الدين قبل أن يتعين في مؤسسات وسلطات خلقية وسياسية يكون روحيا خالصا
تاريخ النشر: 18th, March 2024 GMT
لم يمثل طوفان الأقصى، زلزالا سياسيا فقط لجهة إسقاط مقولة الجيش الذي لا يقهر لدولة الاحتلال، وإنما أيضا مثل سؤالا فكريا وثقافيا وفلسفيا لا يزال يتردد منذ عصر النهضة العربية الأولى، عن سر النهضة والتقدم..
صحيح أن طوفان الأقصى وما تبعه من حرب إسرائيلية موغلة في الإبادة والوحشية، هو في ظاهره معركة بين حركات تحرر وطني وشعب يتوق إلى الاستقلال والسيادة، وبين قوة احتلال ترفض الانصياع للقانون الدولي، لكن ما تبعه من اصطفاف دولي غير مسبوق ضد الشعب الفلسطيني هو ما أثار علامات استفهام كبرى، حول مفاهيم الحرية والقانون والسيادة والمساواة والحقوق وغيرها من القيم التي عملت الإنسانية على مدى تاريخها بإسهامات تراكمية في صياغتها.
الفيلسوف والمفكر التونسي الدكتور أبو يعرب المرزوقي يعمل في هذه المقالات التي تنشرها "عربي21" في أيام شهر رمضان المبارك، على تقديم قراءة فلسفية وفكرية وقيمية للقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف باعتبارهما المرجعية الأساسية التي يبني عليها العرب والمسلمون إسهاماتهم الحضارية..
الفصل الخامس
إن هذا العلم الرئيس في ما بعد الأخلاق الذي حاولت وصف بنيته العميقة يقتضي ضرورة أن يكون القرآن قد استعمل المناهج التي أبدعها العقل الإنساني حتى تتعالى مبدعاته السياق سواء كان تناصيا أو تاريخيا أو ثقافيا. فالرسالة الإلهية لا يمكن أن تتوجه للإنسانية من دون استعمال المناهج التي تمكنهم من الولوج إلى مضمونها وفهمها. فالعلاقة بين ما هو ليس تاريخيا وما هو تاريخي للسلطتين الروحية والزمانية اللتين تفسدان الرسالة بإفقاد قيمها طبيعتها تؤدي هنا الدور الرئيس.
وهو دور لا ينتسب إلى أي سر خفي لأن الرسول نفسه يؤكد أنه لا يعلم الغيب. فهل علينا أن نعد هذه العلاقة بنحو ما علة التاريخية الممكنة التي يمكن أن تنتج عما تضيفه هذه العلاقة بالتاريخ في نص القرآن؟ فالعلاقة بين القيم الفطرية واستعمالها استعمالا أداتيا عند السلطتين الروحية والزمانية يبدو قائما بهذا الدور إذا نسينا أن القرآن لا يهتم أبدا بالبعد العيني لسياقات هذه العلاقة بل هو بالأحرى يعنى بالبنية الكونية للعنصر المفسد في هذا الاستعمال. ذلك أن الكلي الخلقي والسياسي في العلاقة هو الذي يمثل موضوع رسالته.
القرآن يضع فرضية أن من طبيعة الروحي الخالص أن يتجسد في سلطتين روحية وسياسية يمكن أن يكونا كونيين فيؤسسان مهمتين للإنسان في الأرض مع الحرص على الحيلولة دون هذا التجسد والتحول إلى استبداد وظلم بسبب تحريف الوساطتين بين المؤمن وربه وبينه وبين حكمه لنفسه.وبعبارة أخرى فإن الدين قبل أن يتعين في مؤسسات وسلطات خلقية وسياسية يكون روحيا خالصا أو فطرة فيحدد المثال الأعلى الذي تسعى إليه هذه المؤسسات والسلط لتحريرها بفضل فطرة الإنسان الدينية هذه من أنواع الفساد الممكنة التي تسعى للسيطرة عليها.
وفعلا فالقرآن يضع فرضية أن من طبيعة الروحي الخالص أن يتجسد في سلطتين روحية وسياسية يمكن أن يكونا كونيين فيؤسسان مهمتين للإنسان في الأرض مع الحرص على الحيلولة دون هذا التجسد والتحول إلى استبداد وظلم بسبب تحريف الوساطتين بين المؤمن وربه وبينه وبين حكمه لنفسه.
فأما مهمة الإنسان الأولى فتتمثل في كونه مكلفا بالاستعمار في الأرض أي بتعميرها ليستمد منها مصادر حياته.
وأما مهمته الثانية فتتمثل في وجوب جعله تعمير الأرض يكون بقيم الاستخلاف أي بما يجعل الإنسان جديرا بخلافة الله في الأرض.
وهذا العمل الذي يحقق حريتي الإنسان الروحية والسياسية غالبا من يفسده الإنسان ليس بمقتضى طبيعة الديني الذاتية له بل بمتقضى من يفسده بسيطرة هذين المؤسستين اللتين تتحولان إلى استراتيجية لتأسيس سلطتين سلطة الوساطة بين المؤمن وربه في شأنه الروحي وسلطة الوصاية بين المؤمن وذاته في شأنه السياسي فيصبح تابعا للوسيط الروحي والوصي السياسي أي بين الجماعة والشأن العام (المائدة 38 الأمر امر الجماعة تديره بشوراها) لمنعها من أن تدير شأنيها الروحي والسياسي بنفسها.
