تتخذ الدول من الماضي عِبَر لعبور الأزمات التي تلاحقها، لاسيما الاقتصادية، وتستعرض نماذج من أسلافهم من الدول الأخرى التي تخلصت من كوابيس التردي والانحطاط الاقتصادي نتيجة حروب وصراعات حتى أضحت من أهم الاقتصادات العالمية في أقل من عقد، بعد أن ساهم بعض أفراد هذه الدول- من غير المسؤولين- في طرح مقترحات ووضع حلول عملية جرى ترجمتها على أرض الواقع.

ومن أبرز تلك الحلول التي نهضت بألمانيا، «المدمرة» بالكامل بعد الحرب العالمية الثانية ( سبتمبر 1939- سبتمبر 1945)، إقرار قوانين صارمة لتجنب نشوء الاحتكارووضع نظام رعاية اجتماعية لحماية الأشخاص ممن يجدون أنفسهم في حالات صعبة ماليًا، فضلًا عن طرح عملة جديدة بدلًا من العملة القديمة التي فقدت قيمتها بهدف خفض كمية العملة المتوفرة لدى العامة بنسبة 93%.

ولم يكن أي من المعجزة الاقتصادية الألمانية تتحقق، بدون فضل وفكر أفراد مثل «والتر أوكن» و «لودفيج إيرهارت» وكثيرين غيرهم.

وتستعرض «الأسبوع» لمحات من منعطفات ومراحل تطور ونهضة الاقتصاد الألماني إبان وعقب الحرب نقلًا عن «أرقام» و«إنفستوبيديا»، فقد خرجت ألمانيا من الحرب العالمية الثانية دولة مدمرة ومنهكة اقتصاديا وتواجه مستقبلًا قاتمًا بشكل لا يصدق، لكنها استطاعت في وقت وجيز النهوض مجددًا لتصبح واحدة من أهم محركات النمو الاقتصادي العالمي، وبحلول عام 1989 عندما هُدم جدار برلين ووُحدت ألمانيا من جديد، صارت محط إعجاب العالم بسبب إنجازها، فقد كانت تحتل المرتبة الثالثة لأقوى الاقتصادات العالمية بعد اليابان والولايات المتحدة الأمريكية. بعد كل ما مرت به ألمانيا يمكننا أن نتفهم لماذا يُطلق الكثيرون على إعادة تطوّر ألمانيا بالمعجزة الاقتصادية. ولكن، كيف حققت هذا الإنجاز؟

انخفاض ثلث إنتاج ألمانيا الصناعي

تروي الأرقام قصة أمة في حالة من الفوضى، حيث انخفض الإنتاج الصناعي بمقدار الثلث، وتناقصت الثروة العقارية بنسبة 20%، وتراجع الإنتاج الغذائي إلى نصف ما كان عليه قبل بداية الحرب. معظم الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و35 عامًا، قُتلوا أو أُصيبوا بإعاقة ما، إذ كانوا أهم المساهمين في إعادة البناء.

انهيار رايخ مارك الألماني

في فترة الحرب، خصص هتلرحصصًا غذائية لكل شخص 2000 سعرة حرارية في اليوم الواحد على الأكثر. وبعد الحرب استمر الحلفاء باتباع هذا التقنين وخفضوا السعرات الحرارية المسموح بها إلى ما بين 1000 و1500 سعرة حرارية في اليوم الواحد.أدت ضوابط الأسعار على السلع والخدمات الأخرى إلى نقص كبير في المنتجات وتضخم السوق السوداء، وفقدت العملة الألمانية (رايخ مارك) جزءًا كبيرًا من قيمتها، ما تطلّب من الشعب اللجوء إلى مقايضة المنتجات والخدمات.

كانت ألمانيا في هذا الوقت مُحتلة من أربع دول، وسرعان ما سيتم تقسيمها إلى نصفين، إذ أصبح القسم الشرقي دولة اشتراكية وجزء من الستار الحديدي الذي تأثر بشدة بالسياسة السوفيتية، أما القسم الغربي فقد أصبح ديموقراطيًا، وعلقت العاصمة السابقة برلين في المنتصف والتي قُسمت بدورها بجدار برلين.

