شعر الرثاء عند شعراء الدولة النبهانية «2-2»: الرثاء عند سليمان النبهاني بوصفه ندما وحرقة نفس
تاريخ النشر: 18th, March 2024 GMT
يُعدّ سليمان بن سليمان النبهاني واحدا من أبرز شعراء الدولة النبهانية الذين أعطوا القصيدة الشعرية شكلا تقليديا يسير مع الحياة التي كان يعيشها؛ فقد كانت القصيدة لديه تعبيرا واضحا عن الواقع في مختلف تجلياته وانعكاسا لسلطة المُلك وصورة للشاعر الأديب، كما كتب النبهاني في أغراض شعرية عدّة أبرزها: الغزل والفخر، وهما واضحان في ديوانه الذي يُعدّ من غرر الشعر العماني في عصوره القديمة.
سار النبهاني في قصائده على منوال القصيدة العربية القديمة من حيث البناء والأساليب والأغراض، وربما انطلق عدد من الباحثين في أشعار النبهاني من كونه شاعرا وملكا، وهو في ذلك يسير على منوال الشعراء الملوك في الأدب العربي من شاكلة امرئ القيس؛ لذا نجد تشابها في بعض مغامراته وبعض أساليبه الشعرية مع الشعراء الأوائل وخصوصا امرأ القيس. وإذا كان لغرضي الغزل والفخر مكانة بارزة في ديوان النبهاني فإنّ لغرض الرثاء الأهمية ذاتها التي يمكن من خلاله الوقوف عليها ودراستها.
تتشكّل قصيدة الرثاء عند النبهاني وفق بنائية تقليدية قائمة على رثاء الميت وتعداد مناقبه وأوصافه والترحم عليه، ولعلّه في إطار الحديث عن قصيدة الرثاء عن النبهاني فإنه من المهم الوقوف على نماذج رثائه لأخيه حسام كونها قصائد عميقة في معانيها، تفيض وجعا وألما وحزنا على فقده. ولعلنا من خلال هذه القصائد نلمح المكانة العظيمة التي يحتلها حسام في نفس أخيه سليمان رغم الخلاف الحاصل بينهما.
يمكن قراءة هذه العلاقة في ديوان النبهاني من خلال أربع مراحل يكتبها النبهاني عن شقيقه حسام، ومعها نجد قصيدة الرثاء تحوّلت من كونها رثاء خالصا إلى رثاء سردي حكائي قائم على الندم على فقد الأخ والحسرة على قتله وفراقه بعد ذلك. لقد استرجع النبهاني هذا الفقد طويلا، وعبّر عنه بدلالات الحسرة والندم كما تعبّر المراحل الآتية:
المرحلة الأولى: وفيها يُعاتب النبهاني شقيقه حسام على خوض الحرب ضده، كما ينصحه فيها أن يراجع نفسه ولا يخوض الحرب ضده، وفيها يقول: (الديوان/213)
فقل لحسامٍ راجع السلم تسلمنْ * ودعْ عنك تذكار الوغى والطوائلِ
فإنّ طريق الحربِ وعرٌ مُضلّةٌ * تؤول بباغيها إلى غير طائلِ
فلا تُطعِ اللاحين في السلمِ إنما * قصارى انبعاث الحرب قطع المفاصلِ
ولا تحسبنَّ الحربَ لهوًا ولذّةً * ووصل كعاب في فناء المنازلِ
ففي الحرب تفريقٌ لكل بني أبٍ * وحتف النفوس بالقنا والمناصلِ
بل إنّ النبهاني يصل في نصيحته لشقيقه مرتبة عالية في الثناء عندما يناديه بكنيته ناصحا له ترك هذه الحرب والانقياد لأمره، ويمكن أن نقف على كلمتي (أبا ناصر، كريم المناسب) لمعرفة مكانة حسام عند أخيه، حينما قال: (الديوان/ 28)
أبا ناصرٍ لا تجهل الحربَ إنها * لتقطيع أسباب الإخا والمناسبِ
أبا ناصرٍ إنّ الحروبَ لصعبةٌ * على راكبٍ لم يلقَ قدمًا لراكبِ
ألم تنهكَ الحربُ التي سلفت لنا * بحبل الحديد يا كريم المناسب
المرحلة الثانية: فيها يعرّج النبهاني في مواضع رثائه لشقيقه على ذكر سبب القتال بينه وبينه أخيه حسام، وهو أن أخاه كان يريد أن يتولى حكم البلاد فجاء يجر جيشه مواجها لشقيقه: (الديوان/ 294)
أتانا حسامٌ مصلتا لحسامه يجر خميسا بحره متلاطمُ
يؤملُ أن يحوي عمانًا بجمعه ولله حكمٌ في البرية قائمُ
المرحلة الثالثة: في غير موضع من الديوان يصف النبهاني هنا مشهد المعارك التي دارت بين الشقيقين والتي بها فقد أخاه، لتظل حسرة قتل الأخ ماثلة في قلبه.
