قضايا غريبة وقعت وأثارت الجدل تحول فيها القاتل إلى برىء، والجاني إلى مجني عليه، ألغاز كشفتها التحقيقات، وأزال عنها الستار دفوع المحامين في ساحات القضاء، اليوم السابع يقدم على مدار 30 حلقة خلال شهر رمضان المبارك، أبرز هذه القضايا ووقائعها المُثيرة.

"صراع مع الوهم"

يروى هذه الحلقة المستشار بهاء الدين أبو شقة فى كتابه "أغرب القضايا.

.

 

ويروى المستشار أبو شقة، وقعت أحداث هذه القضية وباشرت تحقيق وقائعها أثناء عملى كوكيل نيابة بالجيزة، كانت أحداثها مثيرة، أقرب من الخيال، بعيدة عن الواقع.. تجمع بين جناحيها الخير والشر والحب والكراهية..الصفاء والغدر.. الحب والانتقام..

 

كانت فتاة فى منهى الجمال فى العشرين من عمرها، رشيقة ممشوقة القوام.. بيضاء البشرة.. حباها الله بخضرة العينين التى كانت تشع جاذبية لا تقاوم..تقدم لخطبتها الكثير من الشباب.. معظمهم فى مراكو مرموقة رغم أنهم على أولى درجات سلم الحياة.. لكن الرفض منها كان الجواب الدائم الذى كان محل استغراب الجميع.

خاب ظن الجميع وطاشت كل خيالاتهم وتوقعاتهم، وأفاقوا من أحلامهم على وقع ذبك الخبر الذى كان مسار دهشتهم وحيرتهم.. رافضين تصديقه أو حتى تخليله أو مجرد تصوره..

أخيراً قررت أن تتزوج الفتاة لكن من كهل قارب التسعين من عمره، وأصرت على هذا الزواج رغم فارق السن الكبير الذى يقترب من الخمسين عاماً بين سن كل منهما..وباركت أسرتها الفقيرة زواجها من الكهل الثرى الذى انتشلها بثرائه من حياة المعاناة والفقر والحرمان، إلى حياة الرفاهية والعز والأمان، نقلها لتعيش معه فى الفيلا الفاخرة التى اشتراها خصيصاً لها واشترى لها سيارة فارهة وأفخر الملابس.. وأحضر لها العديد من الخدم.. ليكونوا رهن إشارتها.

عاشت الفتاة مع زوجها الكهل الذى دبت فى جسده الهزيل كومة من الأمراض.. ممرضة قبل أن تكون زوجة.. تعطيه الدواء فى نهاره وتواصل السهر على تمريضه ليلاً، ولم تكض سوى سنة وبضعة شهور حتى زادت مشاكله المرضية واشتد عليه المرض وتدهورت صحته حتى وافاه الأجل..وقد ترك لها ثروة كبيرة و أموالاً كثيرة فى حسابتها فى البنوك فضلاً عن امتلاك أراضٍ قام بشرائها باسمها.

أحست الفتاة أن الفقر الذى طالما عاشت معه وتربت فيه قد تحول إلى غنى وثراء وثروة فاحشة، أن عليها أن تنطلق وأن تخرج من القمقم الذى دفنت نفسها فيه قرابة العامين، والفقر المدقع الذى غاصت فيه من قمة رأسها حتى أخمص قدميها.. انطلقت تعوض ما فات شبابها من حرمان، وهى تبحث عن الشاب الذى ستعطيه حبها.. ليس أى شاب جدير بهذا الحب.. فقد رسمت فى مخليلتها نموذجاً لشاب وضعت بنفسها مواصفاته تتوافر فيه الوسامة والوجاهة، والرشاقة والذكاء واللباقة والطموح..وأن يكون خفيف الظل حلو الكلمة.

لم يمر كثيراً من الوقت حتى التقت بشاب يقاربها فى العمر.. كان نموذجاً لتلك الصورة التى رسمتها فى مخيلتها.. والتى حلمت كثيراً بها فى منامها.. وفتحت عينيها فقد تحول الحلم إلى حقيقة، إنه شاب حديث التخرج من كلية الهندسة، يفصح مظهره المتواضع عن فقره، وجدت فيه منذ الوهلة الأولى صورة مماثلة لها يوم أن التقت بزوجها الأول "فتاة كتب عليها القدر الحرمان من كل شىء".

