تصادف اليوم، الأحد، ذكرى انضمام إيطاليا  إلى معاهدة سايكس بيكو الموقعة بين إنجلترا وفرنسا وروسيا، في 17 مارس 1916. 

تعتبر هذه الاتفاقية المسئولة عن تقسيم المنطقة العربية إلى دول مختلفة، حيث تم تجزئة منطقة الهلال الخصيب (المنطقة المحيطة بأنهار دجلة والفرات والساحل السوري) بين فرنسا وبريطانيا، وذلك لتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا بعد انهيار الدولة العثمانية.

اتفاق سري 

وتشكلت الاتفاقية من اتفاق سري وتفاهم بين فرنسا والمملكة المتحدة، بمصادقة من الامبراطورية الروسية، لتقسيم منطقة الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا وتحديد مناطقهما في غرب آسيا بعد سقوط الدولة العثمانية التي كانت تسيطر على هذه المنطقة خلال الحرب العالمية الأولى.

سايكس بيكو

حصلت فرنسا على الجزء الأكبر من الجناح الغربي للهلال الخصيب، وشمل ذلك سوريا ولبنان، بالإضافة إلى منطقة الموصل في العراق، أما بريطانيا فقد امتدت مناطق سيطرتها من جنوب بلاد الشام وتمتد شرقاً لتشمل بغداد والبصرة وجميع المناطق الموجودة بين الخليج العربي والمنطقة الفرنسية في سوريا.

وقد تم تحديد إدارة فلسطين كإدارة دولية تتفق عليها بالتشاور بين بريطانيا وفرنسا وروسيا، ومع ذلك، جاء في الاتفاقية أنه يتم منح بريطانيا حق استخدام موانئ حيفا وعكا، مع حرية استخدام فرنسا لميناء حيفا، بينما تم منح بريطانيا استخدام ميناء الإسكندرونة الذي كان يقع في منطقتها.

قتل ونهب لسكان دمشق .. كيف أحيا تيمورلنك إمبراطورية جده جنكيز خان إصدارات قصور الثقافة بمنفذ البيع الدائم بهيئة الكتاب فى رمضان.. من جنيه لـ20 فيلو فارنزوورث.. قصة اختراع جهاز التليفزيون كيف بدأ الأمر؟

وفى وقت لاحق، وبعد صدور وعد وزير الخارجية البريطانى الأسبق أثر بلفور، تم تخفيف الاتفاق لكن بنفس بنود الاتفاقية، وهذا بعدما أقر مجلس عصبة الأمم وثائق الانتداب على المناطق المعنية باتفاقية جديدة عرفت باسم لوزان، وتم بموجب معاهدة لوزان التنازل عن الأقاليم السورية الشمالية لتركيا الأتاتوركية، إضافة إلى بعض المناطق التى كانت قد أعطيت لليونان فى معاهدة لندن السابقة.

وقسمت هذه الاتفاقية وما تبعها سوريا الكبرى أو المشرق العربى إلى دول وكيانات سياسية كرست الحدود المرسومة بموجب هذه الاتفاقية والاتفاقيات الناجمة عنها: "العراق – سوريا – لبنان – الأردن – فلسطين"، بما فى ذلك الأراضى التى أصبحت إسرائيل.

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: سايكس بيكو الإمبراطورية الروسية الحرب العالمية الأولى الخليج العربي الدولة العثمانية الوطن العربي

إقرأ أيضاً:

ترامب وبوتين وشي جين بينغ.. خطة جديدة لإعادة تقسيم العالم

مقدمة الترجمة

ما العامل المشترك بين مطالبة ترامب بالسيطرة على كندا وغرينلاند وبين خطته لوقف الحرب في أوكرانيا عبر إجبارها على التنازل عن أراضيها لصالح روسيا وبين مساعي الصين للسيطرة على تايوان وتوسيع حضورها في بحر جنوب الصين؟

