والطائرة الانتونف تهبط في قاعدة وادي سيدنا ساد صمت نبيل داخلها؛ فهذه اول مجموعة من القادة السياسين ولجان المقاومة والصحفيين تصل للقاعدة وتقابل الوالي و قادة القوات المسلحة الميدانيين بعد ان ظلوا يقاتلون لقرابة العام دون تواصل مباشر مع القوي السياسية او الصحافة والإعلام او المجتمع المدني العريض.
انفعالات واختلاجات وحزن وفرح بـ (العودة) ولقاء أبطال القوات المسلحة قادة وضباط صف وجنود و المستنفرين الذين يصدق عليهم (العلموا الجبل الثبات).
كان الصمت داخل الطائرة ابلغ تعبير عن الحزن علي ما كابده وعاناه المواطنون من تدوين المليشيا و التشريد والرعب الذى خلفته ممارساتها في الجميع وأسي وألم موجع علي الشهداء من جنود الجيش وضباطه ومن المستنفرين الذين قاتلوا ببسالة غير منظورة ورووا ارضنا الطاهرة بدمائهم الذكية؛ و يا لحزني هؤلاء وحدهم لن يكونوا بيننا عندما نكمل سحق المليشيا ونحتفل بالنصر! لقد علمونا كيف يكون الاستبسال والدفاع عن الارض والعرض وفتحوا بدمائهم الطريق؛ فالحرية والأرض والوطن مهرهم الدماء و المهج والأرواح ؛ قليلون بيننا من يدفعون ذلك لنأتي نحن ونلتقط الصور التذكارية وندبج المقالات؛ اولئك وحدهم من يحق لهم الحديث عن الوطن ولكنها تصاريف الله في خلقه؛ فمن يضحي ويدفع الثمن ـ ultimate sacrifice ـ لا يحضر احتفال النصر..! إنهم فتية آمنوا بربهم ووطنهم وشعبهم وقدموا ارواحهم فداء لنا ليبقي الوطن. دمائهم الذكية الطاهرة هي التي تمكننا من الحديث عن وطن اسمه السودان؛ إذ بدون تلك الدماء الذكية الطاهرة لأصبحنا شعثا تتخطفنا الأمم ولضربت علينا الذلة والمسكنة وذهبت ريحنا.
إننا جميعا مدينون لأولئك الفتية والرجال ـ نحن وابنائنا واحفادنا بل ربما الي يوم يبعثون ـ الذين ما توانوا وما وهنوا ولا ترددوا وتدافعوا كالنسور الكواسر دفاعا عن الوطن وعن العرض و الأرض. مايؤلمنى انني لست أحدهم وسأموت للاسف (الميتة اب رمادا شح)؛ هنا أنا ناقل فقط ـ بعد ان أستمعت لقصص البطولة والجسارة و الصمود الخرافي ـ ومن أراد أن يسمع التضحية وكيف حدثت وكيف كانت و تكون، أنصحة بلقاء رفاقهم الذين واروهم الثري واقسموا عند قبورهم علي مواصلة الطريق مهما كانت التكاليف والتضحيات!
بمجرد نزولي من الطائرة انتابني زهو وفخر بنفسي وبكل مستقبلينا والي الولاية وقادة الوحدات و التشكيلات المختلفة الذين يديرون المعارك من منطقة وادي سيدنا العسكرية. كانت المشاعر جياشة وحبس الجميع دموعهم؛ كنا جميعا في حوجة لللقاء؛ لقاء أخوة أشقاء وآباء وأبناء فرقت بينهم المليشيا بحرب ضروس حاولت بها طردنا جميعا من أرضنا ونهب كل ما عندنا و استئصال وجودنا من بين شعوب الأرض؛ ولكن هيهات..!
لحظتها رددت في داخلي: “ها نحن قد عدنا يا حميدتي”!
صدقوني، و لأول مرة ـ وبعد أن شاهدت حجم الخراب الذي فعلته هذه المليشيا في أم درمان ـ تفهمت سلوك أبو العباس السفاح في نبش قبور أعدائه من بني أمية وحرق رفاتهم؛ ولن استغرب علي الإطلاق أن قام بعض الناس لاحقا بذات الفعل؛ فما ارتكبه هؤلاء الشياطين في مجتمعنا ودولتنا لا أجد له مفردات في قاموسي؛ تكفي لوصفه؛ و لا أعتقد ان هنالك أي لغة بها من المفردات لوصف ما فعله هولاء الشياطين! بل أعتقد جازما أن الشيطان نفسه قد تعوز وهرب من أفعالهم..!