صارحته بكل كبيرة وصغيرة عن حياتها وعن أسرتها.. عرف منها أنها نشأت فى أسرة فقيرة وأنها كانت تعمل بائعة فى أحد المحلات الكبرى عندما التقى بها زوجها الأول، وصارحته بأن الشاب الذى طالما حلمت به وأعجبها طموحه وكفاحه وصموده رغم فقره، فقد حصل على بكالوريوس الهندسة ويستعد للحصول على الدكتوراه، وصارحها هو الأخر بأنه أحب فيها روح التضحية والإيثار والعقل والحكمة، كيف أنها باعت نفسها وقبلت أن تقدم نفسها قرباناً من أجل أسرتها وإسعاد إخوتها.

تزوجت الفتاة من الشاب الذى طالما رسمه فى خيالها وسبحا معاً فى بحور الحب وينابيع الهيام ترتشف كؤوس السعادة وذاقت- لأول مرة فى حياتها- طعم الحب الحقيقى، أحست أن الدنيا كلها بين يديها وأن وجه الحياة المظلم قد تبدد، وأن الشمس قد أشرقت وأطلت عليها وغمرتها بأشعتها الجميلة بالحب والدفء والسعادة.

ولكن متى دامت السعادة لإنسان؟ فليس ما يحب المرء يدركه فقد تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن.

ذات صباح وقعت عيناها على مفاتيح خزينة زوجها التى يحتفظ داخلها بأوراقه الخاصة، قد نسيها – وهو فى عجلة من أمره- للحاق بعمله.. لم تكن من عادتها أن تفتش زراءه فقد كانت ثقتها به وفيه لا حدود.

ومن قبيل الرغبة المجردة فى تنظيم ما بداخل الخزمة قامت بفتحها وبدأت فى تنظيمها.. لا بحثاً أو تنقيباً عما بداخلها.. فثقتها به كانت حائلاً بينها وبين ذلك، فاستوقف نظرها احتفاظه بشؤيط فيديو داخل الخزنة وسط العديد من المستندات والأوراق التى تشكل أهملة بالغة له.. فما سر احتفاظه بهذا الشريط.. كان هذا هو الؤال الى لاحقها وظل يضرب فكرها بعنف.. أثار قضولها وطرداً للهواجس والأقكار التى تملكتها أن تشاهد ما يحويه هذا الشريط.

وكانت المفاجأة التى لم تخطر لها ببال.. ولم تطرأ لها على خاطر.. وما رأته من مشاهد يحتوى عليها هذا الشريط.. إنها لا تصدق ما تراه، ففركت عينيها وأمعنت النظر كنها تعانى من حلم مفزع.. زوجها فى ملابس الزفاف وبجانبه عروسته.

أحست فى تلك اللحظة أن الدنيا قد أظلمت أمام عينيها أكثر من أى وقت مضى فى حياتها.. إنها طعنت طعنة دامية قاتلة أدمت قلبها الملىء بالحب والإخلاص، ورسخ فى وجدانها لأول مرة أن زوجها خائن، وتأكد لها أنه طامع، ويتسم أمام عينيها أنه غادر.. مجرد من المشاعر يلبس قناعاً مزيفاً يخقى وراءه وجهه الحقيقى الملىء بالغدر والخيانة والأنانية، لقد خان الثقة الكالمة، والأموال التى باعت نفسها من أجلها سلمتها له وبكل ثقة وأمانة.

قررت أن تنتقم من زوجها انتقاماُ من نوع جديد ..موجعاً أليماً لا شقة فيه ولا رحمة، قررت أن تعذبه عذابأً أليماً لتشفى غليلها وهى تراه أمام عينيها يذوق مرارة الخيانة ويلعق جراح الندم.

وبدأت تنفذ فصول خطتها بالاستعانة بصديقة لها كانت تعرفها فى الحى الذى كانت تعيش فيه أيام فقرها، كانت تعرف أن زوجها يعمل فى تجارة  المواد المخدرة، وحصلت من صديقتها على عقار مخدر الهيروين، وقدمت لزوجها جرعات الهيروين وسط مشروب القهوة الذى كان لا يخرج من مسكنه قبل أن يتناوله من يديها، واستطاعت بهذا الأسلوب الإجرامى الماكر أن تجرده من كل شىء..أن يسجل باسمها كل الأموال والشركة التى كانت بينهما.

