في رواية "ثلاثة جياد" للكاتب الإيطالي آري دي لوكا وترجمة نزار آغري وهي من منشورات الجمل، يستمتع بطل الرواية بقراءة الكتب المستعملة بقناعة استحقاق الكتب لأكثر من حياة، لذلك يرى أن الكتب يجب ألا تُركن في رفوف المكتبات، حيث تفقد حيواتها، وهذا بالضبط ما تفعله مكتبات بيع الكتب المستعملة التي تمنح الكتب حيوات أخرى تستحقها، ويستحقها قرّاء آخرون غير قادرين على شراء الكتب الجديدة.

الكتب القديمة لها أوراق مهادنة، تشبه بذلك أرواح كبار السن الذين مضغوا الحياة أو مضغتهم ببطء، يمكن للمرء قراءة كتاب دون أن يضطر للإمساك بالصفحة المتعجلة للكشف عن أختها، كما في الكتب الجديدة، أو كما ورد في الكتاب (أقرأ الكتب المستعملة لأن الصفحات حين تقلب مرات عدة وتمسدها أصابع كثيرة تستقر في العيون بشكل أعمق، ولأن كل نسخة من الكتاب تملك أرواحا عدة). ينبغي للكتب أن تكون متاحة للجميع في أماكن عامة من دون حراسة وأن تذهب برفقة المارين بها الذين يأخذونها معهم لبعض الوقت. أن تموت حين يموتون من أثر المحن والعذابات والأمراض أو تحترق في مدفأة في الشتاء أو تتمزق حين يعمد الأطفال إلى صنع قوارب من صفحاتها).

في عمل روائي مكثف لم يتجاوز الـ128، استطاع الكاتب سلب لُبّي كقارئة، وهذا جعلني أفكر في الأعمال الروائية التي تقتل متعتنا القرائية بسردها البطيء والتفاصيل التي (لا تقدم ولا تؤخر) في المشهد السردي للعمل الأدبي لمجرد إكثار عدد الصفحات، لأُصادق أخيرًا على قناعتي السابقة/ الدائمة أن الأعمال الأدبية المكثفة أكثر جمالا من تلك الغارقة بالتفاصيل الفضفاضة.

بالعودة إلى الحدث الروائي، سنجد الكاتب يقول في حوار بين البطل وصاحب فندقٍ قديم، ليوجّه الأخير كلامه للبطل قائلا: (عمر الإنسان يطول بقدر أعمار ثلاثة أحصنة، وأنت قد دفنت الأول) من هذه القناعة يستمد العمل الروائي المدسوس بعناية في 128 صفحة عنوانه، وكما دفن بطل الرواية الحصان الأول من عمره في بدايتها دفن الحصان الثاني في نهايتها، وبقي الثالث يركض بأفكار القارئ في صفحاتٍ لم تحملها الرواية بين دفتيها.

متى دفن القارئ حصانه الأول؟ في أعماق المحيط، حيث أُلقيت حبيبته (دفورا) من طائرة مقيدة اليدين والرجلين وتمكن هو من الهرب من الموت لأنه امتلك جواز سفر إيطاليا، بعد أن قُبض عليها وتُرك (بظهر محنيّ في الشارع) يراقب ما يفعلونه بها.

هكذا مر الموت بجانبه ولم يأخذه. مصورا ما يحدث في تلك الفترة الواقعة بين 1976 - 1982م بقوله (الأرجنتين تنتف من الوجود أحد أجيالها، مثلما تفعل امرأة مجنونة بشعرها)، وقد اختفى خلال تلك الفترة التي كان الحكم فيها عسكريا دكتاتوريا ما يقارب الأربعين ألفا، دون مقابر تدل عليهم، وأغلب هؤلاء المختفين من الشباب.

يظل محتفظا بحذاء حبيبته، بخيوطه التي لم تُحلّ لأنها اعتادت خلعه من قدميها دون حلها، ليحلها بعد فترة مستحضرا عجزه عن حل القيود المحيطة بيديها وقدميها هناك حيث تقيم للأبد في أعماق المحيط.

ثم دفن الثاني عندما قتل (سليمُ) الرجلُ الإفريقي الذي كان البطل يساعده، ويمنحه الأزهار ليبيعها دون مقابل؛ فارتأى أنه مدين له، وتسديد الدين كان بأن قتل نيابةً عنه الرجل الذي يود قتله، وهكذا خلّصه من موتٍ محتمل، أو من ارتكاب الموت، وقتل من كان يخطط لقتله، لأنه كان يعلم أنه إما أن يَقتُلَ أو يُقتَل.

يلخص البطل الحياة بتصويرها كمثلث، وفي ذلك إشارة إلى أن خطوط الحياة تعود بالمرء دائما من حيث بدأ، معددا زواياه، واصفا الزاوية الحادة بالجيدة، والمنفرجة بالسيئة، والمستقيمة بالبين بين. وكأنه يريد القول إن الحياة مثلث ولكنه غير مكتمل، أو لا يمكنه أن يبدو حقيقيا لأنه في الحقيقة لا يوجد مثلث كل زواياه منفرجة.

هل الحرب جذابة؟ يرى الكاتب أنها كذلك بالفعل، لأن المرء ينخرط فيها في البدء مرغما، حتى لا يُتهم بالجُبن، ثم يتورط بغضبه الذي يدفعه للاستمرار، والتحول إلى محارب شره، في حين يعتبرها البعض فرصة للتخلص من بعض الوثائق التي تثقل كاهله، ولكنها أخيرا لا تفعل ذلك كما يتمناه خائضوها، بل إنها تحرق البيوت (الدول) بمن فيها. والكل في الحرب خاسر، حتى من يظن أنه انتصر.