وفق تفسير مونيكا دافي توف أستاذة السياسة الدولية، ومديرة مركز الدراسات الإستراتيجية في كلية فليتشر للقانون والدبلوماسية بجامعة توف الأميركية، في مقالها المنشور بمجلة "فورين أفيرز"؛ فإن ذلك يمثل عودة لعصر "مناطق النفوذ" حيث تقسم الدول الكبرى العالم إلى مناطق نفوذ حصرية خاصة، وفي خضم هذا التقسيم تُقوض استقلالية الدول الصغرى وتُنتهك سيادتها.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2نبوءة ميرشايمر.. هل اقتربت الحرب المدمرة بين أميركا والصين؟list 2 of 2ترامب أقلق حلفاءه وقد يلجؤون للسلاح النووي ليقلق العالم كلهend of list

عقب نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 سعى الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، والزعيم السوفياتي جوزيف ستالين إلى تقسيم أوروبا إلى "مناطق نفوذ" باعتبار ذلك أقصر الطرق لتفادي حرب عالمية كارثية أخرى، ولكن بحلول نهاية الحرب الباردة انهارت تلك التقسيمات وذابت في عالم يتوق إلى التعاون الاقتصادي والأمن الجماعي.

والآن مع انهيار العولمة، وصعود السياسات القومية في الولايات المتحدة، فإننا نشهد "رِدة جيوسياسية" غير مسبوقة سوف تكون جميع دول العالم تقريبا مجبرة على التعامل قريبا مع آثارها.

إعلان نص الترجمة

لم يكن غزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأوكرانيا عام 2022 مجرد صراع إقليمي، فقد كان ضمه "غير القانوني" لشبه جزيرة القرم عام 2014 بمثابة حلقة في اختبار روسي واسع النطاق لما يسمى بـ"النظام الدولي القائم على القواعد"، حيث أراد بوتين استكشاف مدى جدية الغرب في الدفاع عن ذلك النظام.

وما حدث فعليا هو أن الحرب التي تلت ذلك أجبرت أوروبا على إعادة النظر في اعتمادها على الولايات المتحدة، ودفعت القادة الأميركيين إلى إعادة تقييم رغبتهم في الوفاء بالتزاماتهم الخارجية، كما قادت الحرب الصين إلى دور جديد داعم لروسيا وجعلت دولًا على بُعد آلاف الأميال تُصارع أسئلة جوهرية حول مستقبلها: كيف يُمكن موازنة شراكاتها مع القوى الكبرى المتحاربة؟ وما هي الخيارات المادية والمعنوية التي ينبغي اتخاذها الآن والتي ستبدو حكيمة حين يُنظر إليها بعد عقود؟

خلال العقدين التاليين للحرب الباردة، كانت العديد من هذه الأسئلة أقل محورية وإلحاحا، بعدما خفض انهيار الاتحاد السوفياتي من المخاوف الغربية بشأن نشوب حرب عالمية جديدة، وهي مخاوف لطالما دفعت القادة الغربيين إلى التسامح مع مناطق النفوذ السوفياتية في وسط وشرق أوروبا.

وقتها، أمل العديد من القادة السياسيين والمحللين أن تُقلّل التعددية والجهود الجديدة المبذولة في طريق الأمن الجماعي من أهمية المنافسات الجيوسياسية الصفرية إلى الأبد.

ولكن بعد أن ألقت الأزمة المالية العالمية 2008-2009 بظلالها على الاقتصادات الغربية، وعزز بوتين سلطته في روسيا، وتوسّع نفوذ الصين العالمي سريعا، بدأت الجغرافيا السياسية العودة سريعًا إلى ديناميكيتها القديمة المستندة بشكل أساسي إلى القوة الصلبة.

وشرعت الدول الكبرى مجددا في استخدام ميزاتها العسكرية ونفوذها الاقتصادي وثقلها الدبلوماسي لتأمين "مناطق النفوذ"، وهي تلك المناطق التي مارست عليها الدول الكبرى سيطرة عسكرية واقتصادية وسياسية دون أن تفرض سيادتها عليها بصورة رسمية.