المرحلة الرابعة: ولعلها المرحلة الأهم في قصيدة الرثاء عند النبهاني، وفيها نقرأ قصيدته العينية التي تفيض بمشاعر الفقد، وحسرة قتل الأخ. تأخذ القصيدة العينية دلالاتها وعبراتها الحزينة وقوافيها من رثائية أبي ذؤيب الهذلي في رثاء أبنائه.
تظهر تقليدية غرض الرثاء واضحة في القصيدة التي يفتتح الشاعر دلالاتها بالوجع الكبير على فقد أخيه مسترجعا شمائله: (الديوان/ 148)
نبأٌ له تصلى القلوبُ وتخشعُ * وتفيضُ بالعبرِ الجفونُ وتَهمَعُ
نبأٌ تكادُ الأرضُ ترجف عنده * وتكادُ ثّمَّ جبالُها تتصدّعُ
أحسامُ أوصبَ همُّ يومك خاطري * والهمُّ يخطرُ بالقلوب فيلذعُ
أحسامُ أوجعني رداكَ ولم أكنْ * قِدماً ليوجعني مصابٌ مُوجعُ
أحسامُ عّزَّ عليَّ فقدُكَ من أخٍ * عفِّ الشمائلِ جودُهُ ما يُقلعُ
ما خِلتُ أنّ الطَّودَ يُحملُ قبل ذا * حتى يمرُّ عليَّ نعشُكَ يُرفعُ
لا كان يومك يا ابن أمّ فإنه * يوم أمرُّ من الحمام وأفجعُ
وما يوضح الحرقة الكبيرة على فقد أخيه، والندم على قتله استخدامه للتكرار تعبيرًا عن زفراته الحارقة، ومصابه الكبير؛ إذ تكررت كلمة (لهفي عليك) سبع مرات، ثم يُظهر بعدها الندم الشديد على قتله له قائلا: (الديوان/ 150)
ضعضعتنا أسفًا عليكَ ولم نكن * لولا رداكَ لنكبةٍ نتضعضعُ
إن أُمسِ مأثوما بقتلكَ إنني * بكَ يا ابن سيدِ يعربٍ لمُفجّعُ
قطعت يدي عمدًا يدي وتوهمي * من قبل أنَّ يدًا يدًا لا تقطعُ
أوحدتني وذهبتَ ثم تركتني * أبكي لفقدكَ كل قبرٍ يوضعُ
كم قد ظللتُ على ضريحكَ باكيًا * لو أنّ ذلك يا ابن تُبّعَ ينفعُ
ولكم وقفت مسلّمًا ومكلّمًا * لو كان يعقلُ ميتٌ أو يسمعُ
تفديكَ من حَدَثِ المنية أسرتي * يا ابن الملوك وكلُّ مالٍ أجمعُ
قد كان سيفُكَ قبل يومك قاطعًا * فغدا بيومكَ نابيًا لا يقطعُ
إنّ الدلالات في الأبيات السابقة تؤكد على امتزاج الرثاء الصادق بالحسرة والندم على فقد الشقيق الذي خاصم شقيقه وخرج في وجهه شاهرًا سيفه. ثم يختم الشاعر قصيدته المؤثرة بالدعاء للأخ بالجنة، والبكاء المستمر عليه والتحذير من الشقاق والفرقة وأنه لا أعز من الأخ في ذلك.