والتر أوكن أهم شخصية اقتصادية في ألمانيا

يُعد والتر أوكن أهم شخص في إعادة بناء ألمانيا، وهو من أب حاصل على جائزة نوبل في الأدب، درس الاقتصاد في جامعة بون الألمانية، وبدأ بعد الحرب العالمية الأولى التدريس في تلك الجامعة. وفي النهاية انتقل إلى جامعة فرايبورغ التي أصبحت معروفة عالميًا بفضله.

اكتسب أوكن العديد من المتابعين في الجامعة التي أصبحت واحدة من الأماكن القليلة في ألمانيا الممكن لمعارضي هتلر التعبير فيها عن رأيهم، ولكن الأهم من ذلك، أنه بدأ أيضًا في تطوير نظرياته الاقتصادية، والتي أصبحت تعرف باسم مدرسة فرايبورغ، أو "السوق الحرة الاجتماعية"، كانت أفكار أوكن مبنية على مبدأ السوق الحرة الاشتراكية والسماح للدولة بالتدخل للتأكد من صحة عمل النظام على أكبر عدد ممكن من الشعب.

على سبيل المثال، يجب وضع القوانين الصارمة لتجنب نشوء الاحتكارات، ويجب وضع نظام رعاية اجتماعية لحماية الأشخاص الذين يجدون أنفسهم في حالات صعبة، كما أيد فكرة إنشاء بنك مركزي مستقل عن الحكومة ليركز على استخدام السياسات النقدية للحفاظ على استقرار الأسعار.

ردة الفعل على نظريات أوكن

قد يبدو نظام أوكن الاقتصادي طبيعيًا اليوم، ولكن في ذلك الوقت كان يُنظر إليه على أنه متطرف للغاية، لكن يتعين علينا فهم فلسفة أوكن مقارنةً بالحقبة التي عاش فيها لندرك مدى عظمة أفكاره. في تلك الحقبة حل الكساد الكبير الذي استنزف العالم بأسره وأثر على ألمانيا أكثر من غيرها، والتضخم الجامح الذي دمر الاقتصاد وأدى إلى صعود هتلر.

اعتقد كثيرون أن النظام الاشتراكي هو النظرية الاقتصادية التي ستكتسح العالم. بعد فترة وجيزة من الحرب، تعين على ألمانيا الغربية تحت هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية وقوى الحلفاء، اختيار الطريق للوصول إلى الازدهار الاقتصادي.

أبو المعجزة الاقتصادية الألمانية

عندما كانت ألمانيا في بداية مرحلة إعادة البناء، احتدم الجدل حول السياسة المالية للدولة الجديدة، إذ أراد الكثير من قادة العمال وأعضاء الحزب الديمقراطي الاجتماعي إبقاء رقابة الحكومة، ولكن أحد تلاميذ أوكن، ويدعى لودفيغ إيرهارت، الذي أصبح يُعرف باسم «أبو المعجزة الاقتصادية الألمانية»، كان قد بدأ يكتسب مكانة بارزة لدى القوات الأمريكية والتي كانت لا تزال تسيطر بحكم الأمر الواقع على ألمانيا.

يعد إيرهارت أحد المخضرمين في الحرب العالمية الأولى، وقد ذهب إلى مدرسة تجارة، وعمل باحثًا في إحدى المنظمات التي ركزت على الاقتصاد في مجال المطاعم. في عام 1944، عندما كان الحزب النازي ما يزال مسيطراً على ألمانيا، كتب إيرهارت مقالة لمناقشة الوضع الاقتصادي الألماني في حال خسر النازيون الحرب.

وصلت مقالته في نهاية المطاف إلى قوات الاستخبارات الأمريكية الذين حاولوا الوصول إليه بعد ذلك.

وبمجرد استسلام ألمانيا، تم تعيينه في منصب وزير مالية بافاريا ومن ثم عمل جاهدًا للوصول إلى منصب مدير المجلس الاقتصادي في ألمانيا الغربية وفي النهاية حصل عليه.