إعلان

ورغم أن حربًا عالمية أخرى لم تلح في الأفق بعد، فإن المشهد الجيوسياسي اليوم يُشبه إلى حد كبير ما شهدناه في نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما سعى الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، والزعيم السوفياتي جوزيف ستالين إلى تقسيم أوروبا إلى "مناطق نفوذ"، حيث تسعى القوى الكبرى اليوم إلى التفاوض حول نظام عالمي جديد تمامًا كما فعل قادة الحلفاء عندما أعادوا رسم خريطة العالم في مفاوضات يالطا عام 1945.

وليس بالضرورة أن تُعقد المفاوضات هذه المرة في مؤتمر رسمي، ولكن إذا توصل الرئيس الروسي بوتين، والرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس الصيني شي جين بينغ إلى إجماع غير رسمي على أن "سياسة القوة" أهم من الخلافات الأيديولوجية، فإنهم سوف يسيرون على خطا "يالطا" في تحديد سيادة ومستقبل الدول المجاورة.

وعلى عكس ما حدث في يالطا، حيث تفاوضت دولتان ديمقراطيتان مع نظام استبدادي واحد، لم تعد هوية النظام تعيق الشعور بالمصالح المشتركة، ففي وقت تهيمن عليه "القوة الصلبة"، يعود الجميع إلى المبدأ القديم القائل بأن "القوي يفعل ما في وسعه والضعيف يعاني قدره المحتوم".

وفي عالم كهذا، سوف تهمش المؤسسات المتعددة الأطراف مثل حلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي، وسوف تتعرض استقلالية الدول الصغرى للتهديد، بصورة غير مسبوقة منذ عقود.

لم يكن من قبيل المصادفة أن الدول التي قادت عودة سياسة القوة على مدار العقدين الماضيين، وهي الصين وروسيا والولايات المتحدة، وقعت جميعا تحت سلطة زعماء يتبنون سردية "جعل بلادهم عظيمة مرة أخرى". يُركز هؤلاء القادة على مقارنة مستاءة بين وضع بلادهم الحالي المقيد من وجهة نظرهم بفعل الخصوم الأجانب والمحليين على السواء، وبين ماض متخيل أكثر حرية ومجدا.

بالنسبة للصين، تعد السيطرة على تايوان جزءا من إعادة السيطرة على مناطق نفوذها التقليدية، ضمن سياسة الصين الواحدة. (الجزيرة)

إن الشعور بالذل الذي تولده هذه المقارنة يُغذي الاعتقاد لدى الناس بأن خلاص بلادهم لا يتحقق إلا بممارسة القوة الصلبة، ويبدو أن السيطرة على "مناطق النفوذ" وتوسيعها تُعيد ذلك الشعور المتلاشي بالعظمة.

إعلان

وبالنسبة للصين، لن تكفي تايوان وحدها لتلبية هذا النداء، في حين لن تكون أوكرانيا وحدها كافية أبدًا لتحقيق رؤية بوتين لمكانة روسيا الصحيحة في العالم، أما الولايات المتحدة فقد بدأت بدورها تتطلع إلى ضم كندا.

بيد أنه لا يزال هناك مسار آخر محتمل، مسار يتكيف فيه الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو) بدلًا من أن يذبلا إلى الأبد.

وفي هذا السيناريو، سوف تعمل هذه القوى (الناتو والاتحاد الأوروبي) على موازنة جهود الولايات المتحدة وروسيا والصين الرامية إلى استخدام القوة الباطشة لتحقيق مصالحها الضيقة بشكل يهدد سلام العالم وأمنه وازدهاره. لكن سيتعين على هذه القوى الموازنة المحتملة أن تكافح من أجل هذا البديل، وأن تستغل العقبات التي يفرضها عالم اليوم "الأكثر عولمة" على القوى العظمى الراغبة في تفكيكه.

دوائر مفرغة

ظهر مصطلح "مناطق النفوذ" لأول مرة في مؤتمر برلين عامي 1884 و1885، الذي وضعت خلاله الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية "القواعد الرسمية" لتقسيم أفريقيا، لكن هذا المفهوم شكّل معالم الإستراتيجية الدولية قبل ذلك بوقت طويل.