ولهذه العلة فإن مشكل العلاقة بين فرعون وموسى تعد علاقة مركزية في النص القرآني. ولهذه العلة كذلك كانت الرسالات النبوية الست التي تكلمت عليها تعالج العقبات التي تعترض تحرير الإنسانية. لكني أغفلت ذكر شيء عن الرسول الأوسط في سلسلة الرسالات أعني إبراهيم الذي يشغل فيها الوسط بين الرسل الثلاثة الأولين أي بين نوح هود وصالح والرسل الثلاثة الأخيرين وبين لوط وشعيب وموسى. فالسورة لم تقل شيئا عن رسالة إبراهيم واكتفت:
1 ـ بإبلاغه حل المشكل الذي وضعته قضية المثلية الجنسية في قوم لوط
2 ـ وإعلامه بأن سينجب ابنا وحفيدا رغم سنه المتأخرة .
كما أن السورة لم تقل شيئا عما تطلبه من الرسول المخاطب بهذه الرسالة التي وصفها مع اخواتها الأربع بكونها قد شيبت رأسه.
لذلك فلا بد من تصور الوعد الذي ورد ذكره والموجه إلى إبراهيم يعني في ما يعني أن الإبن الروحي المخاطب بالرسالة التي شيبت رأسه هو المقصود مع الأبن والحفيد. فابن إبراهيم الروحي في تاريخ الإسلام هو محمد وليس اسحق ولا إسماعيل. فلا شك أنه محمد لأن رسالته تعد إبراهيمية محدثة أو حنيفية محدثة. فمحمد هو إبراهيم الثاني: الأول شيب رأسه مشكل توحيد الرب أو التحرر من الوثنية الفلكية في آيات الأفول والثاني شيب رأسه مشكل توحيد الإنسانية أو التحرر من الوثنية العرقية التي تفتت البشرية.
فالإسلام لم يكتف بالكلام عن وحدة الديني مع الإنساني من حيث صلة الإنسان بالرحمن صلة مباشرة إذ هو أقرب إليه من حبل الوريد ما يغني عن الوساطة الروحية للسلطة الكنسية وهو مستخلف في الأرض ما يغنيه عن الوصاية المادية للسلطة السياسية فيتحرر روحيا وسياسيا ليكون سيد نفسه ولا معبود له سوى ربه.
ولا بد هنا من التوكيد على ذلك هو علة مقاومته التاريخية لاستعمال الديني تبريرا لوجود سلطتين روحية وسياسة تفسدان الديني. ومجالا المقاومة هذان هم بوضوح ما يتحدد في القرآن: فهو معجزة الرسالة الخاتمة رغم كونه لا ينفي معجزات غيره من رسالات الأنبياء السابقين على الإسلام.
والخاصية الإعجازية تتمثل في طبيعة خطابه ومشروعه السياسي الذي حدد استراتيجيته والقيم الكونية التي يمثلها. وقصدي ألا أتجاوز المجال الأول مع الإشارة إلى أن القرآن يستثني بقصد وبصراحة السلطة الروحية (الكنسية) والسلطة السياسية ذات الحق الإلهي (الثيوقراطية).
وفي مجال الخطاب القرآن يتأسس الحجاج على الطريقتين اللتين تمكنان من تحرير انتاج الفكر من السياقات الاجتماعية والثقافية ومن التناص أعني طريقة الإبداع العلمي والنظام الطبيعي وطريقة الابداع الجمالي وجمال المخلوقات:
1 ـ فالفن ينتج الجمال وينتج أسلوب تأويله والقرآن يعتبر الموجودات اعمالا فنية: بديع السماوات.
2 ـ والعلم ينتج النظام وينتج أسلوب تأويله والقرآن يعد الطبيعة مستجيبة لنظام رياضي: كل شيئ خلقناه بقدر.
والفلسفة تتأسس بفضل علم رئيس أعني الميتافيزيقا في علاقة مباشرة مع الطبيعة. والدين يتأسس كذلك على علم الرئيس خلقي أعني مابعد أخلاق في علاقة مباشرة بالتاريخ.
والميتافيزيقا موضوعها حل مشكلين: أولهما إبستمولوجي ويهدف إلى تحديد المفهومات الرئيسية والضرورية لكل معرفة علمية وثانيهما أنطولوجي ويهدف إلى تعليل وجود العالم.
وبنفس الأسلوب يعالج العلم الرئيس ما بعد الخلقي القرآني مشكلين كلذلك ملازمين لمهمتي الإنساني: ألاهما التنمية المادية لشروط حياته الدنيوية (الاستعمار في الأرض) والثانية التنمية الروحية التي تجعله جديرا بأن يكون خليفة (الاستخلاف).
