محمد المحسن منذ القرن العشرين،ودخول الحداثة وما بعدها حيز الحياة اليومية،أصبح الأدب الروائي متصدراً فنون الإنسان في التعبير عن وجوده وتخيلاته وأحلامه بل وعن تشوهات عصره، الثقافية والسياسية والتاريخية. وتميزت الأعمال الروائية بغزارة الإنتاج والعالمية،غير أنّ العديد منها أدهش القراء حول العالم وعلى مدى عقود لمعت أسماء مؤثرة،كاد العديد منها أن يغير حقائق اجتماعية معروفة لشدة تأثيرها.

على غرار الروائي التونسي السامق محسن بن هنية. هذا الروائي الذي عرفته منذ سنين طوال يكتب بحبر الروح ودم القصيدة..لم تنل من عزيمته الفذه الغربة والإغتراب وأحيانا ظلم”حفاة الضمير”ممن دأبوا على ترذيل الإبداع وتبخيسه لأسباب لا تعلمها غير نفوسهم المريضة.. هذا الروائي الألمعي قال لي ذات يوم :”أمام كتابة الرواية تخلّيت عن الارتباك وبقي الخوف، الحرية مخيفة،ولكن بدونها يختفي الأمل.” ثم أضاف:” في الرواية،كنت أراقب الحياة بدقة وتمحيص وتحليل واستدراك،ثم مزجت هذه المقادير مع قليل من الخيال والسحر.. إن الرواية رغم أنها الجنس الأدبي الذي يتطلب نفساً طويلاً في الأدب،لكنها الوحيدة التي تعبّر عن حريتي في أن أحكي،ربما قيود الرواية الخفية أصعب بكثير من قيود الشعر الظاهرة،كالوزن والقافية والإيقاع الداخلي والشكلي،فحين تركب حياة أخرى ابتكرتها بقياسات دقيقة ومسافات محسوبة فأنت تتورط مع كل جملة وكل عبارة،غير أن حرية (التركيب) هذه جعلتني أشعر بهواء منعش يهب من أعماقي،ولعل مفهوم الحرية هنا لا يخضع لما هو متعارف عليه،إنها حرية العبث بالتفاصيل التي لا تخضع إلى المفاهيم العامة،وتستجيب فقط لدوافع خفية.” أما بخصوص تجليات الجانب الجمالي في الرواية يقول محسن بن هنية :”يكمن جمال الروايات في قدرتها على محاكاة النفس البشرية والغوص فيها وسبر أعماقها،سواءً أكانت الرواية واقعية أم خيالية،” “يمثل الأدب دائما مرآة الشعوب إذ يعكس إيقاعها الداخلي ونبض الوجدان وتحركات الطبقات الاجتماعية وطبيعة شكل الثقافة ونوعية التقاليد والتيارات التي تحاول أن تطرح التحديث والخروج عن أنماط حياة قديمة وتقديم الأخرى البديلة لها.من هذا المنظور أرى ( والقول لمحسن بن هنية) أن فن الرواية يقدّم دائما نبض المجتمعات وتبلورها في مشروع الحداثة وخروجها من شرنقة التقاليد و المحافظة والتزمت. ولعل الكاتب المصري محمد حسين هيكل ، كان صادقاً في رصد هذه الظاهرة عندما كتب عن(زينب) في روايته الأولى لكشف طبيعة الحياة في الريف المصري والصراع بين التزمت والانفتاح.” ويدل ازدهار فن الرواية في العالم العربي على نحو بارز لتأكيد ظاهرة أن هذا الفن مرتبط بالمدنية الحديثة والتطور وخروج المجتمعات من حالة انغلاق إلى ساحة مفتوحة بدرجات مختلفة.وقد أبدع الراوي التونسي محسن بن هنية في هذا المجال إذ أظعر أن ازدهار فن الرواية في العالم العربي يدل على نحو بارز لتأكيد ظاهرة أن هذا الفن مرتبط بالمدنية الحديثة والتطور وخروج المجتمعات من حالة انغلاق إلى ساحة مفتوحة بدرجات مختلفة. وإذن؟ قد لا أجانب الصواب إذا قلت أنّ الروائي التونسي الكبير محسن بن هنية يعتمد في بناء الشخصيات الروائية على نماذج أشخاص في الحياة الواقعية،ويري بذلك أنّ الحياة ومن باب أولى حياتنا ومعارفنا وعلاقاتنا هي التي تمدنا بالموارد البشرية والنفسية التي نؤسس عليها صياغة العالم المتخيّل. والمؤكد أن حياة واحدة لا تكفي لإغناء الشخصيات الروائية المحتاجة إلى الاستعارة من مصادر ومرويات متعددة. لكن ما يمكن تسميته “المنطق الروائي” يفترق سريعاً عن منطق الوقائع المعيشة،ومع هذا الافتراق تسلك الشخصيات والأحداث مساراً خاصاً لا يعود مطابقاً في أي حال للنماذج الواقعية الأولى.. على سبيل الخاتمة: قد لا أجانب الصواب إذا قلت أنّ الروائي التونسي المحسن بن هنية يمثّل على خريطة الرواية التونسية أيقونة مهمة لها خصوصيتها،وحالة خاصة من حالات الشأن الروائي الذي يجمع داخله ما بين المتخيل والسيرة ووقائع اجترار تاريخ الذات الاجتماعي والأيديولوجي في تجربة إنسانية وإبداعية مستمدة من واقعه الخاص الذي عاشه فعلا ومازال يعايش فيه مراحل تحولات حادة في الزمن العربي المعاكس.. وتمثل مرآة الذات التي انعكست عليها مسيرة حياته الحافلة بؤرة كبيرة انعكست بدورها على إبداعه الروائي وشكلت عالمه السردي الخاص لسنوات طوال،كما تمثل صورة الآخر في منجزه الإبداعي جانبا مهما استعاده بن هنية في نسيج أعماله السردية جميعها وجسد من خلاله تجربة لها أبعاد متعددة كان لها تأثيرها الخاص على إبداعه الروائي على وجه التحديد،بل وعلى ملامح أخرى من منجز الإبداع العربي المعاصر. وذات بن هنية في حد ذاتها وهي الباحثة عن نفسها،والمتفتحة على الآخر وعلى العالم من حولها تريد أن تدرك المعنى وتمتلكه.