فخلال الحروب النابليونية (1803-1815)، حاولت فرنسا توسيع نفوذها من خلال غزو الأراضي المجاورة وتنصيب أنظمة عميلة موالية لها، قبل أن تتصدى لها تحالفات مضادة بقيادة بريطانيا والنمسا.

وكذلك، انخرطت الإمبراطوريتان البريطانية والروسية في صراعات مطولة للسيطرة على آسيا الوسطى، وخاصة أفغانستان، في حين أكد مبدأ مونرو الذي اعتمدته الولايات المتحدة عام 1823، على أنه لن يُسمح للقوى الأوروبية بالتدخل في نصف الكرة الغربي؛ مما أدى فعليًّا إلى ترسيخ وضع أميركا اللاتينية مجالًا للنفوذ الأميركي الخالص.

وتجدر الإشارة إلى أن مبدأ مونرو استُوحي جزئيًّا من جهود الإمبراطور الروسي ألكسندر الأول لمواجهة النفوذ البريطاني والأميركي في شمال غرب المحيط الهادي من خلال توسيع مستوطناته وتأكيد سيطرته على التجارة.

إعلان

ورغم ذلك وافقت روسيا في نهاية المطاف بموجب الاتفاقية الروسية الأميركية لعام 1824 على الحد من توسعها جنوبا والاعتراف بالهيمنة الأميركية على نصف الكرة الغربي، بعدما أدرك ألكسندر الأول أن تشجيع المزيد من الاستعمار الأوروبي للأميركتين يُنذر بإشعال فتيل المزيد من الحروب.

استمر سعي القوى العظمى لإنشاء "مناطق النفوذ" خلال أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين؛ مما أدى إلى تشكيل تحالفات جديدة، وتسبب في نهاية المطاف في اندلاع الحرب العالمية الأولى.

وخلال سعيه لنزع الشرعية عن الإمبراطوريات النمساوية المجرية والألمانية والعثمانية، أدان الرئيس الأميركي وودرو ويلسون الاستعمار باعتباره حذاء قمعيا يطأ رقاب الأمم المتطلعة إلى تقرير مصيرها وهي إدانة تسببت في أضرار جانبية لحلفائه في بريطانيا وفرنسا، الذين كانوا يكافحون للحفاظ على مستعمراتهم في مواجهة موجة متصاعدة من المشاعر القومية.

وبالنظر إلى الصلة الوثيقة بين "مناطق النفوذ" والاستعمار أصبح كلا المفهومين يُنظر إليهما على أنهما "رجعيان" ومحفزان للصراعات بحلول نهاية الحرب العالمية الثانية.

لاحقا، شهد مؤتمر يالطا عودة حاسمة للسياسة القائمة على "مناطق النفوذ"، وقد تساهلت معها الديمقراطيات المشاركة باعتبارها "شرا لا بد منه" يُؤمل أن يكون قصير الأمد، وأفضل وسيلة متاحة لمنع حرب عالمية كارثية أخرى.

كانت الولايات المتحدة وبريطانيا قد سئمتا الحرب ولم يعد بإمكان أي سياسي ديمقراطي أن يعارض مسألة انسحاب أو تسريح القوات، وفي المقابل لم تعان روسيا ستالين من هذه المشكلة. وفي غياب أي وسيلة أخرى لردعه، كان الخيار الوحيد لمنع ستالين من توجيه الجيش الأحمر غربًا هو ببساطة تلبية مطالبه.

طوال القرن التاسع عشر، استندت "سياسة القوة" إلى القدرات العسكرية والاقتصادية، ولكن بحلول النصف الثاني من القرن العشرين أصبحت القدرة على تشكيل السرديات العالمية من خلال القوة الناعمة أمرًا لا يقل أهمية، وقد مارست الولايات المتحدة تحديدا نفوذها من خلال هيمنتها على الثقافة الشعبية، وتقديم المساعدات الخارجية، والتعليم العالي، والاستثمار في المبادرات الخارجية مثل فيالق السلام وجهود إرساء الديمقراطية.

