غرائب القضايا.. انتقمت من زوجها بطريقة مُثيرة وهكذا انتهت حكايتها
تاريخ النشر: 17th, March 2024 GMT
قضايا غريبة وقعت وأثارت الجدل تحول فيها القاتل إلى برىء، والجاني إلى مجني عليه، ألغاز كشفتها التحقيقات، وأزال عنها الستار دفوع المحامين في ساحات القضاء، اليوم السابع يقدم على مدار 30 حلقة خلال شهر رمضان المبارك، أبرز هذه القضايا ووقائعها المُثيرة.
"صراع مع الوهم"
يروى هذه الحلقة المستشار بهاء الدين أبو شقة فى كتابه "أغرب القضايا.
ويروى المستشار أبو شقة، وقعت أحداث هذه القضية وباشرت تحقيق وقائعها أثناء عملى كوكيل نيابة بالجيزة، كانت أحداثها مثيرة، أقرب من الخيال، بعيدة عن الواقع.. تجمع بين جناحيها الخير والشر والحب والكراهية..الصفاء والغدر.. الحب والانتقام..
كانت فتاة فى منهى الجمال فى العشرين من عمرها، رشيقة ممشوقة القوام.. بيضاء البشرة.. حباها الله بخضرة العينين التى كانت تشع جاذبية لا تقاوم..تقدم لخطبتها الكثير من الشباب.. معظمهم فى مراكو مرموقة رغم أنهم على أولى درجات سلم الحياة.. لكن الرفض منها كان الجواب الدائم الذى كان محل استغراب الجميع.
خاب ظن الجميع وطاشت كل خيالاتهم وتوقعاتهم، وأفاقوا من أحلامهم على وقع ذبك الخبر الذى كان مسار دهشتهم وحيرتهم.. رافضين تصديقه أو حتى تخليله أو مجرد تصوره..
أخيراً قررت أن تتزوج الفتاة لكن من كهل قارب التسعين من عمره، وأصرت على هذا الزواج رغم فارق السن الكبير الذى يقترب من الخمسين عاماً بين سن كل منهما..وباركت أسرتها الفقيرة زواجها من الكهل الثرى الذى انتشلها بثرائه من حياة المعاناة والفقر والحرمان، إلى حياة الرفاهية والعز والأمان، نقلها لتعيش معه فى الفيلا الفاخرة التى اشتراها خصيصاً لها واشترى لها سيارة فارهة وأفخر الملابس.. وأحضر لها العديد من الخدم.. ليكونوا رهن إشارتها.
عاشت الفتاة مع زوجها الكهل الذى دبت فى جسده الهزيل كومة من الأمراض.. ممرضة قبل أن تكون زوجة.. تعطيه الدواء فى نهاره وتواصل السهر على تمريضه ليلاً، ولم تكض سوى سنة وبضعة شهور حتى زادت مشاكله المرضية واشتد عليه المرض وتدهورت صحته حتى وافاه الأجل..وقد ترك لها ثروة كبيرة و أموالاً كثيرة فى حسابتها فى البنوك فضلاً عن امتلاك أراضٍ قام بشرائها باسمها.
أحست الفتاة أن الفقر الذى طالما عاشت معه وتربت فيه قد تحول إلى غنى وثراء وثروة فاحشة، أن عليها أن تنطلق وأن تخرج من القمقم الذى دفنت نفسها فيه قرابة العامين، والفقر المدقع الذى غاصت فيه من قمة رأسها حتى أخمص قدميها.. انطلقت تعوض ما فات شبابها من حرمان، وهى تبحث عن الشاب الذى ستعطيه حبها.. ليس أى شاب جدير بهذا الحب.. فقد رسمت فى مخليلتها نموذجاً لشاب وضعت بنفسها مواصفاته تتوافر فيه الوسامة والوجاهة، والرشاقة والذكاء واللباقة والطموح..وأن يكون خفيف الظل حلو الكلمة.
