لايزال الميناء البحري يطرح أسئلة كثيرة، ويتلقَّى بطبيعة الحال ردودًا ومحاولات إجابة متعددة، ليس بينها إنسانية الفاعل الدولي أو الإقليمي، الذي عرف نفسه وحدد موقعه من الحرب عبر شهور خمسة إلى جانب القتلة، أو – في أفضل الظنون – متفرجًا سلبيًا على المذبحة.
عوامل جوهريةهذا المقال واحدٌ من تلك المحاولات التي تسعى لقراءة موضوعية لفكرة الميناء البحري.
لا يمكن فصل الميناء البحري عن رفح: حربها المتوقعة، معبرها، حماس التي تملكها فعليًا. رفح وهذه العوامل الثلاث جوهرية في التفسير. فلو افترضنا علاقة الميناء بالحرب التي يتوعد بها الاحتلال ضد رفح، فإن الفاعلين يعملون على تخفيف العبء الإنساني للحرب المتوقعة التي يغطونها سياسيًا وميدانيًا، لكن يريدونها بشكل لا يضعهم في زاوية أخلاقية أكثر ضيقًا.
فمثل هذه الحرب التي لو استكملت مشوارها باتجاه رفح، فإن "نقط" المساعدات التي تقطر من معبر رفح ستتوقف كليًا، وسيتحول المشهد من عقاب السكان الجماعي جوعًا، إلى قتلهم نهائيًا. وهناك فرق بين الاثنَين.
فمعبر رفح لم يُفتح أصلًا كي نبحث عن بدائل له، لكنه كان كصنبور ماء مغلق تقطر منه قطرات تمنح الحياة والعطش معًا، وهو كافٍ لعقاب السكان جماعيًا بالجوع. أما إغلاقه كليًا، فإن المجاعة ستدخل في طور القاتل المتسلسل الذي لا يرحم ضحاياه، فقط يقتلهم بساديّة.
ضغط أخلاقيلا يريد العالم التورط بمثل هذا المشهد في ظل الضغط الأخلاقي الذي يتعاظم بفعل الحركة الاجتماعية العالمية على القادة السياسيين المحرومين من اللقاءات العامة دون منغصات ما تخرج من بين جمهور المصفقين. بهذه الحالة، يمنح الفاعلون غطاءَهم لحرب رفح بقدرٍ أفضل من الإنسانية؛ إنسانية القاتل المتسلسل، الذي ربما يقتل ضحيته ويجلس للبكاء عليها قبل أن يكمل مشواره للضحية التالية.
في هذا الجانب أيضًا، يمكن التكهن بعمليات التهجير المتوقعة من رفح، والتي ستتجه نحو غرب جنوب غزة، حيث منطقة الميناء. هناك، يكون من السهل التعامل المباشر مع النازحين من قبل المنظمات الإنسانية المستقبلة لمساعدات الميناء، فيما يلعب الميناء كنقطة جذب بشري لتحفيز عملية التهجير.
في جانب آخر، هناك افتراض بأن معبر رفح، رغم إغلاقه المحكم، والوفاء العالي بالتزامات القائمين على البوابة، فقد انتهت جدواه للمرحلة الحالية على الأقل، التي يطلب فيها الإسرائيلي سيطرةً تامةً على القطاع. يمنح الميناء البحري الذي أقيم بموافقة وتنسيق إسرائيلي كامل، لكن بتمويل دولي (عربي في غالبه)، الفرصةَ للقتلة لتحقيق تلك السيطرة الأمنية الدائمة على غزة.
بهذا يكون الميناء جزءًا من محاولات الأجوبة المفقودة حتى الآن عن أسئلة اليوم التالي للحرب. وهو بهذا المعنى يقول للقائمين على البوابة، لا حاجة لخدماتكم اليوم.
لقد عبّرت مصادر مصرية عن انزعاجها من فكرة الميناء، رغم الضمانات التي جرى الحديث عنها سابقًا للتقليل من مخاوف القاهرة.
