ترجمة: أحمد شافعي -
يبدو الرئيس بايدن أشد صرامة تجاه إسرائيل هذه الأيام ومبديا المزيد من التعاطف مع الذين يتضورون جوعا في غزة. فقد قال بايدن إن «هناك الكثير من الأبرياء الذين يواجهون مشاكل ويموتون» وقال إن ذلك «يجب أن يتوقف».
لكن ذلك لن يتوقف من تلقاء نفسه، بل إن الوضع قد يزداد سوءا إذا ما غزت إسرائيل رفح، أو إذا ما تحول الجوع إلى مجاعة.
وإذن فنحن الآن في وضع غريب: وهو أن القنابل الأمريكية والمساعدات الأمريكية تتساقط سواء بسواء من سماء غزة.
في عام 1948، قامت الولايات المتحدة وحلفاؤها بتنفيذ جسر برلين الجوي الشهير لإنقاذ برلين الغربية من الحصار السوفييتي. ونحن الآن منخرطون في جسر جوي إنساني آخر، ولكنه هذه المرة بسبب تصرفات شريك لنا لا عدو. فإسرائيل تصر على إجراء عمليات تفتيش دقيقة لكل شاحنة مساعدات تدخل غزة. وقد قال لي أحد كبار المسؤولين في الإدارة إن إسرائيل ترد حمولة شاحنات بأكملها إذا احتوت على أدوات ولادة طارئة، ويبدو أن ذلك لأنها تتضمن مبضعا صغيرا لقطع الحبل السري. وتخبرني اليونيسف أن إسرائيل ترفض السماح لها بإدخال مراحيض متنقلة. وقد زار السيناتوران كريس فان هولين وجيف ميركلي حدود غزة ووجدا أن إسرائيل منعت مرشِّحات المياه. وقال عضو في البرلمان البريطاني إن إسرائيل منعت 2560 مصباحا يعمل بالطاقة الشمسية.
ولأن بايدن لم يتمكن من إقناع إسرائيل بالتخفيف من هذا الهراء والسماح بدخول ما يكفي من المساعدات لتجنب المجاعة، فقد انتقل إلى عمليات الإنزال الجوي والممر البحري، وذلك أفضل من لا شيء لكنه غير كاف على الإطلاق. وتحذر سيندي ماكين، رئيسة برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، من أن الوصول إلى غزة عبر الطرق أمر ضروري، وأنه «إذا لم نعمل على زيادة حجم المساعدات التي تذهب إلى المناطق الشمالية زيادة كبيرة، فإن المجاعة سوف تكون وشيكة».
ليست الدبلوماسية إقناعا وحسب وإنما هي أيضا ليُّ أذرع، لكن يبدو أن بايدن غير راغب في التصرف بما يعطي كلماته قوة. والأمر ببساطة هو أن نتانياهو يتجاهل البيت الأبيض لأن هذا التجاهل لا يوجب عليه دفع ثمن.
وليس هذا بالجديد تماما. فقد قال وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان لزعيم صهيوني أمريكي زائر في عام 1967 إن «أصدقاءنا الأمريكيين يقدمون لنا المال والسلاح والمشورة. ونحن نأخذ المال، ونأخذ الأسلحة، ونرفض النصيحة».
ويروي المؤرخ آفي شلايم أن الزائر سأل عما سيحدث لو قالت أمريكا إن إسرائيل لن تأخذ المساعدات ما لم تأخذ بالنصيحة. فأجاب ديان: «إذن سيكون لزاما علينا أن نأخذ بالنصيحة أيضا».
