بيعة الموت.. كيف واجه “35” من أبطال الحرس الرئاسي في السودان جحيم ساعة الصفر؟ “الحلقة الثالثة”
تاريخ النشر: 17th, March 2024 GMT
“١٢” داخل مبنى المستشارية الأمنية، ذاك الذي بحيلة تأميمية أخذ مُسمى بُرج الدعم السريع، هنالك وسط الخرطوم، كانت الإضاءة مُنخفضة بتدرجات واهية، وقد بدت كذلك حين جلس اللواء عثمان محمد حامد_رئيس دائرة العمليات في الدعم_ بهيئة عسكرية صارمة، إلى يمين قائده محمد حمدان دقلو، وإلى يساره أيضًا في الدائرة الملاصقة عبد الرحيم، الشقيق المُتحمس بشدة للانقضاض على خصومه، وقد فاحت في دهاليز المبنى ذو الطوابق المتعددة رائحة الأبخرة والتعاويذ، بشكل يوحي بحجم المؤامرة الشيطانية، وتسارُع خطواتها، ما حدا بحميدتي للتساؤل باقتضاب عن الضمانات المبذولة لنجاح هذه المغامرة، وهو ما سيحيط به من وراء التنوير الآخير، بالرِهان المُطلق على الخطة “أ” دون الحاجة للخطة “ب” فيما ثمة رجل بشعر أشقر، أقرب إلى أن يكون من ضباط فاغنر أو من رجال الموساد، حرص عبد الرحيم على اصطحابه في هذا الاجتماع، المقرر فيه مراجعة التفاصيل السرية، وتحديد ساعة الصفر، والتي سيوافق عليها حميدتي مأخوذاً بهواجسه الشخصية، لطالما كان لا يريد أن يذهب في هذا الطريق المحفوف بالمخاطر، فهو يعلم عاقبة الهجوم على عرين الأسد، والكُلفة الباهظة، لكنه كان مُحتنكاً بشهوة السُلطة.
“١٣”
استل اللواء عثمان عمليات ورقة بيضاء (A4) من حقيبة صغيرة أسفل قدمه اليُمنى، رسم فيها صورة أفعى، وصوب نحو وجهها سهم قاتل، في مضاهاة لأهمية ضرب مقر بيت الضيافة والقيادة العامة، وشل كافة حركة وحدات الجيش، ثم مررها إلى عبد الرحيم، تلك الورقة، ليكتسي وجهه النحيف بضحكة مكتومة خبيثة، وتنهّد حميدتي في المقابل تنهيدة استعلائية، وهو يراقب نفسه مداعباً بالإبهام حبات سبحة اللالوب المتشبث بها تلقائياً، بينما لم ينبس الضابط الأشقر ببنت شفة.
“١٤”
كانت خطة اللواء عثمان قائمة على معركة خاطفة، لا تُبقِى ولا تذَر ، تدور رحاها في حي المطار تحديداً، وعلى وجه الدقة في المساحة الممتدة ما بين بيت الضيافة غرباً، والتخوم الشرقية للقيادة العامة، تلك التي سيحاصرها المقدم خلا تاج الدين التجاني، قبيل أن تتآكل قواته وتتقهقر لاحقًا، بعد صمود الضباط والجنود داخل أسوار القيادة، وقد أصبح بيت الضيافة أشبه بتختة الرماية، ولم يسلم حتى المسجد من لسعات الرصاص، واستحال طوب الأسقف الأحمر_تحت ضغط التدوين_ إلى كتلات دامية مُضطّربة.
من الأفضل السيطرة على مطار الخرطوم وكافة المهابط الحربية، وإغلاق الأجواء بعد اكتساب الأرض، ولذلك بدأت الحرب فعلياً في مطار مروي قبيل صباح السبت بأيام قليلة، فيما كان رتل السيارات العسكرية وناقلات الجند التابعة للدعم تجوب شوارع الخرطوم ظهر الخميس، مروراً بجسر الفتيحاب، وانتهاءاً بشارع المطار، وكانت المدينة الرياضية وطيبة ومعسكرات هيئة العمليات في الرياض وكافوري على أهبة الجاهزية، لتدعيم ذلك الهجوم، حيث تم توزيع تلك القوات يوم الجمعة، لوضع مقر قيادة الجيش تحت كماشة خانقة، وهو الحصار المضروب مُنذها حتى أُجهض رسمياً عقب مغادرة البرهان للقيادة نهايات أغسطس الماضي، بعملية جريئة ومعقدة، شاركت فيها وحدات عسكرية مختلفة، أهالت التراب كلياً على خطة ضرب رأس الأفعى.