لكن هذين العلمين الرئيسيين الميتافيزيقا والميتا أخلاق ينتهيان إلى علاج نفس المشكلات رغم أنهما تسلكان نفس الطريق ولكن في ترتيب متعاكس: فالفلسفة تبدأ بالبعد النظري من الفكر الإنساني وتنتهي بالبعد العملي منه. والديني يسلط نفس الطريق ولكن بعكس الطريقة الفلسفية أي إنه يبدأ بالبعد العملي وينتهي بالبعد النظري.
وكلا السلوكين يتوالجان في النص القرآني لأن تنمية شروط الوجود الدنيوي تقتضي أن يعلم الإنسان القوانين. لذلك فالمعرفة العلمية تعد أداة الأداة التي تمثل الغاية التي هي المعرفة الروحية والخلقية.
الإسلام لم يكتف بالكلام عن وحدة الديني مع الإنساني من حيث صلة الإنسان بالرحمن صلة مباشرة إذ هو أقرب إليه من حبل الوريد ما يغني عن الوساطة الروحية للسلطة الكنسية وهو مستخلف في الأرض ما يغنيه عن الوصاية المادية للسلطة السياسية فيتحرر روحيا وسياسيا ليكون سيد نفسه ولا معبود له سوى ربه.فالميتافزيقا وظيفتها تحديد بنية الفنون العلمية وتأسيسها. والدين وخاصة من منظور القرآن يؤدي نفس الوظيفة تماما لكن بكيف مغاير هو ما اطلقت عليه اسم ما بعد الأخلاق. فموضوعه الرئيس هو العلاقة بين التاريخي بوصفه عمل الإنسان الخلقي السياسي والديني بوصفه تاسيسا للقيم التي ينبغي أن تحكم هذا العمل الإنساني.
وأخيرا فيمكننا عندما نقارن ميتافيزيقا أرسطو والمتا إثيقا كما تصورناها أن نلاحظ وحدة الغاية فيهما مع الفرق في الرؤية:
1 ـ فالغاية واحدة رغم التقابل في الترتيب دون المنزلة. ففي الارشيتاكتونيك الميتافيزيقية يتقدم الابستمولوجي والطبيعي على الخلقي والتاريخي. وفي الارشيتاكتونيك الميتا إثيقي يتقدم الخلقي والتاريخي في الترتيب دون المنزلة على الإبستمولوجي والطبيعي.
2 ـ أما الرؤية فإنها بخلاف ذلك مطلقة التمايز. فالارشيتاكتونيك ما بعد الخلقية ترفض قطعا الحكمين المسبقين المسيطرين على الأرشيتاكتونيك الميتافيزيقية سواء تلك التي عمل بها العصر القديم أو العصر الوسيط أو تلك التي نكصت إليها الهيجلية والماركسية بعد رفضهما الرؤية النقدية الكنطية: ابستمولوجيا المطابقة ووحدة العالم النافية لما يتعالى عليه وراءه.
الهامش:
18 إن ذروة هذا الفساد تمثلت في فكرة شعب الله المختار. وحتى يدحض هذه الفكرة أكد القرآن أن كل الشعوب تلقت نفس الرسالة في لغاتها الطبيعية والإسلام يتوجه إلى كل البشر بل وقد ذهب حتى إلى تعدد الرسالات الإلهية هدفه تشيخ التسابق في الخيرات بين البشر في سعيهم لفعل الخير لأن القصد هو تمكين البشر من أن يكتشفوا بجهدهم الشخصي حقيقة الإيمان.
وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (المائدة 48).
Cf. Karl-Josef Kuschel, Vom Streit zum Wettstreit der Religionen : Lessing und die Herausforderung des Islam Patmos Verlag, Dusseldorf 1998.
256البقرة.
Ce statut particulier des sourates sœurs de Hūd traitent essentiellement de cette ébauche de la philosophie de la religion et de son rapport à la philosophie de l'histoire. Ces Sourates sont les suivantes :
هود (11) وأخواتها: الواقعة 56 والمرسلات 77 و النبأ 78 والتكوير 8
إن التأمل الذي رأيناه توجد في رتبة عند المسلمين تجعل الرب ليس له مضمون وكانه ليس عينيا. وهكذا فتجلي الرب في اللحم وارتفاع المسيح لرتبة ابن الله فوجود عند المسلمين لنعيم تناهي العالم والوعي ولا تناهي تحدد ذات الله. فليس للمسيحية إلا عقيدة المسيح باعتباره رسول الله وبوصفه معلما ربانيا ومن ثم فمثله مثل سقراط لكنه أفضل منه إذ هو بريء من كل خطيئة. فليس هو إلا نصف حقيقته. فليس المسيح إلا إنسانا أو "ابن إنسان". وهكذا فلا يبقى شيء من التاريخ الإلهي فيكون المسيح من جنس ما يقول فيه القرآن".
وذروة هذا الفساد تبقى فكرة الشعب المختار. وحتى يدحضها القرآن يؤكد أن كل الشعوب تلقت نفس الرسالة في لغتهم والذاتية وأن الإسلام يتوجه إلى البشرية كلها بل يذهب إلى حد التوكيد على أن عدد الرسالات إليه تهدف إلى تشجيع التسابق في الخيرات بين البشر والقصد هو تمكين البشر من أن يتكتشفوا بجهدهم الشخي حقيقة الإيمان.
