تفصح أحداث غزة كل يوم عن شيء كان مخفيًا، وكان مدسوسًا، وإن كان منفذًا من تحت الطاولات، كما يقال، وغيره في طور الإعداد، وغيره ما كان معدًا لفترة زمنية خاصة قادمة، وما كان مخصصًا لأجيال دون غيرها، فقط الانتظار لحين أن تقطع زمنية استحقاقاتها من الاستيعاب، ومن الامتثال، ومن التبني، ومن الإيمان بأهمية التنفيذ على شريعة «اغمض عينيك واتبعني» والقافلة ذاهبة وفق خط السير هذا، والناس مستسلمون، وغيرهم نائمون، إلى أن تصطدم بجبل صلد يوقف سيرها، وقد حدث، وكانت المفاجأة صادمة، ولا تزال صدمتها تحدث مخاضات متتالية، وإن توالت الولادات الواحدة تلو الأخرى، فالحمولة للتو تبدأ استفراغ محتوياتها، وللذين قدروها بأسبوعين على أكثر تقدير؛ لأن مساحة غزة لا تزيد عن أربعين كيلومترا طولًا، ها هم اليوم يعيشون معاناة اللحظة الأولى، حيث يربكهم الصمود، ويخلي حواضنهم الفكرية من كل الخطط التي راهنوا عليها، حيث يعيشون اليوم اللحظة باللحظة، تاهت بهم السبل، وتجمّدت الرؤى، وتقاصرت فترات الاستشرافات المستقبلية، فمعاناة اللحظة باللحظة قاسية على النفس، ولا تعطي التفكير نفسه لما بعد الخطوة الأولى، فماذا هم فاعلون؟
لم يكن في حكم الخيال، أن يعرف أحدنا اليوم أن هناك أجيالًا تعرضت لمسخ في حقيقة تفكيرها، وفي حقيقة قناعاتها، وفي إيمانها بتاريخها، ودينها، وقيمها، وإذا كان السؤال الحاضر: من أوصل هذه الأجيال إلى هذا المستوى من مجموع التنازلات عن طيب خاطر؟ فإن حقائق التاريخ سواء تلك الماثلة على الواقع، أو تلك المدونة، أو تلك المروية، تذهب إلى أن هناك (قَالُوا مَن فَعَلَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (59) سورة الأنبياء، والظلم هو سنة كونية، ومع ذلك تجب محاربته، ومقارعته، ولكن، باستحقاق لا يقل عن الند بالند، وهذا ما يحدث الآن.
اليوم، وبخلاف أي يوم آخر، تتكشف اتباعًا الأقنعة الداكنة، وقليلة التعتيم، بفعل ما يراق على أرصفة غزة العزة من دماء، وكأن هذه الدماء المراقة، قدرها الله عز وجل لأن تكون الثمن الباهظ لتجلية الغشاوات التي رانت على العقول والنفوس والقلوب، ولذلك عندما نعيد قراءة التنظيرات كأحد الأمثلة -عبر المنصات الدولية والإقليمية، وفي مقدمتها منصات منظمات الأمم المتحدة «المارقة» عن الحرية، وعن حقوق الإنسان، وعن الشرعية الدولية ومحافظتها على تنفيذها على أرض الواقع، وعن أحقية الشعب الفلسطيني، وعن الشعوب المستعبدة الأخرى، بأن تعيش على أرضها حرة كريمة، تبين اليوم أن كل هذه التنظيرات كاذبة، ومنافقة، ومداهنة، وأن الحقيقة غير ذلك تماما، حيث إن الكثير مما يخص هذه القضية الفلسطينية، وإنهاء وجودها في الحياة، يطبخ على نار هادئة، ليقدم كل ذلك للمحتل الغاشم، على طبق من ذهب، في يوم العبور النهائي لهذا الشعب، وإغلاق رمزية القضية إلى الأبد (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (30) سورة الأنفال، وبالتالي فحدث السابع من أكتوبر «خربط» مكونات هذه الطبخة، وعجّل في إفراغها من مضمونها «النتن» بل حمل نعشها إلى مزبلة التاريخ، وإن أسفرت نتائج المعركة، في بعض جوانبها، بغير ذلك، بعد حين وفق إرادة الله عز وجل، ولا أحد غيره، ويكفي للمتخفين خلف أقنعتهم ما أصابهم من الخزي والخذلان أمام شعوبهم الحرة، التي أدركت اليوم أنها تسير خلف بشر «مؤلهين» من قبل دوائر السوء، والخزي والعار، حيث سقطوا إلى غير رجعة، وإن حمتهم مرجعيتهم العسكرية والأمنية، فذلك لحين من الدهر، لا غير، ولن نخوض في عوالم الغيب، فذلك متروك أمره لله (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (*) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (88-89) من سورة الشعراء.
