كثيرًا ما مثَّل الوقف حلقات وصل بين أجيال متعاقبة زمنيا، أو مدن ومناطق متباعدة مكانيا، أو طبقات اجتماعية متباينة معيشيا، فهو إلى جانب كونه شعيرة تعبدية يتقرب بها المرء طالبا مرضاة ربه؛ يُعدُّ مسؤولية اجتماعية نابعة من الفرد تجاه الجماعة، فيضع جزءًا من ماله؛ لأجل منفعة عامة يستشعر أهمية وجودها في المكان الذي يختاره ليكون مقرا لوقفه.

من الأوقاف التي كانت موضع اهتمام الواقفين المسلمين على طول البلاد الإسلامية وعرضها، وقف الكتب، وهو اهتمام نشأ مع نشوء الوقف في المدينة المنورة، واستمر مواكبا لأوقاف المصاحف، التي يُغَذِّيها، ويشعل جذوتها الحديث الشريف: «سبع يجري للعبد أجرهن وهو قبره بعد موته: من علَّم علما، أو أجرى نهرا، أو حفر بئرا، أو غرس نخلا، أو بنى مسجدا، أو ورَّث مصحفا، أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته»، فكان أن تأسست أوقاف الكتب في المدن الإسلامية، حتى قيل عن المدن الإسلامية: «قلما نجد مدينة تخلو من كتب موقوفة»، فيذكر الحموي (ت: ق7هـ/13م) خبرًا عن مدينة مرو الشاهجان في الشرق الإسلامي يقول فيه: «فإني فارقتها وفيها عشر خزائن للوقف لم أرَ في الدنيا مثلها كثرة وجودة» كما يُنقل عن أبي حيان الغرناطي النحوي (ت:ق8هـ/14م) أنه كان يعيب على من يشتري كتابا ويقول: «الله يرزقك عقلا تعيش به، أنا أي كتاب أردته استعرته من خزائن الأوقاف»، وهي أمثلة على نشاط هذا النوع من الأوقاف التعليمية في البلاد الإسلامية، بما في ذلك بلادنا سلطنة عمان التي لم تكن يوما غائبة عما يحدث في العالم الإسلامي فتتأثر به وتؤثر فيه.

وكما كان الوقف عموما حلقة من حلقات الوصل -كما سلف ذكره-، كان الكتاب الموقوف كذلك حلقة وصل وتقارب بين أجساد فرض عليها المكان والزمان تباعدا ماديا، إلا أنها كانت متقاربة روحيا، فالعلم رحم بين أهله كما يقال، وخير مثال على ذلك قصة جميلة لكتاب وقفي مثل حلقة وصل بين شرق إفريقيا وعمان وبلاد المغرب العربي. ففي القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي أنجز الشيخ جميل بن خميس السعدي كتابه الموسوعي في علوم الشريعة الذي أسماه (قاموس الشريعة الحاوي طرقها الوسيعة)، الذي جاء في تسعين جزءا، فأصبح حديث الناس، ومطلب المتعلمين، فشاعت أخباره في شرق إفريقيا والجزائر من بلاد المغرب العربي، ونظرًا لضخامة الكتاب، ولحداثة ظهوره، ولطبيعة النَّسْخِ والكتابة وما تعانيه من إشكالات؛ كانت نُسَخ الكتاب المكتملة قليلة جدًّا إن لم تكن نادرة، في المقابل الطلب عليها يزداد.