وقد يكون انتهاء جدوى معبر رفح متعلقًا بمشروع التهجير ذاته، الذي لايزال جدّيًا حتى بعد انتهاء الحرب، والرغبة بدفع جموع بشرية باتجاه المنطقة المصرية المحاذية في رفح المصرية، وبالتالي دفع المعبر عدة كيلومترات لعمق سيناء. يمنع هذا ترتيبات محور فيلاديلفيا المنصوص عليها في اتفاقية كامب ديفيد. لكن المشهد القريب يعلمنا أن لا شيءَ مقدسًا في جانبنا العربي، كل شيء قابل للنقاش والتعديل إلا نحن.
دور استثنائيفي الجانب الثالث، فإن هناك أمرًا ما متعلقًا بحماس التي لاتزال أدواتها فاعلة في معظم أنحاء القطاع بدرجة ما، رغم الضربات الرهيبة التي تعرضت لها على مدار أكثر من 160 يومًا من القصف العظيم. ستكون حماس أكثر تماسكًا في رفح، التي يجري الحديث عن كتائبها الأربع، وأجهزتها الإدارية هناك. فدخول أية مساعدات من معبر رفح، سيجعلها بالضرورة تحت رقابة حماس في رفح، وبالتالي إمكانية التموين لعناصرها وأجهزتها. فيكون الميناء بهذا الشكل محاولة لتجنب العقدة المتماسكة للحركة في الزاوية الصح من القطاع.
لا يمكن تجاهل هذا الشق تحديدًا، فكل صندوق مساعدات أو كيس طحين دخل القطاع كان يخضع لمعايير شديدة، كلها أو جلّها يخضع لاعتبار موقع حماس من هذا الصندوق أو ذاك الكيس.
في نهاية المطاف، وتجنبًا للمبالغات التي باتت طبيعة السلوك الوحشي للمحتل وأغطيته الدولية، فإن معبر رفح لم يفقد دوره نهائيًا حتى الآن. وسيبقى لاعبًا استثنائيًا في حياة أهل غزة، وجزءًا من وعيهم الأبدي بالساكنين على طرفيه، وناقوسًا لذاكرتنا الإنسانية.
وفي ثنايا التطور المتعلق بالميناء البحري، فإن أهل غزة على موعد مع بناء اجتماعي جديد يدخل حياتهم ويشكل بدرجة ما تصوراتهم عن أنفسهم عبر رصيف بحري، وسفن ترسو وتغادر، في سياق الحفاظ على المأساة بدرجة العقاب لا الإعدام. كذلك كان ولا يزال معبر رفح، جزءًا من وعي الغزّيّ الذي سافر وشهد ماذا يعني العبور من هناك.
سيبقى أن نذكر أن الفرق بين ميناء رفح البري وميناء غزة البحري، أن الأول نظريًا باتجاهين، فيما الثاني باتجاه واحد. وبالنظر لكون معبر رفح مخصصًا للأفراد، فإن فكرة تخصيص ميناء للبضائع عبر البحر، قد يعفي الاحتلال من ضغط قاعدته الموغلة بالكراهية، والتي تحاصر معابر البضائع؛ لمنع دخول مساعدات لأهل غزة، فيبدو الميناء كجهدٍ دولي، فيما يسترضي نتنياهو قطعانَ الوحوش لديه.
رغم كل ما سبق، فإن قيمة ميناء غزة البحري هذا تتحدد بقدر ما سيتيحه من عيشٍ وطنيٍ كريم لمن تبقى من أهل القطاع، لا عبر تحليلات قد تصيب وقد تخطئ، وعاجزة حتى اللحظة عن بناء نوايا حسنة.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: رمضان 1445 حريات المیناء البحری معبر رفح
إقرأ أيضاً:
تفسيرات مسبقة لـ4 سيناريوهات محتملة للانتخابات الأميركية
نشرت نيويورك تايمز مقالا للكاتب ناتي كوهين يتحدث فيه عن 4 سيناريوهات محتملة لنتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية الجارية حاليا، والتفسير المسبق لكل سيناريو، مشيرة إلى حالة عدم اليقين السائدة.
