقدم الهدايا فقط إلى الأم والمعلمة، ثم تطور الأمر بعد ذلك إلى الخَطيبة والزوجة وأم الزوجة!
لكن المفاجأة التي عقدت لساني، هو وجود «اتفاق جماعي» على أنهم لن يقدموا أي شيء، لا إلى الأم أو الزوجة، وبالتالي لا هدية لخَطيبة أو معلمة للأبناء، خصوصًا أن هذا العام، يَرَوْنَه الأسوأ على الإطلاق، وليس له نظير في غلاء الأسعار، أو بمعنى آخر «لا يُكلف الله نفسًا إلا وسعها»!
لكن أكثر ما أثار الجدل في تلك الأمسية، هو «سخونة» الحديث، بين صديقين من نفس البلدة، حين ذكر أحدهما اسم والدة الآخر «المعلمة»، ليحتدم النقاش «تلاسنًا وتراشقًا»، حتى كاد أن يصل إلى الاشتباك، دون مراعاة لصداقة أو عِشرة العُمر!
ولكي ينتبه الجميع وأُنهي تلك الحالة الغريبة، صرختُ بأعلى صوتٍ: «عفاف أمي»، لأكرر ثانيةً وبكل فخر: «أمي اسمها عفاف»، ما المشكلة في ذلك، ولماذا يخجل البعض من الإفصاح عن اسم الأم، اعتقادًا منهم بأن ذلك «عيب» أو «مسيء» لها، أو «مُحْرِج» لهم، وفي المقابل تُجاهر الأمهات أينما وُجِدْنَ، بأسماء أولادهن بكل فخر؟!
للأسف، لستُ أدري، لماذا يخفي البعض اسم الأم، محاولين «ترميزه وتشفيره»، وكأنه عورة.
نتصور أن ذلك الأمر ربما يكون مؤشرًا لمستوى ثقافة وتفكير هؤلاء، الذين يعتبرون الامتناع عن ذكر اسم الأم أمام «الأجانب» جزءًا من العادات والتقاليد، لكن اللافت أنه أحيانًا يُذكر أن المتوفاة هي «أم فلان» مقرونًا باسم عائلتها، دون التطرق لاسمها الخاص؟!
إذن، الأمر يتعدى رمزية الاسم، للدلالة على نوعية أولئك الذين يتصنَّعون «الغِيرة» أو نوعًا من «التقوى»، على اعتبار ذلك نوعًا من الإهانة، أو يخالف الشرْع، أو ربما يَرَونه عوْرًة أو عارًا، أو رجسًا من عمل الشيطان!
أخيرًا.. لو كان هناك أي حَرَجٍ يمنع ذِكْرَ اسم الأم، ما كنَّا لنعرف أسماء زوجات الرسول «أمهات المؤمنين»، ولو كان اسمها عورة لم تكن هناك سورة في القرآن باسم «مريم»!
فصل الخطاب:
من فَقَد الأب فَقَد الأمان، ومن فَقَد الأم فَقَد الأمان والحنان.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: عيد الأم هدايا عيد الأم محمود زاهر غلاء الأسعار رمضان كريم اسم الأم د الأم
إقرأ أيضاً:
جدلية الخطاب الأبوي بين المسؤولية والاعتذار
أحمد بن محمد العامري
الأسرة هي الخلية الأولى التي يتكون فيها الإنسان وفيها تنشأ أولى علاقاته الاجتماعية والنفسية، فالعلاقة بين الزوجين تشكل العمود الفقرى لهذه المؤسسة حيث يتشاركان مسؤولية التربية والرعاية بما يضمن لأفراد الأسرة بيئة صحية ومستقرة. ومع ذلك، يظهر في هذه العلاقة أحياناً خطاب يعكس اختلافات في التصورات بين الزوجين حول دور كل منهما في حياة الأبناء، ومن أكثر العبارات لفتاً للانتباه هو خطاب الزوجة الذي يتبدل بين "أولادك" عند الحديث عن المشكلات أو الأعباء، و"أولادي" عند الحديث عن الإنجازات أو اللحظات المشرقة أو العكس، هذا التباين الظاهري في اللغة يعبر عن أبعاد نفسية واجتماعية وثقافية عميقة تستحق التأمل.
عندما تلجأ الزوجة إلى استخدام عبارة "أولادك" أثناء مواجهة المشكلات أو تحمل أعباء المصاريف فإنها تعبر عن محاولة نفسية لتخفيف الضغط الواقع عليها، علم النفس يفسر ذلك على أنه آلية دفاعية تُعرف بالإسقاط، حيث يُلقى جزء من المسؤولية على الطرف الآخر لتخفيف الشعور بالعبء أو الفشل، هذا الخطاب قد يعكس كذلك شعوراً بعدم التوازن في تقسيم المهام داخل الأسرة، حيث تحمل الأم العبء الأكبر من العناية اليومية بالأبناء وتنتظر من الأب أن يشارك بشكل أكبر عند ظهور التحديات.