محاولات متعددة الاتجاهات

بدأ إيرهارت، بمجرد أن اكتسب نفوذاً سياسياً، في القيام بمحاولات متعددة الاتجاهات لإعادة اقتصاد ألمانيا الغربية إلى الحياة. في البداية، كان له دور مهم في طرح عملة جديدة بدلًا من العملة القديمة التي كانت قد فقدت قيمتها، ويهدف ذلك إلى خفض كمية العملة المتوفرة لدى العامة بنسبة 93%، إذ ساعد هذا القرار على الحد من التدهور المادي لدى الأشخاص والشركات، وتخفيض الضرائب لزيادة الإنفاق والاستثمار. كان من المقرر طرح العملة في 21 يونيو 1948. وفي خطوة مثيرة للجدل، قرر إيرهارت أيضًا إلغاء ضوابط الأسعار في اليوم ذاته.

عادت الحياة للاقتصاد الألماني

وعادت ألمانيا الغربية إلى الحياة، إذ قام التجار بملء مخازنهم بعد تأكدهم من أن العملة الجديدة لها قيمة حقيقية. و سرعان ما توقفت المقايضة وانتهت السوق السوداء، بينما ترسخت السوق التجارية وعاد حس العمل عند الناس من جديد، وعاد الحس الصناعي الشهير عند الألمان.

خطة مارشال الأمريكية

إضافةً إلى إعادة بناء ألمانيا، كان هناك برنامج الإصلاح الأوروبي، الذي أُطلق عليه اسم «خطة مارشال» نسبة إلى وزير الخارجية الأمريكي جورج مارشال الذي صاغ قانون الإصلاح، حيث قدمت الولايات المتحدة الأمريكية 15 مليار دولار إلى الدول الأوروبية المتضررة من الحرب العالمية الثانية. مع تخصيص جزء كبير من هذه الأموال لألمانيا.

قدر البعض أن المساعدات من خطة مارشال ساهمت بأقل من 5% في الدخل القومي لألمانيا خلال تلك الفترة، واستمر نمو ألمانيا الغربية على مر السنين. وبحلول عام 1958، كان إنتاجها الصناعي أعلى بأربعة أضعاف مما كان عليه قبل عقد واحد فقط.

الرأسمالية والشيوعية يلتقيان على الملعب الألماني.. مَن ربح؟

وجدت ألمانيا نفسها عالقة في خضم الحرب الباردة، إذ كانت ألمانيا الغربية حليفًا قويًا لأمريكا وكانت رأسمالية إلى حد كبير، في حين كانت ألمانيا الشرقية متحالفة بشكل وثيق مع الاتحاد السوفيتي وكانت شيوعية اشتراكية.

وقد قدمت هاتان الدولتان الفرصة المناسبة لمقارنة أكبر نظامين اقتصاديين في العالم (الاشتراكية والرأسمالية)، والمثير للدهشة أنه لم يكن هناك مجال للمقارنة. بينما ازدهرت ألمانيا الغربية، تخلفت ألمانيا الشرقية بسبب الاقتصاد المتعثر ونقص الحريات السياسية، سرعان ما احتج سكان ألمانيا الشرقية وحاولوا مغادرة البلاد بأعداد كبيرة على الرغم من القوانين التي تقيد السفر.

في 9 نوفمبر 1989، سمحت حكومة ألمانيا الشرقية لأول مرة لبعض سكانها بالذهاب إلى ألمانيا الغربية، ما أدى إلى بداية سقوط نظام ألمانيا الشرقية ثم توحيد القسمين معًا، لكن مر وقت طويل قبل أن تتم المساواة بين القسمين. وعندما بدأ التوحيد بين الطرفين الشرقي والغربي كان القسم الشرقي يملك 30% فقط من الإجمالي المحلي للفرد الواحد مقارنةً بألمانيا الغربية، وحتى بعد 30 عامًا زاد هذا الرقم فقط إلى 75%.