Cf. G.W.F.Hegel, Vorlesungen über die Philosophie der Religion Werke 17 surkamp taschenbuch wissenschaft s.337
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير القرآن خطابه القرآن رأي خطاب تاويلات أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة العلاقة بین بین المؤمن فی الأرض یمکن أن أن یکون ما بعد
إقرأ أيضاً:
(نص) المحاضرة الرمضانية الأولى للسيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي
يمانيون/ صنعاء
نص المحاضرة الرمضانية الأولى للسيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي (يحفظه الله)1 رمضان 1446هـ | 1مارس 2025م
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ جَمِيعِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
في هذا الشهر المبارك، عادةً ما نبدأ حديثنا بالتركيز على أهمية التقوى؛ باعتبار ذلك من الأهداف الأساسية لفريضة الصيام في شهر رمضان المبارك، وباعتبار هذا العنوان من أهم العناوين، التي أخذت مساحةً كبيرةً في القرآن الكريم؛ باعتبار أهميتها للإنسان نفسه، لنا نحن، نحن بحاجةٍ كبيرةٍ إلى أن نستوعب هذا المفهوم، وأن نسعى للعناية به في واقع حياتنا.
لأهمية التقوى، احتل هذا العنوان، كصفة أساسية بارزة لعباد الله المؤمنين، المرتبة الثانية بعد الإيمان؛ ولـذلك يصف الله عبادَهُ الَّذين استجابُوا لرسالته ودعوته واتَّبعوا هديه بالمؤمنين، ثم تأتي في سياق المواصفات البارزة للمؤمنين صفة المتقين، وأتى الوعد الإلهي بالجنة، والمغفرة، والرضوان، والتوفيق، والهداية، وكثير من الوعود الإلهية أتت في القرآن الكريم مبنيةً على أساس التقوى:
ففي الوعد بالجنة، النعيم العظيم، والسعادة الأبدية، والفوز العظيم، أتى التركيز على عنوان التقوى، يقول الله “جَلَّ شَأنُهُ”: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران:133]، {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا}[مريم:63].كذلك الكثير من الوعود الإلهية:
سواءً ما يتعلق منها بعاجل الدنيا: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (3) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}[الطلاق:2-3]. أو ما يتعلق أيضاً بالآخرة، في الحساب وتيسيره، في الجنة، في الفوز العظيم… إلى غير ذلك. فيما يتعلق أيضاً بالارتقاء الإيماني والهداية الإلهية: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}[الأنفال:29].وهكذا الكثير من الآيات تركز على عنوان التقوى، فعنوان التقوى هو عنوانٌ مهمٌ جداً، فعندما قال الله “جَلَّ شَأنُهُ” عن فريضة الصيام في شهر رمضان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:183]، ندرك أهمية التقوى فيما تعنيه لنا، مما يترتب عليها من نتائج لنا نحن، نحن في أمسِّ الحاجة إلى تلك النتائج والآثار المترتبة على التقوى.
الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” هدانا في كتابه الكريم، وعلى لسان رسوله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم”، إلى ما تتحقق لنا به التقوى، ما يقينا، ما يقينا من المخاطر، من الشرور؛ ولـذلك فأوامر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” ونواهيه، ومن خلال الالتزام بها، تحقق لنا كل هذه النتائج؛ لأن التقوى هي تتمحور حول الالتزام بأوامر الله ونواهيه، هي– في واقع الحال- حالة نفسية تدفع الإنسان إلى الالتزام؛ لأنه يعي المسؤولية تجاه ما يعمل، يدرك أهمية الأعمال، وما يترتب عليها من نتائج.
فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهو الذي خلقنا وأنعم علينا، ويريد لنا الخير، ويريد لنا الفوز العظيم والسعادة الأبدية، لذلك نجد أنه لم يتركنا لنكون في حالة تخبط في هذه الحياة، فنتَّجه على أساس ونحن نبني نحن بأنفسنا في رؤانا، في تصوراتنا، في أفكارنا، ونرسم لأنفسنا الأعمال التي نتصور أنها تحقق لنا الخير، لم يتركنا الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في حالة فراغٍ من هدايته، بل هو ربنا، المالك لنا، المنعم علينا، ولي نعمتنا، ونحن عبيده، في مقام المسؤولية أمامه؛ ولـذلك فهو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” ابتدأنا هو بالهداية إلى ما فيه الخير لنا، وما فيه الوقاية لنا، ليس فقط على مستوى ما يقينا من العواقب السيئة للأعمال السيئة، والتفريط في المسؤوليات الكبيرة، بما ينتج عن ذلك من عواقب خطيرة على الإنسان في الدنيا، والعواقب الخطيرة الكبرى في الآخرة، بل أيضاً يدلنا على الأعمال العظيمة، التي تتحقق بها النتائج الكبيرة لنا نحن، من حياةٍ طيبةٍ في هذه الدنيا، كما وعد الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ومن سعادةٍ أبديةٍ (للأبد) في النعيم العظيم، فيما وعد الله به في الآخرة.
