"لن يمكّنكم الله من أن تشيدوا حجرا واحدا في هذه الأرض طالما استمر الجهاد".. جاءت هذه الكلمات في رسالة صلاح الدين الأيوبي (ت: 1193م)، إلى ريتشارد الأول ملك إنجلترا (ت: 1199م) الملقب بقلب الأسد، بعد أن دخل القدس وحررها من استيطان واحتلال أوروبي دام ثمانين عاما كما قال لنا القاضي والمؤرخ بهاء الدين بن شداد (1234م)؛ كاتب سيرة صلاح الدين والذي كان واحدا من أكبر كتاب زمنه.
والمقطع الأخير من الجملة لا يصدر إلا عن قائد عارف بسنن التاريخ، عارف بحقائق الأشياء، وقبل كل شيء عارف بدينه معرفة الفهم.. وهو هنا سيكون قد اقترب وقرّبنا معه إلى حديث معاذ بن جبل الشهير الذي رواه عن الرسول صلى الله عليه وسلم.. يقول: قال لي الرسول: إن شئت أنبأتك برأس الأمر، وعموده، وذروة سنامه، قلت: أجل يا رسول الله، قال: أما رأس الأمر فالإسلام، وأما عموده فالصلاة، وأما ذروة سنامه فالجهاد..
* * *
وكلمة "الأمر" هنا بقدر ما هي جامعة، بقدر ما هي مفتوحة على ما لا يحصى من مفاهيم النظر.. وحين تصدر عن رسول الله بهذا الاختصار، فعلينا أن ندرك فورا أنها تمثل "قلب الحقيقة" في المعرفة، المعرفة بالله وبالنفس وبالدنيا والناس. ولا يفوتنا أن نتذكر في هذه الأيام المباركة أن الرسول صلى الله عليه وسلم اختص معاذ أيضا بالدعاء المعروف بعد كل صلاة: "اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك".
أن يكون رأس "الأمر" (الإسلام).. فهذا يعني الكثير وما هو أكثر من الكثير لنا، في إحكام المعنى حول إدراك كل شيء يتعلق بنا، باعتبار أننا الأمة التي ما كان لها أن تكون إلا بالإسلام، فهو الذي منح الأمة حقيقتها ووحدتها ولغتها والتاريخ المشترك لها وثقافتها وأخلاقها، ولطالما كان التدهور في تاريخنا كله يتصل بشكل وثيق بتدهور الوعي بالإسلام
* * *
أن يكون رأس "الأمر" (الإسلام).. فهذا يعني الكثير وما هو أكثر من الكثير لنا، في إحكام المعنى حول إدراك كل شيء يتعلق بنا، باعتبار أننا الأمة التي ما كان لها أن تكون إلا بالإسلام، فهو الذي منح الأمة حقيقتها ووحدتها ولغتها والتاريخ المشترك لها وثقافتها وأخلاقها، ولطالما كان التدهور في تاريخنا كله يتصل بشكل وثيق بتدهور الوعي بالإسلام..
وسنتذكر هنا جملة رائعة للدكتور عبد الهادي أبو ريدة رحمه الله (1991م)، أستاذ الفلسفة الكبير والأول على دفعته عام (1934م).. دفعة روائي العربية الكبير نجيب محفوظ (ت: 2996م) رحمه الله..
ماذا قال لنا الفيلسوف صاحب نظرية "السلام الداخلي بين منطق الوحى ومنطق العقل"؟.. قال: إن الإسلام هو أساس تكوّن الأمة ووجودها، وهو الذي سيكون أساس نهضتها..
ولعل الأستاذ هيكل رحمه الله (ت: 2016م) قد استلهمها بشكل أو بآخر حين قال في محاضرة شهيرة له في معرض الكتاب سنة 1990م: "لا نهضة للشرق في غياب الإسلام"..