لاحظ الجميع ووالدة الشاب التغيير المفاجىء على ابنها بات عصبياً هزيلاً، زائغ البصر، شارد التفكير مهموماً ، زاهدًامكتئباً غير عابىء بالحياة، حتى إعداده للدكتوراه ألقاه فى سلة المهملات، اصطحبته والدته إلى الطبيب لتوقيع الكشف عليه، فطلب عند التشخيص حالته إجراء عدة تحليلات، وكانت المفاجأة التى هوت على رأس والدته كاملطرقة والتى لم تكن تخطر لها ببال، أو تجول فى حسبانها، إذا ظهرت التحاليل أنه مدمن عقار الهيروين المخدر.

 

لم تصدق ذلك.. بعد أن أقسم الأبن لها إيماناً مغلظاً وكانت تثق فى صدق حديقه، فتوجهت به إلى معمل أخر لعمل تحليل جديد، فجاءت النتيجة لتؤكد ما جاء بالتقرير الأول .. فكان على الزوج أن يراجع حياته فى الفترة الأخيرة ويشتعرضها بكل دقة وتفصيل، وكأنها شريط سينمائى أمام عينيه.. من الذى فعل ذلك؟ وما مصلحته فى تدميره؟.

بدأ الزوج فى الشك فى زوجته بعد تغيرها فى الفترة الأخيرة، وقاده الشك لفنجان القهوة.. تناول بعضاً مما فى داخل الفنجان ووضعه فى زجاجة، كما طلب منه الطبيب المعالج، وأرسله إلى التحاليل، وكانت المفاجأة التى ما كانت تخطر بباله أو تدور بخلده.. القهوة بها مخدر الهيروين.

لكن لماذا فعلت ذلك؟ ما سر غدرها به؟ إنها مؤامرة للقضاء عليه.. لابد أن هناك رجلاً فى حياتها؟ وقد دبر خطة الخلاص منه.. كلها أفكار دارت فى عقل الزوج منذ ان عرف وأيقن أن زوجته وراء كل ما حدث له.

أبلغ الزوج بصحبة والدته إدارة مكافحة المخدرات، وأسفرت المراقبة عن شراء زوجته مخدر الهيروين الذى اعتادت ان تدسه فى القهوة لزوجها.. لتنفيذ خطتها الإجرامية لكن القدر لم يمهلها فقد تم القبض عليها، وتم ضبط الهيروين الذى بدلت به حياة زوجها، وتم ضبطها متلبسة وهى تعد له فنجان القهوة فى الصباح كالمعتاد، ولم تجد أمامها خيار إلا الاعتراف .. لقد اعترفت بكل شىء وقدمت شريط الفيديو الذى قتل حبها ودمر حياتها وحياة من تحب.

ويقول المستشار أبو شقة، تم مواجهتى كمحقق بهذا الشريط وما جاء به فى مواجهة الزوجة التى فوجئت بالحقيقة لأول مرة،وبأنها عاشت فى صراع مع الوهم وكيف أن هذا الوهم كان هو الخنجر الذى ذبحت به نفسها.. وكانت فى سبيلها للإجهاز به على زوجها.

إن شريط الفيديو كان على زيجة قديمة قبل أن يعرها ويقترن بها، وقت أن تعرف عليها كانت قد انتهت هذه الزيجة بالطلاق وأصبحت مجرد ماض.. أسدل عليها ستائر النسيان، وطلب منى كمحقق أن أسجل تفاصيل الحقيقة التى أثر كتمانها، فلم يصرح بها لزوجته حرصاً منه على مشاعرها واستمراراً لحب جمع بينهما ووفاء منه لمواقفها وراء نجاحه وسنداً ودعماً.

ولكى يظل المحبوب الذى رسمته فى مخيلتها حتى لو كان زواجه من امرأة قبل أن يعرفها.. لقد دفعه حبه الشديد لها ألا يفتح صفحة عن ماضٍ أسدلت على أيامه ستائر النسيان.

طويت صفحات القضية بعد أن أتممت تحقيقها وأحيلت المتهمة للمحاكمة، أما الزوج فقد تعالج من الإدمان واستقبل حياة جديدة بابتسامة ملؤها الأمل فى مستقبل مشرق يواصل فيه تحقيق طموحاته بقفة وتفاؤل.







المصدر: اليوم السابع

كلمات دلالية: غرائب القضايا اغرب القضايا اخبار الحوادث هذا الشریط الذى کان قبل أن

إقرأ أيضاً:

الطريق إلى «30 يونيو».. أسرار «على حافة الأزمة» في مصر من 2011 إلى 2013

يمثل كتاب «حوارات على حافة الأزمة» للكاتب الصحفى والخبير الإعلامى محمد مصطفى أبوشامة شهادة تاريخية مهمة عن مرحلة مؤثرة فى تاريخ مصر المعاصر، كثر فيها الجدل واللغط، وتنافست فيها أطراف خارجية وداخلية على تدليس الحقائق وتزوير الحوادث بما يخدم مصالحها وأهدافها.

وندر أن تجد الحياد الكامل بين شهادات مَن عاصروا مصر بين ثورتى يناير ويونيو، ولعل هذا أكثر ما يميز شهادة «أبوشامة» وحواراته، فقد منحه وضعه الوظيفى كمدير تحرير لصحيفة «الشرق الأوسط» فى القاهرة، نوعاً من الحرية ساعده فى الوقوف على مسافة واحدة من الجميع رغم اختلاف توجهاتهم. وقد صدرت الطبعة الأولى من الكتاب سنة ٢٠١٥، وتصدر طبعة جديدة منه خلال أيام بالتزامن مع الاحتفال بالذكرى الحادية عشرة لثورة ٣٠ يونيو.

وقد حظى الكتاب بتقدير كبير فى كل الأوساط الإعلامية، لهذا حرصت «الوطن» على تقديم عرض موجز لبعض فصوله. والكتاب يعتمد بالأساس على ٦ حوارات صحفية مطولة نُشرت فى توقيتات مختلفة فى الفترة من ٢٠١٠ إلى ٢٠١٤، وتمثل معاً «موزاييك سياسى» يحكى قصة مصر بين ثورتين. وقد اخترنا أن نعرض المقدمات التى رصد فيها مؤلف الكتاب كواليس تلك اللقاءات الصحفية، وتقييمه للشخصيات التى حاورها وتعليقه على بعض ما جرى مع ضيفه فى كل حوار.

حسام بدراوى حاول طوال مشواره السياسى أن يحافظ على توازن فى العلاقات بين مراكز السلطة فى مصر وأن يغرد دائماً خارج «السرب» السياسى وهو أمر ربما يكون قد أسعده شخصياً فى البدء.. كلمة

يقول الكاتب محمد أبوشامة فى مقدمة كتابه: «وأبطال حواراتى فى هذا الكتاب كانوا نجوم الصف الأول فى المشهد السياسى المصرى، ولا يزالون (وقت نشر الكتاب عام ٢٠١٥)، رغم تبدُّل مواقعهم ومواقفهم خلال هذه السنوات الأربع، وكانت شهاداتهم فى حينها هامة ومتفردة، لكنها الآن أصبحت تقدم رواية متكاملة لتجربة مصيرية فى تاريخ مصر المعاصر، وبات من المستحيل أن يتراجع أى من أبطالنا الستة عن رأى قاله أو شهادة نطق بها أو معلومة سمح بنشرها، وهنا تكمن قيمتها».

ويُكمل: ومع الأحداث والتغييرات السياسية المرعبة التى شهدتها وتشهدها المنطقة، كانت مصر خبراً رئيسياً فى الصفحات الأولى لكبرى صحف العالم، وكانت «متعة» و«محنة» العمل الصحفى خلال هذه الفترة وجهين لمرحلة جديدة مثلت منحى تغير جذرى أثَّر على واقعها ومستقبلها؛ دفعتها السيولة السياسية المصحوبة بتفاعل الوسائط الإعلامية الحديثة، وما لاحقها من طوفان تكنولوجى، إلى جعل الصحافة والصحفيين فى صدارة المشهد بلا منافس، وأصبح ما يقدمونه من رسائل إعلامية يقتات عليها الجمهور، هى الركيزة الأساسية وربما الوحيدة التى تشكل رأيهم وتحسم توجههم.

لكن مع هذا التدفق الرهيب من المواد الإعلامية، ومع «ذاكرة السمك» المميزة للجمهور فى العالم، وخاصة المصرى والعربى، كان من الضرورى الحفاظ على أى شهادة وكل رأى نُشر بمصداقية خلال هذه الفترة الخطيرة التى مر بها الوطن، فهى وثائق نتركها للتاريخ ولأبنائنا من بعدنا، ليقولوا كلمتهم فيما حدث، وربما استطاعوا تفسيره وتحليله وتسميته بما يليق به.. وإلى بعض نصوص الكتاب..