إعلان

أما الاتحاد السوفياتي فروج بنشاط للأيديولوجية الشيوعية عبر شنّ حملات دعاية وتوعية ذات طابع أيديولوجي سعى عبرها لتشكيل الرأي العام في الدول البعيدة.

بل إن موسكو كانت رائدة في نوع جديد من الهجوم على الدول الديمقراطية تحت مسمى "التدابير النشطة"، وهي إستراتيجية طويلة المدى تهدف إلى غرس الاستقطاب وسط صفوف الجماهير الديمقراطية عبر نشر المعلومات المضللة.

لكن مع انحسار المعارك الأيديولوجية أمام طوفان تحرير السوق والديمقراطية والعولمة في مطلع تسعينيات القرن العشرين، بدا أن "مناطق النفوذ" فقدت أهميتها.

وبدون الانقسام الأيديولوجي الصارخ الذي ميّز الحرب الباردة، افترض العديد من علماء السياسة أن السياسة العالمية ستتحول نحو الترابط الاقتصادي، بوصفه تجلّيًا لقدرة العمل الجماعي على مواجهة التحديات الصعبة.

وعزز الانتشار العالمي للمعايير الديمقراطية والاندماج السريع لدول الاتحاد السوفياتي السابق ودول الكتلة الشرقية في المؤسسات الدولية الاعتقاد بأن القوة يمكن -بل ينبغي- أن تُمارس من خلال أطر جماعية، وبدا أن خطوط الصدع الجيوسياسية للحرب الباردة تلاشت بلا رجعة.

وقد اعتبر القانون التأسيسي بين روسيا وحلف الناتو عام 1997، وهو اتفاقية تهدف إلى تحديد علاقة الناتو بروسيا بعد الحرب الباردة، مثالًا واضحًا على ذلك التحول حيث ألزم القانون الموقعين عليه صراحة بتجنب إنشاء مناطق نفوذ، داعيا روسيا والناتو إلى السعي إلى خلق "مساحة مشتركة من الأمن والاستقرار في أوروبا، دون خطوط فاصلة أو مناطق نفوذ تحد من سيادة أي دولة".

العودة الصعبة

لإحقاق الحق، يتعين علينا أن نشير إلى أن "سياسة القوة" عادت للظهور مجددا قبل غزو روسيا لأوكرانيا بوقت طويل، فقد برهنت وقائع مثل التدخل الذي أثار حفيظة بوتين لحلف الناتو في كوسوفو عام 1999 والغزو الأمريكي للعراق عام 2003 (رغم اعتراض حلفاء واشنطن المقربين) أن قادة العصر الجديد المفترض للأمن الجماعي لا يزالون يعتقدون أنه عندما لا تحصل الدولة القوية على ما تريد، فمن المقبول التصعيد عسكريا لتحقيق مآربها.

إعلان

أكثر من ذلك انخرطت الولايات المتحدة والصين في الآونة الأخيرة في صراع على الهيمنة التكنولوجية والاقتصادية العالمية، حيث فرضت واشنطن عقوبات على عمالقة التكنولوجيا الصينيين، بينما استثمرت بكين بكثافة في سلاسل التوريد البديلة ومبادرة الحزام والطريق الضخمة.

كما عسكرت الصين بحر الصين الجنوبي، وسعت وراء مطالبات إقليمية توسعية ومتنازع عليها قانونيًّا. في غضون ذلك، استخدمت الولايات المتحدة وحلفاؤها بشكل متزايد العقوبات المالية أدوات لتقييد الخصوم.

مقاتلات J-15 من حاملة الطائرات الصينية لياونينغ تجري مناورة في منطقة بحر جنوب الصين. (رويترز)

من جهتها، تحركت روسيا ببراعة تُحسد عليها رغم ضعفها المادي، مستخدمة بفعالية أسلوب الحرب الهجينة لإضعاف الغرب بما يشمل الهجمات الإلكترونية وحملات المعلومات المضللة للتأثير في استحقاقات حيوية مثل استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2016 والانتخابات الرئاسية الأمريكية في العام نفسه.