* * *
ما علاقة الإسلام والأمة والتاريخ وصلاح الدين وشرطه الذي اشترطه (طالما استمر الجهاد) بهذا الذي يجري على أطراف حدود "تاج الشرق" مصرنا العظيمة؟.. في مدن وبلدات وبيوت وشوارع ومساجد وكنائس ومدارس ومستشفيات غزة، وفيما لا يمكن أن يُوصف ولا يُنسى: "أنفاق غزة"؟ تلك الأنفاق التي استندت بحب وقوة ووفاء وإخلاص على مقولة صلاح الدين تلك، فاحتوت في بطونها من يمحون الآن تاريخا كذوبا خؤونا غشوما، ويثبتون مكانه تاريخا جديدا كبيرا جليلا..
* * *
صحيفة التايمز البريطانية هي التي ستخبرنا عن علاقة كل هذا ببعضه بعضا.. ففي حوار أجرته في شباط/ فبراير الماضي مع مايكل كوبي (78 سنة) المدير السابق للتحقيقات في جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (شين بيت) والذي قضى 150 ساعة في حوارات مع يحيى السنوار قبل أكثر من 30 عاما، كما قالت الصحيفة، والذي وصف السنوار قائلا: إنه يرى نفسه صلاح الدين جديدا..
سنتصور طبعا أن مايكل على دراية تامة وسامة بالتأكيد بتاريخ الأمة، ويعرف ماذا يمثل صلاح الدين في الوعي العام لهذه الأمة.. وماذا يمثله أكثر في الوعي العميق للحاج يحيى..
وإذا كان لنا أن نكمل جملة ناقصة له، فستكون الجملة التي ذكرها المؤرخون عن صلاح الدين أنه "القائد العظيم جدا، الذي جاء في الوقت السيئ جدا، ليواجه العدو الأخطر جدا، ليحرر القدس والمسجد الأقصى".
* * *
التاريخ يسير الآن في دورة جديدة تماما، أبرز عنوان لها هو تحطيم إراداتهم اللئيمة في صنع ما يحلو لهم، مضى وانقضى زمن ذاك التاريخ القديم، زمن استهلاك أوهام تصاغ لنا، لنعيش عليها حتى تصاغ لنا غيرها
يحيى السنوار فعلها، وأخبرنا عن كل شيء، لكن للأسف كانت تصوراتنا بعيدة عن تصوره، فهذه هي المرة الأولى التي تكون فيها المقاومة في حالة هجوم حقيقي فاعل ذو بعد استراتيجي وليس مرحلي، فالرجل هشم حواجز الخوف الكذوبة، وقدم الجانب الاستراتيجي على المرحلي، كانت زاوية النظر التي يفكر منها تختلف تماما عن الزاوية التي يفكر بها من اعتادوا الهزيمة.
ولهذا لم يندهش أحدا من رسالته المسربة التي نشرتها صحيفة "وول ستريت جورنال" في 28 شباط/ فبراير الماضي وقال فيها إن "كتائب القسام ماضية في عملية تهشيم الجيش الصهيوني.. الإسرائيليون موجودون بالضبط حيث نريدهم".. وقال إن قيادة ومقاتلي القسام في حالة جيدة ومستعدون للهجوم في رفح..
التاريخ يسير الآن في دورة جديدة تماما، أبرز عنوان لها هو تحطيم إراداتهم اللئيمة في صنع ما يحلو لهم، مضى وانقضى زمن ذاك التاريخ القديم، زمن استهلاك أوهام تصاغ لنا، لنعيش عليها حتى تصاغ لنا غيرها، صحيح أنهم لا زالوا وسيظلوا يمكرون مكرا لتزول منه الجبال.. لكننا نعلم يقينا أن أن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وهو ما يتحقق الآن على أيدي "فتية الأنفاق" الذين ينظرون إلى العواقب في عينيها تسليما وعرفانا، فإما نصر وإما شهادة.. إنه الإيمان صادقا متدفقا، يحطم كل القيود، ويقف صلبا منيعا ضد كل القوى الخائرة وكل الأحداث المؤلمة.
twitter.com/helhamamy
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه صلاح الدين التاريخ غزة المقاومة غزة المقاومة التاريخ صلاح الدين مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة صلاح الدین کل شیء ما کان
إقرأ أيضاً:
“جاهدهم يا بُني…”
بهذه الروحية الجهادية التي عمّدها الشهيد الثائر الإمام زيد بن علي – عليهما السلام – بدمه الطاهر والزكي بعد أن أصيب بسهم في جبينه وأفاد الطبيب بأنه سيستشهد فور انتزاع السهم من جبينه، فأشار على من حوله باستدعاء ولده الإمام يحيى بن زيد والذي لخص له ما يريده الله منه قائلا له: ((جاهدهم يا بني فو الله إنك على الحق وإنهم على باطل وإن قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار))، الشهادة الشهادة الحمد لله الذي رزقنيها.