لقد كان السيد الوالي محقاً وهو يتكلم بحزن وأسى وصدمة:” إذهبوا وشاهدوا بأنفسكم ما فعله هؤلاء بأم درمان”! من لا يصدقني عليه أن ينتظر حتي يعود الناس لديارهم ليروا و يقفوا علي حقيقة ما حدث!
أعرف مباني الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون جيداً وقد زرتها مراراً مستضافاً في برامج تلفزيونية أو إذاعية.
عندما دخلنا الي باحة الهيئة من الناحية الشمالية حيينا بعض الجنود الذين كانوا قد شاركوا في تحريرها وكان الغضب والحزن باديان علي وجوههم. وعندما استفسرت أحدهم عن حاله ” كيف”! مد كفه اليمين ببط شديد نحو المبني المحروق ونظر إلى الإتجاه المعاكس في إطراق شديد يغالب دموعه…! وفهمت حديثه:” أذهب لتري بنفسك”!
لن أكتب عن حجم الخراب الذي شاهدته فببساطة ليست لدي مقدرات أو ذخيرة لغوية لوصف ذلك الخراب وحجمه وفظاعته؛ وقد ذكر لي أحد الجنود أن هؤلاء الشياطين قاموا بإحراق المبني بعد أن تأكدوا أنهم مهزومين لا محالة. وذكر لي آخر ان هنالك العديد من المحتجزين الذين ماتوا صبرا (جوعا وعطشا) ولم يسمح لنا بمشاهدة مكانهم!
نصيحتي للأصدقاء والزملاء وكل العاملين بالهيئة ـ خاصة رقيقي المشاعر ـ أن لا يذهبوا للهيئة (ما تمشوا ناحيتها نهائي) حفاظا علي حياتكم من هول الصدمة!
ما يمكن أن أقوله للدولة وللسيد الوالي و للعاملين بالهيئة لقد أصبح من المحتوم ازالة ما تبقي من هياكل اسمنتية ومن ثم تخطيط وتشييد مقر جديد للهيئة وعلي الدولة وإدارتها و العاملين بها شحذ همتهم وتوحيد جهودهم وتكثيف اتصالاتهم لجمع الأموال لبناء مقر جديد لها وعلي المهندسين المختصين وضع يدهم مع الإعلاميين وادارتها لاكمال ذلك العمل؛ وعلي القادرين من رجال الأعمال المساهمة بسخاء في المشروع. أكثر من ذلك يجب علي كل السودانيين ابتدار المشاريع والأفكار لجمع التبرعات والأموال لتحقيق مشروع إعادة البناء حتي نثبت لهولاء الشياطين ومن يقف خلفهم أن قدرتنا علي البناء أكبر بكثير من قدرتهم علي الخراب.
بعد أن شاهدت ما وقع في الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون تأكدت تماما أن الهدف من الحرب كان هدم الدولة تماماً ومحوها من الوجود فالهيئة ـ دون شك ـ هي ذاكرة الأمة ولذلك كان أمر تدميرها تماما هدفا مركزيا للحرب.
لم نستطع الذهاب لشارع النيل لمشاهدة المبني من الجهة الجنوبية فما يزال دوي اصوات الإنفجارت والطلقات يسمع بقوة من ناحية توتي و أعاد لنا ذكرى أيام الحرب الأولي. لذلك هذا تقييم لما شاهدناه بالداخل فقط بعد أن مُنعنا من الذهاب لشارع النيل لخطورة الأمر؛ وإن كنت اتوقع أن تكون الواجهة النيلية للهيئة قد تعرضت لنفس التخريب.
خرجنا من البوابة الشرقية وكان عنفوان المعركة بائنا علي الأرض والأسفلت والبوابة؛ سألت أحد الضباط كان يسير بجانبي: ” يبدوا أن المكان شهد معركة حامية”.. فقال: نعم …هنا كانت الواقعة التي حسمت المعركة.. ثم أطرق قليلا في صمت وحزن وقال : “هنا في هذا المكان استشهد عدد من الجنود”! وانتابتني نوبة من الحزن وخجلت من نفسي وخالجني إحساس أنني ربما قد وطأت علي جزءً من دمائهم الزكية..! وقلت في داخلي البعض يقدم روحه مهرا لكرامتنا و نأتي نحن لإلتقاط الصور و تكرار أحاديثنا اللزجة التي لا تنته..!