رجل اللحظة الأخيرة

التقيت الدكتور حسام بدراوى فى مقر شركته (ميدى كير) المتخصصة فى نشاط التأمين الطبى، والتى تشغل الدور الأخير من مبنى مستشفى «النيل بدراوى» على كورنيش المعادى، لإجراء هذا الحوار الذى نُشر قبل بدء انتخابات مجلس الشورى المصرى (الغرفة الثانية من البرلمان) التى جرت فى يونيو عام 2010، وكانت واحدة من ثلاثة انتخابات مصيرية تجرى فى مصر خلال 16 شهراً ويتطلع إليها العالم كله، لأنها تؤسس لشكل المستقبل السياسى لأهم دولة فى منطقة الشرق الأوسط، وقد أُجريت بعدها بأشهر قليلة انتخابات مجلس الشعب (الغرفة الأولى من البرلمان)، بينما عصفت ثورة يناير بثالثة الانتخابات التى كان مزمعاً إجراؤها قبل سبتمبر من عام 2011، وهى انتخابات الرئاسة، التى كان من المتوقع لها إما أن يترشح فيها الرئيس المخلوع حسنى مبارك، أو نجله جمال، وفق ما أشيع عن سيناريو التوريث الذى راج بشدة وبات أقرب إلى التنفيذ خلال عام 2011.

نُشر حوارى مع د. بدراوى بتاريخ 24 مايو 2010، وكان وقتها عضواً بالأمانة العامة للحزب الوطنى الحاكم فى مصر، بالإضافة إلى شغله منصب أمين قطاع الأعمال بالحزب، وكان أيضاً عضواً بأمانة السياسات (دولة جمال مبارك داخل الحزب)، ورئيس لجنة التعليم والبحث العلمى فيها.. ورغم تعدد مناصبه القيادية فى الحزب الوطنى، فإنه كان يعارض -وبشكل علنى- كثيراً من سياسات وقرارات الحزب، ولهذا كان وجهاً مقبولاً على المستوى السياسى من قوى المعارضة المصرية على اختلاف طوائفها، وهو ما جعله آخر «كروت» مبارك قبل سقوط نظامه، حيث دفع به إلى قمة المناصب العليا فى الحزب، وأصدر قراراً بتعيينه أميناً عاماً للحزب خلفاً للأسطورة صفوت الشريف، وذلك بعد أيام من اشتعال ثورة الـ25 من يناير 2011، وهو المنصب الذى شغله «بدراوى» لمدة 6 أيام فقط، قبل أن يعلن استقالته مستبقاً إعلان مبارك تنحيه عن حكم مصر بساعات قليلة.

حاول «بدراوى» أن يرسخ فى حواره معى صورة «وردية» عن مؤسسة سياسية كبيرة اسمها «الحزب الوطنى»؛ أكدت الأيام للأسف أنها كانت مؤسسة «كرتونية»، وهو ما بدا واضحاً عندما طرحت اسم اللواء عمر سليمان كى ينضم لأمانة الحزب الوطنى ليتمكن من الترشح للرئاسة لخلافة مبارك، وكان هذا هو السؤال الأصعب فى الحوار، والإجابة أكدت لى وقتها ما كان يشاع عن خلاف فى أعلى دوائر الحكم حول «خليفة مبارك»، وهو الموضوع الأكثر إلحاحاً منذ أن سافر مبارك فى رحلة علاجية مفاجئة إلى ألمانيا مطلع عام 2010.

راوغنى د. بدراوى بذكاء، ورفض حسم قصة ترشح جمال مبارك للرئاسة بوضوح، كما ناور كثيراً حول اسم الراحل عمر سليمان ومسألة دخوله الحزب الوطنى، رافضاً فكرة خلافته لمبارك، لكن بحكم موقعه القريب من دائرة «الابن الوريث» أخذ الإجابة فى طريق إجبارى ينتهى بوصول جمال مبارك إلى منصب الرئيس، وفق القواعد الدستورية والمؤسسية للدولة المصرية، التى تنظم الانتقال الطبيعى للسلطة، دون أن يُفصح صراحة عن ذلك أو عن اسمه.. لكنه أدرك بعد أن أنهينا الحوار أن إجابته ربما تمثل له مشكلة، فاتصل بى وطلب أن يختم إجابته عن سؤال «خليفة مبارك» بالعبارة التالية: «لا علاقة لردى بالاحترام والتقدير لشخص الوزير عمر سليمان الذى يشرّف الحزب ومصر كلها».