بهذه الروحية تحركت أمتنا الجهادية وبهذه الروحية تحرك الشهيد القائد السيد حسين بدرالدين الحوثي – رضوان الله عليه – لبناء دعائم هذه الأمة التي أصبح يمن الإيمان والحكمة ينعم في ظلها ويتحرك بحركتها تحت لواء قيادة حكيمة تمثلت في شخصية السيد القائد العلم السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي – حفظه الله ورعاه – الذي استطاع بفضل الله أن يبني هذه الأمة لتكون هي الأمة المتصدرة لمناهضة قوى الهيمنة والاستكبار، حيث أصبح العالم يتطلع للشموخ اليماني الذي يتوقد ويحمل في قلبه حرقة على ما يمارسه الباطل وحزبه من مآس بحق إخواننا الفلسطينيين وغيرهم من مآسي في ظل صمت عربي وإسلامي مهين، مؤكداً على مواصلته وحضوره في المشهد دون كلل أو ملل أو مخاوف وارتجافات، غير مكترث بما تتناوله ويتناوله المطبلون هنا وهناك.
حقيقة إنه شيء مؤسف ما يحصل في فلسطين وما حصل بلبنان وما يحصل بسوريا!
وغير خفي ما يحيكه اليهود وأزلامهم بحق دول المحور ومن ذلك توجههم لاستهداف، اليمن وشعبه العصي على مؤامرات الأعداء .. اليمن أصبح واقعه اليوم يختلف تماماً عن واقع الأمس، اليمن أثبت حقيقة واقعه وتوجهه لمناصرة قضايا الأمة، اليمن أكد سلامة موقفه وهب إلى ميادين العزة والكرامة هبة واحدة ليعبر عن رفضه لمشاريع الهيمنة والاستهداف بحق المستضعفين.
اليمن ترجم ما يحمله من الغيرة والعروبة والإنسانية إلى واقع عملي وها هو حاضر بكل ثقله في مناصرة المظلومين في غزة ولبنان وسوريا ولن يتراجع عن موقفه مهما بلغت التهديدات والتلويحات من دول تحالف الشر لاستهدافه.
يكفي اليمن أنه يمتلك قيادة حكيمة تمضي في ظل ركب آمن وتمتلك توجها صادقاً يستمد شرعيته من كتاب الله الذي يعتمد عليه في كل الأحوال والظروف، وما يدلل على ذلك العون الكبير والتدخل الإلهي العظيم الذي حظي به من العون والمدد الإلهي وما هذا الوقوف وهذا التولي المطلق من أبناء الشعب اليمني لقائدهم العلم أبو جبريل الملبين لتوجيهاته عند كل نداء إلا شهادة على أن هناك تحولات كبرى تتجه نحو يمن الإيمان والحكمة الذي تربى على العزة والصبر والشجاعة والإقدام والتضحية والصمود الذي يحمله في ظل ظروف صعبه ومكائد خطيرة يحيكها الأعداء في ظل ما تشهده المنطقة من أحداث ومتغيرات.
لكن الشعب اليمني الواعي والمستبصر يدرك جيداً أن الله فوق كل الكائدين والمستكبرين وأن الغلبة والنصر موعودة من الله للمستضعفين والواثقين بحبله المتين وأن الصراع مع الأعداء سنة كونية مآلها النصر أو الفوز بالشهادة التي لا يمنحها الله إلا لأحبائه من عباده وما على الإنسان إلا أن يقدم موقفاً مشرفاً في حياته يبيض وجهه بين يدي الله وما أعظمها من وقفة عندما يكون لنا كشعب يمني عظيم شرف التصدر لمشهد المواجهة لأئمة الكفر أمريكا وإسرائيل وأذنابهما في هذا العالم وهو حسبنا ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير.