من أجل تأطير أخلاقي للذكاء الاصطناعي في مجال الصحافة والإعلام
تاريخ النشر: 18th, March 2024 GMT
ترجمة - حافظ إدوخراز -
يوشك الذكاء الاصطناعي أن يُحدث تحوّلا جذريّا في عالم الصحافة والإعلام. فكيف سيتأتّى لنا ضمان الاستقلالية التحريرية إذا بدأت هيئات التحرير في استعمال نماذج لغوية غير شفّافة تخضع لمصالح خاصّة؟ وكيف سنضمن صِدقيّة المعلومات عندما ستكون غالبية المحتوى المنشور على الشبكة العنكبوتية من إنتاج الذكاء الاصطناعي؟ وما السبيل إلى الحيلولة دون تجزئة الفضاء الإعلامي إلى عدد كبير من التدفّقات المعلوماتية التي تغذّيها روبوتات المحادثة؟
إنّ محاولة توقّع جميع العواقب التي ستترتّب عن الذكاء الاصطناعي في مجال الإعلام أمر لا يخلو من المجازفة.
لقد قامت منظمة مراسلون بلا حدود في صيف عام 2023 بتشكيل لجنة دولية من أجل صياغة ما سيصبح أول مرجعٍ أخلاقي عالمي يهدف إلى توجيه وسائل الإعلام في عصر الذكاء الاصطناعي. وتتكوّن هذه اللجنة من اثنان وثلاثون شخصية تنتمي إلى عشرين بلدا مختلفا، بين متخصّصين في الصحافة والذكاء الاصطناعي.
ويوجد على رأس هذه اللجنة السيدة ماريا ريسا، الحائزة على جائزة نوبل للسلام لعام 2021، والتي تجسّد قضايا حرية الصحافة والالتزام أمام الاضطرابات التكنولوجية (لقد ندّدت من منصّة أوسلو بـ «القنبلة الذريّة اللّامرئية» المتمثّلة في التكنولوجيا الرقمية).
ثمّة هدف واضح للجنة وهو تحديد مجموعة من المبادئ الأخلاقية الأساسية من أجل حماية مصداقية المعلومات في عصر الذكاء الاصطناعي. وبعد خمسة أشهر من الاجتماعات، وأكثر من سبع مائة تعليق، وفتح مشاورة على نطاقٍ دولي، تمكّنت اللجنة من الوقوف على وجهات النّظر المتقاربة، كما وقفت على مكامن الاختلاف بين أعضائها. ليس من السهل الجمع بين وجهات نظر مختلفة للغاية بين المنظمات غير الحكومية التي تدافع عن الصحافة، والمنظمات الممثّلة لوسائل الإعلام في قطاع الصحافة والتلفزيون، فضلًا عن اتحادات الصحافة الاستقصائية، دون أن ننسى الاتحاد الأوروبي للصحفيين، وهو تحالف غير مسبوق اجتمع حول طاولة رقمية.
واستجابةً للاضطرابات التي أحدثها الذكاء الاصطناعي في الفضاء الإعلامي، نُشر ميثاقٌ في باريس في نوفمبر 2023 ينصّ على عشرة مبادئ تسعى إلى ضمان مصداقية المعلومات والحفاظ على الوظيفة الاجتماعية للصحافة [بعد أكثر من خمسين عاما من نشر ميثاق ميونخ حول واجبات وحقوق الصحفيين]. ومن الضروري أن يتعاون المجتمع الدولي لكي نضمن احترام أنظمة الذكاء الاصطناعي لحقوق الإنسان والديمقراطية، غير أن هذا لا يعفي الصحافة من مسؤولياتٍ أخلاقية ومهنية معيّنة تجاه هذه التكنولوجيات.