حاول «بدراوى»، طوال مشواره السياسى، أن يحافظ على توازن فى العلاقات بين مراكز السلطة فى مصر، وأن يغرد دائماً خارج «السرب» السياسى، وهو أمر ربما يكون قد أسعده شخصياً وأرضاه فى أن يبدو شخصاً مستقلاً لا ينتمى بوضوح لأى «شلة سياسية»، لكنه أيضاً دفع الثمن غالياً؛ فلقد خسر كثيراً، ولم يستطع أن يحقق طموحه السياسى فى الترقى وصعود سلالم السلطة، رغم كفاءته وقدراته المميزة التى تجعله واحداً من أهم السياسيين المصريين فى السنوات الأخيرة.

رجل دولة «على مزاجه»

يظل الدكتور يحيى الجمل حالة استثنائية فى تاريخ مصر السياسى، فلقد تأرجحت علاقته بكل أنظمة الحكم فى مصر؛ بين صعود وهبوط، ورغم أن منحى الهبوط والصعود كان حاداً فى بعض أوقاته، فإنه ظل يحافظ على «شعرة معاوية» التى تحميه من السلطة حينما تقرر أن تتخلى عن بعض رجالها.

يحيى الجمل كان حالة استثنائية فى تاريخ مصر السياسى فلقد تأرجحت علاقته بكل أنظمة الحكم فى مصر بين صعود وهبوط.. وظل يحافظ على «شعرة معاوية» التى تحميه.. وكان الحوار معه أيضاً استثنائياً

كذلك كان الحوار معه استثنائياً.. أعقب خروجه من «حكومة 25 يناير» التى تشكلت فور سقوط نظام مبارك، والتى شغل فيها منصب نائب رئيس الوزراء لاثنين من رؤساء الوزراء المتتالين، وهما: أحمد شفيق، وعصام شرف، وعمل مع كليهما، ومع المجلس العسكرى الحاكم للبلاد، خلال فترة معقدة ومرتبكة إلى أبعد حد، فكان حوارى معه ثرياً وشاملاً عن مرحلة تاريخية مهمة ومؤثرة كان شاهد عيان على كواليسها وأسرارها.

التقيناه فى أكثر من جلسة أنا وزميلتى الصحفية المجتهدة منى مدكور التى أسهمت بقدر كبير فى إقناعه بالحديث وفتح قلبه وبعض خزائن أسراره، وكان يتفنن لإرباكها فى كل جلسة بمداعبته اللطيفة وخفة ظل رجل تخلص من كل قيود الزمن ويستعد لمغادرة الحياة سعيداً بما قدمه فيها خلال عمره الذى تجاوز الثمانين.

ربما يكون حوار نائب رئيس الوزراء الأسبق الدكتور يحيى الجمل من أعمق الحوارات التى أجريتها فى حياتى وأعددت لها بشكل خاص؛ فقبل مراجعة كل أرشيفه المنشور، ومواقفه، وقراراته، عبر مشواره السياسى، كان علىَّ أن أقرأ كتابه «قصة حياة عادية» الذى يحوى بعضاً من سيرته الذاتية، وهو كتاب ممتع يجعلك تشعر أنك أمام رجل بقدر جديته يحاول أن يستمتع بحياته، وأن يحياها «على مزاجه»، حتى عندما دخل عالم السياسة.

كانت تسيطر عليه حالة من الاستغناء والاستعلاء، وعدم الاكتراث، على عكس كل المتكالبين على السلطة ورجالها، فقد كان دائماً جريئاً وصدامياً فى آرائه، وقد خلصت من قراءة سيرته، ومن حواراتى معه، إلى قناعة؛ وهى أن هذا الرجل أضاع وقتاً كبيراً فى السياسة، وهو أبعد ما يكون عن رجالها وعالمهم.. هو أستاذ جامعى قدير، ورجل قانون من الطراز الأول، ومثقف محترم، ومتذوق جيد للفنون، وكان هذا يكفيه، لكن شيطان السياسة طارده، ولعنتها أصابته، فاقترب منها واكتوى بنارها، واستمتع أياماً قليلة بـ«كشك الحراسة» وأبهة الوزارة، قبل أن يعود من جديد إلى «حياته العادية».