أرسل الشيخ محمد بن يوسف أطفيش الفقيه الجزائري الكبير الذي لقبه الإمام السالمي بـ(قطب الأئمة) إلى الشيخ على بن سعيد الصقري المقيم بين شرق إفريقيا وشرقية عمان يطلب منه أن يرسل إليه من كتب أهل عمان، ومنها بالطبع كتاب القاموس، فيجتهد الشيخ الصقري على الرغم من الصعوبات التي واجهها والتي تُفصح عنها رسالته للشيخ أطفيش: «.. وأنا ما زلت أبحث لك كتب أهل عمان، ولا وجدت بالشراء وعَدِمَ النساخ»، ثم يجد الشيخ الصقري ضالته في الشيخ العَلَم الفقيه محمد بن سليّم الغاربي بولاية السويق، الذي جمع له عددا من النساخ يكتبون أجزاء قاموس الشريعة، فكان التمويل من الشيخ الصقري؛ ليكون أجرة للنساخ الذين ينسخون الكتب في الباطنة من سلطنة عمان، وبعد اكتمالها تُرسل إلى الجزائر لتستقر في وادي ميزاب بأيدي الشيخ محمد بن يوسف أطفيش وطلبته وقفا مؤبدا، ويكون الشاهد عليها تقييد وقفي كتب في بداية كل جزء من أجزاء الكتاب، جاءت فيه عبارات مثل: «هذا الكتاب من الكتب التي وقفهن الشيخ سعيد الصقري لوجه الله تعالى، على يد الشيخ العالم محمد بن يوسف المغربي، كتبه الحقير سباع بن راشد بيده، بأمر الشيخ محمد بن سليّم».

لم يكن الوقف يوما إلا رباطا روحيا يربط الإنسان بربه عز وجل، كما يربطه بأبناء مجتمعه وأمته سواء أكانوا من المعاصرين له، أم من الذين يأتون من بعدهم، فخير الوقف باق في صورة عطاء متدفق، أو في صورة ذكرى طيبة كما بقيت نسخ كتاب قاموس الشريعة في خزائن المخطوطات بالجزائر تحيي ذكرى أعلام تركوا أثرا طيبا، وتجدد العلاقة المتأصلة بين الأجيال.

د. خالد بن محمد الرحبي: باحث في التاريخ الحضاري العُماني عمومًا، والوقف على وجه الخصوص.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: محمد بن

إقرأ أيضاً:

الصحراوي قمعون: القضية الفلسطينية وحروب التضليل

في كتابه “فلسطين وحروب التضليل الإعلامي”، الصادر حديثاً عن “مجمع الأطرش للكتاب المختص”، يبحث الكاتب والصحافي التونسي الصحراوي قمعون في مظاهر وأساليب التضليل الإعلامي التي يعتمدها الاحتلال الإسرائيلي ووسائل الإعلام الغربية المتواطئة معه بهدف تشويه الحقائق التاريخية، من خلال مستويات متعدّدة تتراوح بين بثّ الأخبار الزائفة وتوجيه الإعلام، وممارسة التعتيم والرقابة على الأخبار المتعلّقة بالقضية الفلسطينية.

يتضمّن الكتاب أربعة فصول يُحاول فيها المؤلّف، حسب ما ورد في المقدّمة، تفكيك السردية الإعلامية والدعائية التي قامت عليها “إسرائيل” منذ عام 1948 غداة الحرب العالمية الثانية، وكيف استغلّت تعرُّض اليهود إلى المحرقة النازية لتتحوّل إلى جلّاد للشعب الفلسطيني الذي هجّرته من وطنه وعرّضته إلى “هولوكوست” جديد يتجلّى حالياً في حرب الإبادة التي تشنّها على غزّة منذ تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي.

يُضيء العمل، أيضاً، سقوط السردية الإسرائيلية القائمة على دور الضحية، وحدوث تحوّلات في اتجاهات الرأي العام العالمي الذي أصبح متعاطفاً بشكل غير مسبوق مع الشعب الفلسطيني وقضيته، بفضل ظهور وسائط الإعلام الجديد، ومن تجلّيات هذا التحوُّل المظاهرات التضامنية المستمرّة للطلبة في عددٍ من بلدان العالم، وخصوصاً في الولايات المتّحدة وأوروبا، ومحاكمة “إسرائيل” في “محكمة العدل الدولية”، إضافةً إلى تكشّف حجم التضليل والتعتيم في الإعلامي الغربي الذي يتغنّى بقيَم التعدُّدية والديمقراطية وحرية التعبير وحقوق الإنسان، لكنّه يضرب بها جميعاً عرض الحائط حين يتعلّق الأمر بالإنسان الفلسطيني وما يتعرّض له من إبادة صهيونية.

يُوضّح الصحراوي قمعون أنّه اعتمد في تأليف الكتاب على مستجدات الحرب الإسرائيلية الحالية على غزّة، والتي يصفها بغير المسبوقة على الأصعدة السياسية والعسكرية والإعلامية، مُشيراً إلى إفادته من تجربته الطويلة في العمل صحافياً بقسم الأخبار الدولية في “وكالة تونس أفريقيا للأنباء”، والتي غطّى، خلالها، أنشطة “منظّمة التحرير الفلسطينية” التي استقرّت في تونس منذ مغادرتها بيروت عام 1982 وحتى عودتها إلى فلسطين عام 1994.

ويكتب قمعون في مقدّمته: “يرمي هذا الكتاب التوثيقي التحليلي، الذي انطلق إعداده مع حرب غزّة الأخيرة لعام 2023، إلى تحقيق هدفَين وهُما: أوّلاً التصدّي للتضليل الإعلامي الغربي المساند لإسرائيل ولسرديتها حول ‘الهولوكوست’ والمحرقة اليهودية التي قامت عليها، وثانياً شحذ همّة المقاومة للاحتلال عبر نشر ثقافة الاعتزاز والانتصار في النفوس، من أجل أن تبقى جذوة النضال والصمود والمقاومة للمحتلّ حيّةً متوهّجة في ذهن وسلوك الأجيال، حتى تحرير فلسطين بكلّ الوسائل الممكنة والمتاحة بالمقاومة السلمية أو السلاح، وتحقيق السلام العادل والشامل، ولو بعد عقود، كما تحرّرت الجزائر عام 1962 من الاستعمار الاستيطاني الفرنسي الذي تواصل ليلُه الطويل الحافل بالجرائم ضدّ الإنسانية، مئةً وثلاثين سنة، وكما تحرّرت القدس من جحافل الصليبيّين المتعصّبين عام 1187 في معركة حطّين، على يد القائد صلاح الدين الأيوبي، بعد ثمان وثمانين عاماً من الاحتلال الأجنبي، وكما انتهى نظام المَيز العنصري و’الأبارتهيد’ في جنوب أفريقيا، حليف إسرائيل العنصرية”.

مقالات مشابهة

  • الصحراوي قمعون: القضية الفلسطينية وحروب التضليل
  • عبد الوحد النبوي لـ"الشاهد": مصر بها أقدم أرشيف لكتابة تاريخ الوطن العربي
  • حررت مصر من الجماعة الإرهابية.. «الحزب العربي الناصري» يحتفل بذكرى 30 يونيو
  • «ديوان الصبابة» للتلمساني بتحقيق خالد الجبر وأحمد الشيخ
  • وزير الأوقاف.. يتلقى تهنئة من وزراء الأوقاف ومفتين وعلماء في العالم العربي والإسلامي
  • "الأزهري" يتلقى خطابات تهنئة من وزراء الأوقاف والمفتين في العالم العربي والإسلامي
  • أسامه الازهري تلقى خطابات تهنئة من وزراء الأوقاف والمفتين والعلماء في العالم العربي والإسلامي
  • بحضور المخرجة وصدقي صخر.. عرض ناجح للفيلم الوثائقي رسائل الشيخ دراز لماجي بمهرجان بسينما زاوية
  • "رسائل الشيخ دراز" يأسر الجماهير بسينما زاوية
  • من هو هاني فرحات بعد اتهامات طليقته المسيئة؟.. حكاية زواجه من أنغام وسر علاقته بتركي الشيخ