فكل علاقة للذات بذاتها هي علاقة بالعالم والآخر،كما أن كل علاقة بالآخر هي علاقة بالذات. وهذا (الازدواج) تعبير عن وحدة صميمية مفقودة بين (الأنا) و(الآخر) في عالم يشترك فيه أكثر سكان روايات بن هنية بشعور ومطامح سياسية متماثلة،وهو شعور يتجاوزهم بإستمرار نحو تأكيد خصوصية الوضع البشرى،حيث يكون الإنسان غائبا عن ذاته. يعيش المحسن بن هنية الرواية كما يجب أن تعاش،ويسرد ويروي وقائع الحياة كما يجب أن تسرد وتروى،وكانت ذاته في خضم هذا-الطوفان الإبداعي-مرآة للواقع الذي اختاره هو والذي كانت سطوة الآخر بصورها المختلفة دائما ما تشكّل تجاهه عقبة كؤود لواقع ما كان ينشده. فنراه يعيش شتات الذات ويرتطم بالآخر في شتى صوره،ويحاول هذا الآخر في ذات الآن بشتى الطرق أن يسقطه ويكسر حدة تمرده،ومن ثم تصادمت ذاته مع سطوة القمع عند هذا الآخر المتمثل أولا في السلطة المناوئة لفكره كما تمثل أيضا في صورة المرأة كما جسد خطوطها برؤيته وفلسفته الخاصة،وقد انعكس ذلك كله على منجزه الروائي الذى أبدعه عبر مسيرة حياتية لا تزال مفعمة بعطر الإبداع. وإذن؟ العالم الروائي عند محسن بن هنية إذا،هو عالم قائم بذاته،يكاد أن يكون معادلاً للمجتمع الخارجي ترتبط عناصره ارتباطاً سببياً ويستمد كل عنصر قيمته النسبية من علاقته بالأجزاء الأخرى،وتلتقي ممراته الجانبية وأزقته الخلفية بشارعه الرئيسي،فكل وقائعه منتظمة في إطار ثابت يحدد لكل واقعة وزنها الخاص،وقد تتساوى فيه إحدى النزوات الشخصية،فكل الأشياء المحيطة بنا قد اندمجت في شبكة من الدلالات الفكرية والإنفعالات الجاهزة؛ويتحدد شكل الرواية عند بن هنية بالفعل المتبادل بين الشخصية ووضعها،فرواياته تتميز من زاوية رئيسية بالطابع الانتقالي،بالصراع بين عدة متناقضات،بذلك التيار المتدفق المتغير دائماً في مواجهة التسلسل الطبقي المتحجر.. إن ملحمة الحياة الخاصة عند بن هنية تتنفس بالدلالة العامة. ختاما أقول أنّ الروائي التونسي المحسن بن هنية يؤسس لسرد مختلف إذ تراه أشبه بالمسرحيين وهم يدشنون أسسا لفنهم،فهو كذلك في معظم رواياته،يعتلي مسرحا سرديا يقص التاريخ بعدسات غير متمايزة رغم أنه لا يدخل في قالب المسرح وكنهه،فهو لم يتبع القوالب الفنية الجاهزة لكتابة الرواية بل عمد منذ البداية إلى تأريخ السرد والحكي بصورة مغايرة لما اتفق عليه في خمسينيات وستينيات القرن الماضي حينما ازدهرت الرواية واستحالت إلى أفلام سينمائية ذات شهرة. فبرغم كون الرواية حدثا تاريخيا محضا يحكي سيرة رجل وعصر،إلا أن بن هنية لم يكترث بتصعيد الحدث التاريخي إلى سدة الاهتمام القرائي مثلما اهتم باستقطاب الدهشة والمتابعة لدى القارئ في التعرف على مزيد من الحكايا المرتبطة بالشخوص أكثر مما ترتبط بالأحداث التاريخية.فأنت تطالع شخوصا كثيرة مختلفة المهن والطبائع والأمكنة والثقافات،وفي كل شخصية أنت مضطر تماما إلى نسيان الحدث التاريخي المسطور في كتب التاريخ لإكتشاف ملامح أكثر دهشة عن طبائع هذه الشخوص،فتجد نفسك مهموما بتتبع تفاصيل شخصيات مثل العطار،والمؤذن..والمدير..والسكرتيرة الجميلة..وشخصيات أخرى كثيرة،وفي كل هذه الشخصيات لم يقع بن هنية في فخ التنافر والتفكك البنائي للحدث الرئيس بل استطاع أن يقبض بإحكام على متابعة القارئ للحدث. أتمنَّى للروائي التونسي الكبير محسن بن هنية أن يبقى مُستمرَّا في الأنتاج والعطاءِ الإبداعي وأن تصدرَ له روايات وقصص أخرى جديدة في المدى المنظور . أشدُّ على أياديكِ-يال المحسن-وإلى الأمام دائمًا في طريق الفجر والإبداع معًا سنبقى على هذا الدَّرب..