ومن بين المبادئ الأساسية للميثاق، سنكتفي بذكر أربعة مبادئ فقط هنا:
أولًا، يجب إخضاع الاختيارات التكنولوجية التي تقوم بها وسائل الإعلام للأخلاقيات. لا ينبغي أن نترك ضغوط المنافسة الاقتصادية تُملي علينا وتيرة تبنّي واحدة من أكثر التكنولوجيات المنتجة للتحوّلات في التاريخ. تشير الدراسات الاستقصائية المتاحة إلى أن الغالبية العظمى من المواطنين تفضّل أن نتعامل بقدرٍ أكبر من الحذر مع مسألة نشر استعمال الذكاء الاصطناعي. فدعونا نأخذ هذا بعين الاعتبار.
ثانياً، يجب أن يظلّ الحكم البشري محوريًّا حينما يتعلق الأمر بالقرارات التحريرية. إن أنظمة الذكاء الاصطناعي هي أكثر من مجرد أدوات، فهي تكتسب شكلا من أشكال الفاعليّة وتتداخل مع نوايانا. وعلى الرغم من خلوّه من الإرادة الخاصة، إلا أن الذكاء الاصطناعي يغصّ باليقينيات والانعكاسات الإحصائية للبيانات التي تدرّب عليها وللتوجيهات التي تعلّم من خلالها. وفي كل مناسبةٍ يُتّخذ فيها قرار ما بشكل آليّ، تكون تلك فرصة ضائعة أمام الحكم البشري لكي يتمرّس. نحن نطمح إلى صحافة معزّزة، وليس إلى حكمٍ بشري مُنتقَص.
ثالثًا، يجب على وسائل الإعلام أن تساعد المجتمع على التمييز الموثوق بين المحتوى الأصيل والمحتوى المُصطنع. إن الذكاء الاصطناعي التوليدي، أكثر من أي تكنولوجيا أخرى في الماضي، قادر على خلق «حقائق» متوهّمة. وتقع على عاتق وسائل الإعلام مسؤولية خاصّة في مساعدة المجتمع على التمييز بكل ثقة بين الحقائق والخيال. غير أن الثقة ليست أمرا يمكن نيله من خلال سنّ قانون، وإنما يتم بناؤها. يعدّ التحقّق من المصادر وتوثيق الأدلة واستخدام لقطات سمعية بصرية حقيقية من أجل تغطية الأحداث أمرًا بالغ الأهمية لتجنب الإسهام في الارتباك العام.
رابعا، يجب على وسائل الإعلام وأصحاب حقوق الملكية الفكرية، عند التفاوض مع شركات التكنولوجيا، منح الأولوية للرسالة المجتمعية التي تضطلع بها الصحافة. يمكن أن تصبح روبوتات المحادثة إحدى الطرق الرئيسية للوصول إلى المعلومات. ومن المهم مطالبة مالكي هذه البرامج بمكافأة عادلة لمنشئي المحتوى، فضلًا عن ضمانات قوية بخصوص جودة المعلومات «التي يُعاد تجميعها» وفيما يتعلق بتعدّديتها وموثوقيّتها.
في عالمٍ صاخب، ثمّة طريقتان فقط من أجل جذب الانتباه لا غير، فإما أن يُغتصب أو يُستحقّ. لقد اختارت شبكات التواصل الاجتماعي، بفضل خوارزميات التوصية الخاصّة بها، الخيار الأول، مع كل ما يترتّب عن ذلك من عواقب معروفة تتمثل في التضليل واستقطاب الرأي. لكن الصحافة الجيدة لا يمكنها أن تتخلى عن القيم التي تشكّل هويّتها. ولذلك فليس أمامها خيار آخر سوى أن تستحقّ انتباهنا من خلال السعي وراء الحقيقة الواقعية والدقة والأصالة.
إن الذكاء الاصطناعي بصدد إحداث ثورة في مجال جمع المعلومات ومعالجتها ونشرها. وسوف تعتمد نتيجة هذه الثورة على اختياراتنا التكنولوجية. لذا فنحن نشجّع وسائل الإعلام والعاملين في مجال المعلومات على تبنّي مبادئ ميثاق باريس بشأن الذكاء الاصطناعي والصحافة.
كريستوف دولوار الكاتب العام لمنظمة مراسلون بلا حدود ورئيس منتدى الإعلام والديمقراطية
ماريا ريسا صحفية حائزة على جائزة نوبل للسلام لعام 2021
تشارلي بيكيت أستاذ بقسم الإعلام والتواصل في مدرسة لندن للاقتصاد
غاري ماركوس عالم وخبير في الذكاء الاصطناعي
ستيوارت راسل أستاذ المعلوميات بجامعة كاليفورنيا
أنيا شيفرين أستاذة بمدرسة الشؤون الدولية والعامة التابعة لجامعة كولومبيا
المصدر: صحيفة لوموند الفرنسية
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی وسائل الإعلام ة المعلومات فی مجال أکثر من من أجل
إقرأ أيضاً:
نائب مدير لوفيغارو زار جامعة الروح القدس -الكسليك
لبّى نائب مدير صحيفة لو فيغارو الفرنسية، إيف تريارد دعوة من جامعة الروح القدس – الكسليك لزيارة حرم الجامعة، حيث استقبله رئيس الجامعة، الأب طلال هاشم في مكتبه، وتم خلال اللقاء البحث في الأوضاع العامة والشؤون التربوية.
بعد ذلك، التقى تريارد طلاب الجامعة، لاسيما طلاب الإعلام والترجمة والحقوق والعلوم السياسية، الذين طرحوا أسئلتهم على المحاضر خلال جلسة حوارية بعنوان: "الصحافة التدخّلية: مساحة للحوار والوساطة والتفكير الديناميكي"، هدفت إلى استكشاف قوة الصحافة في تشكيل الحوار العالمي.
أدارت الجلسة الدكتورة ليا يحشوشي، في حضور رئيس الجامعة الأب طلال هاشم وأعضاء مجلسها، إضافة إلى شخصيات سياسية وديبلوماسية وتربوية وإعلامية...
وقد أتاح هذا الحدث الاستثنائي الذي نظمه مكتب العلاقات الدولية في الجامعة،" فرصة كبيرة أمام الطلاب للتفكير في التحديات الجديدة التي تواجه الصحافة الدولية ودورها في المجتمع المعاصر"، كما اشارت الجامعة في بيان.
رحّبت الدكتورة يحشوشي بالحضور في بداية اللقاء، مشيرةً إلى "أن الصحافة ليست مجرد نقل للمعلومات، بل دورها يتعدى ذلك إلى التوضيح والتدخل وحتى إحداث بعض الجدل". وأشارت إلى "التحديات التي يفرضها العصر الرقمي على الصحافة، حيث تنتشر الشائعات بسرعة هائلة، ويُستخدم الذكاء الاصطناعي في كتابة المقالات"، متسائلة: "كيف يمكننا الموازنة بين السرعة والدقة، الاستقلالية والالتزام، والتقنيات الحديثة والقيم الصحفية؟ هذا بالضبط ما سنستكشفه اليوم مع السيد إيف تريارد، الذي يُشرّفنا بمشاركة خبرته معنا".
ثم ألقى عميد كلية الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة الأب الدكتور وسام الخوري أشاد فيها "بمسيرة الضيف التي تعكس شغفه بالمعرفة والتحليل، إذ جمع بين دراستي القانون والآداب ليحقق نجاحًا في المجال الصحفي"، منوهًا "بمكانته في صميم القضايا الإعلامية المعاصرة." وشدد على "أهمية التبادل بين المهنيين والأجيال الشابة"، مشيرًا إلى" التزام الجامعة بتكوين عقول حرة وناقدة ومسؤولة". كما شدد على "دور الجامعة في تأهيل الشباب، والدفاع عن قيم المعرفة والحقيقة والمساهمة بفعالية في تقدم المجتمع، رغم التحديات العديدة التي يواجهها لبنان".