وفي ظل حكم الرؤساء ذوي العقلية المتشددة، حدث هذا في بعض الأحيان. فقد تضمنت زيارتي الأولى إلى الشرق الأوسط شيئا من التجوال في لبنان المدمر بعد الغزو الإسرائيلي عام 1982 الذي خلَّف العديد من القتلى الفلسطينيين وإن لم يزد إسرائيل أمنا. لم أكن أعلم أن الرئيس رونالد ريجان قد اتصل -من وراء الكواليس- برئيس الوزراء مناحيم بيجن بعد قصف مدفعي مروع، وبدلا من المطالبة بوقف ذلك، أمر به. كتب ريجان في يومياته «كنت غاضبا»، حسبما أشارت مجلة نيويورك ريفيو أوف بوكس. «وقلت له إن الأمر يجب أن يتوقف وإلا فإن علاقتنا المستقبلية كلها معرضة للخطر. واستعملت كلمة الهولوكوست عمدا وقلت إن رمز حربه بات صورة لطفل عمره سبعة أشهر مبتور الذراعين».
وأضاف ريجان أنه «بعد عشرين دقيقة، اتصل بي ليخبرني أنه أمر بإنهاء القصف، وناشدني أن تستمر صداقتنا».
أتمنى أن يظهر بايدن مثل هذه الهمة. يمكنه أن يربط شحنات الأسلحة الهجومية بطريقة معينة في الاستعمال النهائي مثلما يعمل في حالة أوكرانيا. ويمكنه ببساطة أن يلتزم، حسبما دعاه ثمانية من أعضاء مجلس الشيوخ، بالقانون الأمريكي الذي ينهي الدعم العسكري لأي بلد عندما يجد الرئيس أن هذا البلد «يحدّ، بشكل مباشر أو غير مباشر، نقل أو تسليم مساعدات إنسانية أمريكية».
في ظل ضغط من الكونجرس، أصدر بايدن الشهر الماضي مذكرة الأمن القومي رقم 20، التي تضخم القانون وتوجب على إسرائيل التأكيد بحلول أواخر مارس بأنها تسمح بإيصال المساعدات الإنسانية، وإلا فإنها تخاطر بإمدادها بالأسلحة الهجومية. وهذا يمثل نفوذا، فقط لو أن بايدن مستعد لاستخدامه.
يمكن أيضا أن يحث الرئيس مصر علنا على السماح لشاحنات المساعدات المتوقفة الآن على الحدود منتظرة عمليات التفتيش الإسرائيلية بالمرور إلى غزة حتى دون موافقة إسرائيلية. (ويمكنها أن تقوم بعمليات التفتيش الخاصة بها إذا لزم الأمر). فالتعاون الأمني المصري الإسرائيلي مهم، ولكن ليس في حالة منعه الغذاء عن غزة.
يمكن أيضا أن تمتنع الولايات المتحدة عن التصويت على القرارات الإنسانية في الأمم المتحدة بدلا من استخدام حق النقض (الفيتو) عليها. ويمكن لبايدن أن يتجاوز نتانياهو ويتحدث مباشرة إلى الإسرائيليين -ربما في الكنيست- ويعرض قضية المساعدات الإنسانية، ووقف إطلاق النار، والطريق إلى حل الدولتين.
قد ينكر بايدن أن لديه بالفعل نفوذا كبيرا. وهذا حق: لقد تعرض الإسرائيليون لصدمة من الهجوم «الإرهابي» الذي شنته حماس في السابع من أكتوبر، وليسوا في حالة مزاجية تسمح لهم بالإنصات إلى غرباء آمنين في أراضٍ بعيدة إذ يطالبون بضبط النفس. وقد أظهر استطلاع محبط الشهر الماضي أن 68% من اليهود الإسرائيليين يعارضون السماح بدخول الغذاء والدواء إلى غزة. في المقابل، استجابت إسرائيل -ولو بشكل غير كاف حتى الآن- للضغوط والانتقادات الشعبية. ففي الأيام القليلة الماضية فقط، أشار مسؤولون إلى أنهم يريدون رؤية المزيد من المساعدات الإنسانية، حيث قال متحدث عسكري إن الجيش يحاول «إغراق» غزة بالمساعدات. وتم السماح لقافلة من ست شاحنات مساعدات بدخول شمال غزة مباشرة من إسرائيل، وكان ذلك أمرا مشجعا. الحقيقة هي أننا لا نعرف مدى النفوذ الذي يحظى به بايدن لأنه لم يختبر قوته حقا. فعندما بدا أن بايدن يشير هذا الشهر إلى أن غزو رفح سيتجاوز خطا أحمر وقد يكون له تداعياته، تراجع البيت الأبيض على الفور عن تصريحه.