اليوم، وبخلاف أي يوم آخر مضى، يتم الحديث عن أن تغيير المناهج في الدول العربية، على وجه الخصوص، لم يكن من أفكار جهابذة وعلماء، وخبراء التربويين الذين أمنتهم الشعوب، قبل المسؤوليات الإدارية وهنا لا أسقط الحالة على تعميم شامل - وأن هذه المناهج خاضعة لتمحيص، ومراقبة، وإخضاعها تحت مجاهر الأعداء لهذه الأمة، وأن أي دولة عربية من المتصهينة أنظمتها، لا يمكن أن تعتمد مناهجها إلا من خلال بوابة الرقيب «المحتل» قد يكون هذا تنظير غير دقيق، ولكن، نسبة تصديقه، لن تقل عن نسبة تكذيبه، ولأن الإفصاح عن ذلك لم يظهر إلا بعد «دماء غزة» فإن أمر تصديقه أقرب عن أمر تكذيبه (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ۚ أُولَٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ ۚ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) «(18) سورة هود » وما بين درجتي التصديق والتكذيب انتهكت حرمة المعرفة، وانتقل بها من حالة اليسر إلى حالة العسر، في مرحلتها تلك، والسؤال المهم الآن، وبعد انقشاع الغمة، ما أنتم فاعلون؟
واليوم بخلاف أي يوم آخر مضى، أن الدول المستعمرة هي الناهية والآمرة للخطط والبرامج، وتدريب الموظفين، وتأهيلهم، وتوزيعهم، في الدول العربية، شاءت هذه الدول أو أبت، ويتصاعد التنظير إلى مستويات أعلى يصل إلى تعيين المسؤولين الكبار في مؤسسات الدولة المختلفة، وأن هؤلاء المسؤولين يتلقون تدريبات ويحضرون حلقات تأهيل، سواء بمعرفة أنظمة دولهم أو بغير معرفتها، وأن هناك ضغوطا تمارس على قادة الدول لوضع فلان من الناس على رأس هرم هذه المؤسسة، أو تلك، أو إزاحته عن قيادة هذه المؤسسة أو تلك، وقد يكون النظام السياسي مرغما على تنفيذ ذلك، وقد يكون بموافقته، فالوفود حاضرة حاضرة، تنقل أحجار النرد ما بين مربعات اللعبة، فالمهم أن يكون كل شيء تحت عدسة المراقبة، ويعود التأكيد إلى أن نسبة تكذيب هذه الصورة المتداولة، لا تقل عن نسبة تصديقها، وما يرجح الحكم الأخير هو التهديد المعلن اليوم، ولأكثر من مرة من قبل «نتانياهو» رئيس حكومة (الاحتلال) على مرأى ومسمع من كل النظم السياسية في الوطن العربي، وكما يقال: «الميّة تكذب الغطاس» «مثل مصري» وما السلوك الظاهر والفج الذي تمارسه بعض الأنظمة العربية اليوم في شأن منع المساعدات الإنسانية عن الفلسطينيين الذين يتضورون جوعا، أو في شأن تسيير القوافل الممتدة حاملة صنوف الغذاء والدواء للمحتل سيئ السمعة، إلا توظيف وتأكيد صارخ لهذا الاستسلام المخزي الذي لا تقبله أي شريعة إنسانية يؤمن أصحابها أنهم ولدوا أحرارا، ويعيشون أحرارا، وأن الأعمار والأرزاق بيد الله (... يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) الآية (38) سورة النور إذن، فكيف غمة الحقيقة عن مواطنها؟
قبل فترة وجيزة من أحداث غزة، كان هناك الحديث عن المثلية بصورة خرجت عن طبيعتها المعهودة والمعروفة، وعن النسوية المبالغ في تقديرها، وعن كل ما هو شاذ، وتمقته الفطرة الإنسانية من تزويج الحيوانات للآدميين، والعكس، وأصبح الترويج لهذه الصورة بصورة تجاوزت حدود المنطق، والعقل والعاطفة، وبطريقة استفزازية لمشاعر الذين من يحتضنون بذرة من إيمان، وبحملات من الترويج، والتتويج، معارض، ومسابقات، وأحداث مخصصة، حتى حدا ببعض الدول أن تعد سفراء لهذا كله، وقد بدأت في توفيدها إلى دول «تحت استعمارها» القديم، لجس النبض، وحدا بدول أخرى أن تعلن دولتها دولة «مثلية» ومن أعلى منابرها، وبكل فخر، وكان الأمر في طريقه إلى الإقرار الدولي الملزم، عبر منظمات الأمم المتحدة «الخبيثة» التي تديرها قوى الشر والفتنة، وكانت القناعة «دع الكلاب تنبح فالقافلة تسير» ولم تستشعر القافلة أن هذا النباح سيؤلمها يوما ما، وقد أتى اليوم، حيث (السابع من أكتوبر) الصدمة الكبرى التي زلزلت كل الكيانات، وأعادت احتساب درجات البوصلة من جديد، إلى حيث مربعها الأول (...وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) تكملة الآية (21) سورة يوسف.