تقدّم لنا قصيدة الرثاء عند سليمان النبهاني أنموذجا على الرثاء المقترن بويلات الحسرة والندم، فلم يكن مقتل حسام على يد شقيقه مجرد حادث لإخماد فتنة بل إنه كما نقرأ في القصائد السالفة تعبير عن انكسار داخلي، وشرخ في الذاكرة وألم متزايد على مرّ الأيام، إنّ الذاكرة مع النبهاني تتسع لتصبغ قصائده بالسواد، وجعل دمع عينه يبكي طويلا على أخيه:
فلأبكينّكَ ما استحنّ لإلفه إلفٌ * وما غَدَتِ الحمائمُ تسجعُ
خالد بن علي المعمري كاتب عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: على فقد
إقرأ أيضاً:
الحرب في السودان: بعض تحديات الاستقرار والتعافي الاقتصادي واعادة الاعمار
بروفيسور حسن بشير محمد نور
بعد تقدم الجيش السوداني وحلفائه في جبهات الحرب وقرب احكام السيطرة علي المركز في العاصمة القومية وولاية الجزيرة، يراود كثير من المواطنين السودانيين العودة الي منازلهم التي هجروا منها قسرا، علي امل معاودة الحياة بشكل طبيعي. لكن واقع الحال والدمار الكبير للبنية التحتية المتواضعة اصلا يضع كثير من التحديات، من حيث توفر الخدمات الاساسية ومقومات الحياة في حدها المقبول. لذلك هناك متطلبات وتحديات عديدة تواجه تحقيق تلك الامال المرتبطة بشكل اساسي بتوفر الاستقرار السياسي والامني الضروري للتعافي الاقتصادي واعادة الاعمار، التي تعتبر شروطا اولية نحو تحقيق مقومات العيش الانساني الطبيعي من سكن ومأكل ومشرب، علاج وتعليم، مواصلات سالكة وتوفر الماء والكهرباء، باعتبار ان هذه احتياجات اولية لا غناء عنها.
اول المتطلبات هي تحقيق السلام المستدام كخطوة حاسمة نحو التعافي الاقتصادي وإعادة الإعمار. من منظور اقتصادي، يتطلب هذا السلام معالجة جذرية للأسباب الهيكلية التي أدت إلى الحروب والنزاعات، مع التركيز على الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في حزم سياسية متكاملة ومتسلسلة.
من اهم تلك الأصلاحات او بالاصح المتطلبات، تحقيق العدالة وضمان عدم الإفلات من العقاب، اذ ان تاريخ السودان مليء بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والجرائم المنظمة، خاصة خلال فترة حكم نظام الإنقاذ بقيادة عمر البشير وما اضافته الحرب الحالية من تعميق لتلك الانتهاكات وتصعيدها لمستويات بالغة الخطورة علي الامن والاستقرار الاجتماعي. استمرار الإفلات من العقاب يقوض أسس الدولة ويؤدي إلى استمرار دوامة الأزمات السياسية والاقتصادية. لذا، فإن تعزيز سيادة القانون وتحقيق العدالة والعدالة الانتقالية يُعَدَّان من الأولويات الاساسية لضمان مستقبل مستقر.
جانب اخر في غاية الاهمية هو معالجة الأزمة الهيكلية للدولة، فمن المعروف ان الدولة السودانية نشأت في ظل سلطة استعمارية وديكتاتوريات متسلطة، تعمقت أزماتها خلال فترات الحكم الوطني بسبب سوء السياسات والرشد الاداري أو غيابها. هذا أدى إلى ضعف قدرة الدولة على أنجاز التنمية وتفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية بشكل متراكم. لذا، فإن إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس ديمقراطية وتعزيز سيادة القانون عبر اصلاح مؤسسي شامل يعتبر من الخطوات الضرورية لتحقيق الاستقرار الضروري للتعافي واعادة الاعمار.
كذلك الامر فيما يتعلق بالتحديات الاقتصادية، اذ تسببت الحرب في أضرار كبيرة ودمار واسع النطاق للبنية التحتية والمرافق الحيوية يقدر بمئات مليارات الدولارات، مما أثر سلبًا على الاقتصاد السوداني. بالإضافة إلى ذلك، أدت السياسات الاقتصادية غير الفعالة إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. لذا، فإن ايجاد حكم مقبول وحكومة تتبني وقادرة علي تنفيذ سياسات اقتصادية تعزز التنمية المستدامة وتوفر فرصًا اقتصادية للمواطنين، يُعَدُّ أمرًا حيويًا للتعافي الاقتصادي. هذا يحتاج لمقومات القبول الداخلي والخارجي للحكم الذي يفتح الطريق نحو وصول الاعانات الخارجية وجذب الاستثمار الاجنبي والوصول الي مؤسسات التمويل، وتيسير التجارة اقليميا ودوليا وامكانية الوصول دون عوائق للاسواق العالمية تصديرا واستيرادا.