هذا وتكشف خطابات بوتين بما لا يدع مجالا للشك أنه لم يتخل قط عن فهمه للجغرافيا السياسية القائمة على "مناطق النفوذ"، وأنه واجه صعوبة دائمة في فهم سرّ استمرار الناتو في الوجود، فضلا عن توسعه المستمر.

هذا التوسع للحلف الأطلسي في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي جعل أوروبا بأكملها -وخاصة دول حلف وارسو السابقة- منطقة نفوذ أميركية وهي نتيجة لم يقبلها بوتين قط.

وفي مواجهة ذلك، شنت روسيا هجومها على جورجيا عام 2008، معتمدة على الحرب الهجينة والوكلاء المسلحين وهي جهود تصاعدت مع الضم "غير القانوني" لشبه جزيرة القرم عام 2014 وبلغت ذروتها في الغزو الشامل لأوكرانيا عام 2022.

تُشير حرب أوكرانيا -وشروط التسوية التي يبدو أنها بدأت الظهور- إلى عودة أكثر وضوحًا إلى الجغرافيا السياسية للقرن التاسع عشر، حيث تملي القوى العظمى شروطها على الدول الأضعف.

إعلان

فقد طالبت روسيا، إلى جانب وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو أوكرانيا بقبول حقيقة أنها لن تستعيد الأراضي التي خسرتها، والبقاء خارج التحالفات العسكرية الغربية، وهي نتيجة من شأنها أن تجعلها تابعة فعليا لروسيا.

وإذا نجحت هذه الضغوط فإن المحصلة ستكون تطبيع استخدام القوة العسكرية لتحقيق المصالح الوطنية والأخطر من ذلك: المكافأة على استخدامها.

هذه النقطة الأخيرة (المكافأة) حاسمة للغاية فبرغم أن القوى الكبرى حاولت استخدام القوة لتحقيق أهدافها على مدار العقود القليلة الماضية، فإن محاولاتها كانت تأتي بنتائج عكسية باستمرار، وفشلت في إثبات أن القوة أداة فعالة لتعزيز المصالح الوطنية.

على سبيل المثال، كانت تدخلات الجيش الأمريكي في أفغانستان والعراق وليبيا جميعها إخفاقات باهظة التكلفة، وفشلت الجهود العسكرية الروسية في إنقاذ الدكتاتور السوري بشار الأسد في نهاية المطاف، وكان توغلها في أوكرانيا متعثرًا، لكن أعظم تحول في السياسة الخارجية الأميركية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية منح "سياسة القوة" الروسية النصر في نهاية المطاف.

بالتزامن مع ذلك، يترسخ نمط قديم من "سياسة القوة" سريعا في أماكن أخرى أيضا يتضمن قيام قوة مهيمنة بتأسيس "مناطق نفوذ" تتسبب في تقليص سيادة الدول المجاورة جغرافيًّا، كما يسعى ترامب لفعله في كندا وغرينلاند والمكسيك، وكما تحاول الصين فعله في تايوان.

جدير بالذكر أن النظام السياسي القائم على مناطق النفوذ يعتمد على اتفاق ضمني بين القوى العظمى على عدم تدخل كل منها في مناطق نفوذ الأخرى.

يسعى ترامب لتطبيق ما يُعرف بـ "سياسة القوة" في كندا وغرينلاند والمكسيك، وهو ما تحاول الصين فعله في تايوان ويحاول بوتين فعله في أوكرانيا. (الجزيرة) دائرة مفتوحة

قياسا على قوتها العسكرية والاقتصادية الراهنة لم تعد روسيا قوة عظمى في عالم اليوم، لكن الطريقة التي تُقارن بها روسيا الحالية بالاتحاد السوفياتي غالبًا ما تمنحها قوة مُتصورة تتجاوز إمكانياتها الفعلية، فضلا عن كونها لا تزال قوة نووية فعالة.

إعلان

وفي سيناريو تتفق فيه الولايات المتحدة والصين وروسيا على أن لديها جميعا مصلحة حيوية في تجنب حرب نووية، فإن الاعتراف المتبادل بمجالات نفوذ كل من هذه الدول يمكن أن يكون آلية لردع التصعيد.