لذلك فمن أهم ما يساعد الإنسان على الاهتمام بالتقوى، والالتزام بالتقوى، هو: وعيه بأهمية الأعمال، وما يترتب عليها من نتائج، وإيمانه بوعد الله ووعيده، هذه مسألة مهمة جداً.
عندما نلتفت إلى واقع حياتنا، فنرى من الظواهر المنتشرة في أوساط الكثير من الناس هي: عدم تفاعلهم مع أعمال ذات أهمية كبيرة جداً، أعمال عظيمة، أعمال كبيرة، يسمِّي الله بعضها بالتجارة، مثل: الجهاد في سبيل الله، أعمال يتحقق من خلالها الخير الكبير للإنسان، وكذلك التهاون عند الكثير من الناس تجاه أعمال سيئة، أعمال خطيرة، أعمال يترتب عليها نتائج وخيمة للإنسان في الدنيا، وفي الآخرة بشكلٍ رهيبٍ جداً، هذا كله من نقص التقوى، ونحن قلنا: أن الذي ينقصنا كأمةٍ مسلمة، وعالمٍ إسلامي، ومنتمين لهذا الإسلام، تنقصنا التقوى، النقص هنا في موضوع التقوى.
نعمة الإسلام والانتماء للإسلام هي نعمةٌ عظيمة، تهيئ لنا الفرصة لأن نتَّجه في مسيرة حياتنا على أساس هدى الله، على أساس تعليماته، على أساس توجيهاته، وهنا كل الخير؛ لأن انتماءنا للإسلام: أننا نؤمن بالله، نؤمن باليوم الآخر، نؤمن بكتب الله ورسله، وهذا يهيئ لنا أن تكون انطلاقتنا في مسيرة حياتنا، في أعمالنا، مبنيةً على أساس هذا الإيمان، وهذا الانتماء؛ لكن يحصل الخلل مع غفلة الناس، مع اتِّباع الكثير لأهواء أنفسهم، عندما يتَّجه الإنسان في أعماله وتصرفاته اتِّجاهاً غريزياً، بناءً على الغريزة، على هوى النفس، على رغبات النفس، على شهوات النفس:
سواءً فيما يعود إلى رغبة لشهوة. أو فيما يعود إلى حالة انفعال وغضب، ينتج عنها رغبة لتصرف معين، أو فعل معين، أو ردة فعل معينة. أو فيما يترتب على حالة المخاوف أحياناً لدى الكثير من الناس، التي تؤثِّر عليهم في مسألة التقوى نفسها.فوعينا من خلال القرآن الكريم، من خلال هدى الله وتعليماته، وما أرشدنا إليه رسوله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”، وعينا بأهمية الأعمال، وعدم التهاون تجاه ما نعمل، ما نقوله، ما نتصرف فيه من تصرفات، ما هي مسؤولياتنا في هذه الحياة، هذا الوعي مهم لنا في تحقيق التقوى.
إيماننا بوعد الله ووعيده، والوعد والوعيد أخذ مساحةً كبيرةً جداً في القرآن الكريم؛ لأن من المهام الأساسية لكتب الله ورسل الله هو الإنذار والتبشير:
الإنذار بالتنبيه والتحذير من العواقب السيئة للأعمال السيئة، وما يترتب عليها من العقوبات في الدنيا والآخرة. الإنذار أيضاً بالآخرة وما فيها من الجزاء. وكذلك التبشير على الأعمال الصالحة.ولذلك خلال شهر رمضان، والإنسان يتلو كتاب الله، عليه أن يتدبر، أن يتأمل، أن يركز على الوعد والوعيد في القرآن الكريم، وعلى ما في القرآن من هدايةٍ مهمةٍ وعظيمة.
من المبادئ الأساسية في الوعد والوعيد هو: مبدأ الجزاء، ما نعمله نجازى عليه، هذا مبدأٌ مهمٌ، الله يقول عن كل نفسٍ بشرية في مقام المسؤولية والتكليف، {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}[البقرة:286]، هذا المبدأ المهم يجب أن يُرَسِّخه الإنسان في نفسه، وأن يستحضره في ذهنه، في كل مواقع الحياة، في كل مقامات الحياة، في كل ظروف الحياة؛ لأن غفلة الإنسان عن ذلك تجعله يستهتر تجاه ما يعمل، وكأنه لا يجازى عليه، ولا يعاقب عليه، أو لا يتفاعل مع أعمال ذات أهمية كبيرة، جزاؤها عظيم، من ورائها خيرٌ كبيرٌ لهُ.
ولأهمية هذا المبدأ، أتى الحديث عنه كثيراً في القرآن الكريم؛ باعتباره من المبادئ الأساسية، التي ترتبط بعدل الله، وبحكمته أيضاً؛ لأن هذا من عدل الله ومن حكمته، وأيضاً ترتبط بملكه؛ لأنه هو الملك، ملك السماوات والأرض، وملك الناس، لم يخلقنا عبثاً في هذه الحياة لنتصرف كيفما نشاء ونريد، ونعمل كما تهواه أنفسنا، وبما تهواه أنفسنا، ومن دون أن نجازى على ذلك.