تمنيت ان يتبنى العاملون بالهيئة ـ بعد عودتهاـ بناء صرح ضخم تنحت عليه اسماء أولئك الجنود والفرسان و الشباب الذين استشهدوا عند بوابة هيئتهم ودحروا المليشيا وأخرجوها عنوة وحمرة عين!
في كلمتة قال الفريق ياسر العطاء: “لا نود منكم الآن تعازي في الشهداء وهم كثر..! أحزنوا في دواخلكم و ادعوا لهم… لأننا سنقيم سرادق العزاء لجميع الشهداء في “اردمتا” بعد أن نطهر بلادنا من المليشيا… اما الآن فاحزنوا في دواخلكم فقط وادعوا لأبنائكم بقبول شهادتهم!
نصيحتي للإخوة والأخوات الصحفيين خارج السودان بضرورة زيارة أم درمان؛ فهنالك الكثير والكثير جداً من البطولات والتضحيات والقصص والمآسي الانسانية والمعاناة التي لا توصف كلها تحتاج إلى توثيق قبل أن يطويها النسيان أو يستشهد أبطالها أو يرحلوا.. تحركوا بصورة عاجلة وثّقوا هذا التاريخ والبطولات التي يعمل البعض لطمسها قبل أن يعرفها الناس.
أخيرأ…أري ضرورة بدء البث من حوش الإذاعة حتي لو من خيمة فهذا النصر يجب أن يتوج ويجب أن يجسد عزمنا وتضحياتنا وكبريائنا وتحدينا لهولاء الشياطين وللذين يقفون خلفهم يستهدفون مجتمعنا وبلادنا.
يجب أن يسمع الشعب ” هنا أم درمان” من داخل ” حوش الإذاعة” تملاء أجواء بلادنا مرة أخري؛ ذلك هو التحدي.. فنحن شعب عصي علي الإنكسار.
ورغم تجاربي الكثيرة في الحياة إلا أن هذه الزيارة السريعة تركت فيَّ جروحاً وحزنا وألما لن يندملوا إلا بنصر مؤزر ودحراً استئصاليا لهؤلاء الشياطين وتجريعهم من ذات الكاس حتي يتجشأوا.. إن لم نفعل ذلك تأكدوا أن دماء اولئك الشهداء والأبطال قد ذهبت هدرا وهو أمر دونه خرت القتاد!
” هنا أم درمان اذاعة جمهورية السودان”
هذه الأرض لنا
علي عسكوري
المصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
نتنياهو يتلاعب بالأرقام ويزعم الإنجاز بعدد الأسرى الذين استعادهم.. هذه الحقيقة
زعم رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، السبت، استعادة 147 أسيرا حيا من قطاع غزة منذ 7 تشرين أول/أكتوبر 2023، إلا أن الحقائق المعلنة تشير إلى تلاعب واضح في هذه الأرقام.
ففي بيان صادر عن مكتبه، قال نتنياهو زاعما: "استعدنا حتى الآن 192 أسيرا من غزة منذ 7 أكتوبر، منهم 147 على قيد الحياة، و45 أمواتا".
وتابع حديثه: "لا يزال 63 أسيرا إسرائيليا في يد حماس".
تزامن إعلان نتنياهو مع تسليم حركة حماس الدفعة السابعة من الأسرى ضمن صفقة التبادل الحالية، وشملت 4 جثامين الخميس، و6 أسرى أحياء اليوم.
لكن الحقائق المعلنة تكشف عن تلاعب واضح في بيانه اليوم بالأرقام، إذ لم يتمكن الاحتلال عبر العمل العسكري خلال حرب الإبادة على غزة التي دامت قرابة 16 شهرا، سوى من استعادة 5 أسرى أحياء، مرتين.
المرة الأولى كانت في 8 حزيران/يونيو 2024، عندما أعلن الجيش استعادة 4 أسرى من منطقتين منفردتين في قلب مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، بهجوم جوي وبري وبحري، ما أسفر عن استشهاد 274 فلسطينيا بينهم 64 طفلا و57 سيدة وإصابة المئات بجروح مختلفة.
