منذ سنوات طويلة تبنيت تمرينا يوميا ضمن برنامج تزكية النفس وتطوير الذات شاركتكم به في هذه الصفحة وهو كتاب عشر نعم وأشياء جميلة تمر بي في يومي أشكر الله جلّت قدرته عليها كتابة، واخترت الكتابة لأن وقعها على النفس أقوى بالنسبة لي عن مجرد التلفظ بها، حتى عندما أعود إليها في لحظات ضيقي أجدها وسيلة ناجعة تذكرني بفضل الله عليّ، إنها حقا من أجمل التمارين التي أقوم بها، ولها تأثير سحري على رفع درجة الرضا والتسليم في النفس.
في الفترة الأخيرة وجدت نفسي أكرر الأشياء ذاتها، وكأن مفعول التطبيق قد قلّ عندي، حتى قرأت خواطر الإمام الشعراوي -جزاه الله عنا خير الجزاء- لسورة الفاتحة وخاصة آية (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) شعرت بها كالبلسم على الفؤاد وهو يذكرني بنعم الله سبحانه وتعالى التي لم تبدأ بولادتي وإنما بدأت ببدء الخليقة، نِعَمٌ أدركها ونِعَمٌ لا أدركها، وأخرى أعرفها وأخرى لا أعرفها، نِعَمه جلّت قدرته بدأت بتهيئة هذا الكون بكل مجراته ونجومه وكواكبه لاستقبالي، تماما كما هيأ لنا أرحام الأمهات لتكون مأوى لنا قبل أن ترى عيوننا النور، توفرت لنا فيها كل الاحتياجات. عند ولادة الإنسان يجد ثدي أمه مهيأ لإطعامه منذ لحظة ولادته بدون لحظة تقديم أو تأخير، وفي اللحظة التي يكتفي من حليب أمه، يتوقف الحليب مباشرة، أدركت مفهوم الدعاء الذي نردد على الدوام (الحمد لله من قبل ومن بعد) فنِعِمه تجلّت قدرته ترافقنا إلى أبد الآبدين، لا تتوقف بانتهاء حيواتنا، لكن كم مرة توقفنا عند هذه النِعَم وفكرنا فيها، وأدركناها، رغم أن إدراكنا لهذه النعم وحصرها وتذكير أنفسنا بها على الدوام، لها وقع البلسم على القلب فعلًا، تشعرنا بجمال ألطاف ربي الخفية التي تصاحبنا منذ الأزل، نعتقد للأسف وقد كبرنا أننا نملك زمام الأمور، لكن فقط ألطافه الخفية تجلّت قدرته نعيش، ونعمل ونسعى، وكل شيء عنده بمقدار.شعور عارم بالأمان والتسليم والرضا يرافق استشعار النعم بحضور قلب سبحان ربي اللطيف الخبير، والحمد لله رب العالمين.
حمدة الشامسية كاتبة عمانية في القضايا الاجتماعية
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ت قدرته
إقرأ أيضاً:
حفريات في الأدب والنفس
حين يتساءل امرؤ عن الخلود، فإنني أفهمه باعتباره المثول الدائم في الألسن والذاكرة والحياة؛ وكما خص الله أنبياءه باصطفائه لهم، فقد انبرى للتاريخ رجال لا قبيل لهم بالنبوة الإلهية ولا نسب، بل كان خلودهم خلود من اقتبس من الشعلة الإلهية قبسا ظل ينير الدجى رغم تعاقب الأحقاب وتصرّف الدهور. ومتى ذكرنا الخلود -في غير الأنبياء- نجد الشعراء ينبرون حاملين شعلة خلافة الأنبياء، كيف لا! وهم الذين إذا ما أراد امرؤ أن يستشهد بقول بعد قول الأنبياء والكتب السماوية، نجد أقوالهم وأشعارهم تتصدر الذاكرة والمشهد. في الفرح والبهجة والسرور، وفي المصائب والفواجع والنوازل.