“١٥”
سبق الهجوم على بيت الضيافة إعداد القائمة النهائية للضباط المطلوب اعتقالهم، رجال حول قائد الجيش، أو ما يعرف بالمكون العسكري في مجلس السيادة، أولهم البرهان نفسه، وبذات التراتبية، ثم يأتي لاحقًا شمس الدين الكباشي، ياسر العطا، محمد عثمان الحسين، إبراهيم جابر، واعفاء قادة الأسلحة والوحدات العسكرية لاحقاً بعد السيطرة عليها، وأولها سلاح المدرعات، ومن الأفضل أن تُشارك في الانقلاب تشكيلة خادعة من القوات النظامية، ويذيع البيان المفتش العام للجيش الفريق ركن مبارك كجو، بعد أسره، حتى ولو أُكره على ذلك، وأن تمثل قوى الاتفاق الإطاري الحاضنة الشعبية، التي ستؤيد الخطة وتباركها عبر مواكب مدفوعة تتدفق في شوارع الخرطوم تباعاً، لكن من مأمنه يؤتى الحذر، وكما عنّ لحميدتي ساعتها وقض مضجعه صوت طائرات “ميغ-29” والسوخوي، التي سوف تخرج من مكان ما وتغطس في الفضاء، ثم تهوي وتنسف برج العمليات بالكامل، ومعسكر سركاب، في توقيت تمام الجند الصباحي، وتشل حركة السيطرة على وحدات الدعم العسكرية، مرة واحدة، فيصبح الهجوم على بيت الضيافة غزوة يائسة بالذيل المقطوع.
“١٦”
وسط المدينة، فوق غابات الأسمنت التي حجبها دخان المعارك بحي المطار، كان الدكتور جبريل إبراهيم، المُنخرط في لجان الوساطة بين البرهان وحميدتي، قد أدرك خطورة الوضع، واشتم لتوه، رائحة انقلاب دموي، فحزَّ في نفسه موت أصدقاء كثر سيتم الغدر بهم، واحداً بعد الآخر، وشعر بمدى ما تنطوي عليه تلك المغامرة من فادح خسارات، وهنا يتعين عليه دون حاجة للتفكير المُلتبس، بعد اندلاع الهجوم على بيت الضيافة أن يتحرك لإنقاذ الفريق مالك عقار، العالق وسط النيران، كما أن بعض حرسه الشخصي في عداد الجرحي أو القتلى، بالقرب من بيت الضيافة، حيث يستبسل الحرس الرئاسي بفدائية لمنع كتائب الدعم السريع من الوصول إلى قائد الجيش، بقصد أسره أو قتله، وقام جبريل بداهة بتحريك قوة مهام خاصة بقيادة خليل أبو الرجال، من داخل بيته بالمنشية، كانت قد تلقت تدريباتها في معهد الإستخبارات العسكرية، الذي استولى عليه الدعم السريع أيضًا وخطف قائده، وتوغلت تلك القوة من نخبة جنود العدل والمساواة، إلى داخل حي المطار، بمحاذاة مبنى جهاز المخابرات العامة، ثم دلفت شرقاً تحت دخان المعارك العنيفة، وخفت بسرعة جنونية، على متنها مالك عقار، الذي سيحل محل حميدتي في مجلس السيادة لاحقاً، بيد أن عقار لم يكن مطمئناً إليهم في الأول، حتى وجد نفسه كفاحاً تحت ضيافة جبريل إبراهيم، في مكان آمن نسبيًا وبعيداً عن صندوق القتال.