واليوم بخلاف أي يوم آخر مضى، لا يأخذك الاستغراب، إن أشار إليك طفلك الصغير إلى أحد مطاعم الوجبات السريعة «بفطرته النقية» أن هذا يدعم العدو، «لا نريد أن نأكل منه» وهو ما يوحي إلى تأسيس صورة ذهنية في غاية الأهمية، ستتأصل مع مرور الزمن لأجيال عدة، تكبر بقناعات مختلفة تماما عن آخر يوم سجل قبل السابع من أكتوبر، فالحمد لله رب العالمين.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: أو تلک
إقرأ أيضاً:
حكم قراءة سورة بعد الفاتحة في الركعتين الثالثة والرابعة.. دار الإفتاء توضح
أوضحت دار الإفتاء ، من خلال الشيخ أحمد وسام، مدير إدارة البوابة الإلكترونية بالدار، حكم قراءة سورة بعد الفاتحة في الركعتين الثالثة والرابعة أثناء الصلاة، مؤكدةً أن جمهور الفقهاء أجمعوا على أن المصلي يقرأ في الركعتين الأوليين سورة الفاتحة وما تيسر من القرآن الكريم، بينما يكتفي في الركعتين الأخيرتين بقراءة الفاتحة فقط.
وأضاف الشيخ أحمد وسام، خلال بث مباشر أجرته دار الإفتاء عبر صفحتها الرسمية على موقع "فيسبوك"، ردًا على استفسار حول جواز قراءة سورة قصيرة أو بعض الآيات بعد الفاتحة في الركعتين الثالثة والرابعة، أن الأفضل هو الالتزام بالفاتحة فقط في الركعتين الأخيرتين، كما هو مستحب.
ومع ذلك، إذا قرأ المصلي الفاتحة وما تيسر من القرآن في أي ركعة، سواء في الأولى والثانية أو الثالثة والرابعة، فإن صلاته صحيحة تمامًا، ولا يؤثر ذلك على صحة العبادة.
حكم من نسي قراءة سورة بعد الفاتحة في الصلاة
من جانبه، تناول الدكتور محمود شلبي، أمين الفتوى بدار الإفتاء، مسألة نسيان قراءة سورة قصيرة أو آيات من القرآن بعد الفاتحة أثناء الصلاة.
وأوضح أن قراءة الفاتحة ركن أساسي في كل ركعة من ركعات الصلاة، استنادًا إلى الحديث النبوي الشريف: «لا صَلاة لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ».
هل يجوز الاقتصار على سورة الفاتحة في الصلاة؟.. دار الإفتاء تجيبهل يجوز ترديد أذكار الصباح والمساء إذا خرج وقتهما.. اعرف الموقف الشرعيهل يجوز للخاطب رؤية شعر خطيبته بعد قراءة الفاتحة؟.. انتبه للحكمهل يجوز قضاء قيام الليل والوتر في النهار؟.. أمين الفتوى يوضحوأشار الدكتور شلبي، في رد على سؤال ورد إلى دار الإفتاء عبر منصتها الإلكترونية، إلى أن قراءة ما تيسر من القرآن بعد الفاتحة تعد من السنن المستحبة، وليست واجبة.
وبالتالي، إذا تركها المصلي سواء عن قصد أو نسيان، فإن صلاته تظل صحيحة ولا تستوجب سجود السهو.
وأضاف أن السنة تقتضي قراءة ما تيسر من القرآن بعد الفاتحة في الركعتين الأوليين من الصلاة، مشيرًا إلى أن ترك هذه السنة لا يترتب عليه بطلان الصلاة، بل يُكمل المصلي صلاته بشكل طبيعي.
خلاصة الأحكام
خلصت دار الإفتاء إلى أن قراءة الفاتحة تظل الركن الأساسي في كل ركعة، بينما تعد قراءة ما تيسر من القرآن بعد الفاتحة سنة مستحبة وليست فرضًا.
وعليه، فإن المصلي الذي يقرأ الفاتحة فقط في أي ركعة أو يضيف إليها آيات أو سورة قصيرة في الركعتين الثالثة والرابعة لا يخل بصحة صلاته، ما دام قد التزم بالفاتحة كركن أساسي.