وإذا ما ذكر الشعر كموضوع يومي، وحاجة يومية نعيش بها، لن نستطيع أن نذكره دون ذكر المتنبي، سيِّد الشعر والشعراء. وأقول هذا لأنني لم أجد شاعرا يستشهد به الإنسان البسيط والمثقف على السواء في أفراحهم، وفي أتراحهم، وفي تفاؤلهم وتشاؤمهم، وفي سخريتهم حتى!؛ أكثر كما يفعلون مع أبيات المتنبي وقصائده. فقوله:
ما مقامي بأرضِ نخلةَ إلا
كمقامِ المسيحِ بين اليهودِ
يثير الفكاهة والضحك، مع الاعتراف ببراعة التوصيف. ولكنني وفي مشروع بدافع البحث الذاتي والاستكشاف، مستعينا بالأدوات التقنية الحديثة؛ تساءلت عما قد أجده عند المتنبي حين يتعلق الأمر بالعلوم الحديثة كعلم النفس -وهو الذي كتبت حوله مقالة سابقة في جريدة عمان بعنوان بين المتنبي وكارل روجرز!، في العام المنصرم- وقد حاولت حصر الأبيات الشعرية التي تتعلق بعلم النفس بشقيه في الأفعال، الإرادي، واللاإرادي. بعبارة أخرى، تلك الأفعال الظاهرة البيّنة التي نفعله بقصد وعن وعي حر كامل، والأخرى التي نفعلها بغير قصد وإرادة منا، وإنما دوافعها داخلية قد نستطيع رصدها، وقد تتمنع عن الرصد. ومن فائق براعته، أنه جمع الأفعال الإرادية واللإرادية في بيت واحد حيث يقول:
إذا اشتبكت دموعٌ في خدودٍ
تبين من بكى ممن تباكى
فقد جمع بين الفعل اللإرادي السمح وهو البكاء ابتداء ودون تكلّف، ثم يذكر الفعل الإرادي وهو التكلف بالبكاء. وفي ذات الموضوع يقول:
فَإِنَّ دُموعَ العَينِ غُدرٌ بِرَبِّها
إِذا كُنَّ إِثرَ الظاعِنينَ جَوارِيا
فإن المرء يغالب نفسه ويحاول إلجامها عن أن تغدر به وتخون إرادته ومشيئته، ولكنه لا يمسكها وتنفلت منه انفلاتا غير مقصود. وقد قارنت بين نسختين لديوان المتنبي، إحداهما نسخة عبدالرحمن البرقوقي، والأخرى لرهين المحبسين، أبي العلاء المعري وهو شرحه الكبير «مُعجِز أحمد»؛ وقد وجدت له أكثر من ستة آلاف بيت نرصد فيها التشابهات والتقاطعات مع علم النفس الحديث، وربط تلك الأبيات بالمدارس النفسية الحديثة والمشهورة، بل إن عدة الأبيات التي وجدتها تقارب السبعة آلاف بيت في رصد أوليٍّ. فمن علم النفس التحفيزي، إلى علم النفس القيادي، إلى علم النفس الوجودي والسلوكي والاجتماعي، فضلا عن علم النفس الإيجابي الذي تحدثت عنه في مقالتي السابقة في المقارنة بينه وبين كارل روجرز.
إن هذا البحث البسيط، وبأدوات أولية؛ يجعلنا نقارب العلوم العربية وأعلامها ونعيد اكتشافهم واكتشاف آثارهم بعدسة جديدة وغير معتادة. وقد تحدثت غير ما مرة عن كتاب مسكويه «تهذيب الأخلاق» وتلك العبقرية النفسية التي فيه وتلك التوصيفات والعلاجات التي يذهل المرء من عبقرية راصدها في وقت مبكر جدا. ومما يذكرني بكتاب مسكويه -يسميه البعض ابن مسكويه- هو كتاب الشيخ الرئيس ابن سينا. فقد وجدت في كتاب ابن سينا «القانون» في الطب توصيفه لأمراض نفسية حديثة كالاكتئاب الذي يفرد له فصلا في موسوعته البديعة «فصل في المالنخوليا»، ونجد اتفاقه مع مسكويه في بعض الآراء والتوصيفات والعلاجات. وفي العموم، فإن زهد الناس في تراثهم العريق، زهد نابع من إحساس بالنقص ومن جهل متجذر، ولا نجد أمة ارتفعت وعلا شأنها وشأوها إلا برفعها لعلمائها وكبارها والاعتراف بفضلهم ومكانتهم والاهتمام بآثارهم ودراستها مرة تلو مرة؛ فقد تتغير الأسماء وتتبدل التوصيفات، لكن حقيقة الأشياء وجوهرها هي هي، وكأنما هي نظرية العود الأبدي تشير إلى جهلنا بسخرية العارف البصير، وحكمة القديم القدير.