والآن أخبروني، هل سبق أن فكرتم وقت فراغكم كما فكر فيه الكاتب؟ (حين ينتابني إحساس بأن وقتي فارغ من أي محتوى، أفكر بالوقت الذي يمضي في هذه الأثناء في حال سبيله جنبا إلى جنب وقتي في عالم فارغ من المحتوى: إنها الأشجار التي تنشر حبات الطلع من زهورها، والنساء اللواتي ينتظرن جريان الماء، والولد الذي يحفظ سطرًا من دانتي، وآلاف الأجراس التي تقرع في كل مدرسة في العالم إيذانًا بالفرصة، والنبيذ الذي يختمر للمرة الثانية، وكل الأشياء التي تحدث في وقت واحد، وبالتالي ترتبط بوقتي وتمنحه محتوى).

نعم، الوقت لا يمضي فارغًا، بل نحن من نحاول بعبثية الهرب من/إلى (الحياة) ومن/إلى (الموت)، ولا نعلم أن (النجاة لا تعني سوى الغوص أعمق في المصيدة، وليس الخروج منها. النجاة تكمن في الموت).

في نهاية قراءتي أذكر جملة وردت على لسان صاحب فندق في الجنوب، يُعلّق الخريطة مقلوبة رأسا على عقب، مؤكدا أن الجنوب هو قلب الأرض، وهو ما يجب أن يكون في الأعلى

(نحن هنا في قرن العالم، نقعد على الأرض كي لا تكنسنا الريح).

• بدرية البدري كاتبة وشاعرة عمانية

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

ثلاثة شعراء يتغنون بالحب والطبيعة بـ«بيت الشعر» بالشارقة

الشارقة (الاتحاد)

أخبار ذات صلة الطقس المتوقع في الإمارات غداً «الفارس الشهم 3» تستقبل النازحين من شرق خانيونس وتقدم لهم مساعدات إنسانية عاجلة

في إطار فعاليات منتدى الثلاثاء، أقام «بيت الشعر» بالشارقة أمسية شعرية، شارك فيها ثلاثة شعراء، سافروا بالحاضرين عبرها إلى عوالم الجمال والإبداع، وهم: الشاعر السوداني محمد المؤيد مجذوب، والشاعر المصري د. أبو عبيدة صديق، والشاعر السوري د. محمد سعيد العتيق، فيما قدمت الأمسية الإعلامية ريم معروف، بحضور الشاعر محمد عبدالله البريكي، مدير بيت الشعر، وجمهور غفير من الشعراء والنقاد ومحبي الشعر، الذين اكتظ بهم المكان، وتفاعلوا بشكل كبير مع الشعراء والقصائد.
بدأت الأمسية بإشادة بجهود صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، لجعله من إمارة الشارقة، وجهة الأدباء، وبوصلة الشعراء، مع الإشادة بمتابعة دائرة الثقافة وبجهود بيت الشعر.
افتتح القراءات الشاعر محمد المؤيد مجذوب، الذي قدم مجموعة من النصوص تراوحت بين التعمق في النفس البشرية، وظواهر الحياة وتحولاتها، ففي قصيدته «رسائل جسد هزيل لظل حالم» يحاور الشاعر نفسه، بأسلوب حواري يطرح أسئلة ويقدم أجوبة، ثم يجنح إلى تقديم صورة متكاملة لكل تلك الرؤى في نصه، وعلى غرار نصه الأول، قدم الشاعر أيضاً نصاً آخر بعنوان «لاداعي للرسائل»، طرح عبر صوره تساؤلات ذات طابع إنساني، تلاه الشاعر د. أبو عبيدة صديق، الذي قرأ نصوصاً تراوحت بين الحكمة وتأملات الحياة، ففي قصيدته «ضجر» يرسم صوراً متلاحقة من تمثلات الطبيعة، كالغيم والنجوم والرياح، ويصوغها في قالب فني يعبر عن روح الشاعر، أما في قصيدته «إلى المعلم» فيوجه تحية إلى المعلمين الذين يحاربون الجهل بالعلم، وينيرون عقول الأجيال، أما ثالث شعراء الأمسية، فكان الشاعر د. محمد سعيد العتيق، الذي ألقى على الحاضرين قصائد متنوعة، منها «رباعيات الزوايا السبع»، حيث تلاحقت فيها صور شعرية تعبر عن رؤى عاطفية مرهفة، ارتبطت بعواطف الحب ومظاهره، ثم قدم قصيدة بعنوان «على حافة النوم». 
وفي ختام الأمسية كرّم الشاعر محمد البريكي الشعراء ومقدمة الأمسية، وقدم لهم شهادات تكريم.

مقالات مشابهة

  • بعد أن دمرتها الحرب الأهلية.. الحياة تعود لمحمية غورونغوسا بموزمبيق
  • ثلاثة شعراء يتغنون بالحب والطبيعة بـ«بيت الشعر» بالشارقة
  • مرض نادر يهدد حياة طفل بريطاني.. كيف نجا من الموت بمعجزة؟
  • سيحاصرك الموت غدا!!
  • فيلم أهل الكهف مهدد بالانسحاب من دور العرض.. كم حقق؟
  • بالفيديو .. شجاعة مقاومين من كتائب القسام يهاجمان دبابة إسرائيلية في رفح من نقطة صفر تحصد تفاعلا واسعا
  • سيحاصرك الموت غدا !!
  • ترسيخا لروابط الصداقة.. الصويرة تحتضن أيام السينما المجرية على مدى ثلاثة أيام
  • هذا ما ستشهده بيروت.. بيانٌ من السفارة الإيطالية!
  • "انظروا إلينا نرقص".. رواية لـ"هشام النجار" في مواجهة التطرف والإرهاب