ثم بدأ تريارد محاضرته متناولًا أحد المواضيع الرئيسية، وهو العلاقة المعقدة بين الإعلام والسياسة. وأبرز الدور الحاسم للصحفيين في تغطية الأزمات، لا سيما خلال جائحة كوفيد-19، مؤكدًا "أن الأزمة الصحية قد أظهرت أهمية الإعلام في تشكيل الرأي العام، لكنها كشفت أيضًا عن مخاطر المعلومات السريعة والمتحيزة أحيانًا". وأشار إلى "أن تحرير الأخبار يؤدي إلى تداخل الحدود بين الحقائق والآراء، وهي ظاهرة باتت واضحة بشكل خاص في النقاشات التلفزيونية والمقالات الصحفية. وهذا يثير تساؤلات حول مسؤولية وسائل الإعلام في تشكيل الخطاب العام وتأثير القرارات السياسية على وعي المواطنين".
وكانت من أبرز محاور النقاش مسألة الاستقلالية الصحفية. وفي هذا الإطار، أوضح تريارد أن" المسار التحريري للمؤسسات الإعلامية غالبًا ما يتأثر بمالكيها واحتياجاتها الاقتصادية، وهي ظاهرة تبرز بوضوح في فرنسا، حيث تسيطر المجموعات المالية الكبرى على جزء كبير من الصحافة". وقارن هذا الواقع بالوضع في لبنان، حيث "يرتبط الإعلام غالبًا بالمصالح السياسية أو الطائفية". وأكد أن" التحدي الحقيقي للصحافة اليوم هو الحفاظ على حرية التحقيق والتعبير رغم هذه القيود"
في عصر تتسارع فيه وتيرة تداول المعلومات، خاصة مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي، حذر تريارد من المخاطر المرتبطة بالتضليل الإعلامي والأخبار الزائفة.
وقال: "الذكاء الاصطناعي أداة قوية، لكنه لن يحل محل العمل الميداني، والتحليل، والقدرة النقدية للصحفي"، مؤكدًا "ضرورة أن يتعلم الصحفيون الجدد استخدام الأدوات الرقمية الحديثة، مع الالتزام بالمبادئ الأساسية للمهنة: التحقق من المصادر، الدقة، والتحقيق المتعمق".
وعن تغطية الإعلام الفرنسي للأوضاع في لبنان، أقر تريارد بأن فرنسا، رغم علاقاتها التاريخية المتميزة مع لبنان، شهدت" تراجعًا في تأثيرها السياسي والإعلامي في المنطقة خلال السنوات الأخيرة".
وأثار الطلاب قضية كيفية تناول الصحافة الفرنسية للأزمات اللبنانية، حيث يُنظر إلى تغطيتها أحيانًا على أنها غير كافية أو تركز على زوايا محددة. ودارت نقاشات حول كيفية اختيار وسائل الإعلام الدولية للمواضيع التي تغطيها، والمسؤولية الملقاة على عاتق الصحفيين المحليين في جذب الانتباه إلى القضايا اللبنانية.
هذا وتميزت الجلسة الحوارية بالمشاركة الناشطة للطلاب، حيث أتيحت الفرصة لطرح الأسئلة التي تعنيهم. وتناولت النقاشات مواضيع متنوعة، من صحافة الرأي إلى مستقبل الصحافة المطبوعة، ودور الصحفي في النزاعات الدولية.
وفي ختام الجلسة، وجّه تريارد رسالة للصحفيين الشباب: "كونوا فضوليين، اطرحوا الأسئلة، لا تكتفوا بالنسخة الأولى من الأحداث. دوركم هو البحث عن الحقيقة، حتى عندما تكون مزعجة." عبارة ترددت أصداؤها في القاعة، مذكّرة الطلاب بأن الصحافة، في جوهرها، هي التزام بالحقيقة وخدمة للجمهور.
كما وفّرت هذه الجلسة الحوارية للطلاب فرصة استثنائية للتفاعل مع شخصية بارزة في المشهد الإعلامي الفرنسي، وفهم التحديات التي تواجه الصحافة في عالم دائم التغير. ما سيترك أثرًا في مسيرتهم الأكاديمية والمهنية.
وجال بعدها تريارد في حرم الجامعة في الكسليك، حيث اطلع على المختبرات العلمية والمكتبة العامة، مبديًا إعجابه بما لمسه من مستوى أكاديمي عالٍ وتطوّر من الناحية التكنولوجية، ليختتم زيارته بجولة في كلية الطب والعلوم الطبية في جبيل.