لم يمر كثيراً من الوقت حتى التقت بشاب يقاربها فى العمر.. كان نموذجاً لتلك الصورة التى رسمتها فى مخيلتها.. والتى حلمت كثيراً بها فى منامها.. وفتحت عينيها فقد تحول الحلم إلى حقيقة، إنه شاب حديث التخرج من كلية الهندسة، يفصح مظهره المتواضع عن فقره، وجدت فيه منذ الوهلة الأولى صورة مماثلة لها يوم أن التقت بزوجها الأول "فتاة كتب عليها القدر الحرمان من كل شىء".
صارحته بكل كبيرة وصغيرة عن حياتها وعن أسرتها.. عرف منها أنها نشأت فى أسرة فقيرة وأنها كانت تعمل بائعة فى أحد المحلات الكبرى عندما التقى بها زوجها الأول، وصارحته بأن الشاب الذى طالما حلمت به وأعجبها طموحه وكفاحه وصموده رغم فقره، فقد حصل على بكالوريوس الهندسة ويستعد للحصول على الدكتوراه، وصارحها هو الأخر بأنه أحب فيها روح التضحية والإيثار والعقل والحكمة، كيف أنها باعت نفسها وقبلت أن تقدم نفسها قرباناً من أجل أسرتها وإسعاد إخوتها.
تزوجت الفتاة من الشاب الذى طالما رسمه فى خيالها وسبحا معاً فى بحور الحب وينابيع الهيام ترتشف كؤوس السعادة وذاقت- لأول مرة فى حياتها- طعم الحب الحقيقى، أحست أن الدنيا كلها بين يديها وأن وجه الحياة المظلم قد تبدد، وأن الشمس قد أشرقت وأطلت عليها وغمرتها بأشعتها الجميلة بالحب والدفء والسعادة.
ولكن متى دامت السعادة لإنسان؟ فليس ما يحب المرء يدركه فقد تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن.
ذات صباح وقعت عيناها على مفاتيح خزينة زوجها التى يحتفظ داخلها بأوراقه الخاصة، قد نسيها – وهو فى عجلة من أمره- للحاق بعمله.. لم تكن من عادتها أن تفتش زراءه فقد كانت ثقتها به وفيه لا حدود.
ومن قبيل الرغبة المجردة فى تنظيم ما بداخل الخزمة قامت بفتحها وبدأت فى تنظيمها.. لا بحثاً أو تنقيباً عما بداخلها.. فثقتها به كانت حائلاً بينها وبين ذلك، فاستوقف نظرها احتفاظه بشؤيط فيديو داخل الخزنة وسط العديد من المستندات والأوراق التى تشكل أهملة بالغة له.. فما سر احتفاظه بهذا الشريط.. كان هذا هو الؤال الى لاحقها وظل يضرب فكرها بعنف.. أثار قضولها وطرداً للهواجس والأقكار التى تملكتها أن تشاهد ما يحويه هذا الشريط.
وكانت المفاجأة التى لم تخطر لها ببال.. ولم تطرأ لها على خاطر.. وما رأته من مشاهد يحتوى عليها هذا الشريط.. إنها لا تصدق ما تراه، ففركت عينيها وأمعنت النظر كنها تعانى من حلم مفزع.. زوجها فى ملابس الزفاف وبجانبه عروسته.
أحست فى تلك اللحظة أن الدنيا قد أظلمت أمام عينيها أكثر من أى وقت مضى فى حياتها.. إنها طعنت طعنة دامية قاتلة أدمت قلبها الملىء بالحب والإخلاص، ورسخ فى وجدانها لأول مرة أن زوجها خائن، وتأكد لها أنه طامع، ويتسم أمام عينيها أنه غادر.. مجرد من المشاعر يلبس قناعاً مزيفاً يخقى وراءه وجهه الحقيقى الملىء بالغدر والخيانة والأنانية، لقد خان الثقة الكالمة، والأموال التى باعت نفسها من أجلها سلمتها له وبكل ثقة وأمانة.
قررت أن تنتقم من زوجها انتقاماُ من نوع جديد ..موجعاً أليماً لا شقة فيه ولا رحمة، قررت أن تعذبه عذابأً أليماً لتشفى غليلها وهى تراه أمام عينيها يذوق مرارة الخيانة ويلعق جراح الندم.
