«إن بوسع البشر أن يغمضوا عيونهم أمام ما هو عظيم أو مروّع أو جميل، وأن يغلقوا آذانهم أمام الألحان والكلام المعسول ولكن ليس بوسعهم الهروب من العبق، لأنه شقيق الشهيق، فمعه يدخل إلى ذواتهم، ولا يستطيعون صدّه إن رغبوا في البقاء على قيد الحياة».
رواية «العطر، قصة قاتل» للكاتب الألماني باتريك زوسكيند، ترجمة نبيل الحفار.
«إنها الرواية التي لا تُقرا بل تُستنشق» رواية عبقرية في فكرتها، جميلة في تسلسل أحداثها، تجعل قارئها في حالة من الخوف والقلق والترقّب رغم عبق رائحة العطر.
عمل روائي جمع بين الواقعية والخيال بشكل آسر جذّاب، إلى درجة أنك لا تعلم أين أنت من واقعية العمل ومن الخيال فيه، ولا تعلم أي فكرة عبقرية أتت في ذهن المؤلف حين كتب هذه الرواية جاعل العطر سببًا والقتل نتيجة. رواية فاحت رائحتها، وانتشر عطرها في كل أنحاء العالم، فترجمت إلى أكثر من 48 لغة، بعد أن صدرت الطبعة الأولى منها عام 1985، وحوّلت إلى فيلم سينمائي في عام 2006م، من بطولة داستن هوفمان وآلان ريكمان. وكما لقت الرواية نجاحًا، لقي الفيلم نجاحًا مماثلًا أيضًا.
تحكي الرواية قصة «جان باتيست جرونوي» الذي ولد في عام 1738، «وفي العصر الذي نتحدث عنه، هيمنت على المدن رائحة نتنة لا يمكن لإنسان من عصرنا الحديث أن يتصوّر مدى كراهتها».
في مدينة باريس، وفي سوق السمك تحديدًا فاجأ أم جرونوي المخاض، فوضعته تحت عربة تقطيع السمك. وكما تركت مواليدها الأربعة من قبل، تركته هناك بين النفايات ولم تأبه به. وتشاء الأقدار أن الوليد هذه المرّة لم يمت، بل سمع أحدهم صياحه، وجُرّمت أمه على فعلتها وأعدمت في يوم ولادته نفسه.
انتقل جرونوي بين عدد من المُرضعات، ولم تقبله أي منهن لأنه لم يكن كغيره من الأطفال لشراهته الشديدة، فكان يرضع ما يعادل حصّة طفلين أو ثلاثة. والشيء الأغرب من ذلك والذي جعله مختلفًا عن الأطفال وغيره من البشر، إنّه بلا رائحة. وقد رفضت المرضعات إرضاعه من شدة شراهته، واستنكارًا لانعدام رائحته، في ظن منهن إنّه مسكون بالشيطان. ثم أخذه الأب تيرير إلى أحد الملاجئ، وقضى سنوات طفولته الأولى هناك، ولكن لم يشعر أحد بالألفة معه، بل كان وحيدًا ومنبوذًا إلى درجة أنّ الأطفال حاولوا قتله ولم يمت.
ولأنه بلا رائحة؛ سعى جرونوي لامتلاك عطره الخاص الذي لا يعرف سرّه غيره ولا ينافسه أحد عليه. ومن أجل الحصول على عطره الخاص الذي يفتقده، قتل (25) فتاة عذراء بالغة جميلة، لاستخلاص العطر من رائحة أجسادهن. وكانت له طريقة واحدة بشعة في القتل، ضرب الفتيات بالعصا على رؤوسهن ومن ثم يحلق شعورهن ويأخذ ملابسهن ويحتفظ بها للاستفادة منها في صناعة عطره. ولم يكن جرونوي يهمّه جسد الفتاة في شكله بل في رائحته فقط، فأول فتاة قام بقتلها لم يلمح سوى ظلّها، ولكنه كان منجذبًا بسحر رائحتها، فظلت تلك الرائحة تقضّ مضجعه وتدفعه وتقوده إليها، وكأن الرائحة هي المؤشّر الذي يحدد به مكان وجود الفتاة.
وقد حامت الشبهات حول أكثر من شخص إلا جرونوي الذي كان بعيدًا عن الشك في أن يكون القاتل، لهدوء شخصيته، لولا مقتله (للور)، ابنة أنطوان ريتشي، المستشار الثاني في جراس، والتي هرب بها أبوها إلى مدينة أخرى حتى لا تتعرض للقتل لشدة جمالها، لكن القاتل تتبع رائحتها وترك بوصلة أنفه تقوده إليها، حتى توصّل إليها، وقتلها في مخدعها.
وبعد القبض على جرونوي، اعترف بكل جرائمه دون خوف، وحكم عليه بالإعدام في ساحة الاستعراض أمام بوابة المدينة، تلقّى جرونوي الحكم دون أن يرفّ له جفن أو يتأثّر. وفي يوم تنفيذ الحكم، حضر الجميع لمشاهدة لحظة إعدام القاتل وهم غاضبون ثائرون متحمسون لرؤيته وهو ينفّذ فيه الحكم بلا رحمة، ولكن عندما أحضروه إلى منصة الإعدام نثر على ثيابه شيئًا من العطر الذي استخلصه من أجساد الفتيات اللائي قتلهن، وإذا بكافة من حضروا يذهب عنهم الغضب، ويسكنهم الحب والنشوة والرغبة. لقد أصابهم بسحر عطره، وأحبّوه، وفجأة أصيب الجميع بحمّى الحبّ والرغبة والنشوة، فتعرّوا وفعلوا أفعالًا خجلوا منها بعد استفاقتهم. «فكانت النتيجة أن انقلبت تحضيرات إعدام أشنع مجرم في عصره إلى أعظم حفلة مجون لم ير العالم مثيلًا لها منذ القرن الثاني قبل الميلاد». وحتى المستشار أنطوان ريتشي الذي قتل جرونوي ابنته المحبوبة، فتح ذراعيه لاستقباله واحتضنه بحب، وشعر تجاهه بعاطفة أبويّة، فأخذه إلى بيته وطلب منه أن يكون ابنّا له.