“١٧”
خاضت مئات المركبات العسكرية في تلك المواجهة الحامية، وكان حميدتي موقناً أنها مسألة وقت، فإن نجأ غريمه من القتل، فهو لا شك يحاصره في (البدروم) بقوة انتحارية، وسوف يستسلم لا محالة، سيما وأن كل خطوط الإمداد مقطوعة، وذاك قبيل أن يفسد عليه يومه صوت البرهان، وهو يتحدث بطمآنينة إلى بعض القنوات الفضائية، كما لو أنه كسب المعركة، إذ كيف تسنى للبرهان أن يقاتل بسلاحه الشخصي، وينافح عن شرفه العسكري، إلى جانب الحرس الرئاسي، ورجال الدروع والاستخبارات، ثم يتلقى منهم بيعة الموت، التي كان يتطلبها الموقف، مع قادتهم الأبطال، وهى بيعة غالية، على طريقة عكرمة بن أبي جهل في معركة اليرموك.
عزمي عبد الرازق
نواصل
صحيفة الكرامة
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الهجوم على
إقرأ أيضاً:
المجاعة تنهش السودان حيث “لا طعام ولا دواء ولا أي شيء”
“شهدت هذه الأمّ البالغة 40 عاما التي لا حول لها كيف انطفأت ابنتها رانيا في ربيعها العاشر قبل أن يهلك منتصر في شهره الثامن في مخيّم زمز”
التغيير: وكالات
في خلال شهرين، دفنت منى ابراهيم اثنين من أولادها قضيا جوعا في مخيّم للاجئين في السودان الذي تنهشه حرب أهلية منذ حوالى سنتين بين الجيش وقوّات الدعم السريع.
ووفقا لـ”فرانس برس” شهدت هذه الأمّ البالغة 40 عاما التي لا حول لها كيف انطفأت ابنتها رانيا في ربيعها العاشر قبل أن يهلك منتصر في شهره الثامن في مخيّم زمزم.
وهي باتت تخشى على حياة ابنتها رشيدة (4 سنوات) التي تعاني من فقر حادّ في الدمّ بلا أيّ رعاية طبّية.
وتتحسّر في تسجيل مصوّر أرسلته عبر “واتساب” لوكالة فرانس برس أمام مأوى بلا سقف قرب الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور التي تحاصرها قوّات الدعم السريع منذ مايو “أنا خائفة جدّا أن تضيع منّي. نحن متروكون”.
وتؤكّد “ليس هناك طعام ولا دواء ولا أي شيء”.
وتروي منى كيف فقدت اثنين من أولادها وهي عاجزة عن مساعدتهما “ما كان لي سوى أن أضمّهما وهما يحتضران”.
وكانت رانيا أوّل من لقي حتفه في المستشفى الوحيد في الفاشر الذي ما زال قيد الخدمة لكنّه يعاني نقصا شديدا في الطواقم والمعدّات الطبية، في نوفمبر بعد ثلاثة أيّام من إدخالها بسبب إسهال حادّ. وبعد بضعة أسابيع، لحقها منتصر بعدما انتفخ جسده الصغير بسبب سوء تغذية حادّ.
هذا كلّ ما لدينا
أُعلنت حالة المجاعة في مخيّم زمزم الشاسع الذي أنشئ سنة 2004 ويضمّ ما بين 500 ألف ومليون شخص، بالاستناد إلى نظام تصنيف مدعوم من منظمات الأمم المتحدة. وانتشرت في مخيّمين آخرين وفي بعض أنحاء جبال النوبة في جنوب البلد.
وأنكرت الحكومة الموالية للجيش حدوث مجاعة في البلد، في حين يعاني ملايين الأشخاص نقصا في التغذية.
في “سلام 56″، إحدى الوحدات الـ48 المكتظّة باللاجئين التي تشكّل مخيّم زمزم، تهزّ أمّهات أطفالهن الذين يعجزون عن المشي من شدّة الإنهاك. وتتشارك عائلات بقايا طبق فول لا طعم له.
وتقرّ راوية علي (35 عاما)، وهي أمّ لخمسة أطفال “هذا كلّ ما لدينا”. وإلى جانبها دلو فيه ماء عكر من خزّان لمياه الأمطار على بعد ثلاثة كيلومترات “تشرب منه الحيوانات ونحن أيضا”.
وتعيش في “سلام 56” أكثر من 700 أسرة نزحت من جرّاء الحرب الطاحنة التي تدور منذ أبريل 2023 بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوّات الدعم السريع بقيادة نائبه السابق محمد حمدان دقلو الملقب “حميدتي”.