من المهم اداراك ان مصير الاستقرار السياسي والأمني ومعالجة المشاكل الاجتماعية، اللازمة لتحقيق استقرار سياسي وأمني يعالج المشاكل الاجتماعية والتناقضات العميقة بين المكونات المجتمعية في السودان، يتطلب اتباع نهج شامل يتضمن:
- تعزيز العدالة والعدالة الانتقالية: اذ يجب تحقيق العدالة بمحاسبة المسؤولين عن الجرائم والانتهاكات السابقة، لضمان عدم تكرارها وبناء ثقة المجتمع في النظام العدلي والقضائي. قد يعتبر البعض ان هذا امرا صعب التحقيق، وهو كذلك، لكن رغم صعوبته فهو شرط لا مناص من تحقيقه كشرط للتعافي الاجتماعي والاستقرار.
- الإصلاح المؤسسي الضروري لإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس ديمقراطية، تضمن المشاركة الشعبية والشفافية والمساءلة واجتثاث الفساد الهيكلي المتوطن في مفاصل الدولة السودانية بجميع مؤسساتها.
- تبني سياسات اقتصادية موجهة نحو التنمية وتعزيز النمو المستدام وتوفر فرص عمل، مع التركيز على تنمية المناطق المهمشة والمتضررة من النزاعات.
- إدارة التنوع: الاعتراف بالتنوع الثقافي والعرقي والديني في السودان واعتماده كعامل قوة، من خلال سياسات تضمن التمثيل العادل والمساواة بين جميع المكونات الاجتماعية ووضع هذا الهدف ضمن المناهج التعليمية والتربية الوطنية.
- ضرورة تبني سياسات قطاعية مؤسسة باستراتيجات شاملة تستخرج منها خطط وبرامج ومشاريع تنموية مخططة بشكل واقعي ومنظم، يتفق مع المنهجيات المتبعة لاهداف التنمية المستدامة المعتمدة عالميا، ويشمل ذلك بالطبع السياسات التجارية والوفاء بشروط عضوية منظمة التجارة العالمية (WTO) للاندماج في النظام التجاري العالمي وامكانية الوصول لعضوية المنظمات الاقليمية والدولية بشكل فعال مفيد وليس عضوية شكلية.
- اطلاق الحريات العامة وسيادة حكم القانون واتباع سياسة اعلامية حرة ومنفتحة علي التطورات الكونية للاعلام المهني المتخصص، كعامل اساسي لتحقيق جميع ما تم ذكره.
- تبقي بعد ذلك اهمية الاصلاح العسكري والامني واتفاقيات السلام التي يجب مناقشتها ضمن حزم متكاملة للسلام المستدام وتحقيق الاستقرار المنشود واستدامته ولضمان عدم تكرار الحروب والنزاعات عبر عقائد مستحدثة.
في الختام، ما احدثته الحرب من دمار وتصدعات شاملة في الدولة السودانية يعتبر مهمة بالغة التعقيد، ويعتبر انجازها شرطا للاستقرار والتعافي الاقتصادي واعادة الاعمار، وهي مهمة لا يمكن ان يقوم بها طرف واحد او حتى عدة اطراف، دون توافق بثقل كبير ومشروع وطني يستوعب الغالبية المطلقة للمكونات السودانية. بذلك يتطلب تحقيق السلام المستدام في السودان، الذي يعتبر شرطا اوليا للاستقرار والتعافي، يتطلب نهجًا شاملاً يعالج الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مع التركيز على بناء دولة ديمقراطية تعزز سيادة حكم القانون، وتوفر فرصًا متساوية لجميع مواطنيها. بدون تحقيق تلك المطالب والجوانب المكملة لها، لن تمضي الامور الي الامام، ولا يتوهم البعض ان انحسار الصراع او تراجع مستويات القتال او احكام السيطرة علي مواقع استراتيجية، يمكن ان تؤدي وحدها بسلاسة لتوفير مقومات الحياة الطبيعية، ولا حديث الان بالطبع عن الازدهار والرفاهية علي شاكلة شعوب الامم المستقرة المتطورة.
mnhassanb8@gmail.com