هل للأمة قوات مسلحة أم للقوات المسلحة أمة؟
تاريخ النشر: 17th, March 2024 GMT
حكمت قوى الحرية والتغير بسائر مسمياتها بأن فساد الأمر في بلدنا بدأ في 1989 وأنت رائح. وهو اعتساف للتاريخ وجرجرة له من يد المرء التي لا توجعه. ولا مانع مع ذلك من استيائهم السودان منذ ذلك التاريخ. ولكن يبقى السؤال إن كانوا أحسنوا فهم هذا القدر من التاريخ الذي اقتطعوه احتساباً. للأسف، لم يفهموه وكانت حربهم للإنقاذ بحكم عادة المعارضة المتأصلة فيهم لا فتحاً يبدأ ب”من أين جاء هؤلاء الناس؟” كموضوع للبحث لا استهوالاً أو قرفاً.
وأنشر هنا بعض ما رغبت لهم التفكير فيه عن تركيب دولة الإنقاذ السياسي والاجتماعي والثقافي والمقارن ليعرفوا من أين جاءت. ولكنهم أضربوا عن التفكير من هول نظام اتحد فيه مكروهان من أعظم الشرور في نظرهم وهما الجيش والكيزان. والإطاحة بها معجلاً أولى ثم تصح البيئة للتفكير بعد الخلاص منهم. إلى المقال القديم:
لم يكن بروفسير العجب أحمد الطريفي يشير إلى القوات المسلحة إلا بـ “قوة دفاع السودان” وهو اسمها منذ نشأتها على يد الإنجليز. ثم أصبحت تُسمى الجيش السوداني بقرار حكم الفريق عبود، ثم سماها نميري قوات الشعب المسلحة (اختلطت التغييرات عليّ نوعاً ما). وكان تمسك العجب باسم “قوة دفاع السودان” نوعاً من الهذر و “التعوجز”.
لم يتغير اسم المؤسسة العسكرية عندنا فحسب، بل تحولت باطنياً إلى مؤسسة مترامية الأطراف. وأصبح كادرها البشري، بحكم احتلاله مراكز القرار والإدارة والتنفيذ في الساحة العسكرية والمدنية سواء بسواء زهاء ثلاثة وثلاثين عاماً، أوعى بالإشكال الوطني قياساً بطوائف أخرى من الصفوة المتعلمة. فإدارة العمليات والمخابرات والتموين والروح المعنوية خصّبت ونوَعت خبرات ضباط القوات المسلحة. ولهذا تنامت مؤسساتهم الأكاديمية العسكرية العليا وأصبحت مراكز شديدة للتنوير والأبحاث والتدريس. فإذا نظرت بالمقابل إلى ضباط الحكومة المحلية، الذين كانوا نوارة الخدمة المدنية يُديرون المجالس والمديريات مترامية الأطراف، تجدهم قد تدنوا إلى أصحاب كناتين يوزعون السكر والمعجون الصيني وسجائر ذات صندوق فضي. وهدم ذلك قامتهم بين الناس وغطَّى على خيالهم وتردَّى بخبراتهم.
القول بفصل القوات المسلحة عن السياسة تطبيقاً للشعار المأثور “إلى الثكنات يا عساكر” قول هين ساذج. فالقوات المسلحة خلال سنوات حكمها الطويل تمددت في المجتمع المدني ذاته ونَمَّت تقاليداً في الحكم أو سوء الحكم لا فرق. ولذا صح، ونحن على أعتاب الوفاق والسلام إن شاء الله (مما ذاع في وقت ما من الإنقاذ)، أن نُولي أدق عنايتنا لهذه المؤسسة الأساسية في حاضر حياتنا ومستقبلها. فقد أضحت فينا مثل قول أحدهم عن الجيش الجزائري. فقال القائل إنه إذا كان للأمم مثل إنجلترا قوات مسلحة فإن للقوات المسلحة الجزائرية أمة هي الجزائر. وأعجبتني كلمة أخرى عن منزلة الجيش الباكستاني الذي هو إما في الحكم أو عائداً إلى الحكم. فعلق أحدهم عن هذا الجيش بعد انقلاب جنرال المشرف الأخير قائلاً إن باكستان مثل بطل من أبطال كمال الأجسام ركَّز على ترييض جزءٍ من جسده (هو الجيش) في حين أهمل بقية الأجزاء (مؤسسات المجتمع المدني والحكم الشورى) حتى تضعضعت وتهاوت. وقواتنا المسلحة قريبة من هذا الوصف.