اقرأ أيضاًقمة مجموعة العشرين تؤسس لمرحلة جديدة من التعاون الدولي لكبح الأزمات الاقتصادية

الخارجية الروسية: نراقب عن كثب الاستعدادات العسكرية الألمانية ضد موسكو

منذ الحرب العالمية الثانية.. فرنسا تسجل أقل معدل مواليد

الخارجية الألمانية تعترف بمسئولية برلين عن جرائم الحرب العالمية الثانية في بولندا

المصدر: الأسبوع

كلمات دلالية: الإنتاج الصناعي السعرات الحرارية الحرب العالمية الثانية هتلر النظام الرأسمالي إعادة البناء ألمانيا الغربية ألمانيا الشرقية الحرب العالمیة الثانیة ألمانیا الغربیة ألمانیا الشرقیة کانت ألمانیا على ألمانیا ما کان

إقرأ أيضاً:

القدس.. الحرب التي لا تنتهي!

 

 

من خطة الاستيطان E1 إلى احتلال مدينة غزة، تعمل “إسرائيل” على تفكيك أيّ إمكانية لقيام دولة فلسطينية.
إنّ مساعي “إسرائيل” العدوانية لإعادة تشكيل جغرافيا وسياسة القدس والأراضي الفلسطينية الأوسع ليست عفوية ولا دفاعية. إنها نتيجة استراتيجية طويلة الأمد لمحو إمكانية السيادة الفلسطينية، التي يسعى إليها البعض في المجتمع الدولي مؤخراً، وفرض سردية إسرائيلية حصرية للسيطرة.
من القدس إلى غزة، تعمل كلّ خطوة مدمّرة من جانب “إسرائيل” على ترسيخ سلطتها، وتهجير الفلسطينيين، وزعزعة استقرار المنطقة. ومن دون تدخّل دولي جادّ، ستمتد العواقب إلى ما هو أبعد من الأرض المقدّسة.
أصبح هذا التحوّل جلياً في عام 2017م، عندما حطّم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عقوداً من الإجماع الدولي باعترافه بالقدس عاصمةً موحّدةً لـ “إسرائيل” ونقله السفارة الأمريكية إليها.
هذا الإجراء الأحادي، المُغلّف ضمن ما يُسمّى “صفقة القرن”، أعطى “إسرائيل” الضوء الأخضر لتسريع خططها في القدس.
توسّعت المستوطنات، وتضاعفت عمليات هدم منازل الفلسطينيين، وزادت القيود على الوصول إلى الأماكن المقدّسة. بالنسبة للفلسطينيين، لم يُقوّض إعلان ترامب حلّ الدولتين فحسب، بل قضى عليه تماماً.
فسّرت “إسرائيل” مباركة واشنطن على أنها ترخيص لترسيخ السيادة على القدس على حساب الوجود الفلسطيني وحقوقه. ولم تُسرّع خطوة ترامب سوى عملية كانت جارية بالفعل. فقد فرضت “إسرائيل” تدابير تهدف إلى تفتيت المجتمع الفلسطيني في القدس وفرض سيطرتها الحصرية على أماكنه المقدّسة.
في عام 2015م، أشعلت القيود المفروضة على الوصول إلى المسجد الأقصى واقتحامات المستوطنين شرارة انتفاضة القدس، التي خلّفت آلاف الجرحى والمعتقلين والشهداء. بعد عامين، أثار تركيب البوابات الإلكترونية على مداخل الأقصى احتجاجات فلسطينية حاشدة، مما أجبر “إسرائيل” على التراجع المُحرج.
ومع ذلك، لم يتغيّر المسار الأوسع: فقد تصاعدت عمليات هدم المنازل، واستمرت عمليات الطرد، واقتحمت جماعات المستوطنين المسجد الأقصى بوتيرة متزايدة، غالباً تحت الحماية المباشرة لقوات الأمن الإسرائيلية.
قام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نفسه، إلى جانب شخصيات من اليمين المتطرّف مثل إيتمار بن غفير، بزيارات رفيعة المستوى إلى سلوان، وهو حيّ فلسطيني في القدس الشرقية المحتلة، وإلى المسجد الأقصى لإرسال رسالة مفادها: ستُعاد صياغة القدس وفقاً لشروط “إسرائيل”، بغضّ النظر عن القانون الدولي أو قرون من الوصاية الدينية.