الإنسان كلما استحضر هذا المبدأ ورسَّخه في نفسه، كلما التزم بالتقوى؛ لأنه يدرك أنه يجازى على كل ما يعمل، إن خيراً فخيرٌ، وإن شراً فشر، ليست المسألة عبث، ليست عبثاً، ليس الوضع بالنسبة للإنسان مهدوراً؛ ولهـذا يقول الله في القرآن الكريم: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}[الجاثية:22]، فمسألة الخلق بنفسها مبنيةٌ على هذا المبدأ العظيم، خلق السماوات والأرض، وخلق الإنسان، خلق الكائنات التي هي في مقام المسؤولية، مبنيٌ كله على هذا المبدأ المهم، لابدَّ من الجزاء، الإنسان سيجازى.
كذلك الآخرة، اليوم الآخر، يقول الله: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ}[طه:15]، هي آتية الساعة، ونحن آخر الأمم، ومسيرة الحياة البشرية قريبة من النهاية، والقيامة قريبة، {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}[القمر:1]، {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى}[طه:15].
يقول الله أيضاً: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}[النجم: 39]، فمصيرك أنت هو مرتبطٌ بسعيك، بعملك، مسألة مصير، العمل ليس مسألة عادية، مصيرك الأبدي متوقفٌ على أعمالك، مرتبطٌ بها، {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى}[النجم:40-41]، فنتائج الأعمال وتبعاتها بحسبها، يعني: إن كان اتِّجاه الإنسان قائماً على الإيمان، والعمل الصالح، والاستجابة لله تعالى، والاستقامة، والتقوى، كان هذا المسار مساراً عظيماً، وفق وعد الله “جَلَّ شَأنُهُ”، أنت تحصل على الجزاء من الله، لن تُظْلَم، لن يضيع عليك من عملك الصالح ولا مثقال ذرة، ولا أي شيء أبداً.
يقول الله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}؛ ولــذلك عندما يُدعى الإنسان إلى ما هو عملٌ صالح، فيتصور المسألة وكأنها عبءٌ إضافيٌ، كأنه شيءٌ لا يعنيه، وحملٌ وعبءٌ عليه، هذا نقص في استيعاب هذا المفهوم، أنه لنفسك أنت، أنت المستفيد من ذلك، لهذا نتائج لك أنت، منها ما يأتيك في هذه الدنيا، ومنها ما يأتيك في الآخرة، في مستقبلك الأبدي والدائم، وعلى مستوى عظيم جداً، على مستوىً عظيم من النعيم، من التكريم، من الجزاء العظيم.
لو استوعب الإنسان ورسَّخ في نفسه هذا المبدأ المهم، لما كانت نظرته أبداً إلى الأعمال الصالحة، إلى الأعمال العظيمة، إلى ما يدعونا الله إليه، وكأنه عبء، وكأنه حِمْل، وكأنه مشكلة يسعى للخلاص منها، أو كأنه شيءٌ ثانوي لا يعنيه وليس له صلةٌ به.
{وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}، كذلك جرأة الإنسان في الأعمال السيئة، والتصرفات السيئة، والأفعال والأقوال السيئة، هذه الجرأة هي ناتجةٌ عن غفلة، أو عدم إيمان؛ إمَّا أن الإنسان يتناسى ويتغافل أنه يسيء على نفسه، يُحَمِّل نفسه الأوزار على مستوى ما يقوله من الأقوال السيئة، كل كلمة سيئة يترتب عليها نتائج تعود عليك أنت، وكذلك الأفعال والتصرفات، التي قد ينطلق الإنسان فيها كما قلنا:
إما بشهوة، اتِّباعاً للشهوات والأهواء. وإمَّا في إطار الغضب والانفعال، وهي كذلك رغبة مبنية على حالة غضب. أو في إطار المخاوف.أي حالة من الدوافع التي تؤثِّر على الكثير من الناس، لكن عندما يدرك الإنسان أنه يسيء على نفسه، يتحمل هو التبعات والعواقب لتلك الإساءة، سواءً كانت بشكل عمل، أو موقف، أو كلام… أو غير ذلك، {وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}.
عِظم الجزاء يدل على عظيم المسؤولية بالنسبة للإنسان، يعني: ليست المسألة حتى في مسألة الجزاء أنه جزاء عادي، هناك جزاء يحصل في الدنيا، جزءٌ منه فيما وعد الله به في الدنيا، وهو شيءٌ له أهميته بالنسبة للإنسان، وعد الله المؤمنين المتقين بالحياة الطيِّبة، بالعزَّة، بالنصر، بأشياء كثيرة وعدهم بها في الدنيا، بالخير، بالبركات… كلها ذات أهمية، وتمثل حاجةً كبيرةً للإنسان، على المستوى الشخصي، وعلى المستوى الاجتماعي كمجتمع.