إن على المعارضة الموافقة للإنقاذ (وفيها قدر من الضباط الناقمين على القوات المسلحة أو الإنقاذيين بحق لإنهاء خدماتهم المتميزة باكرًا وبلؤم وهم الذين قرروا أن يعطوا عمرهم جنداً للوطن) أن يُحسنوا الحديث عن الجيش والنظر في سياساته، والتوقير للقوات المسلحة. فالمدنيون خلو الوفاض من خبرة الخطاب الحسن مع هذه القوات وقد تربوا على لعنها في المظاهرات وفي قعداتهم. وعليهم أن يقفوا على ثقافة القوات المسلحة إن أرادوا لها أن تبتعد عن الحكم وتقبل بإرادة المدنيين بشأن حربها وسلمها. وأضرب لذلك مثلاً. فقد حكى لي الدكتور أحمد الأمين البشير، أستاذ التاريخ بأمريكا، أن السفارة السودانية استضافت العقيد قرنق في سياق المساعي الجارية للسلام قبل قيام الإنقاذ. وتوافد السودانيون بروفسورات ودكاترة وطلاب دكتوراة وماجستير أو ماجستيراه (والكلمة الأخيرة من ابتكار الأستاذة عواطف سيد أحمد وزميلاتها اسماً للماجستير التي يطول مداها ولا يفرغ منها صاحبها، فتكاد تُصبح دكتوراة): مدنيون صر، الأعمى شايل المكسر، لسماع حديث العقيد قرنق عن السلام. ورأى أحمد الملحق العسكري للسفارة، العميد المك، ينفلت غاضباً من مكتبه، مديرًا ظهره للاجتماع، خارجاً من الباب. وتوقف ليقول لدكتور أحمد:
– يعني اتلميتو تسمعو كلام المتمرد ده.
فالعقيد الذي تقاطر المدنيون لسماع حديثه كزعيم لحركة سياسية هو في نظر زملاء سلاح له سابقين مجرد “متمرد”. صح حديث الملحق أم لم يصح، إلا أنه يكشف عن ثقافة للقوات المسلحة حري بالمدنيين معرفتها إذا أرادوا ثقة تلك القوات في المجتمع المدني الديمقراطي الذي ينشدون.
عبد الله علي إبراهيم
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: القوات المسلحة للقوات المسلحة
إقرأ أيضاً:
لوموند الفرنسية: ماذا سيبقى من السودان في عام 2025؟
نشرت صحيفة "لوموند" الفرنسية تقريرًا سلطت من خلاله الضوء على الكارثة الإنسانية التي تعصف بالسودان، والتي يتطلب إيقافُها اتفاقا سياسيا يشمل قوات مدنية، بدلاً من اقتصاره على أمراء الحرب الذين يتناحرون فيما بينهم منذ نيسان/ أبريل 2023.
وقالت، الصحيفة في تقريرها الذي ترجمته "عربي21"، إن الشعب السوداني قدّم درسًا في الديمقراطية للعالم عند إطاحته من خلال انتفاضة سلمية في نيسان/ أبريل 2019، بنظام الدكتاتور عمر البشير الذي حكم البلاد لمدة ثلاثين عامًا.
وذكرت الصحيفة أن المرحلة الانتقالية الديمقراطية توقفت في تشرين الأول/ أكتوبر 2021 بسبب انقلاب نفذه الجنرالان عبد الفتاح البرهان، قائد القوات المسلحة السودانية، ومحمد حمدان دقلو، قائد قوات الدعم السريع.
وبسبب طموحاتهم الجامحة واختلاف مصالحهم يخوض البرهان ودقلو منذ نيسان/ أبريل 2023 حربًا شرسة انطلقت من العاصمة الخرطوم وامتدت تدريجيًا إلى مختلف أنحاء البلاد، خلفت عشرات الآلاف من الضحايا المدنيين خاصة في دارفور، حيث رافق تقدم قوات الدعم السريع - التي نشأت أصلًا من الميليشيات المسؤولة عن الإبادة الجماعية في عام 2003 - تنفيذ مجازر ضد السكان غير العرب.
تمن التدويل
لا يحظى السودان رغم معاناته باهتمام واسع من قبل المجتمع الدولي، باستثناء القوى التي تعارض إرساء بديل ديمقراطي في الخرطوم وعلى رأسها مصر والسعودية والإمارات، التي وحدت جهودها في سياق التزامها الثابت والصارم ضد الثورات لدعم انقلاب سنة 2021. ومع ذلك عمقت "حرب الجنرالات" التي اندلعت بعد سنة ونصف من تنفيذ الانقلاب الانقسامات بشكل كبير وسط هذا الثلاثي المؤيد للانقلاب.