مواقف الدكتور الجمل قبل ثورة يناير معروفة، فقد كان معارضاً شرساً لنظام مبارك فى سنواته الأخيرة، رغم سابق علاقتهما الطيبة فى سنوات مبارك الأولى فى الحكم وحتى منتصف الثمانينات من القرن الماضى، لكن لم تشفع له هذه المعارضة ولا مواقفه السياسية المشرّفة عند شباب الثورة، واعتبروه ممن قفزوا عليها واستفادوا منها.. عابوا عليه علاقته القوية مع المشير طنطاوى وأعضاء المجلس العسكرى.

وربما يكون للإخوان دور فى تأجيج حالة الرفض وتعبئة القوى الثورية ضده، وكذلك تعكير العلاقة بينه وبين رئيس الوزراء الثانى الذى عمل نائباً له، الدكتور عصام شرف، لكنه فى النهاية، مثل عشرات الأسماء من المعارضين السياسيين الذين جلسوا على مقاعد الحكم بعد سقوط نظام مبارك، خرجوا «محروقين» سياسياً.. ربما يكون ذلك قد تم عمداً، وربما لطبيعة المرحلة العاصفة التى عاشتها مصر ولا تزال.

لعل أطرف مواقف الدكتور الجمل التى تختزل شخصيته وتعبر عنها، هى لقطة كنت حاضراً فيها وشاهداً عليها، وكانت فى حفل أقيم بالأوبرا للموسيقار راجح داود قبل عدة أشهر، وبعد وصلة عزف بديعة للفرقة بقيادة المايسترو داود، وبحضور مميز لعازفة الفلوت الدكتورة إيناس عبدالدايم رئيسة دار الأوبرا المصرية، وبعد تصفيق حاد من الحضور، صدح صوت د. يحيى فى الصفوف الأولى مردداً بصوت مرتفع «الله.. الله يا دكتورة إيناس»، فضجت القاعة بالضحك والتصفيق.

الرجل الذى قضى على الجماعة

هل يمكن أن يكون خيرت الشاطر هو «أبودبورة» فى فيلم «أرض الخوف» للمخرج المبدع داود عبدالسيد؟

فكرة الحوار مع خيرت الشاطر كان فى مجمله «كوميدياً».. فأنا أسأل أسئلة وهو يجيب عن أسئلة أخرى.. وكل محاولاتى لمطاردته أو دفعه لإجابة مباشرة واضحة عن أى سؤال كانت لا تؤثر على أدائه ويصر على ما يريد أن يقوله

جنونة سيطرت على تفكيرى وأنا فى طريقى لإجراء حوار صحفى مع الرجل الأقوى والأهم فى جماعة الإخوان المسلمين فى أبريل عام 2012، الذى فاجأ أبناء جماعته وكل المصريين؛ بل والعالم أجمع، بإصراره على الترشح لمنصب رئيس جمهورية مصر العربية، وهو القرار الذى كان المسمار الأخير فى نعش جماعة الإخوان. كما أثبتت الأيام والحوادث خطأ وخطورة وجرم هذا القرار الذى كان بالمخالفة لما صرحت به الجماعة فى أعقاب ثورة يناير 2011.

كما أن المتابع لشكل خروج القرار من مكتب إرشاد الجماعة، وتعثر التصويت عليه، ثم إعادة التصويت أكثر من مرة بإلحاح غير مفهوم من «الشاطر»، الذى كان يقوم بجهد خارق لإقناع الأعضاء فرادى ومجتمعين بأهمية القرار، يدرك أن فى الأمر شيئاً غير مفهوم، وأن هناك لغزاً محيراً، خاصة بعد الانقسامات العديدة والشروخ التنظيمية التى أحدثها هذا القرار الكارثى.

وعندما تعلم أن «الشاطر» بدأ علاقته بالسياسة عضواً فى منظمة الشباب الاشتراكى؛ التنظيم السياسى الذى كان يرعاه الرئيس جمال عبدالناصر وتخرّج فيه كل قيادات العمل السياسى فى حقبتى الرئيسين السادات ومبارك، فسيشتعل خيالك بالفكرة نفسها التى سيطرت على رأسى؛ فكرة «أبودبورة»، الذى دخل «الإخوان» حتى أصبح عقل الجماعة المفكر، والقابض على كل مفاصلها وهياكلها وأموالها، ثم فعل فعلته وهدم المعبد الإخوانى!