ويقول المنسّق المشرف على الوحدة آدم محمود عبدالله إنه لم يتلقّ سوى أربع شحنات من المساعدات الغذائية منذ اندلاع الحرب، تعود آخرها إلى سبتمبر مع حوالى عشرة أطنان من الدقيق، و”مذاك، لم يصلنا شيء”.
ويعكس البؤس الذي حلّ بزمزم ضراوة هذه الحرب التي أودت بحياة عشرات الآلاف وهجّرت أكثر من 12 مليون شخص وتسبّبت بـ”أكبر أزمة إنسانية تسجّل على الإطلاق”، بحسب “لجنة الإغاثة الدولية” (آي آر سي).
قرارات تدمي القلوب
وعلى مسافة نحو 700 كيلومتر من جنوب شرقي مخيّم زمزم، ليس الوضع أفضل حالا.
وأمام أحد آخر المطابخ الجماعية قيد العمل في مدينة ديلينغ في جنوب كردفان، تمتدّ طوابير الانتظار إلى ما لا نهاية له، بحسب ما تخبر نازك كابالو التي تدير مجموعة للدفاع عن حقوق النساء.
وفي الصور التي تشاركتها مع وكالة فرانس برس، رجال ونساء وأطفال هزلى منتفخي البطون عظامهم ناتئة يصعب عليهم الوقوف من شدّة الإنهاك.
وبعد أيّام من دون أيّ لقمة تسدّ الرمق، “ينهار البعض منهم… في حين يتقيّأ البعض الآخر عندما يحصل على بعض الطعام”، بحسب كابالو.
وفي كردفان الجنوب التي كانت في ما مضى منطقة زراعية غنيّة، يقتات بعض المزارعين بذورا كان يفترض بهم زرعها أو يغلون أوراق نبات.
وتؤكّد كابالو “بتنا نلحظ الجوع في مناطق لم تشهد سابقا مجاعة”.
وقد حلّ الجوع بهذا البلد الزاخر بالموارد الطبيعية، حتّى على بعد مئات الكيلومترات من المناطق التي ضربتها المجاعة.
وفي القضارف، على بعد 400 كيلومتر من جنوب شرق الخرطوم، حيث يعيش أكثر من مليون نازح، تصل عائلات فارة من المعارك الضارية يائسة ومتضوّرة.
وتخبر ماري لوبول مديرة الشؤون الإنسانية في منظمة “أنقذوا الأطفال” غير الحكومية لوكالة فرانس برس أنها رأت “أطفالا شديدي الهزل تسيل أنوفهم ويعانون التهابا في ملتحمة العين. ويتّخذ الأهل قرارات تدمي القلوب ليحدّدوا أيّا من أطفالهم تحتّم عليه الموت”.
تداعيات طويلة الأمد
في جنوب العاصمة الخرطوم، أخبر عمّال في برنامج الأغذية العالمي أنهم رأوا أشخاصا “هم جلد على عظم” يقتاتون عدسا وحبوبا مغلية، بحسب ما نقلت ليني كينزلي المسؤولة عن التواصل في البرنامج لوكالة فرانس برس.
وتؤّكد المنظمات المعنية بالمساعدات الإنسانية أن الحرب تجعل عملها شبه مستحيل.
وتكشف لوبول “لا يمكننا بكلّ بساطة أن نحمّل الإعاشات في شاحنة وننقلها إلى المناطق المتأثّرة بالمجاعة. فحواجز العبور وقرارات الرفض وعمليات النهب من جماعات مسلّحة تحرم من هذه المساعدات من هم بأشدّ الحاجة إليها”.
ومن دون تحرّك سريع، قد تعيث المجاعة خرابا في البلد، بحسب منظمات غير حكومية.
وتحذّر لوبول من أن “أشخاصا يموتون راهنا لكنّ التداعيات الطويلة المدى ستلاحق السودان على مدى أجيال”.
ومع حلول الليل في مخيّم زمزم، تتمدّد ابنة منى ابراهيم على الفراش بلا طاقة ومقطوعة النفس. وتقول والدتها “لا أعلم إلى أي حد يمكننا أن نصبر”.
الوسومالحرب السودانية المجاعة في السودان