E1 والضفة الغربية المحتلة
امتدّت هذه الاستراتيجية منذ ذلك الحين إلى الضفة الغربية المحتلة بطرق تكشف عن غايتها الكاملة. في أغسطس 2025م، أحيت “إسرائيل” خطة E1 الاستيطانية المتوقّفة منذ فترة طويلة، وسمحت ببناء نحو 3500 وحدة سكنية شرق القدس.
للوهلة الأولى، قد يبدو هذا بمثابة توسّع آخر للمشروع الاستيطاني الإسرائيلي غير القانوني واسع النطاق، لكنّ آثاره أكثر تدميراً بكثير. منطقة E1 هي قطعة أرض تمتدّ على طول الضفة الغربية المحتلة، تربط القدس بمعاليه أدوميم، إحدى أكبر المستوطنات الإسرائيلية غير الشرعية، وتقسمها في الوقت نفسه.
وبفصل القدس الشرقية المحتلة عن باقي الأراضي، وفصل تجمّعات شمال وجنوب الضفة الغربية عن بعضها البعض، ستجعل E1 إقامة دولة فلسطينية متصلة جغرافياً أمراً شبه مستحيل. ولم يتردّد المسؤولون الإسرائيليون في إعلان نواياهم. فقد صرّح وزير المالية بتسلئيل سموتريتش صراحةً بأنّ الموافقة على البناء في E1 «تدفن فكرة الدولة الفلسطينية”.
وهذه الصراحة تكشف ما يعرفه الفلسطينيون منذ زمن: المستوطنات غير الشرعية لا تهدف إلى نقص المساكن أو الأمن؛ بل هي أدوات ضمّ. ومن خلال E1 ومشاريع مماثلة، تُضفي “إسرائيل” طابعاً رسمياً على ما تسمّيه “السيادة الفعلية”، موسّعةً بذلك سيطرتها على الأراضي المحتلة، منتهكة اتفاقية جنيف الرابعة وقرارات الأمم المتحدة المتكرّرة.
إذا كانت المنطقة E1 تُمثّل استراتيجية “إسرائيل” لتقسيم الضفة الغربية المحتلة، فإنّ غزة تكشف عن الوجه الآخر للعملة: الهيمنة العسكرية المباشرة والتهجير القسري.
في أغسطس2025م، وافقت “إسرائيل” على خطة للسيطرة على مدينة غزة، مما قد يؤدّي إلى تهجير أكثر من مليون من سكانها تحت ستار “الأمن”. أُمرت العائلات بالإخلاء، وأُجبرت على اللجوء إلى ملاجئ غير آمنة ومكتظة في جنوب غزة، بينما تُحذّر تقارير المنظّمات الإنسانية من وفيات ناجمة عن الجوع وكارثة إنسانية متفاقمة.
وباحتلالها مدينة غزة، تُنفّذ “إسرائيل” خطة لإعادة تشكيل هذا الجيب بشكل دائم، كما فعلت في القدس الشرقية المحتلة والضفة الغربية المحتلة. وبالنظر إلى هذه التطورات مجتمعةً، فإنها تكشف عن استراتيجية توسّع مُنسّقة.
وفي القدس، تسعى الإجراءات التقييدية والاستفزازات في الأقصى إلى تقليص الوجود الفلسطيني وتعزيز سيادة المستوطنين. أما في الضفة الغربية المحتلة، فتهدف المنطقة E1 إلى تجزئة الأرض الفلسطينية إلى الحدّ الذي تصبح فيه الدولة الفلسطينية ضرباً من الخيال. في غزة، يُشير النزوح الجماعي والاحتلال العسكري إلى نية “إسرائيل” إعادة تشكيل المنطقة بالكامل. هذا محوٌ للوجود الفلسطيني، ولطالما كان كذلك.
صمت عالمي، مقاومة محلية
العواقب وخيمة وفورية. ستقاوم المجتمعات الفلسطينية المجزّأة، المجرّدة من السيادة والمعرّضة للعنف المستمر، كما كانت دائماً. ستُقابل هذه المقاومة، سواء في شوارع القدس أو قرى الضفة الغربية المحتلة أو مخيمات اللاجئين في غزة، حتماً بمزيد من القوة الإسرائيلية، مما يُؤجّج دوامة لا نهاية لها من سفك الدماء.