لعل بايدن يعتقد أنه يظهر الصداقة والولاء لحليف مأزوم. ولكن بالنسبة لنتانياهو ولمعظم العالم، يبدو هذا ضعفا.
في الوقت نفسه، يعاني سكان غزة من الجوع دونما داع، وقد يصبح هذا جزءا من إرث بايدن.
ولإيضاح كيفية فشل السياسة الحالية، سأعطي الكلمة الأخيرة للباحث اللغوي في غزة محمد الشنات، الذي اقتبست رسائله في مقالي الأسبوع الماضي. ففي رسالة جديدة، روى الشنات كيف حاول جمع الطعام من الإنزال الجوي لتجنب المجاعة:
«قررت أنا وزوجتي الذهاب إلى الشاطئ راجين أن نحصل على شيء لإطعام أبنائنا. كان عشرات الآلاف من الناس ينتظرون. قرابة الساعة الثانية والثلث بدأت ثلاث طائرات إسقاط مظلاتها على الشاطئ. بدأ الناس مطاردتها. طاردنا إحدى هذه المظلات. فلما فُتحت وجدنا زجاجات مياه وزجاجات خل. توفي طفلان بسبب التدافع. ولأننا نعاني أشد المعاناة من سوء التغذية فلم نأكل أي شيء، فقد استغرقنا ثلاث ساعات للعودة إلى المنزل، وكان علينا أن نرتاح كل عشر دقائق. وكنا نبكي طوال طريق العودة».
نيكولاس كريستوف كاتب المقال من كتاب الرأي في صحيفة التايمز منذ عام 2001
خدمة نيويورك تايمز
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: أن بایدن
إقرأ أيضاً:
موقع صهيوني: العولمة مكنت اليمن من ممارسة نفوذ تحتكره القوى العظمى
ونشر الموقع، مساء أمس الإثنين، تقريراً جاء فيه أن “اليمن تقع على بعد 2000 كيلومتر من تل أبيب، أي ما يعادل تقريباً المسافة من لندن إلى طرابلس، ولا توجد حدود مشتركة، ولا توجد مصالح يمنية على المحك، ورغم ذلك، أطلق اليمنيون مئات الصواريخ على الإسرائيليين”.
وأضاف: “قبل بضعة أجيال، خاضت الدول تقريباً كل صراعاتها على مقربة من بعضها البعض، وقد أدت التحسينات في التكنولوجيا والنقل تدريجياً إلى جعل إرسال القوات إلى ساحات القتال البعيدة أكثر جدوى، على الرغم من أن السياسيين الذين وافقوا على الحرب في فيتنام أو جزر فوكلاند لن ينسوا الغضب الذي أثارته تلك الحرب بين المواطنين في الداخل”.
لكن على العكس من ذلك، أشار التقرير إلى أن “قرار قيادات صنعاء بمشاركة اليمن في الحرب على غزة شكلت وسام شرف لامع في نظر شعبهم”.
واعتبر أن “العولمة مكنت اليمن من الظهور بمظهر اللاعب الإقليمي الرئيسي، وممارسة نفوذ كان في السابق محصوراً بالقوى العظمى”.
وأشار التقرير إلى أنه: “لم يقتصر الأمر على عدم وجود احتجاج واحد ضد قيادات صنعاء، بل لقد تلقوا بالفعل مستوى واضحاً من الدعم، وفي العام الماضي، سارت الحشود إلى ساحة البرلمان البريطاني وهي تهتف (يمن، يمن، اجعلنا فخورين، أجبر سفينة أخرى على الدوران)”.
ولكن فيما يتعلق بجهود مواجهة قوات صنعاء، اعتبر التقرير أن العولمة لا تقدم أي حلول، وأن “حلم النظام العالمي الذي يقدم حلولاً سهلة للصراعات البعيدة المدى يظل ساذجاً”، حسب وصفه.