وبدأت تنفذ فصول خطتها بالاستعانة بصديقة لها كانت تعرفها فى الحى الذى كانت تعيش فيه أيام فقرها، كانت تعرف أن زوجها يعمل فى تجارة المواد المخدرة، وحصلت من صديقتها على عقار مخدر الهيروين، وقدمت لزوجها جرعات الهيروين وسط مشروب القهوة الذى كان لا يخرج من مسكنه قبل أن يتناوله من يديها، واستطاعت بهذا الأسلوب الإجرامى الماكر أن تجرده من كل شىء..أن يسجل باسمها كل الأموال والشركة التى كانت بينهما.
لاحظ الجميع ووالدة الشاب التغيير المفاجىء على ابنها بات عصبياً هزيلاً، زائغ البصر، شارد التفكير مهموماً ، زاهدًامكتئباً غير عابىء بالحياة، حتى إعداده للدكتوراه ألقاه فى سلة المهملات، اصطحبته والدته إلى الطبيب لتوقيع الكشف عليه، فطلب عند التشخيص حالته إجراء عدة تحليلات، وكانت المفاجأة التى هوت على رأس والدته كاملطرقة والتى لم تكن تخطر لها ببال، أو تجول فى حسبانها، إذا ظهرت التحاليل أنه مدمن عقار الهيروين المخدر.
لم تصدق ذلك.. بعد أن أقسم الأبن لها إيماناً مغلظاً وكانت تثق فى صدق حديقه، فتوجهت به إلى معمل أخر لعمل تحليل جديد، فجاءت النتيجة لتؤكد ما جاء بالتقرير الأول .. فكان على الزوج أن يراجع حياته فى الفترة الأخيرة ويشتعرضها بكل دقة وتفصيل، وكأنها شريط سينمائى أمام عينيه.. من الذى فعل ذلك؟ وما مصلحته فى تدميره؟.
بدأ الزوج فى الشك فى زوجته بعد تغيرها فى الفترة الأخيرة، وقاده الشك لفنجان القهوة.. تناول بعضاً مما فى داخل الفنجان ووضعه فى زجاجة، كما طلب منه الطبيب المعالج، وأرسله إلى التحاليل، وكانت المفاجأة التى ما كانت تخطر بباله أو تدور بخلده.. القهوة بها مخدر الهيروين.
لكن لماذا فعلت ذلك؟ ما سر غدرها به؟ إنها مؤامرة للقضاء عليه.. لابد أن هناك رجلاً فى حياتها؟ وقد دبر خطة الخلاص منه.. كلها أفكار دارت فى عقل الزوج منذ ان عرف وأيقن أن زوجته وراء كل ما حدث له.
أبلغ الزوج بصحبة والدته إدارة مكافحة المخدرات، وأسفرت المراقبة عن شراء زوجته مخدر الهيروين الذى اعتادت ان تدسه فى القهوة لزوجها.. لتنفيذ خطتها الإجرامية لكن القدر لم يمهلها فقد تم القبض عليها، وتم ضبط الهيروين الذى بدلت به حياة زوجها، وتم ضبطها متلبسة وهى تعد له فنجان القهوة فى الصباح كالمعتاد، ولم تجد أمامها خيار إلا الاعتراف .. لقد اعترفت بكل شىء وقدمت شريط الفيديو الذى قتل حبها ودمر حياتها وحياة من تحب.
ويقول المستشار أبو شقة، تم مواجهتى كمحقق بهذا الشريط وما جاء به فى مواجهة الزوجة التى فوجئت بالحقيقة لأول مرة،وبأنها عاشت فى صراع مع الوهم وكيف أن هذا الوهم كان هو الخنجر الذى ذبحت به نفسها.. وكانت فى سبيلها للإجهاز به على زوجها.
إن شريط الفيديو كان على زيجة قديمة قبل أن يعرها ويقترن بها، وقت أن تعرف عليها كانت قد انتهت هذه الزيجة بالطلاق وأصبحت مجرد ماض.. أسدل عليها ستائر النسيان، وطلب منى كمحقق أن أسجل تفاصيل الحقيقة التى أثر كتمانها، فلم يصرح بها لزوجته حرصاً منه على مشاعرها واستمراراً لحب جمع بينهما ووفاء منه لمواقفها وراء نجاحه وسنداً ودعماً.