وخارج فلسطين، تُهدّد هذه الاستفزازات بجذب قوى إقليمية، مما يُزعزع استقرار الأردن ولبنان وغيرهما.
ويرى الأردن، الوصي على المسجد الأقصى، أنّ كلّ اعتداء إسرائيلي على القدس يُمثّل تهديداً مباشراً لسيادته واستقراره الداخلي، ولا سيما بالنظر إلى العدد الكبير من السكان الفلسطينيين داخل حدوده. لبنان، الذي يعاني أصلاً من شلل سياسي وانهيار اقتصادي، يواجه توتراً مستمراً على طول حدوده الجنوبية مع تصاعد التوغّلات العسكرية والغارات الجوية الإسرائيلية.
وفي الوقت نفسه، وسّعت “إسرائيل” نطاق وجودها العسكري في المنطقة، حيث ضربت أهدافاً في سوريا ولبنان واليمن، وكان أبرزها هجوم غير مبرّر على قطر. هذه الإجراءات، وإن لم تكن مرتبطة مباشرة بمشروع “إسرائيل” التوسّعي في فلسطين، تُظهر كيف يُزعزع عدوانها العسكري استقرار الشرق الأوسط بشكل متزايد.
لا يمكن للمجتمع الدولي أن يبقى مكتوف الأيدي. فالإدانات الصادرة عن بروكسل أو بيانات الأمم المتحدة لا قيمة لها إن لم تُقابل بإجراءات ملموسة. فلطالما أظهرت “إسرائيل” أنها ستتجاهل الرأي العامّ الدولي ما لم تُواجه عواقب. المطلوب هو المساءلة: الضغط من خلال العزلة الدبلوماسية، وفرض قيود على مبيعات الأسلحة، وفرض عقوبات تستهدف مؤسسات المستوطنات. في الوقت نفسه، يجب التمسّك بحقوق الفلسطينيين كمبدأ مُلزم في القانون الدولي.
الرأي العامّ العالمي آخذ في التغيّر. ومع ذلك، يجب ترجمة هذه الموجة إلى سياسات لمنع المأساة التي تنتظرنا. البديل واضح: الصمت سيشجّع “إسرائيل” على المضي قدماً في ضمّ الضفة الغربية المحتلة، وتهجير سكان غزة، وإلغاء الوضع الراهن للقدس.
القدس ليست مجرّد نزاع محلي؛ إنها مقياس لالتزام العالم بالعدالة. غزة ليست ساحة معركة فحسب؛ إنها اختبار للإنسانية. وخطة E1 ليست مسألة تقنية لتقسيم مناطق؛ إنها مخطط لإنكار دائم للدولة الفلسطينية.
إنها مجتمعة تُشكّل مشروعاً توسّعياً لا يهدّد الفلسطينيين فحسب، بل استقرار المنطقة بأسرها. ما لم يتحرّك العالم بحزم، فإنّ سعي “إسرائيل” للسيطرة الكاملة سيقودنا جميعاً إلى صراع لا نهاية له.
صحفي فلسطيني.

مقالات مشابهة

  • تصاعد الحرب التجارية بين أمريكا والصين يهزّ وول ستريت ويشعل التوترات الاقتصادية العالمية
  • وزير الاستثمار يعرض في واشنطن الإصلاحات الاقتصادية وفرص مصر الواعدة أمام كبرى الشركات العالمية
  • محافظ الغربية: إزالة 15 حالة إنشاء وبناء على الأراضي الزراعية وأدوار مخالفة
  • ندوة في ذمار تناقش الإجراءات التي تضمنها قانونًا الإجراءات الجزائية والشرطة
  • آلاف الفلسطينيين يعودون لمنطقة النفق في غزة وسط مشاهد دمار هائلة.. فيديو
  • القدس.. الحرب التي لا تنتهي!
  • ألمانيا تخصص مليار يورو لدعم الجهود العالمية في مكافحة الإيدز والسل والملاريا
  • وزارة الاقتصاد تنظم منتدى الجاهزية الاقتصادية لمواجهة الصدمات العالمية
  • عُمان تشارك بمؤتمر دولي يستشرف الدور المستقبلي للمناطق الاقتصادية والحرة في تعزيز التجارة العالمية
  • المعجزة الصينية.. و"نظرية القط"