وبعد أن تأكّد جرونوي «إنه لديه قدرة أقوى من سلطة المال وسلطة الإرهاب وسلطة الموت، إنها القدرة التي لا تقاوم والتي تجعل الناس يحبون». هرب من مدينة جراس، ووصل إلى باريس مدينته الأولى. وبعد منتصف الليل وحيث كان جرونوي موجودًا، ظهرت مجموعة من اللصوص والبغايا والسكارى، لقضاء سهرتهم، فأوقدوا نارًا «كي يطبخوا عليها طعامهم ويطردوا الروائح الكريهة». اندس جرونوي بينهم فلم يحسّوا به لضآلة جسده، وفتح غطاء زجاجة العطر ورشّها على نفسه، فانسكب عليه الجمال كنار متأججة. التفتوا إليه فجن جنونهم، ومن شدة إثارتهم وعشقهم له، اقتربوا منه رغبة في لمسه، لكن سحر العطر كان طاغيًا، فهجموا عليه وقطّعوه إربًا، نهشوا لحمه وشربوا دمه حتى لم يبق منه شيء سوى العطر. وفي مدينة جراس اعتبرت القضية منتهية، وبحثوا عن قاتل آخر، ألبسوه التهمة وأعدم.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
هيئة الكتاب تصدر «أحب رائحة الليمون» حوارات مع نجيب محفوظ لـ سهام ذهني
أصدرت وزارة الثقافة، من خلال الهيئة المصرية العامة للكتاب، برئاسة الدكتور أحمد بهي الدين، ضمن سلسلة مكتبة نجيب محفوظ، كتاب بعنوان «أحب رائحة الليمون» حوارات مع نجيب محفوظ للكتابة سهام ذهني.
تنعكس صورة نجيب محفوظ في مرايا سهام ذهني من خلال رحلة حوارية قاربت عشرين عاما، التقطت فيها الكاتبة ملامح إنسانية في حياة الأديب العالمي، فظهرت شخصية نجيب التي تعيش الحياة وتتفاعل معها وتتألم بها تارة، وتراها عن بعد وتنزوي عنها تارة أخرى، هنا محفوظ الذي يتعلم ويحتفي بالفن ويخلص لأصحابه بعيدا عن الصخب.
في كل صورة يظهر ملمحا من نفسه وشخصيات عاصرها في الأدب والفن والسياسة، ليشاهد المتلقي لوحة تتسع لأشكال الإبداع واتجاهاته، فيها عمق الجمال ومتغيرات المجتمع وخصوصية الموقف بصدد قضايا ثقافية مهمة كان لها دورها في رسم الحياة الفكرية في مصر، ولأن الكاتبة اختارت الشكل الحواري، فقد جاء نصها مشحونا بحيوية الفعل الكلامي الذي يدور بين رؤيتين مختلفتين.
وفي تقديمها للكتاب تقول سهام ذهني: «العطر المعتق ما إن نفتح غطاء قنينته حتى يفوح العبير، ويتيح الأنس للروح، بمثل هذا الشذى الجذاب استقبلتني كلمات أديبنا الكبير نجيب محفوظ المحفوظة في كتاب لي صدر منذ أكثر من 20 عاما استقبالا غمر وجداني أنا صاحبة الحوارات نفسها التي دارت بيني وبينه وجها لوجه واستمتعت بما قاله لي فيها على مدى حوالي عشرين عاما هي عمر لقاءاتي معه من قبل حصوله على جائزة "نوبل" في الأدب ومن بعد حصوله على الجائزة.
وبالإضافة لاستمتاعي بفيض الجمال فإن قراءتي الجديدة المتأنية قد سمحت لي بأن ألاحظ وجود أمور حصرية لم يذكرها إلا معي، مما دعم عندي فكرة إعادة نشر تلك الحوارات التي كنت قد أستأذنته في جمعها بكتاب فرحب وقتها، وتم نشر الكتاب خلال حياته عن دار أخبار اليوم تحت عنوان "ثرثرة مع نجيب محفوظ"، ومع قراءتي الجديدة للكتاب وجدت أن من المهم عمل بعض الإضافات، فوضعت حوارًا حيويا كان قد أجراه معه ابني جمال دياب لمجلة المدرسة في ذلك الوقت حول طفولته، يتضمن حكايات ومواقف طريفة لم يتحدث حولها من قبل، وقمت بحذف بعض ما تضمنه التاب القديم من أمور كانت لحظية وقتها، كذلك انشغلت بإعادة الصياغة لبعض الحوارات، وإعادة ترتيبها زمنيا من الأقدم إلى الأحدث، وتم تغيير عنوان الكتاب، باستخدام رده على أحد أسئلتي العادية حول عطره المفضل، حيث رده "أحب رائحة الليمون"، كإجابة تلقائية معبرة عن إنسان مصري صادق محتفظ ببساطته».