وبناء عليه، لربما تُشبه المفاوضات لإنهاء الحرب في أوكرانيا "يالطا جديدة"، حيث تؤدّي الصين دورًا يُشبه الدور الذي أدّته بريطانيا، الإمبراطورية التي أنهكتها الحرب عام 1945 في الموازنة بين المصالح الأميركية والسوفياتية في حين تسعى لضمان مصالحها الجيوسياسية الخاصة.

لكن تقسيم مجالات النفوذ بدقة يعد مهمة أكثر تعقيدا مقارنة بزمان يالطا حين كان من الأسهل تحديد -واحترام- مجالات النفوذ المتماسكة جغرافيًّا في عالم أقل عولمة يعتمد على الصلب والنفط؛ مقارنة بالعصر الحالي الذي تتوزع فيه الموارد الحيوية التي تحتاج إليها القوى الكبرى في جميع أنحاء العالم.

تعد تايوان مثالا مهما على هذه الحقيقة لأن الرقائق التي تنتجها ضرورية لنمو الدول وأمنها القومي؛ ولا تستطيع الولايات المتحدة أن تسمح للصين بالسيطرة عليها، كما لا تريد الولايات المتحدة السماح لروسيا بالوصول الحصري إلى المعادن الأرضية النادرة في أوكرانيا.

وبينما تزداد أهمية القوة البحرية مقارنة بأي زمان مضى، بات من الممكن تصور وقوع اليابان وتايوان ضمن مناطق النفوذ الأميركية على الرغم من كونهما مجاورتين للصين. ولهذا السبب تسعى الصين إلى أن تصبح قوة بحرية وتعمل بلا كلل لتعطيل النفوذ البحري الأميركي.

حتى لو اتجه ترامب وبوتين نحو علاقة أكثر تعاونًا مع شي، فسيترك ذلك أوروبا أمام تحدٍّ صعب للاعتماد على نفسها، وساعتها لربما تُجبر دول مثل ألمانيا وفرنسا على وضع إستراتيجيات أمنية مستقلة.

وكذلك، من المرجح أن تسعى دول أوروبا الشرقية، وخاصة بولندا ودول البلطيق، إلى التزامات دفاعية أكبر قد لا تتمكن الدول الأوروبية الأخرى من توفيرها أو لا ترغب في ذلك. كما أن هذه النتيجة ستقوض الأهمية الإستراتيجية لحلفاء الولايات المتحدة في آسيا؛ مما سيجبرهم على البحث عن ترتيبات دفاعية بديلة قد تصل إلى حد التسلح النووي.

إعلان

ولا يمكن استبعاد أن يتطور الاتحاد الأوروبي إلى ما يشبه دولة فدرالية على غرار الولايات المتحدة. فبعد كل شيء، لا تزال كل من فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة قوى متوسطة ذات قدرات لا يستهان بها، ولدى كل من فرنسا والمملكة المتحدة رادع نووي خاص بها، وبوجودها معا سوف تشعر أوروبا الموحدة بخوف أقل من الصين وروسيا والولايات المتحدة عسكريا واقتصاديا.

أما إذا تحالفت الولايات المتحدة وروسيا ضد الصين، فربما تجد اليابان وكوريا الجنوبية نفسيهما تحاولان الموازنة بين واشنطن وبكين، واتباع سياسات خارجية أكثر استقلالية، مع مزيد من الاعتماد على النفس عسكريا، والمزيد من التنويع لشراكاتهما الاقتصادية والأمنية.

وسوف تسرع اليابان تحديدا من بناء قوتها العسكرية وتسعى إلى توثيق علاقاتها مع شركائها الإقليميين مثل أستراليا والهند، بينما قد تحاول كوريا الجنوبية حماية موقفها من خلال تعميق علاقتها مع الصين.