ولكى يظل المحبوب الذى رسمته فى مخيلتها حتى لو كان زواجه من امرأة قبل أن يعرفها.. لقد دفعه حبه الشديد لها ألا يفتح صفحة عن ماضٍ أسدلت على أيامه ستائر النسيان.
طويت صفحات القضية بعد أن أتممت تحقيقها وأحيلت المتهمة للمحاكمة، أما الزوج فقد تعالج من الإدمان واستقبل حياة جديدة بابتسامة ملؤها الأمل فى مستقبل مشرق يواصل فيه تحقيق طموحاته بقفة وتفاؤل.
المصدر: اليوم السابع
كلمات دلالية: غرائب القضايا اغرب القضايا اخبار الحوادث هذا الشریط الذى کان قبل أن
إقرأ أيضاً:
تحليل سياسي يكتبه محمد مصطفى أبوشامة: وانتصرت «أمريكا أولاً».. وسقطت العولمة
أعلنت وسائل الإعلام الأمريكية تقدماً كبيراً للرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب والمرشح الجمهورى على منافسته كامالا هاريس المرشحة الديمقراطية، وبات ترامب هو الرئيس الـ47 للولايات المتحدة الأمريكية، بحسب قناة «فوكس نيوز» التى استبقت الجميع معلنةً الخبر، قبل أن يطل علينا الرئيس القادم، والعائد إلى البيت الأبيض معلناً انتصاره، فى مفاجأة تؤكد من جديد ضلال استطلاعات الرأى، التى أوحت للعالم فى الأسابيع الأخيرة أن النتيجة أقرب إلى التعادل، ولكن الصناديق أظهرت اكتساح الترامبية للولايات المتحدة الأمريكية.
وحتى يتسنى لنا الاطلاع على النتائج الكاملة فى كافة الولايات الأمريكية، وتحليلها، كى نستطيع فهماً حقيقياً لما حدث فى الخامس من نوفمبر 2024، واتجاهات تصويت الناخبين، والتى عكست قرارهم بشأن ما عرضه عليهم كلا المرشحين من قضايا.
إذن ما الذى يعنيه فوز «ترامب»؟ الرجل الذى تمثل عودته رئيساً سابقةً لم تتكرر فى تاريخ الولايات المتحدة إلا مرة واحدة منذ 132 عاماً، بأن يحكم رئيس دورتين غير متتاليتين، سبقه الرئيس جروفر كليفلاند فى نهاية القرن التاسع عشر، كما سيكون ترامب أول رئيس فى التاريخ يفوز بعد إدانته جنائياً بارتكاب العديد من الجرائم الفيدرالية وعلى مستوى الولايات.
ترامب أولاً وأمريكا أيضاً
«أمريكا أولاً»، ليس شعاراً انتخابياً سينتهى أثره بعد أن يحقق هدفه، لكنه فلسفة حكم تبلورت بها (الترامبية) كظاهرة سياسية، اختبرها الشعب الأمريكى بين عامَى (2017 و2021)، وعاد ليختار صاحبها مجدداً لدواعٍ اقتصادية، بحسب اتفاق عام بين أغلبية المحللين، وإشراكهم الرأى مع عدم إغفال الأثر الكبير لـ«ذكورية» المجتمع الأمريكى كدافع رئيسى للتصويت ضد «هاريس».
والتصويت الذكورى سبق أن حقق لـ«ترامب» ولايته الأولى بعد فوزه أمام هيلارى كلينتون، ولا ننسى أنه عندما ترشح أمامه رجل خسر بالفعل، وفاز بايدن فى الانتخابات السابقة، هذا لا ينفى دور خطته السياسية، من الاقتصاد إلى المهاجرين، مروراً برفضه للإجهاض ودعواته المحافظة التى أيقظت شيئاً ما فى المجتمع الأمريكى، لقد أجاد ترامب اللعب على مشاعر الجماهير، ورسمت حملته صورة متميزة له؛ الرجل القوى المحافظ البارع اقتصادياً، الذى تخشاه دول العالم وتحاول قوى الشر اغتياله، فيما حصد دور البطولة بعد عملية اغتياله الفاشلة، وتحولت صورته بعد النجاة إلى أيقونة ترسخت فى المخيلة الأمريكية، تلك اللقطة التى رصدتها كاميرا مصور عبقرى، عندما نهض «ترامب» ثابتاً وشجاعاً رغم إصابته بعيار نارى، وهى صورة غسلت كل أخطائه وغفرت له ذنوبه أمام غالبية الأمريكيين.