أسئلة كثيرة محيرة تدور حول «الشاطر» ودوره وعلاقاته المتشابكة داخلياً وخارجياً، كما أن علاقاته بنظام مبارك غير مفهومة وغير منطقية، فكيف تفسر حجم ما وصلت إليه أعمال «الشاطر» واستثماراته فى مصر وخارجها، والمعلن عنها أقل بكثير مما خفى، والمعلن هذا بالملايين.. أرقام وشركات لا حصر لها؟!

كان لنا نصيب أن نلقاه فى إحدى هذه الشركات فى عمارة رقم «1» بشارع مكرم عبيد فى حى مدينة نصر القاهرى الشهير. وهذه الشقة، أو الشركة، أصبحت فى فترة رئاسة المعزول مرسى، أحد بيوت الرئاسة المصرية، حيث كان يدير منها «الشاطر».. مصر.

لا أخفيكم سراً أن الهلوسة والخيالات التى أصابتنى وأنا فى طريقى لحوار «الشاطر» كان سببها الرئيسى أننى استُدعيت من فراش المرض لمحاورته، فقد كنت فى إجازة مرضية طويلة، وهو ما يفسر إطلاقى لحيتى فى صورى المرفقة مع الحوار، وهذا لم يكن تمسحاً فى حالة الالتحاء التى كانت تمر بها مصر، فمن يعرفنى يعلم أنها عادتى فى فترات الإجازات والاكتئاب ومشاريع الكتابة الإبداعية.. أُطلق اللحية لعلها تمنحنى وهج العبقرية ومس الجنون.

كانت الآلام فى الفقرات القطنية والعنقية تعذبنى إلى حد لم تفلح معه جلسات العلاج الطبيعى العديدة والمكثفة التى أجريتها، ولم تخففها أعتى المسكنات.. ورغم ذلك، فإننى لم أملك أن أضيع فرصة لقاء «أبودبورة» الإخوانى، فتعاطيت ما استطعت تحمله من مخدرات موضعية وعضلية، كان لها أثر طيب فى تحمُّل هذا اللقاء المرعب والمتعب، مع «كادر» مخابراتى عتيد.

بدا الحوار فى مجمله «كوميدياً»، فأنا أسأل أسئلة والمهندس الشاطر يجيب عن أسئلة أخرى، وكل محاولاتى لمطاردته أو دفعه لإجابة مباشرة واضحة عن أى سؤال أطرحه، كانت لا تؤثر على أدائه، ويصر على ما يريد أن يقوله فقط.

حاولت خلال ساعة، هى عمر الحوار، أن أخرج بما يرضينى، لكن المرشح الرئاسى المحتمل كان يُفرغ ما فى جوفه من أفكار دون اعتبار لما يُطرح عليه من أسئلة.. كانت لديه أجندته التى يريدها أن تصل للرأى العام.

النجاح الوحيد فى هذا اليوم المشئوم، هو أننى التقطت صورة للذكرى مع نائب مرشد جماعة الإخوان المسلمين والمرشح الرئاسى «غير المحتمل».. المهندس خيرت الشاطر، والذى قد يختفى من الحياة السياسية بعد تداعيات السقوط الإخوانى فى العامين الأخيرين، ويقرر الخروج للأبد من «أرض الخوف»، أو ربما يفاجئنا ويعود مدفوعاً بالحنين لشخصية «أبودبورة».. مرة أخيرة.

مقالات مشابهة

  • هبة عبد العزيز تكتب: ثورة 30 يونيو كانت بمثابة المخرج للمرأة المصرية من الوقوع فى فخ الجهل والتجهيل الذى مارسته الجماعة المحظورة
  • «دُفعة المراوح وتخفيف الأحمال»
  • المساندة الشعبية
  • ذكرى وفاة الفنان الأنيق.. قصة حب عزت أبو عوف انتهت بمصحة أمراض عصبية
  • في ذكرى يوم عظيم
  • سلخانة الثانوية العامة
  • المناظرة «راكبة جمل»!
  • الطريق إلى «30 يونيو».. أسرار «على حافة الأزمة» في مصر من 2011 إلى 2013
  • “مشروع أمديست”.. هذا هو الدور الحقيقي لمعهد أمديست وهكذا كان يتم استهداف الشباب واستقطابهم وما هي “الأشياء الإلزامية” التي كانت تفرض على الطلاب والطالبات لكسر الحواجز بينهم (صور+فيديو)
  • للتاريخ.. ليس كل ما يعرف يُقال