وفي حال تحالفت روسيا بشكل أوثق مع الصين -وظلت أوروبا متحالفة بقوة مع الولايات المتحدة- فسيولِّد ذلك نظامًا ثنائي القطب على غرار الحرب الباردة، أما إذا اتبعت روسيا (التي تخشى إعطاء الانطباع بأنها تابعة للصين) والدول الأوروبية مسارا أكثر استقلالية، فقد يُسهم ذلك في ظهور عالم متعدد الأقطاب، تتأرجح فيه العديد من القوى بين واشنطن وبكين.

في هذه الحالة، ستشبه الجغرافيا السياسية العالمية مزيجا من مناورات القوى العظمى في القرن التاسع عشر مع سياسة "الكتل الإستراتيجية" للقرن الحادي والعشرين.

وستواجه أستراليا خيارات صعبة فيما يتعلق بتحالفاتها الاقتصادية والأمنية بين تعزيز تعاونها الدفاعي مع الولايات المتحدة، وتعميق شراكتها مع الهند واليابان، وزيادة الإنفاق العسكري لتعزيز ردعها، وبين السعي إلى الظهور كعامل استقرار إقليمي، وإظهار استقلالية أكبر بدلًا من البقاء شريكًا صغيرًا في كتلة تقودها الولايات المتحدة، خاصة إذا نجحت الصين في تأمين مجال نفوذها المنشود في آسيا.

إعلان

نادرا ما تكون مناطق النفوذ ثابتة وهي محل نزاع دائم، ولكن ظهورها مجددا يشير إلى أن طبيعة النظام العالمي تخضع لاختبار حقيقي. من الممكن قطعا أن يقودنا هذا التحول باتجاه "سياسة القوة" التي سادت في عصور سابقة، ولكن لحسن الحظ هناك بديل أقل خطورة.

فبعد أن شهد النظام الدولي دورات من الأزمات المزعزعة للاستقرار، ربما يُعيد تأكيد نفسه مرتدا إلى نظامٍ قائم على القواعد، يتمحور حول التعاون المتعدد الأطراف، والعولمة الاقتصادية، وترتيبات الأمن الجماعي التي تكبح الطموحات التوسعية.

المؤكد أن الولايات المتحدة لا تمثل عامل استقرارٍ موثوق به حاليا. فبينما كانت واشنطن، حتى وقت قريب، هي الرادع الرئيسي للأنظمة التوسعية الإقليمية، يبدو الآن أنها تُشجع هذه الأنظمة نفسها، بل وتُقلّدها.

وسوف يعتمد ما إذا كان هذا التحول سيعود في نهاية المطاف إلى توازن القوى المتوقع أو سيفتتح حقبة طويلة من عدم الاستقرار والحرب على مدى فعالية التنافس على "مناطق النفوذ" ومدى جدية دول مثل الصين والهند وإيران وروسيا والولايات المتحدة في تأمين "مناطق نفوذها".

______________________________

هذه المادة مترجمة عن فورين أفيرز ولا تعبر بالضرورة عن موقع الجزيرة نت

مقالات مشابهة

  • ترامب وبوتين وشي جين بينغ.. خطة جديدة لإعادة تقسيم العالم
  • ناير:”حققت حلم الطفولة بتمثيل المنتخب الوطني
  • أحمد موسى: السادات قدم مشروعا مصريا عام 78 للحفاظ على القضية الفلسطينية
  • بولندا ودول البلطيق تنسحب من معاهدة حظر الألغام بسبب مخاوف من روسيا
  • "بيكو مصر" تفوز بجائزة "أثر" تكريمًا لجهودها في الاستدامة والمسؤولية المجتمعية
  • بعد الاعتداءات على العلويين..فرنسا تقترح عقوبات على مرتكبي المجازر في سوريا
  • شذى حسون: آخر مسلسل لمحمد رمضان أحدث حالة في كل شوارع الوطن العربي
  • نائب: مصر حققت تقدمًا ملحوظا في مجال الحماية الاجتماعية
  • روسيا تطالب بضمانات "صارمة" في أي معاهدة سلام مع أوكرانيا
  • رئيس الوزراء الكندي الجديد يزور بريطانيا بعد فرنسا