وجاءت الفكرة
ليس استباقاً للحوادث، فالعالم كله بقى معلقاً طوال العام الأخير انتظاراً لهذا اليوم، عندما تنفض أمريكا يدها من مهرجان الانتخابات الرئيسية وتفيق لدورها الإمبراطورى.. كسيدة العالم وأقوى دولة فيه، بعد وصول ترامب، ما مصير هذا الدور فى ظل تراجعه الحاد خلال السنوات الماضية؟
يرى المفكّر الأمريكىّ جورج مودلسكىّ أن مدّة حياة أى «نظام عالمىّ» هى تقريباً 100 سنة، مقسّمة على 4 مراحل، لكلّ منها 25 سنة، المرحلة الأولى هى مرحلة الحرب الكبرى، الثانية هى مرحلة صعود المهيمن، الثالثة هى مرحلة فقدان المهيمن الشرعية والمصداقيّة فى عيون اللاعبين الدوليين. أما المرحلة الأخيرة فهى مرحلة فقدان مركز الثقل «Core» القدرة على إدارة أزمات وشئون النظام الذى أنتجه، وبذلك يصبح العالم «لا مركزيّاً».
وتحت عنوان «عندما تهوى الإمبراطوريات»، كتب فى وقت سابق المحرر العسكرى لصحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، موضحاً أن «تغيير الأمم يعنى تغيير المهيمن، وتغيير المهيمن يعنى مزيداً من الصراعات والحروب. ومزيد من الحروب يعنى أن التحوّلات والتغييرات فى موازين القوى العالميّة أصبحت واضحة ومؤثّرة». واستناداً لرأى مودلسكىّ حول دورة حياة النظام العالمى، يمكن لنا تصور حال النظام العالمى الحالى، فى ظل التراجع الملحوظ للدور الأمريكى (المهيمن)، والتخبط الواضح فى تعامله مع سائر الأزمات حول العالم.
الإمبراطورية الأمريكية!
وفى كتابه المهم «الإمبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق» الصادرة طبعته الأولى عام ٢٠٠٣، عن دار الشروق المصرية، يعدد الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل فى نقاط محددة، مزايا هذه الإمبراطورية والتى جعلتها مختلفة ومحصنة إلى حد الكمال، فيصفها قائلاً: «هذه الإمبراطورية الأمريكية تملك من عوامل القوى الاقتصادية والمالية ما يتفوق على سابقتها طول التاريخ. وتوظف لخدمة أهداف أقوى وأكبر منجزات التقدم الإنسانى فى كافة المجالات. وتملك سطوة فى السلاح لم تتوافر لغيرها.. مع وجود توافق حرج بين التكنولوجيا العسكرية والتكنولوجيا المدنية.
واستطاعت أن تعرض نوعاً من جاذبية النموذج يمهد لتوسعها وانتشارها بغواية فى أساليب الحياة تعزز وسائط القوى. كما تمكنت من أسلوب جديد فى السيطرة.. يقوم على نظام شديد الجرأة والجسارة إلى درجة الاقتحام واختراق خصوصيات الدول والشعوب.. والقدرة على خطف وعى الآخرين وارتهانه.. أسير إعلام مصور وملون.. مكتوب وناطق.. يعطى لنفسه احتكار وضع جدول اهتمامات الرأى العام العالمى وسحب الآخرين وراءه».
ويضيف الأستاذ هيكل أن «هذه الإمبراطورية عاشت حياتها بعيدة عن أى تهديد مباشر لأرضها وسكانها، وراكمت من أسباب القدرة والثروة مدداً وفيراً، وبالتالى قدراً ضخماً من المناعة والثقة بالنفس يزيد أحياناً عن الحد»، وهو ما يصل بنا إلى الحكمة الصوفية المأثورة التى وظفها هيكل فى موضعها بالتمام، مؤكداً: «عند التمام يبدأ النقصان، فكل كائن حى له أجل، ولهذا الأجل مراحل، طفولة وصبا وشباب وكهولة وشيخوخة وموت، وذلك قانون نافذ حتى على الإمبراطوريات باعتبارها كيانات حية».