المصدر: رأي اليوم

إقرأ أيضاً:

محمد بن زايد: الإمارات تواصل نهجها في بناء الشراكات التنموية التي تحقق مصلحة الجميع

قال صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، في تغريدة على منصة «إكس»: «بحثت اليوم في أبوظبي مع فخامة الرئيسة ناتاشا بيرك موسار العلاقات المتنامية بين الإمارات وسلوفينيا والعمل المشترك على استثمار الفرص المتاحة لتطوير هذه العلاقات لدعم التقدم والازدهار في البلدين. الإمارات تواصل نهجها الثابت في بناء الشراكات التنموية التي تحقق مصلحة الجميع».

مقالات مشابهة

  • الضويني: الأزهر يجدد الدعوة لقادة العالم للاتفاق على مبادئ عظمى تضمن التصدي للتحديات التي تفرضها الأزمات
  • الانتخابات الأمريكية.. البورصة الدولية التي تنتظر حبرها الأعظم
  • مؤتمر الذكرى الثلاثين للسنة الدولية للأسرة يستعرض التحديات الكبرى التي تواجه الأسر العربية والعالمية
  • مدرب ليفربول يعلق على تدوينة محمد صلاح التي أثارت تكهنات حول مستقبله
  • البرهان: نفخر بالنهضة التي حققتها مصر في جميع الخدمات الإنسانية
  • محمد بن زايد: الإمارات تواصل نهجها في بناء الشراكات التنموية التي تحقق مصلحة الجميع
  • الأكثر رعبا في العالم .. تعرف على بي-52 التي أرسلتها أميركا للشرق الأوسط
  • ‏⁧‫محسن الحارثي: ‬⁩ قرار عودة ⁧‫سلمان الفرج‬⁩ بيد ⁧‫رينارد‬⁩ .. فيديو
  • الروايةُ وأسئلةُ الحروب المعاصرة!
  • الأقوى في العالم.. تعرف على قاذفات «بي-52» التي أرسلتها أمريكا للشرق الأوسط