ولكن ليس هذا فحسب، هناك أيضاً الآخرة، ما يأتي في الدنيا هو شيءٌ من الجزاء، نسبة محدودة من الجزاء، لكن يوفَّى الإنسان جزاءه في الآخرة، الآخرة التي هي مصيرٌ أبديٌ خيرها خالصٌ عظيمٌ جداً جداً على أرقى مستوى، فيما يتعلق بالتكريم المعنوي، فيما يتعلق بالنعيم المادي، والإمكانات المادية، والحياة المادية، والتكريم فيما هو في مرحلة الحساب، في ساحة القيامة، وفيما هو في الجنة، الجنة التي قال الله عنها: {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران:133]، الجنة التي فيها كل أنواع النعيم المادي الذي يشتهيه الإنسان، {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ}[الزخرف:71]، ولكن على أرقى مستوى، بما عَبَّر عنه رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم”: ((فِيْهَا مَا لَا عَينٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَت، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلبِ بَشْر))، أرقى نعيم، يعني: جزاء عظيم جداً، وللأبد {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}، {لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا}[الكهف:108]، يستقرون للأبد، بسعادة دائمة، بنعيمٍ عظيمٍ مستمرٍ، ليس فيه هرم، ولا مرض، ولا هم، ولا غم، ولا أي منغصات أبداً.
والشر في الآخرة كذلك شرٌ خالص، ليس معه أي لحظة من الراحة، أو لحظة يُفْرَج عن الإنسان ما هو فيه من الشدة والعذاب، على المستوى النفسي، وعلى المستوى الجسدي، بدءاً من ساحة القيامة، في هول الحساب، في تشديد الحساب، في الخزي يوم الحساب، في الحسرات والندم الشديد جداً؛ ثم في الذهاب إلى جهنم، في الحشر إلى جهنم، في العذاب في النار والعياذ بالله، الاحتراق الدائم في نار جهنم، العذاب بكل ما فيها: بشرابها الحميم والصديد، بطعامها الزقوم، الذي {يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ}[الدخان:45-46]، بكل ما فيها من العذاب الشديد جداً، الذي لا ينفك عن الإنسان ولا لحظةً واحدة، ليس فيها ولا بمستوى ثانية واحدة، ما يعادل ثانية واحدة يمكن للإنسان أن يرتاح فيها، يطلبون يوماً واحداً يخفف عنهم فيه العذاب على مستوى التخفيف، ولا يستجاب لهم، يعني: شرٌ رهيب، في مقابل الخير الخالص، والسعادة الأبدية، وللأبد كذلك، {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}، {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}[البقرة:167].
فالجزاء الكبير في الآخرة، الذي هو مصيرٌ أبدي، يدل على ماذا؟ على أهمية مسؤوليتنا في هذه الحياة، على الأهمية الكبيرة لأعمالنا، التي نعملها بدون مبالاة، أو اكتراث، أو لا ندرك أهميتها، فالإنسان بحاجة إلى أن يصحح نظرته تجاه الأعمال، في مجال الخير، وأهميتها الكبيرة، وما يترتب عليها، وفي مجال الشر كذلك، وما يترتب عليها.
ولهـذا يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ}[لقمان:8]، في مقابل الإيمان والعمل الصالح هناك هذا الفوز العظيم: {لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ}، فهي أعمال ذات قيمة كبيرة، لها أهميتها بالنسبة لمستقبلك الأبدي والدائم، لأن يكون في جنات النعيم، {خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[لقمان:9]، فكيف لا ترغب؟ كيف لا تتوفر لديك الدوافع للعمل الصالح، للأعمال التي دعاك الله إليها، وهي أعمال عظيمة، أعمال هي شرفٌ لك في هذه الحياة، أعمال هي مُيَسَّرة في هذه الحياة، الله يسَّر للإنسان أعمال الخير، ليست في أصلها شاقّة، بالقدر الذي هناك في مقابلها من الأعمال السيئة مشاق أكبر، مشقتها قد تكون في المستوى المعتاد لظروف الحياة، ومع ذلك يأتي التيسير حتى في هذه النسبة من المشقة، التي هي في المستوى المعتاد في ظروف حياة الناس في سائر أعمالهم، حتى الأعمال العادية جداً، التي هي أعمال في معيشتهم وكسب حياتهم، وما يترتب على ذلك.
فهذه الأعمال، التي لها أهمية كبيرة، كُلّ عمل تنجزه له مقابل عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، في إطار هذا الوعد العظيم: الجنة، وما فيها من النعيم، فكل عمل من الأعمال الصالحة هو رصيدٌ لك، {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا}[المزمل:20]، يعني: شيءٌ لك أنت، أنت المستفيد منه، لا تتصور وكأنك أسديت جميلاً لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هو غنيٌ عنك، غنيٌ عن أعمالك، أنت أنت المستفيد.