وهو ما يتوافق مع رأى مودلسكى حول دورة حياة النظام العالمى، فهل تمثل عودة ترامب هذا النقصان؟، وهل ما نعيشه هو لحظة الشيخوخة الإمبراطورية للولايات المتحدة الأمريكية؟، هذا ما سنراه ونعيشه فى السنوات الأربع القادمة التى تمثل مرحلة فارقة فى تاريخ العالم.
الشرق الأوسط أولاً
وُصفت عدم قدرة الرئيس الأمريكى الحالى جو بايدن على إيقاف الحرب فى غزة بالمسألة المهينة لكبرياء بلاده كقوة عظمى، فيما مثَّل انسياقه التام وراء رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو تأكيداً على فقدان الهيبة بسبب توغل نفوذ اللوبى اليهودى وهيمنته على مفاصل الإدارة الأمريكية، فبات صانع القرار الأمريكى لا يملك إلا استرضاء إسرائيل على الدوام.
وبفعل التقارب بين «ترامب ونتنياهو»، سيكون للشرق الأوسط أولوية وبالتوازى معه ستكون الحرب فى أوكرانيا أيضاً مساراً عاجلاً للرئيس «ترامب»، بهما سيطوى صفحة الحروب المشتعلة فى العالم، ويتبقى لديه ملفان هما إيران والصين، وكلاهما سيكون للحصار الاقتصادى دور كبير فى تجحيم قدرات الدولتين، وإن كان من غير المستبعد توجيه ضربة إسرائيلية برعاية أمريكية لإيران، والتى ربما تكون قبل دخول ترامب إلى البيت الأبيض.
أمريكا أولاً، تعنى فى مرحلتها الأولى الانتهاء السريع من ترتيب الأولويات الخارجية، للتركيز الكبير فى الشئون الداخلية وتعزيز القدرات الاقتصادية والتكنولوجية، وهذا ما يعزز وجود شخص مثل إيلون ماسك فى الفريق الرئاسى لترامب، والذى خصه بتحية وتقدير كبير فى خطابه الذى ألقاه «ترامب» فى فلوريدا مقر حملته الرئاسية وهو يعلن انتصاره على «هاريس». أما عن ضحايا الترامبية، ممن يتأهبون لسنوات الخسائر، تأتى فى مقدمتهم أوكرانيا وتزاحمها إيران على المركز الأول، فيما تأتى القضية الفلسطينية ثالثة، وتجاهد دول الاتحاد الأوروبى للهروب من قائمة الضحايا المتوقعين. لا أدرى موقع لبنان على خارطة الضحايا، وإن كنت أتمنى الوصول لوقف إطلاق نار على جبهتها قبل مغادرة بايدن للبيت الأبيض.
أما داخلياً فسيبقى السؤال معلقاً، إلى أى مدى سيكون انتقام «ترامب» من أعدائه والذين لقَّبهم بـ«أعداء الداخل»؟ وقد سربت وسائل إعلام قائمة بالأسماء والمؤسسات ممن اختلفوا مع ترامب وكانوا طرفاً ضده خلال السنوات الأربع الماضية.
وختاماً، فقد فاز «ترامب» بفعل المزاج اليمينى المهيمن على المجتمعات الغربية، وإن كانت أخطاء الحزب الديمقراطى الكبرى هى التى مهدت الطريق له لتحقيق فوز ساحق، زلات ولاية بايدن، والإصرار على بقائه مرشحاً للحزب وتأخر الدفع بـ«هاريس» لمنافسته، حتى اختيار «هاريس» كان فى حد ذاته خطأ مركباً. فاز «ترامب»، لأنه الخيار الأقل ضرراً، كما ذكرت فى مقالى السابق، ويمثل اختياره رسالة واضحة من الشعب الأمريكى للعالم، يجب فهم محتواها جيداً، كى تمر سنوات حكمه بسلام.