على الجانب الآخر، عندما تقول الزوجة "أولادي" في لحظات الفخر أو الاعتزاز بإنجازات الأبناء فإنها تعبر عن ارتباط عاطفي عميق معهم وشعور بأنها المساهم الأكبر في تربيتهم ونجاحهم، هذه اللغة تتماشى مع ما يُعرف في علم النفس بنظرية الإنجاز الذاتي، التي تبرز كيف يرى الفرد إنجازات الآخرين، خاصة المقربين منه، كامتداد لجهوده الشخصية وهويته، هذا الفخر ينبع أيضاً من القرب اليومي والعاطفي الذي يربط الأم بالأبناء، وهو نتاج الدور التقليدي الذي يجعلها الأقرب إلى تفاصيل حياتهم.
على المستوى الاجتماعي، يعكس هذا الخطاب توزيع الأدوار داخل الأسرة كما تحدده الثقافة، كثير من المجتمعات تُعتبر الأم الحاضن العاطفي الأول للأبناء والمسؤولة عن تفاصيل حياتهم اليومية، بينما يُنظر إلى الأب كمصدر للسلطة والمسؤول عن توفير الموارد وحل الأزمات. لذلك، عندما تواجه الأم تحديات مع الأبناء، ترى في الأب شريكاً يتحمل المسؤولية عن الأزمات التي لا تستطيع السيطرة عليها بمفردها، مما يجعل عبارة "أولادك" أداة ضمنية لدعوته إلى التدخل. في المقابل، يُبرز استخدام "أولادي" في اللحظات الإيجابية شعوراً بأن الأم هي الأقدر على فهم الأبناء ورؤية جهودها في نجاحاتهم.
لكن الأثر الحقيقي لهذا الخطاب لا يتوقف عند الزوجين، بل يمتد ليطال الأبناء أنفسهم. اللغة التي يُخاطب بها الأبناء تؤثر بشكل كبير على تكوين شخصيتهم وشعورهم بالانتماء داخل الأسرة، فعندما يسمع الأبناء عبارة "أولادك" في سياقات سلبية قد يشعرون بأنهم عبء أو مصدر للمشكلات، مما يضعف ثقتهم بأنفسهم أو يعزز شعورهم بالانفصال عن أحد الوالدين. على النقيض، استخدام "أولادي" في سياقات إيجابية يعزز شعور الأبناء بالفخر والانتماء لكنه قد يُشعرهم أحياناً بأن العلاقة بينهم وبين الأب أقل قوة إذا لم يُظهر الأب نفس التقدير.
إن الخطاب الأبوي المتوازن يلعب دوراً محورياً في تعزيز استقرار الأسرة وبناء الثقة بين أفرادها، واستخدام لغة تشاركية مثل "أولادنا" يعكس إحساساً مشتركاً بالمسؤولية ويُظهر للأبناء أنهم ثمرة شراكة بين الوالدين، كما أن إظهار التقدير المتبادل بين الزوجين لجهود كل منهما في التربية يعزز روح التعاون ويُزيل أي شعور بالتنافس أو تحميل المسؤولية. من المهم أيضاً أن يتم التعامل مع المشكلات المتعلقة بالأبناء كقضايا مشتركة بعيداً عن إلقاء اللوم، ما يُظهر نموذجاً إيجابياً للأبناء حول كيفية حل المشكلات بطريقة بناءة.
الثقافة المجتمعية تلعب دوراً كبيراً في تشكيل هذا الخطاب، حيث تحدد معايير الأدوار بين الرجل والمرأة داخل الأسرة. في المجتمعات التي تتبنى نماذج تشاركية حديثة، يظهر خطاب أكثر توازناً بين الزوجين، بينما في الثقافات التقليدية قد يميل الخطاب إلى تقسيم الأدوار بشكل يبرز الفروقات بين الأب والأم، ولكن مع تطور المفاهيم الأسرية وتزايد الدعوات للمساواة في الأدوار، يمكن تعزيز خطاب أكثر تشاركية يعكس تغيرات إيجابية في بنية الأسرة.
في النهاية، حديث الزوجة مع الزوج حول الأبناء بين "أولادك" و"أولادي" ليس مجرد تفصيل يومي عابر، بل هو مرآة تعكس التفاعلات النفسية والاجتماعية داخل الأسرة، ومن خلال العمل على تطوير هذا الخطاب ليكون أكثر شمولية وتوازناً، يمكن تعزيز الروابط الأسرية وضمان بيئة إيجابية لنمو الأبناء.
الأبناء ليسوا مجرد مسؤولية فردية، بل هم ثمرة شراكة تحمل في طياتها تحديات وإنجازات مشتركة، والنجاح الحقيقي في التربية يتحقق عندما يشعر كل فرد في الأسرة، سواء كان أباً أو أماً أو ابناً، بأنه جزء من كيان واحد يُبنى على الحب والدعم والمسؤولية المشتركة.
ahmedalameri@live.com