في مستهل المقال يقول كوهين إنه ونظرا إلى انخفاض نسبة التأييد للرئيس جو بايدن (40% في آخر استطلاع) والانخفاض الكبير في نسبة من يرون أن أميركا تسير في الاتجاه الصحيح (28%)، فمن الصعب القول إن الحزب الديمقراطي سيستمر في سيطرته على البيت الأبيض.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الولايات المتحدة تبدأ تأهبا أمنيا خشية وقوع أعمال عنف بسبب نتائج الانتخاباتlist 2 of 2لا يختارونه مباشرة.. كيف ينتخب الأميركيون رئيسهم؟end of listوعلى الجانب الآخر، يقول الكاتب إن المرشح الجمهوري دونالد ترامب يواجه تحديات فريدة، بسبب إدانته في جرائم جنائية ومحاولته تقويض نتائج الانتخابات السابقة.
وكلا الطرفين يعاني من نقاط ضعف كبيرة، حيث يواجه الجمهوريون قضايا تتعلق بالإجهاض، بينما يعاني الديمقراطيون من مخاوف تتعلق بالهجرة.
المقال يقدم 4 سيناريوهات ممكنة لنتائج الانتخابات:
الفوز الحاسم لكامالا هاريس بفارق كبيرقد يظهر هذا السيناريو على أنه نتيجة حتمية، فقد حقق الديمقراطيون نجاحات ملحوظة منذ فوز ترامب في 2016، حيث تفوقوا في الانتخابات النصفية للكونغرس. وإذا ذهب الناخبون إلى صناديق الاقتراع بقلق حول قضايا مثل الإجهاض والديمقراطية، فقد تؤدي هذه العوامل إلى فوز هاريس بشكل حاسم.
تكرار نتائج انتخابات 2020في ظل الانقسام السياسي الحالي، من الممكن أن تتكرر نتائج انتخابات 2020، حيث ستتوزع الأصوات بشكل مشابه لتلك الانتخابات. رغم أن هاريس قد تكون مرشحة مفضلة في مثل هذا السيناريو، إلا أن أي انخفاض في نسبة التصويت بين الناخبين الشباب أو السود أو اللاتينيين قد يمنح ترامب فرصة لتحقيق الفوز.
تكرار نتائج انتخابات 2022 النصفية للكونغرس
قد تُظهر انتخابات 2024 تشابها أكبر مع الانتخابات النصفية لعام 2022، حيث يتجه الناخبون في اتجاهات مختلفة عبر الولايات، مع اختلافات واضحة في النتائج. في هذه الحالة، قد تكون هناك تنافسية في بعض الولايات التي تعاني من التحديات، بينما يحقق الجمهوريون نجاحات في مناطق أخرى.
في حالة فوز ترامب بشكل كبيرسيكون هذا نتيجة محتملة متوقعة، بالنظر إلى نسبة تأييد بايدن المنخفضة. تشير استطلاعات الرأي إلى تحول في ميول الناخبين نحو الجمهوريين، مع احتمال أن يتفوق الناخبون الجمهوريون في الانتخابات ذات نسبة المشاركة العالية. إذا استمر الناخبون في عدم الرضا عن بايدن، فقد يؤدي ذلك إلى تحقيق ترامب انتصارات غير متوقعة.
خاتمة
تسلط المقالة الضوء على أهمية فهم الديناميات السياسية والاجتماعية المعقدة التي تؤثر على الانتخابات. ففي نهاية المطاف، رغم عدم القدرة على التنبؤ بدقة بما سيحدث، من المؤكد أن الصراع بين الديمقراطيين والجمهوريين سيستمر في تشكيل هوية السياسة الأميركية، ويؤثر على مستقبل البلاد.
قد تتجه الأمور نحو: فوز ساحق لهاريس، تكرار دقيق لنتائج 2020، أو تكرار مشهد الانتخابات النصفية، أو فوز كبير لترامب. ومع ذلك، من المؤكد أن كل هذه الاحتمالات ستشكل مستقبل البلاد.
من الواضح أن الصراعات بين الجانبين لا تتعلق فقط بالمرشحين، بل تعكس أيضا قضايا أعمق تؤثر على الهوية السياسية لأميركا، مما يجعل من المهم فهم الديناميات الاجتماعية والسياسية قبل التوجه إلى صناديق الاقتراع.