وأفادت الصحيفة أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان يدعي تبنيه موقفًا محايدًا تجاه الأطراف المتحاربة، مما يخول له التعاون مع جو بايدن وإدارته في إطار جهود نيل الرضا التي باءت بالفشل. من جهته، تراجع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عن دعمه الأولي للقوات المسلحة السودانية بسبب عودة شخصيات إسلامية، كانت قد أُقصيت إثر ثورة 2019، إلى دائرة المقربين من البرهان.
أما حاكم الإمارات العربية المتحدة، محمد بن زايد، فيواصل تقديم دعم كبير وغير مشروط لقوات الدعم السريع، التي تسيطر الآن على جزء كبير من العاصمة ودارفور. كما يحرض ابن زايد "حميدتي" لمحاولة السيطرة على مدينة الفاشر، وهي المدينة المهمة الوحيدة التي لا تزال خارج سيطرة قوات الدعم السريع في دارفور، وذلك على حساب حصار يحمل تداعيات كارثية.
ويختلف التوجه المتشدد للإمارات العربية المتحدة مع الحذر النسبي لحليفها الروسي، الذي يجمع بين علاقاته الرسمية مع القوات المسلحة السودانية في إطار السعي للحصول على قاعدة بحرية في بورتسودان على البحر الأحمر وتعاونه مع قوات الدعم السريع عبر مرتزقة ينتمون إلى الشركة العسكرية الخاصة "فاغنر". ودفع هذا التعاون الأجهزة الأوكرانية إلى التنسيق بشكل مؤقت مع القوات المسلحة السودانية ضد قوات الدعم السريع في خريف سنة 2023، وهو التدخل الذي لم يُخلف أي تطورات لاحقة.
كارثة إنسانية
وأفادت الصحيفة أن هذه التدخلات الدولية المختلفة فشلت في إيقاف التصعيد نحو التطرف، بل ساهمت السياسة التي اعتمدتها الإمارات على سبيل المثال في تغذيته بشكل مباشر. وقد أدى منطق الحرب الشاملة الذي يحرك كلاً من القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع إلى عسكرة المجتمع السوداني، الذي أصبحت مكوناته مضطرة إلى الوقوف إلى جانب أحد الأطراف في هذا الصراع. علاوة على ذلك، فإن صعود العديد من الميليشيات، التي تتفاوت في انضباطها، يتيح لكل من البرهان وحميدتي التنصل من مسؤوليتهم الشخصية عن تزايد الانتهاكات.
ومع ذلك، يتم التفاوض مع الجانبين من أجل توفير المساعدة الإنسانية إلى السكان الذين يتحملون عبء الاحتلال المفروض عليهم من قبل القوات المسلحة السودانية أو قوات الدعم السريع. وهكذا، تعتبر منظمة الأمم المتحدة أن البرهان، الذي تولى السلطة بعد انقلاب 2021 الرئيس الشرعي للبلاد.
نتيجة لذلك، يمكن للأمم المتحدة الحفاظ على تواجدها في بورتسودان، الميناء الرئيسي للبلاد، بعد اضطرارها إلى إخلاء الخرطوم منذ سنة ونصف. وتؤمن الأمم المتحدة توصيل المساعدات الإنسانية عبر تشاد، عبر معبر تينا الذي تسيطر عليه القوات المسلحة السودانية، في حين تفضل العديد من المنظمات غير الحكومية العمل من مدينة أدري التشادية، والتي تتيح الوصول إلى السودان عبر المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع. ومع ذلك، لم تتمكن هذه الترتيبات الإنسانية من إيقاف الأزمة المستمرة في السودان.
ومن بين عدد سكان السودان البالغ 44 مليون نسمة، تم تهجير نحو 12 مليون شخص قسرًا، اضطر ثلاثة ملايين منهم إلى اللجوء إلى الخارج، وخاصة إلى تشاد.
وبسبب الحصار والقصف باتت المجاعة تهدد مناطق كثيرة في البلاد، مما يعني ضرورة إدراك أن المساعدة الإنسانية ليست بمعزل عن الاتفاق السياسي.
وفي ختام التقرير أشارت الصحيفة إلى أن عجز القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع منذ نيسان/ أبريل 2023 عن تحقيق انتصار عسكري، يتطلب إيقاف هذه الحرب والتوصل إلى اتفاق سياسي يضمن بقاء السودان كدولة في سنة 2025.
للاطلاع إلى النص الأصلي (هنا)