فيما قالت كتائب القسام، الذراع العسكري لـ"حماس"، آنذاك، إن الجيش قتل 3 من الأسرى، أحدهم يحمل الجنسية الأمريكية، خلال استعادة الأسرى الأربعة.
أما المرة الثانية فكانت في 27 آب/أغسطس 2024، عندما أعلن الجيش استعادة أحد الأسرى حيا، ويدعى فرحان القاضي.
وحتى الأسير القاضي، قالت صحيفة "هارتس" العبرية الخاصة آنذاك إنه تمكن من الفرار من آسريه داخل نفق في غزة قبل أن تنقذه قوات الجيش، فيما قالت تقارير إن آسريه تركوه يذهب كونه من فلسطيني 48.
في مقابل ذلك، أعلن الاحتلال، استعادة العديد من جثامين الأسرى من غزة عبر العمل العسكري.
وكانت أشهر عمليات الاستعادة في 31 آب/أغسطس 2024، عند قال الجيش إنه عثر على جثث 6 أسرى آخرين داخل نفق في منطقة حي السلطان برفح.
وأقر تحقيق للجيش الإسرائيلي بأن هؤلاء الأسرى لقوا حتفهم في الـ29 من الشهر ذاته خلال اجتياحه المنطقة، وأن هذا الاجتياح كان له "تأثير ظرفي" أدى إلى مقتل هؤلاء الأسرى.
وهو التحقيق، الذي اعتبرته هيئة أهالي الأسرى الإسرائيليين "دليلا جديدا" على أن الضغط العسكري يتسبب في وفاة ذويهم، ودفعتهم إلى تصعيد ضغوطهم على حكومة نتنياهو لوقف تلاعبها بمفاوضات التوصل إلى اتفاق غزة بغرض المساهمة في إطلاق سراح بقية الأسرى أحياء.
فيما أكدت حركة حماس في أكثر من بيان، حرصها على الحفاظ على حياة الأسرى، لافتة إلى أن العشرات منهم قتلوا جراء القصف الجوي.
وحذرت من أن حكومة نتنياهو تتعمد التخلص من الأسرى حتى لا يشكلوا عليها ضغطا كورقة تفاوض.
وبخلاف العمل العسكري، استعاد الاحتلال عبر صفقات التبادل حتى الآن 104 أسرى إسرائيليين أحياء و4 جثامين عبر المفاوضات، عشرات منهم أجانب غير مزدوجي الجنسية.
فقد سلمت الفصائل الاحتلال 81 أسيرا ومن مزدوجي الجنسية أحياء، إضافة إلى 23 من العمال الأجانب، خلال هدنة إنسانية مؤقتة استمرت 7 أيام، وانتهت مطلع ديسمبر/ كانون الأول 2023.
مقابل ذلك أفرج الاحتلال عن 240 أسيرا فلسطينيا، بينهم 107 أطفال، حيث لم تتم إدانة ثلاثة أرباعهم بارتكاب أي جريمة.
وخلال صفقة التبادل الحالية التي سلمت الفصائل الفلسطينية على دفعات 25 أسيرا ومن مزدوجي الجنسية أحياء و4 جثث، إضافة إلى 5 عمال أجانب خارج الصفقة.
ومقابل هؤلاء أفرجت إسرائيل عن 1135 أسيرا فلسطينيا، بينما تعطل حتى الساعة الإفراج عن 620 أسيرا كان مقررا الإفراج عنهم اليوم.
يكشف ذلك أن كل ما تمكنت تل أبيب من إطلاق سراحهم عبر العمل العسكري هم 5 أسرى إسرائيليين أحياء على أكثر تقدير، وعبر التفاوض 104.
فيما أطلقت الفصائل الفلسطينية سراح 28 من الأجانب خارج الصفقة.
وعبر التفاوض، استعادت إسرائيل جثامين 4 عبر التفاوض، وعددا آخر عبر العمل العسكري، في ظل تأكيد من حماس أن الجيش هو من قتلتهم عبر قصفه المكثف على غزة خلال حرب الإبادة.
يأتي ذلك بينما يواصل نتنياهو المماطلة في بدء مفاوضات المرحلة الثانية من الاتفاق، التي كان من المفترض أن تنطلق في 3 شباط/ فبراير الجاري.