يقول الله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}[يونس:26]؛ لأن الله يزيدهم من فضله، هناك ما هو يقابل عملك من الجزاء العظيم والكبير والمهم في مقابل الأعمال الحسنة، أنت كنت محسناً في هذه الدنيا، تعمل الأعمال الحسنة، وتحسن إلى عباد الله؛ لأن عنوان الإحسان هو يشمل أن تكون أعمالنا أعمالاً حسنة، في مقابل الأعمال السيئة، ألَّا نسيء في تصرفاتنا، في أقوالنا، في أعمالنا، هذا يتحقق للإنسان بالتزامه بتوجيهات الله وتعليماته وأوامره، وانتهائه عن نواهيه، هذا يحقق لك أن تكون أعمالك أعمالاً حسنة، وأن تكون محسناً في أعمالك وتصرفاتك، وليس مسيئاً، وكذلك في قيمة الإحسان إلى عباد الله، في فعل الخير لهم، في فعل البر إليهم، في العطاء لهم… في كل أشكال الإحسان التي إليهم، (وَزِيَادَةٌ) من الله، زيادة واسعة وكبــــيرة من فضله العظيم، زيادة على ما يقابل جهدك وعملك، يكافئك الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
مع أن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” بكرمه العظيم، فيما قرره للإنسان في مقابل الأعمال، من البداية بنى المسألة على الزيادة: الحسنة بعشرة أمثالها، ثم هناك أبواب من الأعمال عليها مضاعفات كبيرة للثواب والأجر، في الإنفاق في سبيل الله الحد الأدنى هو سبعمائة ضعف، مواسم كما في شهر رمضان، الحد الأدنى من المضاعفة في شهر رمضان إلى سبعين ضعفاً، يعني: من البداية هناك زيادات، ثم فوق هذه الزيادات في الأجر، في الثواب، في الفضل، في مقابل الإحسان، هناك أيضاً ما هو زيادة على كل ذلك من فضل الله في الآخرة.
{وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ}[يونس:26]، في ساحة الحساب، في ساحة القيامة، والمسيئون في وضعٍ رهيب جداً، لشدة ما هم فيه من الحزن، والندم، والأسف، والحسرات، والخوف، تظهر على وجوههم تلك الحالة، تلك الكآبة الشديدة في وجوههم، في ألوان وجوههم، سواداً وقتراً؛ لكن في واقع الآخرين المحسنين، الذين استجابوا لله، في ما هم فيه من الفرح، من السرور، وأدركوا قيمة أعمالهم، نتيجة جهودهم، النتيجة العظيمة وفق وعد الله لهم، الطمأنة من ملائكة الله، البشارات تلو البشارات، فهم في حالة فرح وسرور، يتجلى ذلك السرور على وجوههم، وعلى ألوانهم، فيما هم فيه من حالة الفرح.
{أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[يونس:26]، مصيرهم الجنة، في عالم الجنة، للخلود الأبدي والدائم، فكانت النتيجة هي هذه النتيجة: السعادة للأبد، والهناء بالحياة الأبدية.
{وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[يونس:27]، هذا هو المصير، مصيرك عندما تكسب في هذه الحياة السيئات، الأعمال السيئة، بتصرفاتك، بمخالفتك لأوامر الله ونواهيه؛ لأنك خضعت لأهواء النفس، لأماني النفس، تأثرت بوساوس الشيطان، اتَّجهت الاتِّجاه السيئ، فأنت كسبت على نفسك من الأعمال السيئة ما كان به مصيرك إلى جهنم والعياذ بالله، حسراتك يوم القيامة، أسفك وندمك، خوفك الشديد يتجلى على وجهك إلى هذه الدرجة: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا}، قطعة من السواد، من سواد الليل على وجهك، تعبِّر عن حجم ما في نفسك من الهم، والغم، والحسرة، والندم، والخوف الشديد، ومع ذلك لا ترى لنفسك أي فرصة على الإطلاق لتلافي وضعك آنذاك؛ لأنك فوَّت الفرصة الوحيدة، وهي: حياتك في هذه الدنيا، ليس وراءها أي فرصة أبداً.
والإنسان يدرك قيمة العمل وأهمية العمل حتى في لحظة الموت، {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}[المؤمنون:99-100]، لكن لا يفيد الإنسان هذا أبداً، في الآخرة، في مواقف الحساب والقيامة كذلك.
لـذلك من خلال تأملاتنا في القرآن الكريم، تلاوتنا لكتاب الله في هذا الشهر الكريم، علينا أن نعي جيداً أهمية الأعمال، أهمية التقوى فيما تعنيه لنا، فيما يترتب على أعمالنا من نتائج في الآخرة، أن نُرسِّخ إيماننا بوعد الله ووعيده، أن نتأمل ما ورد في القرآن الكريم من الوعد الإلهي والوعيد الإلهي، هذا شيءٌ مهمٌ جداً بالنسبة لنا؛ لكي ندرك أهمية التقوى، ونركز عليها في هذا الشهر، كحصيلة ومكتسب مهم وعظيم لنا، نستفيده من صيام شهر رمضان.
نكتفي بهذا المقدار، وإن شاء الله نبدأ من محاضراتنا القادمة، من بعد هذه المحاضرة، لنستأنف ما كنا بدأناه في شهر رمضان من العام الماضي في القصص القرآني.
نَسْألُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يَتَقَبَّلَ مِنَّا وَمِنْكُمُ الصِّيَامَ وَالقِيامَ وَصَالِحَ الأَعْمَال، وَأَنْ يُوَفِّقَنَا لِنَكُونَ فِي عِدَادِ عِبَادِهِ المُتَّقِين.
وَنَسْألُهُ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسرَانَا، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